تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

الآيات

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

* * *

معاني المفردات

(يَسْأَمُونَ) : يملّون.

(خاشِعَةً) : الخشوع : التذلل.

(اهْتَزَّتْ) : الاهتزاز : التحرك الشديد.

(وَرَبَتْ) : الرّبا : النشوء والنماء والعلوّ.

* * *

في وحدانية الله ومعاده

لمّا كان الحديث عن الدعوة في مضمونها العقيدي المرتكز على قاعدة توحيد الله ، كان الحديث عن الله في آياته ، جزءا من الحجة التي تؤكد العقيدة

١٢١

وتدعو إلى الخضوع لله والانقياد لأوامره ونواهيه.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) اللّذان يتعاقبان في نظام محكم دقيق ، يحددان من خلاله للإنسان والمخلوقات خطوط الزمن الذي ينظم حركة الحياة ، (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) اللّذان يجريان بقدرة الله فيعطيان الإشراق والدفء ، ويمنحان الكون جمالا يسحر العقول والأبصار ، ويفيضان على الكون بكثير من الفوائد التي تطال قوانينه الظاهرة والخفية ، من دون أيّ خلل في حركة نظامهما ، أو توازن وجودهما ، مما يجعل الإنسان الذي يربط بين الظواهر يجد فيهما دليلا قاطعا على وجود الله وتوحيده وعظمته وحكمته ، باعتبارهما مظهرين حيين لذلك ، ومن خلال ذلك. فإن الإنسان الواعي المفكر لا يندمج في ذاتهما ، ولا يستغرق فيهما استغراقا أعمى ، كما يفعل بعض الجاهلين الذين يرون عظمتهما وارتفاعهما وتأثيرهما على حركة الكون ، فيعتقدون لهما تأثيرا في الوجود ، وسرّا في الربوبية ، يوجب لهما الطاعة والخضوع .. ولهذا جاءت الفقرة التالية من الآية لتؤكد رفض السجود لهما ، من خلال الاستغراق فيهما ذاتيا : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) مما يجعلكم تزدادون ـ برؤيتهما ـ تعظيما لله وسجودا بين يديه ، لأنهما مهما كانا كبيرين عظيمين ، فالله هو الأكبر والأعظم ، لأنه هو من خلق الكبير والعظيم ، فاسجدوا له ولا تسجدوا لغيره (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن عبادة الله تفرض التوحيد في الخضوع والسجود ، ولا تقبل غيره شريكا له في ذلك.

* * *

الملائكة العابدون المسبّحون

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) ورفضوا عبادة الله ، والسجود له ، وأقبلوا على عبادة غيره من مخلوقاته ، فلن تزول عبادة الله من الوجود ، لأنهم ليسوا ـ وحدهم ـ الذين يمكن أن يعبدوا الله ، فهناك الملائكة الذين يملكون المقام الرفيع ،

١٢٢

والمعرفة العظيمة بالله ، دائبون في عبادته ، مستمرون في السجود له ، مستغرقون في تسبيحه (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) ولا يملّون ، بل يزدادون حركة ونشاطا وإقبالا كلما ازدادوا عبادة لأنهم لا يسبّحون له ، بناء على بعض مظاهر عظمته إلا ويجدون منها مظاهر أخرى ، تزيدهم تعظيما له ، وتسبيحا .. وهكذا تصبح العبادة بمثابة الغذاء الروحي الشهيّ الذي يتناولونه في كل وقت من الليل والنهار ، كما يتناول الناس طعامهم وشرابهم عند الإحساس بالجوع في أي ساعة من ساعات اليوم.

* * *

بين خشوع الأرض والمعاد

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) خشوع الموت في سكونها وبرودتها وذلّتها فلا شيء يتحرك فيها ، بل هو التراب الذي تتلاعب به الرياح فيستسلم لها لتنقله من مكان إلى مكان فلا يثير إلا الغبار ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) فنفذ إلى أعماقها ، وتفاعل مع ترابها ، ودخل في عمق بذورها (اهْتَزَّتْ) اهتزاز الحركة الحيّة عند ما دبت الحياة في داخلها (وَرَبَتْ) فارتفعت بنباتها في خضرته واحمراره واصفراره وغصونه وثماره ، وبرزت في عزتها المتمثلة بالخضرة الطافرة ، والصورة الساحرة ، والنتاج الشهيّ الذي ينطلق العطاء فيه كأسخى ما يكون العطاء ، فما ذا يوحي ذلك كله للإنسان الواعي المفكر؟ هل يكتفي بالمراقبة الجامدة للظاهرة الطبيعية أم يستغرق في الجانب الجمالي منها؟ أم ينتقل من هذه الصورة المادية ، إلى الإيحاء المعنوي الذي يحمله عن المعاد ، حيث تصبح صورة حياة الأرض بعد الموت ، بقدرة الله ، دليلا على الصورة الأخرى التي يريد الله للناس أن يتمثلوها ، وهي صورة حياة الإنسان بعد الموت في اليوم الآخر ، لينتهي إلى هذه النتيجة : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإذا كان الله قادرا على إحياء الأرض بعد الموت ، فكيف لا يكون قادرا على إحياء الإنسان بعد موته ، وهو الذي لا يعصى على قدرته المطلقة؟!

* * *

١٢٣

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٥)

* * *

معاني المفردات

(عَزِيزٌ) : منيع أو ممتنع من أن يغلب.

١٢٤

(يَأْتِيهِ الْباطِلُ) : إتيان الباطل : وروده فيه.

(ءَ أَعْجَمِيٌ) : العجمة : خلاف الإبانة ، والعجم : خلاف العرب ، والأعجمي: غير العربي.

* * *

الملحدون المبطلون

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) فيميلون إلى الباطل ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه وينكرون دلالات الآيات التكوينية وما توحي به من وحدانية الله ، ويرفضون الوحي النازل من الله في تفاصيل آياته ، من دون حجة أو برهان ، نتيجة الاستكبار الذي يدفعهم إلى جحود الحق ، والعصبية التي تدفعهم إلى مقاومته (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فهم مكشوفون لنا بكل أفعالهم وأقوالهم ، في ما يكفرون وفي ما يشركون ، وسنعاملهم في الآخرة بما يتناسب مع أعمالهم في الدنيا ، فهم عند ما خيّروا في الدنيا بين الجنة والنار ، اختاروا النار على الجنة ، استجابة لمنطق الواقع الذي كانوا خاضعين له ، ولم ينتبهوا إلى السرّ الكامن في مسألة الاختيار.

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) بسبب كفره ، فيعيش الخوف والعذاب والذل ، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنه آمن بالله وعمل صالحا فاستطاع أن يحصل على أسباب الأمن الذي جعله الله للمؤمنين ، وذلك هو الخيار الذي يلزم الناس كلّهم باتخاذه أمام كلمة الله ، ليعرفوا موقع التفاضل الذي يؤدي بهم إلى النهاية المحتومة.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من السيّئات ، فلن تعجزوا الله في شيء ، ولن يخفى على الله منكم شيء ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو الذي يحيط بكم من بين

١٢٥

أيديكم ومن خلفكم ، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.

* * *

صفات الذكر وأسلوب مواجهة الكافرين به

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) من دون أن يتأمّلوه ويتدبّروه ويفكروا فيه سوف يلاقون الجزاء الذي يلاقيه أيّ كافر ملحد في آيات الله ، ولكنهم لن يستطيعوا انتقاص شيء من الذكر ، لأنهم لا يمثلون أيّة قيمة في حسابات الميزان الثقافي والاجتماعي ، فلا قيمة لكفرهم به (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) لا ينتقص منه أحد ، ولا يتغلب على مضمونه الفكري فكر آخر ، ولا يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه في كلماته ، لأن الزيف سوف يظهر أمام الحقيقة الخالصة ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فهو الحق الخالص من شائبة الباطل ، لا ينفذ إليه الباطل من قريب أو بعيد من أيّة جهة كان ، وقد نستوحي من ذلك أن التحريف لا يدخله ، إذا ما كان المقصود به مجموع الكتاب ، فلا يمكن لأحد أن يزيد فيه شيئا ، لأن كل زيادة هي من الباطل ، وأي تحريف يغيّر بعض الحروف وبعض الكلمات لا يدخله.

(تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فقد أتقن كل آياته بدقّة الصنعة ، وإبداع الحكمة ، من خلال مواقع الحمد في ذاته المقدّسة.

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) فقد نسبوا إليك كما نسبوا إلى غيرك من الرسل تهمة السحر والجنون والشعر والكهانة والكذب وغير ذلك مما ابتدعوه في مخيلاتهم وفي أوهامهم ، وكانوا يريدون بتلك الاتهامات أن يهربوا من مواجهة الدعوة ، ليبرروا كفرهم وتمردهم وطغيانهم ، ولكن الله يراقب الأمر كله ، ويرصد الناس كلهم ، فيغفر لبعض ، ويعاقب بعضا ، (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) فلينظروا كيف يواجهون الموقف أمام هذين

١٢٦

الأمرين (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) لا يعرفون لغته ، أو لا يتبيّنون مقاصده ، أو لا يستقيم نظمه ، (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) وأوضحت وبيّنت ، لتتميز الأفكار بشكل واضح بلغة عربية بليغة تتميز بوضوح المعاني لنفهمه جيّدا ، ولنعرف كيف نواجهه ، بالرفض أو القبول .. ثم يقارنوا بين شخصية الأمة العربية وبين لغة الكتاب : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي كيف يجتمع الكتاب الأعجمي مع الأمة العربية التي أرسل إليها الكتاب أو مع الشعب العربي ، فهما أمران لا يلتقيان ولا يتناسبان.

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) فهو الذي يهديهم إلى الحق ، ويعرّفهم عظمة الله ، ويدلّهم على الطريق المستقيم ، وهو الذي يشفي الصدور من أمراض الشك والريب والفتنة ، بما يفتحه من آفاق المعرفة ، وأسرار اليقين (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) فهم لا يستمعون إليه إلّا من خلال الضجيج الذي لا يفهمون من خلاله شيئا ، لأنهم لا يتبينون كلماته ومعانيه ، وذلك على سبيل الكناية (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) لأنهم لا ينطلقون من مواقع النور في مضمونه وفي آفاقه. (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فلا يسمعون الصوت ، ولا يرون الشخص ، وذلك كناية عن عدم قبولهم العظة وعدم فهمهم الحجة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك القرآن (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كما اختلف قومك في نظرتهم إليك وإلى القرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأجيل العقاب ، وإمهالهم إلى أجل معين (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فيما يستحقونه من الحكم العادل ، بالعقاب العاجل (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي من كتاب موسى ، فلا تتألم ـ يا محمد ـ من إنكار هؤلاء ، لأن الرسل من قبلك لاقوا الموقف الذي تلاقيه الآن.

* * *

١٢٧

الآيات

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

* * *

١٢٨

معاني المفردات

(أَكْمامِها) : أكمام : جمع كم وهو وعاء الثمرة.

(آذَنَّاكَ) : أعلمناك.

(مَحِيصٍ) : مهرب ومفرّ.

(قَنُوطٌ) : القنوط : انقطاع الرجاء. والقنوط : فعول ، صيغة مبالغة.

(وَنَأى) : ابتعد.

(بِجانِبِهِ) : جانب الإنسان.

(عَرِيضٍ) : واسع.

(شِقاقٍ) : المشاقّة : الخلاف.

(مِرْيَةٍ) : شك.

* * *

الإنسان يتحمّل مسئولية أعماله الخيّرة والسيّئة

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) فليس لله منفعة ذاتية من ذلك ، بل للإنسان صاحب العمل الصالح منفعة في دنياه ، لما يشتمل عليه العمل الصالح من مصلحة دنيوية ، وفي آخرته ، لما يترتب عليه من رضوان الله ودخول الجنة ، (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فإن الله لا تضره معصية من عصاه ، بل تضر المعصية صاحبها بالمفاسد التي توقعه فيها في الدنيا ، والعذاب الذي يلاقيه جراءها في الآخرة .. وبذلك فإن الإنسان يتحمل المسؤولية الفردية في أعماله ، ليواجه نتائجها عند الله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فهو يحكم بالعدل ، ويعطي كل عباده

١٢٩

ما يستحقونه من ثواب ، ويعاملهم بما يستحقونه من عقاب بعد إقامته الحجة عليهم ، وتوجيه الإنذار الحاسم إليهم.

* * *

الله العالم المدبّر

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) فهو الذي يعرف وقتها ، لا يعرفها غيره ، إلا في دائرة ما يمنحه لبعض عباده من علم (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) في ما تتفتح فيه الأكمام عن الثمار (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) من حمل (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فهو الذي خلق ذلك كله ، وهو الذي يعرف كل خصوصياته وجزئياته ، ولا يعلم ذلك غيره إلا من خلاله ، وذلك دليل على وحدانيته في تدبير الكون كله ، والإحاطة بكل أموره.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) الذين كنتم تزعمون أنهم في مواقع الألوهية ، وفي مراكز العبادة؟ (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلنّا موقف الحق الذي نلتزمه أمامك في وضوح : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يشهد بأن لك شركاء ، لأن التدبير لك وحدك لا شريك لك. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) من أولئك الذين عبدوهم من دون الله ، وأطاعوهم في معصية الله ، فلم يجدوا لهم موقعا ، ولم يلمحوا لديهم أيّة قوّة ، (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي ترجح لديهم ، أو تيقنوا ـ إذا فسرنا الظن بمعنى اليقين ، كما قيل ـ أنهم لا يجدون مجالا للفرار من العذاب ، وهو الجزاء العادل لما قدّموه من سيئات.

* * *

الاستغراق في النعم ونسيان الله

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) بل يظل مستمرّا في طلب الخير وتحمّل

١٣٠

المشقة في سبيل الحصول عليه ، ويدعو ربه أن يمنحه إيّاه عند فقده ، ثم يستغرق فيه حتى ينسى الله الذي أعطاه إياه ، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) يعيش العجز في حال انقطاع الأسباب الطبيعية للرزق ، وللصحة ، وللأمن ولغير ذلك ، ويقوده ذلك إلى اليأس وانقطاع الرجاء ، وعند ذلك يرجع إلى الله ليدعوه طالبا إنقاذه من ذلك كله.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) فليس لأحد أن ينازعني فيه ، وليس لأحد أن يمنع عني حرية التصرف في شأنه ، أو أن يحاسبني على ما أفعله فيه ، وهكذا يستغرقه الشعور بالنعمة حتى ينكر البعث فيقول : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ويعيش مع طول الأمل والوهم الكبير الذي ينسيه الآخرة ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي الثواب الحسن ، أو العاقبة الحسنة لأن عطاء الله ونعمته يدلان على أن لي عنده الموقع الكبير. فلا يتصور النعمة التي تلفه صادرة عن الله من موقع الرحمة التي يشمل بها عباده ليبتليهم بها ، كما يبتليهم بالحرمان ، كي يفكروا بالشكر وبالمسؤولية في ذلك كله ..

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) فهذا هو الموقع الذي ينتظرونه يوم القيامة.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) كناية عن الابتعاد بنفسه في استعراض للتكبر والزهو والخيلاء ناسيا حاجته إلى الله ، (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) نتيجة ما يعيشه من أجواء نفسية قلقة سببها الهلع والفزع والرعب من البلاء حتى يظل الدعاء شغله الشاغل في الليل والنهار.

* * *

من أضلّ من الكافرين بالقرآن؟

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي لو كنت صادقا في ما أقوله لكم

١٣١

إن هذا القرآن الذي أتيتكم به هو من عند الله (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) كما تفعلون الآن (مَنْ أَضَلُ) منكم عند ما لا تواجهون هذا الاحتمال بالتفكير المسؤول أمام الضرر المحتمل الذي ينتظركم بل تتحركون ، بدلا من ذلك ، في إثارة الخلاف والشقاق حوله من دون حجة ، فهل هناك أحد أكثر ضلالا (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) وهو النموذج المتمثل بكم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) في ما يظهر لهم حقائق القرآن وأسراره مما يكشفه الله في الكون (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) مما يواجههم من الحوادث التي تؤكد أخباره ومفاهيمه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) الذي لا مجال فيه لأيّ شك أو شبهة ..

* * *

(اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فإن وضوح الحق ، مرتكز على الحضور الإلهي في كل الأشياء التي لا تغيب عن الله في حاجتها إليه في كل شيء ، ولا يغيب الله عنها في خلقه وتدبيره في أيّ حال ، وذلك الحضور يؤكد الحقائق الدينية التوحيدية التي جاء بها القرآن.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) ولذلك فإنهم لا ينفتحون على آفاق العقيدة من موقع المسؤولية ، لأنهم لا يؤمنون بلقاء الله ليخافوا من عذابه ، ولكن لماذا لا يفكر هؤلاء ، أنهم إذا لم يحيطوا بالحقيقة التوحيدية الإلهية ، فهل أنهم يبتعدون عن رقابة الله وتدبيره وسيطرته ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) فهو ـ وحده ـ الذي يحيط بالكون كله ولا شيء إلا وهو داخل في دائرة إحاطته التكوينية .. مما يفرض على الأشياء كلها الخضوع له والإقرار بوحدانيته والانقياد إليه في كل أوامره ونواهيه.

* * *

١٣٢

سورة الشّورى

مكيّة

وآياتها ثلاث وخمسون

١٣٣
١٣٤

في أجواء السورة

خلال الدعوة في مكة ، كانت المشكلة المطروحة في الساحة ، هي مسألة الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن ، وعقيدة النبوّة باعتبارها الرسالة الإلهية التي يصطفي الله لها بعض عباده .. ولهذا كان الحديث حول القرآن حديث الساعة آنذاك ، ليثبّت المؤمنين من جهة ، وليواجه الكافرين بالحجة القاطعة من جهة أخرى .. لذا تناولت هذه السورة الوحي النازل من الله العزيز الحكيم ، سواء ما نزل منه على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على الأنبياء من قبله ، كما تناولت المجتمع الذي نزل فيه القرآن والتحديات التي أطلقها ، ومنطق من كانوا يواجهون النبي ، والمضمون الذي يحتويه ويلتقي به مع الرسالات الأخرى ، والذي يفسح مجال الحوار على أساس المنطق التوحيدي ، كقاعدة يتحرك الحوار من خلالها .. ثم تناولت السورة التزام البعض بالقرآن ، وتمرّد البعض الآخر عليه ، والنتائج المترتبة على هذا الخيار أو ذاك ، في جانب الإيجاب والسلب ، في إطلالة على الآخرة ، وانفتاح في هذا الجو كله ، على الله في صفاته وآياته الكونية الدالة على سعة قدرته ، وضعف كل من عداه .. وهكذا يتنوع الحديث في السورة ، عن الأسلوب القرآني الذي ينفذ من موقع الفكر إلى حركة الحياة .. وينطلق من الفكرة إلى النماذج المجسّدة لمفاهيمها ومعانيها ، مما يعيش معه القارئ التنوّع الذي يمنح الفكر القرآني العقيديّ حيويّة منفتحة على

١٣٥

الحياة كلها ، لتجعل العقيدة شيئا متحركا في الحياة ، كما هو في الفكر ، لا مجرد شيء يعيش في زاوية الفكر التجريدي.

* * *

١٣٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(يَتَفَطَّرْنَ) : التفطّر : التشقّق.

* * *

١٣٧

الحروف المقطعة

(حم* عسق) من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها في أوائل سورة البقرة .. ونضيف هنا إلى الاحتمالات المذكورة احتمالا آخر ، وهو ما ذكره في تفسير الميزان ، قال :

«والذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتّى وهي تسع وعشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد وهي : «ص» و «ق» ، و «ن» ، وبعضها بحرفين وهي : سورة طه ، وطس ، ويس ، وحم ، وبعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي «الم» ، و «الر» ، و «طسم» ، وبعضها بأربعة أحرف ، كما في سورتي «المص» ، و «المر» ، وبعضها بخمسة أحرف ، كما في سورتي «كهيعص» و «حمعسق».

وتختلف هذه الحروف أيضا من حيث إن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل «ن» ، وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل «الم» ، و «الر» ، و «طس» ، و «حم».

ثم إنّك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور.

ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أو ما هو في معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أو ما هو في معناه ، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.

١٣٨

ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا ، ويؤيّد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة ب «المص» في مضمونها ، كأنها جامعة بين مضامين الميمات و «ص» ، وكذا سورة الرعد المصدرة ب «المر» في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات.

ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا.

ولعل المتدبر ، لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض ، تبين له الأمر أزيد من ذلك.

ولعل هنا ما روته أهل السنة عن علي عليه‌السلام ـ على ما في المجمع ـ أن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» (١).

ولعلنا نلاحظ أن هذا الوجه ـ مع طرافته ـ لم يستطع أن يعطي معنى لهذه الحروف ، يدخل في التصور التفصيلي للذهن ، كما أننا قد نجد مضامين السور المشتملة على بعض هذه الحروف المشتركة في سور أخرى لم تبدأ بهذه الحروف ، أمّا الحديث عن الرمز الذي يختفي في داخل هذه الحروف ، في ما يمثله من معنى بين الله وبين رسوله ، مما لا تصل أفهامنا إليه فقد لا نستطيع التسليم به ، لأن القرآن ليس رسالة خاصة من الله إلى رسوله ، ليشتمل على الرموز الخفية التي يفهمها المرسل إليه دون الناس ، كما يحدث في الرسائل الخاصة ، بل هو كتاب هدى للناس كافة ، فلا بد من أن يكون الرمز الذي يشتمل عليه ، مما يتصل مضمونه بجميع الناس. والله العالم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٨ ـ ٩.

١٣٩

الوحي الإلهي الغيبي للأنبياء البشر

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالله هو المصدر الذي ينتهي الوحي إليه ، سواء تعلق الأمر بك أو بالنبيين من قبلك .. فمن آمن بنزول الوحي بهذه الطريقة الغيبية ، على الرسل السابقين ، فلا بد من أن يؤمن بنزول الوحي عليك ، لأن العمق الغيبيّ في الوحي واحد في الجميع. وبهذا تطال «كاف التشبيه» طبيعة الوحي ، لا تفاصيله ، كما ذهب إليه بعض المفسرين الذين قالوا : إن الآية تتحدث عن مضمون السورة التفصيلي الذي يتفق برأيهم مع المضامين التي أوحى الله بها إلى الأنبياء من قبله ، ولكن الأقرب هو ما ذكرناه ، لأن المسألة التي كانت محل بحث في ذلك الظرف ، هي إمكانية الإيمان بنزول الوحي ، على نبيّ بشري ، لأن الوحي الإلهي الغيبي بنظرهم يتصل بالشخصيات الغيبية كالملائكة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو المحيط بالكون كله ، العالم بكلّ خفاياه ، القويّ الذي لا يغلب ، الحكيم الذي لا يعبث ولا يخطئ.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الذي لا يدانيه أحد في علوّه ولا يقاربه أحد في عظمته ، وفي ضوء هذا فإن الله الذي يملك الأمر كله ، ويشرف على كل دقائقه وتفاصيله ، ويعرف كل خباياه وخفاياه ، هو الذي يدير حياة الإنسان عبر الرسول والرسالة ، وهو الذي يختار رسله من بين عباده ، سواء كانوا من رجال الغيب أو من رجال الشهود ، لأن الغيب والحس يختلفان بالنسبة للناس الذين يعيشون عالم الحس ولا يستطيعون النفاذ إلى عالم الغيب ، أو الاتصال به ، ذاتيا ، ولكن الله قادر على أن يربط الغيب بمواقع الشهود ، فيصطفي رسله من الناس ، ويمنحهم القدرة على الاتصال بالغيب المنفتح على الوحي ، انطلاقا من قوته وحكمته ، وعلوّه وعظمته ، وملكه للكون كله.

* * *

١٤٠