تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

على مستوى شخص واحد مهيمن ، ممن يسمّيه الناس ملكا أو أميرا أو رئيس عشيرة ، أو شخصا صاحب سيف أو مال .. ولذلك فإنها لا تصلح لتكون أساسا للاتباع ، لأنها لا تبني للإنسان حياته على قاعدة قوية ثابتة ، لأن الأوضاع التي ترتكز على الانفعالات ، سوف تسقط أو تتبخّر عند ما ترتبك تلك الانفعالات أو تهتز القضايا التي أثارتها وحرّكتها في داخل الواقع.

وقد نستوحي من هذه الفقرة التي تنهى عن اتباع الأهواء ، أنّ التوجيه الإلهي لا يريد للإنسان أن يجعل حركته في الحياة تابعة لهواه ، أو لهوى الآخرين ، لأن ذلك لن يحقق للحياة الإنسانية عمقا وامتدادا .. بل لا بد له من أن يدرس الأشياء بعمق ودقة كي يستطيع اكتشاف صلاحه في الدنيا والآخرة.

* * *

الله جامع الناس بربوبيته

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) فتعالوا لننطلق من هذا الإيمان إلى إيجاد قاعدة للّقاء ، فإني أؤمن بالتوراة والإنجيل والقرآن ، فلنتحاور حول ذلك ، لنتفق ـ من خلال الحوار ـ على الوحي الإلهي حتى ننفتح على الحقيقة من خلاله ، (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) فلست نبيّا يريد السيطرة على الساحة كلها من خلال تعميم القناعة بدعوته من أجل أن يظلم الناس ، بل إنني جئت بالعدل لكل الناس ، سواء كانوا ممن يستجيبون لي ولرسالتي ، أو كانوا ممن لا يستجيبون لي ولها ، لأن مسألة العدالة لا تفرق بين الأتباع وغير الأتباع ، ولا بين الأعداء والأصدقاء ، والأنبياء لن يصبحوا من الجبارين عند ما يبلغون مراكز القوّة ، بل هم من الرحماء العادلين الذين يحركون قوّتهم في خط رسالتهم .. ويحرّكون رسالتهم من أجل حلّ مشكلة الحياة كلها ، والناس كلهم.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) هذه حقيقة واضحة أقدّمها لكم لنلتقي عليها إذا كنتم تؤمنون بالله ربّا ، فهو الذي يجمعنا بربوبيته ، في ما نستشعره من رعايته ولطفه وحنانه ورحمته ، من خلال الشعور بحضوره في كل وجودنا.

١٦١

فرديّة نتائج المصير

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وتلك هي ساحة المسؤولية التي لا يطغى فيها موقع على موقع ، ولا يتحمل فيها شخص عن شخص آخر أيّ شيء ، فلكل واحد عمله الذي يسأل عنه .. لذلك فإن مسألة الدعوة ، هي أنّ نتائج المصير ، ستكون فرديّة بما يتناسب مع التزام خط المسؤولية في حياة هذا الشخص أو ذاك ، فإذا كان عمله صالحا فلا بد من أن ينتهي إلى رضوان الله وإلى الجنة ، وإذا كان سيّئا فلا بد من أن ينتهي إلى سخط الله وإلى النار ، دون أن يكون لأيّ شخص قريب دخل في ما يحصل له أو يصيبه.

(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) الظاهر أن المراد بهذه العبارة أنكم لستم مسئولين أمامنا عن تقديم الحجة على ما قمتم به أو انتميتم إليه من فكر ، ولسنا مسئولين أمامكم لنقدم الحجة على موقفنا وانتمائنا ، لأننا جميعا ، مسئولون أمام الله فهو الذي يجب أن نقدّم الحجة إليه.

وقيل إن المراد به «نفي الحجة ، كناية عن نفي لازمها وهو الخصومة ، أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات ، لأن ربنا واحد ، ونحن ـ في أننا جميعا ـ عباده واحد ولكل نفس ما عملت فلا حجة في البين أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة» (١).

وذكر بعضهم ، أن المعنى ، لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ، ولا للمخالفة عمل سوى المكابرة والعناد. ولعل هذا الوجه أقرب من سابقه ، بالرغم من إشكال صاحب الميزان عليه ، بأن «الكلام مسوق لبيان ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه وفي أمته من سنة التسوية لا لإثبات شيء من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٣٤.

١٦٢

عليه» (١). ولكن لا دليل على أن الكلام كله مسوق لذلك ، بل الظاهر أنه لون من ألوان تحديد الموقف وبيان طبيعة العلاقة التي تحكم الجميع في ما انتهى إليه أمرهم من النتائج الواقعية التي يقف فيها كل فريق في موقعه ، بعد استنفاد الوسائل التي تحدد الموقف ليواجه كل فريق خصوصياته التي تؤكد موقفه.

لكننا ذكرنا أن الأقرب هو ما استوحيناه من الآية ، بقرينة الفقرة التالية (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة ليحاسبنا على كل شيء. وهناك الموقف الذي تنطلق فيه الحجة لتؤكد نفسها أمام الله ، لأن ذلك هو موقع الحجة في حركة المسؤولية ، عند ما يقدم كل واحد منا حجته على صاحبه ، أو حجته على عمله ، أمام ربّه ، ليكون الله هو الحكم بيننا ، أو هو الحاكم علينا ، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الذي ينتهي إليه أمر العباد كلهم فيقفون ـ جميعا ـ أمامه ، فله الأمر والحكم في كل شيء ..

* * *

غضب الله يتنزل على الكافرين

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) ويقدمون الحجج التي تنفي وجوده ، وتنكر توحيده (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) دعوة الإيمان وانفتح عليها الكثير ممن دخلوا في دين الله ، على أساس وضوح البراهين الحقيقية الدالة على وجود الله وتوحيده مما يدحض كل حجة أخرى مضادّة (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي باطلة وزائلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنهم لم ينطلقوا من حجة مفتوحة على الحق في العمق والقوّة ، بل انطلقوا من الأهواء والانفعالات السطحية الخاضعة للشهوات ، (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لأنهم لم يأخذوا بأسباب رضى الله ، بل ساروا على خط غضبه فاستحقوا سخطه وعذابه.

* * *

__________________

(١) (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ٣٤.

١٦٣

الآيات

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢٢)

* * *

١٦٤

معاني المفردات

(مُشْفِقُونَ) : خائفون.

(يُمارُونَ) : يصرون على الجدال.

(حَرْثَ) : الزرع.

(رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) : الحدائق المشجرة المخضرة متونها.

* * *

أنزل الكتاب بالحق والميزان

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ليكون القاعدة الفكرية ، والمنهج العملي الذي يريد للإنسان أن يتحرك فيه على أساس الحق ، لأن الإنسان هو المخلوق الذي يعطي الحياة مضمونها الحركي ، بما يخططه لها من نظام واقعي ، وبما يحركه فيها من مشاريع متنوعة ، وهو أمر يتعلق بالتدبير التفصيلي لكل المخلوقات الجامدة والحية والنامية من حوله ، باعتبار أنه هو من أوكل الله إليه أمر إدارتها ، وسخرها له لكل انقياد وخضوع.

(وَالْمِيزانَ) الذي يزن فيه مقادير الأشياء ، ويحدد مواقعها فيضع كل شيء في موضعه ، ويعطي كلّ شخص حقّه ، ويطلق الكلمة التي تتناسب مع المواقع من جهة ، ومع الخط المبدئيّ من جهة أخرى.

وهكذا يكون الميزان هو المقاييس التي أنزلها الله في وحيه ، لتربّي الوجدان الإنساني على التطبيق المستقيم للنظرية.

وقيل : إن المراد به «هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به

١٦٥

العقائد والأعمال فتحاسب عليه ويجزى بحسبه الجزاء يوم القيامة» (١). وقيل : إن «المراد به العدل ، وسمّي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الناس ، والعدل كذل»(٢).

ولكن الظاهر من السياق أن الله يتحدث عما يتحرك فيه الناس في حياتهم على مستوى النظرية والتطبيق .. وقد لا يكون من الظاهر ، أن يراد من الميزان أصول الدين وفروعه ، التي يتضمنها الكتاب مع الحديث عن الكتاب الذي لا يراد فيه إلا الكلمات بلحاظ المضمون ، وربما كان الحديث عن الميزان متناسبا مع الآيات التي تتحدث عن الكتاب والحكمة ، التي تمثل النهج العملي الذي يطابق فيه التحرك مقتضى الحال ، والله العالم.

وهكذا أنزل الله الكتاب والميزان للناس ، لتستقيم حياتهم على أساس رضى الله ، عند ما يأخذون بما وضعه لهم من نهج وشريعة طلبا لرضاه وتخلصا من عقابه .. ولكن مشكلة الناس أنهم يستغرقون في الحياة حتى يتخيلوا امتدادها إلى ما لا نهاية. ويستبعدون مجيء الساعة التي يواجهون فيها لحظة الحساب بين يدي الله ، أو ينكرونها ، ويسخرون من حديث النبي عنها ، وهذا ما أراد الله أن يثيره أمامهم في صورة الخطاب للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كوسيلة من وسائل خطاب الأمّة ..

* * *

الله عنده علم الساعة

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فإن الله ، سبحانه ، لم يعط علمها لأحد حتى لرسله وجعل احتمال حدوثها قائما بين ساعة وأخرى كي يترقبها الإنسان يوميا بما يفرض عليه الخوف منها والاستعداد لها.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٣٨.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ٣٩.

١٦٦

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) فيقفون موقف السخرية من النبي طالبين تعجيل العذاب الذي ينذرهم به ، على سبيل التحدي والتعجيز.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون من الوصول إليها ، لأنهم لا يعرفون ما ينتظرهم فيها من نتائج لعدم ثقتهم بأعمالهم التي قدموها ، فلعل فيها بعض الخلفيات الذاتية ، والمشاعر الانفعالية التي تبعدها عن مواقع الإخلاص والقرب من الله .. وذلك الخوف نتيجة عمق إحساسهم بالمسؤولية وخوفهم من نتائجها.

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) ولهذا فإنهم يواجهونها كما لو كانوا قد شاهدوها ورأوها رأي العين ، خلافا لأولئك الذين يرتابون فيها ، لأنهم لم ينفتحوا على البراهين التي تؤكدها ، فغرقوا جراء ذلك في وحول الضلال ، وامتدوا في مواقعه امتدادا بعيدا.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) لأن مشكلتهم أنهم يفتحون باب الجدال ، لا للوصول إلى الحق ، بل لإثارة الضباب حوله ، وإضاعة الجهد والوقت بالكلمات اللّامسؤولة .. فضلّوا ضلالا بعيدا ، لأنهم ابتعدوا ـ من خلال ذلك ـ عن الأخذ بأسباب النجاة ، فضاعوا في متاهات الضلال التي تؤدي بهم إلى النار.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يرفق بهم ، ويحنو عليهم ، ويمنحهم اللطف الذي ينفذ إلى حياتهم وإلى كيانهم ، بالخير والبركة ، ويتابع ما خفي منها وما دقّ بكل ألوان العناية والرعاية والسماحة ، و (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في ما يحتاجون إليه في أمور معاشهم ، ليسهل عليهم أمرهم ، وليمتد به وجودهم في كل ما يقوم به.

(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الذي تتمثل قوته في رعاية عباده عبر التدبير الكوني ، فلا يمتنع عليه شيء ، كما تتمثل عزته في سيطرته التي لا

١٦٧

يتغلب عليها أحد.

* * *

حرث الاخرة وحرث الدنيا

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) بحيث تتحرك أعماله في الساحات التي يحب الله للإنسان أن يتحرك فيها ، وهي الأعمال الصالحة يبذرها الإنسان في الحياة كلها ، لتكون نتيجتها رضوان الله ونعيمه في الآخرة ، (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) فنضاعف له النتائج المترتبة على ذلك من ثواب الله كما جاء في بعض الآيات : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] وقوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١].

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) وهو الزرع الذي يغطّي حاجات الدنيا من دون أن يوصله بأيّ رابط أخرويّ ، ولا يتصل بالقيم الروحية المنفتحة على الآخرة ، ولكن مدى أعماله في اللّذات والشهوات والأطماع مما تكون نتيجته محصورة في الجانب المادي في الدنيا ، (نُؤْتِهِ مِنْها) فينال ما يريده من ذلك لأن الله قد جعل للمسائل المادية مسبباتها في صعيد العمل الإنساني ، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه لم يهتم في حياته العامة والخاصة بالآخرة ، ولم يلتفت إلى رضوان الله في حركة أعماله ، لذا فإنه لا يستحق من نعيم الآخرة شيئا ، لأن الله جعل الآخرة في نعيمها للأتقياء الذين عملوا لله ولما يحبه من القيم الروحية التي تتصل بأجوائها.

وهكذا نجد أن المسألة ، أوّلا وأخيرا ، تعود إلى الله تعالى وبالتالي على الإنسان أن يأخذ بالخط الإلهي في الشريعة ، ويرجع إليه في شؤون الحياة ، ويتطلع إلى رضوانه في كل شيء ، لأنه ـ وحده ـ الرب الذي يملك كل شؤون عباده المادية والمعنوية ، لذا فإن الانحراف عن خطّه إلى خطّ آخر ، والاعتماد

١٦٨

على غيره يحتاج من أصحابه إلى ما يفسره ، فكيف يدافع أصحاب هذا الموقف عن موقفهم ومن هم هؤلاء الذين يعتمدون عليهم؟ وما يملكون من قوّة الربوبية ، ومن سرّ الألوهية ، ليشرّعوا لهم بعيدا عن الله ، ومن أين جاءتهم هذه الميزة العظيمة؟ أم أن القضية عبارة عن وهم كبير ، خضعوا له في تصوراتهم المعقّدة التي لا تنطلق من حقيقة المعرفة والفكر النيّر؟؟!

* * *

باطل ما شرعه لهم شركاؤهم

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) لينطلقوا في السير عليه والتماس نتائجه في قضية مصيرهم ، من خلال ما يملكه هؤلاء من مواقع القوّة في دائرة الألوهية ، كشركاء لله في ذلك ، ومن أين جاءت هذه الشراكة؟ وما هي قاعدة القوّة التي يرتكزون عليها؟ وهل هناك إلا الباطل الذي لا يرتكز على أيّ أساس؟ وكيف يتحركون في مواقع هذا الدين الذي شرّعه من لا يملكون حق التشريع .. لأن الله هو مالك حق التشريع وحده ، كما هو المالك لهم جميعا فلا بد من أن يأذن لعباده ، في كل ما يريدون أن يفعلوه ، أو يتركوه ، أو يتبنوه منهجا عمليّا في الحياة؟

* * *

العذاب للظالمين

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) التي سبقت من الله في ما قدّره لهم من الآجال المحدودة ، وفي ما أخّرهم إليه من الموقف الحاسم ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالحق ، عبر ما يصدره عليهم من أحكام وما ينفذه فيهم من عذاب دنيوي قبل الأخروي ، ولكنهم لا يعجزون الله ولا يفوتونه ..

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) توعّد الله به الظالمين الذين ظلموا

١٦٩

أنفسهم ، وتمرّدوا على ربهم ، وظلموا الحياة كلها من حولهم ، بالكفر والعدوان.

* * *

رضوان الله ونعيمه للمؤمنين الصالحين

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) عند ما يواجهون القيامة في موقف الحساب لأنهم يعرفون طبيعة أعمالهم في الدنيا ، ويخافون من نتائجها السلبية في الآخرة ، (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) لا مفرّ منه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) ذات الأشجار الممتدة الخضرة حيث النعيم الدائم ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مما يحبونه ويشتهونه ويطلبونه ، فليس بينهم وبين الحصول على ما يتمنون ، إلا أن يطلبوه ، ليتحقق لهم ، بعيدا عن كل الوسائل والأسباب التي كانوا يتوسلونها في الدنيا ..

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي يتفضل الله به عليهم ، فلا يدانيه فضل آخر لأن الجنة هي غاية غايات الإنسان المؤمن لما فيها من نعيم ، أو لما يتمثل فيها من رضوان الله.

* * *

١٧٠

الآيتان

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(يَقْتَرِفْ) : يكتسب.

* * *

أجر المودة في القربى

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ليعيشوا روحيّة البشارة في عقولهم ومشاعرهم قبل أن يعيشوها في حياتهم ، فيتمثلوها في وجدانهم ليزدادوا نشاطا في العمل ، وامتدادا في الصبر ، وثباتا في الموقف.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) جاء في كثير من الآيات أن الله

١٧١

أراد لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلن للأمة عدم تطلعه إلى أي أجر خاصّ يطلبه لنفسه على الرسالة سواء أكان ماديا أم معنويا ، كما في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [ص: ٨٦] وفي قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) [الأنعام : ٩٠] وفي قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٥٧] وغيرها من الآيات التي تتعلق بالأنبياء السابقين الذين كانوا يتحدثون إلى الناس من حولهم بهذه الطريقة .. وعلى ضوء هذا كان طلب المودة في القربى كأجر يطلبه النبي من الأمة ـ في هذه الآية ـ غير منسجم مع الأجواء العامة لتلك الآيات ، ولذلك حملها الكثيرون على الاستثناء المنقطع ليكون الحديث متصلا بشيء آخر لا يتعلق بالأجر ، ولكنه يمثل طلبا آخر لا علاقة له بالرسالة من ناحية العوض ، بل له علاقة بالنبيّ في اتجاه آخر. ولكنّ صاحب الميزان اعتبر الاستثناء متصلا ، على أساس أن المودة في القربى لا تمثل شأنا شخصيا من شؤون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل تمثل شأنا من شؤون استجابة الدعوة ، إمّا باستجابة كلها ، أو استجابة بعضها الذي يهتمّ بها ، ممّا ينسجم مع اعتبار المودة من الأجر ويبقي على ظهور الاستثناء في الاتصال (١).

* * *

اختلاف المفسرين في معنى «(الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»)

وعلى ضوء ذلك فلا بد من تحديد معنى المودة في القربى الذي اختلف فيه المفسرون على أقوال مختلفة ، وقد ذكر صاحب الميزان هذه الوجوه (٢) ومنها :

أولا : ـ ما ذهب إليه الجمهور ـ أن الخطاب لقريش والأجر المسؤول

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٤٣.

(٢) انظر : (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ٤٣ ـ ٤٨.

١٧٢

هو مودتهم للنبي لقرابته منهم ، وذلك لأنهم كانوا يكذبونه ويبغضونه لتعرّضه لآلهتهم على ما في بعض الأخبار .. فكانت هذه الآية نداء لهم بأن يستشعروا المودّة العميقة التي تشد الإنسان إلى قرابته ، ليمحضوه الحب من خلال ذلك ، فلا يتعقدوا في مشاعرهم نحوه.

ونلاحظ على هذا التفسير أن المحبة الذاتية ليست هدفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا إذا كانت وسيلة من وسائل الوصول إلى المحبة لرسالته .. وهذا غير وارد لدى الكافرين الذين كانوا ينطلقون في موقفهم الشعوري من عقدة ذاتية من رسالته التي تلغي كل عقائدهم وتقاليدهم وأوضاعهم .. ثم لا معنى ـ في هذه الحالة ـ لأن يطلب منهم أجرا على رسالته المرفوضة من قبلهم ، والتي يعتبرونها نقمة عليهم لا نعمة ، وإذا كان يحدثهم ـ بعد إيمانهم ـ فكيف يمكن أن تكون مشاعرهم نحوه ، هي مشاعر البغض والعداوة ..

ومنها : أن المراد مودّة الأقرباء ، في داخل قريش ، أو في حياة الناس كافّة ونلاحظ على هذا ، أن مودة الأقرباء قد تكون موضع تشجيع الإسلام ورعايته في نطاق صلة الرحم ، ولكنها لا تمثل قيمة «إسلامية روحية» في ذاتها بالحجم الذي يجعلها أجرا للرسالة أو في الأجواء التي تقترب من ذلك ، بل ما يفيده سياق الآية أن الحب في الله والبغض في الله ، مما قد يفرض على الإنسان المسلم رفض مودة الآباء والأبناء والإخوان وجميع الأقرباء إذا كانوا معادين لله ولرسوله.

ومنها : أن المراد بالمودة في القربى ، هو قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم أهل بيته .. وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في كتب أهل السنة والشيعة التي تؤكد ذلك بما قد يصل إلى مستوى التواتر أو الاستفاضة.

وقد حاول صاحب الميزان توجيه المسألة باتجاه عام على أساس أنّ ذلك لا يمثل أجرا للرسالة على أساس الخصوصية الذاتية في ما قد يتنافى مع

١٧٣

الآيات التي تنفي الأجر على الرسالة في حركة الأنبياء في الدعوة ، وذلك بقوله إن «التأمل الكافي في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتضمنة لإرجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، كحديث الثقلين وحديث السفينة وغيرهما ، لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إليهم في ما كان لهم من المرجعية العلمية.

فالمودة المفروضة على كونها أجرا للرسالة لم تكن وراء الدعوة الدينية من حيث بقاؤها ودوامها ، فالآية في مؤدّاها لا تغاير مؤدّى سائر الآيات النافية لسؤال الأجر.

ويؤول معناها إلى : أني لا أسألكم عليه أجرا إلا أن الله لما أوجب عليكم مودّة عامة المؤمنين ومن جملتهم قرابتي ، فإني أحتسب مودتكم لقرابتي وأعدّها أجرا لرسالتي ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١]» (١).

وهناك أقوال أخرى.

وقد نحتاج إلى أن نثير المسألة في بعدها التفسيري ، بأن هذه الكلمة مجملة من حيث المعنى لاحتمالها أكثر من معنى في ذاتها ، فلا بد لاكتشاف معناها التفصيلي من قرينة ، داخلية أو خارجية ، تعيّن ذلك بالطريقة التي تحقق الانسجام بينها وبين الآيات المماثلة لها.

وقد يلاحظ القارئ أن المودة في القربى هي أجر الرسالة ، أو المعنى الذي يقترب من هذا الجو ، ولكن لا معيّن للمصداق ، مما يجعل الرجوع إلى

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٤٧.

١٧٤

الروايات الواردة في هذا المجال ، هو الحل للمشكلة .. وقد وردت هناك أخبار كثيرة حول تعيين أهل البيت عليهم‌السلام بحيث ترجح على الأخبار الأخرى من ناحية كثرتها ، وانسجامها مع الجو الرسالي باعتبار أنهم يمثلون الامتداد الروحي والعملي في خط القيادة الرسالي .. مما لا يجعل من المسألة حالة ذاتية في الشخصية النبوية بل حالة رسالية .. وهذا بالإضافة إلى أن هذا التفسير كان مشهورا في عهد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بحيث تحدثوا عنه في أكثر من موقع حتى جرى على لسان الشعراء كما ورد في قصيدة الكميت في قوله :

وجدنا لكم في آل حم آية

تأوّلها منا تقيّ ومعرب

مما يجعلنا نطمئن إلى ذلك ..

وقد روى صاحب الدر المنثور حديثا آخر ، قال : «أخرج أحمد ، وعبد ابن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، من طريق طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد فقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : عجلت إن النبي لم يكن بطن من قريش إلا كان فيهم قرابة فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة (١).

ولكن هذه الرواية لا تسلم من النقد الذي ألمحنا إليه في ما تقدم ، لأنّ قرابتهم له لا تمثل معنى مطلوبا في ذاته إلا بلحاظ كونها طريقا للانسجام معه في خط الرسالة ، باتباعهم له أو بتركهم إياه دون معارضة ، ممّا يعرف النبيّ أنه طريق مسدود أمامه .. في الوقت الذي لا توحي فيه الآية إلا بالمعنى الذاتي للمودّة الذي لا يرجع إلى معنى مقبول ، وهذا هو كل ما نستطيع معالجته من معنى الآية ، والله العالم بحقائق آياته.

* * *

__________________

(١) السيوطي ، جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٣ ، ص : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

١٧٥

الله الغفور الشكور

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي من يكتسب حسنة ، بإتيان ما أمر الله به من الأعمال الصالحة ، التي أوجبها ، أو استحبها في شريعته ، فإن الله يضاعف له إيجابياتها بمضاعفة أجرها وزيادة إيجابياتها ، ومحو ما فيها من سلبيات ، وإتمام ما يمكن أن تشمل عليه من نقائص. إن الله غفور يمحو السيئات ويغفر الذنوب ، شكور يظهر محاسن العمل ويزيدها.

وربما خص البعض الحسنة بالمودة للقربى بالاستناد إلى بعض الروايات ، ولكن الظاهر أن ذلك ـ لو تم ـ من قبيل المصاديق لا من قبيل المفهوم ، وقد تعارف في الروايات التفسير على نحو الجري والتطبيق ؛ والله العالم.

* * *

الله العليم بذات الصدور

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) في ما يتقوّلونه عليك من الكلمات التي يريدون بها إثارة الدخان حول رسالتك والتشكيك بها ، وتشوية شخصيتك .. ولكنهم إذا كانوا يؤمنون بالله الذي يستلزم الإيمان بقدرته ، فلا بد من أن يفكروا بأن الله قادر على أن يطبع على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنعه من وعي القرآن وحفظه وتبليغه للناس إذا كان مكذوبا ، (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) ويحول بينك وبين الامتداد في الكذب ، ولكن الله شاء أن يوحي إليك ويفتح قلبك للحق النازل بكلماته ، (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) المتمثل بمفاهيم الكفر والشرك والضلال (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) من خلال مفاهيم الإيمان والتوحيد والرسالة واليوم الآخر ، ويثبّتها في وعي الناس لتكون برنامجا للفكر والحياة اللذين يريد الله لهما أن ينطلقا من الحق ، ويتحركا في خطّه بالانفتاح على الله ، في ما يوحي به إلى أنبيائه من آيات ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فهو المطلع على قلوب عباده ، وما تحس وتفكر به ، فكل شيء مكشوف لديه ولا يوجد سرّ يمكن أن يخفى عنه.

* * *

١٧٦

الآيتان

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢٦)

* * *

يقبل التوبة من عباده

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الذين يعيشون الندم على ما أسلفوه من السيئات عبر الالتزام بالكفر ، أو السير في خط المعصية ، فقد فتح لهم مجال التراجع عن الانحراف ، والانفتاح على خط الاستقامة ..

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) ويتجاوز عنها ، فلا يحمّلهم نتائجها السلبية في الآخرة (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فلا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم الأمر الذي يفرض عليكم الوقوف أمام المسؤولية لتحذروا عقابه على ما يعلمه من أعمالكم السيّئة ، لتتوبوا منها ، وتتخلصوا من نتائجها ، بعد أن فتح باب التوبة واسعا أمامكم.

وهذه دعوة مستمرة يطلقها الله لعباده الذين يعرف نقاط ضعفهم التي

١٧٧

أودعها فيهم ، وأراد لهم أن يتجاوزوا ذلك الضعف بجهدهم وجهادهم ، فإذا سقطوا تحت تأثير ضعفهم غفلة أو عنادا ، وعصوا الله ، وانحرفوا عن خط هداه ، فإنه يفتح لهم باب التوبة والعفو ، ليبدأوا رحلة التصحيح والاستقامة على طريق الحق ..

* * *

الإيمان والعمل عبادتان متلازمتان

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قيل : إن «فاعل «يستجيب» ضمير راجع إليه تعالى و (الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ في موضع المفعول بنزع الخافض» (١) ، أي يستجيب لهم ما يدعونه إليه في أي شكل كانت دعوتهم ، ولا سيّما العبادة التي هي مظهر من مظاهر الدعاء. وهناك احتمال آخر ، وهو أن تكون عبارة (الَّذِينَ آمَنُوا) فاعل يستجيب فيكون المعنى أنهم يستجيبون لله في ما يدعوهم إليه من العمل الصالح الذي يقربهم منه ويجعلهم في مواقع رضوانه (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يزيد العاملين الصالحين من حسناته التي يضاعفها للمخلصين المتقين.

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لأنهم لم يستجيبوا لله بطاعة أوامره ونواهيه ..

وتلك هي القضية التي تحكم الموقف الإلهي من سلوك الإنسان ، فليس بين الله وبين عباده أيّة علاقة خاصة تجلب لهم خيرا أو تدفع عنهم شرّا ، إلا الإيمان والعمل ، اللذان يؤكّدان القرب منه ، ويحققان العلاقة به .. ممّا يفرض على الإنسان الالتفات إلى ذلك في بناء المصير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٥١.

١٧٨

الآيات

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩)

* * *

معاني المفردات

(لَبَغَوْا) : لظلموا.

(الْغَيْثَ) : المطر.

(قَنَطُوا) : القنوط : اليأس.

* * *

حكمة تقدير الرزق

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) بأن جعل الرزق ممتدّا في حياة الناس تبعا

١٧٩

لرغباتهم وطموحاتهم من دون ضوابط حقيقية تركز الوضع الاقتصادي الإنساني على خط التوازن الذي يراعي المصالح الطبيعية في حاجات الإنسان الحيوية على المستوى الفردي والجماعي ، في ما ينسجم مع قضية التوازن في الحياة ، (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) في علاقاتهم العامة والخاصة ، لأن الرزق الواسع يحرك موقع الأنانية التي تدفع الإنسان إلى الحصول على كل شيء لحسابه من دون حساب لمصالح الآخرين مما يقوده إلى العدوان وطلب السيطرة الوحشية على الناس .. ولتحوّلت الحياة جراء ذلك إلى نوع من الفوضى في ساحات الصراع.

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) على أساس الحكمة في التوزيع في خطة تضع في حسابها الموازنة بين حاجات الإنسان النوعية وبين قضاياه في مجالات الفكر والحركة والرسالة المتصلة بواقع الحياة ، بحيث لا يلغي الصراع ، من خلال اختلاف الدرجات تبعا لاختلاف الظروف والخصائص والمواقع .. ولكن الاختلاف لا يصل إلى حدّ الفوضى ، لوجود بعض الحدود التي تحفظ خط التوازن في الوجود الإنساني.

وقد تحدث صاحب تفسير الميزان عن أن هذا التقدير في توزيع الرزق ، «بيان للسنّة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس ، أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم ، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك ، فإن هناك سنّة أخرى حاكمة على هذه السنّة ، وهي سنّة الابتلاء والامتحان ، قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] وسنة أخرى وهي سنة المكر والاستدراج قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : ١٨٢ ـ ١٨٣].

فسنّة الإصلاح بتقدير الرزق سنّة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) [آل

١٨٠