تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

عمران : ١٥٤] أو يغيّر النعمة ويكفر بها فيغيّر الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١]» (١).

وقد نلاحظ على ذلك أن هناك تداخلا بين سنّة الله في إيتاء الرزق وبين سنة الابتلاء والامتحان ، فإن الله سبحانه قد أجرى الرزق على أساس أن يكون التوزيع منطلقا في مواقع السعة والضيق لا من موقع ابتلاء الغني في غناه ، وابتلاء الفقير في فقره ، لأن الابتلاء لا يختص بحالة الثراء كما يوحي به كلام صاحب التفسير.

(إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فهو المطّلع على شؤونهم بما يحقق مصالحهم في دنياهم وآخرتهم ، وهو الذي يبصر كل مواقعهم التي يخطط لهم في ما يريد أن يحققه لهم من الخير والرعاية والتوفيق.

* * *

الله ينشر رحمته ونعمه على عباده

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) فتحيا به الأرض ، وتتجمع في أعماقها الينابيع ، وتجري من خلالها الأنهار ، فيتبدل اليأس من الرزق إلى تفاؤل وأمل بخصوبة الأرض التي تعدهم بإنتاج وفير يغيث الناس في مشاكلهم الغذائية ، كما قد توحي به كلمة الغيث. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) ويوزّع نعمه بين الناس ، عبر توزيع ما تنتجه الأرض من نبات وما تعطيه من ثمار يحتاجها الناس في حياتهم. (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الذي يبسط ولايته على عباده عبر مواقع حمده في حياتهم.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقد أبدع الله خلقهما وأتقنه ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٥٦ ـ ٥٧.

١٨١

بالأسرار التي أودعها في النظام الكوني الذي يحكم حركتهما ، وتتجلى فيه حكمة الله حيث تتحرك كل واحدة منهما بحساب دقيق يضع كل شيء في موضعه.

(وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) مما يدبّ ويتحرك بالحياة التي أودعها الله في داخله .. وربّما كان المراد بالدابة الطير ونحوه باعتبار إطلاق السماء على ما يعم العلوّ ، وربما كان إشارة إلى أن في السماوات مخلوقات مماثلة لما في الأرض من الحيوانات ، وربما كان المراد به الملائكة في السماوات. ولعله المتبادر من الأجواء السماوية التي يتحدث عنها القرآن في أكثر من آية.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) لأن الله الذي خلقهم ووزعهم على مواقع خلقه ، قادر على أن يجمعهم إليه ليحاسبهم على ما عملوه ، إن كان هناك حساب في دائرة أعمالهم ، أو ليبلغهم تعليماته التي تحدد أدوارهم في الكون ، كما قد يتصور ذلك في الملائكة.

* * *

١٨٢

الآيات

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(بِمُعْجِزِينَ) : بجاعلين الله عاجزا عنكم.

(الْجَوارِ) : السفن.

(كَالْأَعْلامِ) : الجبال.

(رَواكِدَ) : الراكدة : الثابتة في محلها.

(يُوبِقْهُنَ) : يهلكهن.

١٨٣

تلازم المصيبة والعمل السيئ

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فإن هناك نوعا من الترابط بين الأعمال الإنسانية السلبية ذات البعد الاجتماعي الذي يطال الحياة العامة والخاصة للناس ، وبين نتائجها الصعبة من مصائب تطال الناس في أجسادهم وعقولهم ، وأوضاعهم الغذائية والاقتصادية والأمنية ، باعتبار أن خصائص الأعمال ونتائجها تتداخل في الحياة ، تماما كما هو السبب بالنسبة إلى المسبّب ، وهي سنّة كونية اقتضت وجودها الحكمة الإلهية ، فإذا كان العمل خيّرا في طبيعته فلا بد من أن ينتج الخير للإنسان ، وإذا كان العمل شرا في مضمونه ، فلا بد من أن ينتج الشرّ للإنسان .. وقد يكون وقوع المصائب على هذه الصورة لونا من ألوان العقوبة الإلهية التي جعلها الله جزءا من النظام الكونيّ لربط الإنسان بنتائج أعماله ، في ما قدره الله للكون من العقوبة التكوينية ، أو الثواب التكويني ..

وإذا انحرف الناس عن القيم الروحية والأخلاق في أعمالهم ومارسوا الشرك في عبادتهم ، وعاشوا الأنانية في علاقاتهم ، واستعملوا الكذب والغش والخيانة والنفاق ونحوها في أقوالهم وأفعالهم .. فلا بد من أن ينعكس ذلك على مصيرهم ، لأن لهذه الأمور أثارا ونتائج طبيعية تنعكس في حركة الحياة التي يعيشون ، ولذلك فلا بد لمن يريدون تغيير واقعهم السيّئ ورفع ما يحيط بهم من مصائب عامة من العمل على تغيير المجتمع العملي في الحياة ، لأنهم لن يستطيعوا تغيير النتائج من دون تغيير المقدمات .. وإذا كان هناك بعض الناس الخيّرين الذين يعيشون مشاكل خاصة في أبدانهم وأوضاعهم ، فليس ذلك إلا نتيجة الوضع العام السيئ من جهة ، ذلك أن البلاء من العام لا بد من أن يسري إلى الخاص ، أو نتيجة بعض الخصوصيات الذاتية السلبية من جهة أخرى.

١٨٤

وقد لا يكون من الضروري أن تأتي المصائب نتيجة المعاصي التي يجترحها الإنسان دائما ، بل قد تأتي نتيجة بعض الأوضاع المعقدة ، التي ينعكس تأثيرها على الواقع كله ، حتى على الذين لا دخل لهم بتلك التعقيدات ولكنهم يشكلون جزءا في الأجواء العامة مما يجعل تأثّرهم بها أمرا طبيعيا.

وقد يحصر البعض المصائب هنا في الدائرة الفردية ليكون الخطاب لكل فرد من البلاء الذي يصيبه من خلال عمله ، ولكننا نجد أنّ الأمر يتصل بالظاهرة العامة ، كما يتصل بالظاهرة الفردية.

* * *

لا قدرة فوق قدرة الله

(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما قد يستوجب العقوبة ، أو يؤدي إلى البلاء ، أو يحقق بعض النتائج السلبية ، ولكن الله يرفعه بلطفه ورحمته وقدرته التي يغيّر بها الواقع من حال إلى حال .. وقد تكون بعض الأعمال الروحية والعبادية ، أو الأدعية التي يبتهل فيها المؤمنون إلى الله سببا في العفو عن بعض الأعمال ، ورفع ما تقتضيها من البلاء.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) لأنكم لا تملكون قدرة إلّا وقدرة الله فوقها ، بل هي مستمدة منها ، فأنتم في قضاء الله وقدره تتحركون ، وفي مواقع ملكه تعيشون فإلى أين تهربون منه؟ وما الذي تملكونه من وسائل المواجهة والأرض كلها ملك الله ، وفي قبضته ، وأنتم ملك الله وخلقه وعباده.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأن الله وحده هو وليّ الكون كله ، والمخلوقات كلها. فمن أين تأتون بوليّ غيره لتواجهوا به الله ، وكل ولاية مستمدّة من ولايته ، ومن الذي ينصركم من الله ولا أحد في الأرض إلا

١٨٥

وهو محتاج إلى نصرة الله له لتستمر به الحياة.

* * *

(الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) .. آية إلهية

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) وهي السفن الجارية في البحار التي تبدو للناظر من بعيد كالجبال ، أو التي تبلغ في ضخامتها حجم الجبال ، وهي آية من آيات الله لما تتمتع به من كثافة وعمق وسعة تمكنها من حمل السفن الكبيرة ، إلى جانب الريح التي تدفع السفن وتمنحها الحركة المتنوعة وتثير التفكير في قدرته على تجميع كل هذه العناصر والظروف التي تسهّل حركة الإنسان وتهديه إلى الوسائل التي تعينه على الوصول إلى أهدافه.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) ويتجمدن في مكانهن من دون حراك ، لأن الريح هي سبب حركة السفن.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وهما الصفتان الأساسيتان في شخصية المؤمن اللتان تؤثران على حركته الفكرية والعملية لجهة انفتاحه على الحياة من خلال الله ، ووعيه كل ظواهرها الدالة على عظمته وقدرته. فإن الصابر قادر على مواجهة القضايا الفكرية التي تحتاج إلى التأمّل الطويل ، والجهد الكبير على ملاحقة المفردات الفكرية التي تصل به إلى النتائج الحاسمة ، كما هو قادر على مواجهة الواقع القاسي المحمّل بالمشاكل التي تتحدى أوضاعه وقضاياه ، وعلى الثبات أمام ذلك وعلى تحمل الحرمان الذي يلحقه جراء ذلك ، فهو يصبر على شروط المعرفة حتى يصل إليها ، ويصبر على البلاء حتى يتجاوزه بسلام ..

كما أن الشاكر ينفتح على ما حوله من نعم تمدّه بقوة الحياة ونضارتها ،

١٨٦

ليجد فيها مواقع رحمة ربه ، فلا يستغرق في ذات النعمة بل يتطلع إلى ما توحي به من دلالات ، وما تفتحه من آفاق على الله ، ليشكره بالكلمة ، والطاعة ، والموقف ، والعبادة الخاشعة في محراب الكون.

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي يهلك الجواري بما فيها من ناس ، وذلك بإغراقهم إذا ما اقتضت حكمته ذلك. (بِما كَسَبُوا) من الأعمال السيئة التي تؤدي إلى ذلك ، (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) ممن اقتضت مشيئته أن يعفو عنهم وينجيهم من الهلاك رحمة بهم.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) بغير الحق وينكرون العقيدة التوحيدية بإثارة التهاويل الانفعالية أمامها ، ويعيشون الغفلة عن الحقيقة الإلهية مدّة من الزمن ، ولكن معرفتهم أن قدرة الله التي لا يملكون أمامها شيئا مهما امتدت بهم الحياة في مواقع القدرة الذاتية تحاصرهم في كل مفردات وجودهم وتشكل بالنسبة إليهم صدمة قوية لا يستطيعون الهرب منها إلى أيّ مكان ، فيستسلمون لها شعورا منهم بالضعف المطلق (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي مهرب.

* * *

١٨٧

الآيات

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣)

* * *

معاني المفردات

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) : المعاصي الكبيرة.

(وَالْفَواحِشَ) : جمع فاحشة ، وهي المعصية الشنيعة النكراء.

(شُورى) : التشاور والمشاورة ، والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض ، والشورى الأمر الذي يتشاور فيه.

١٨٨

(يَنْتَصِرُونَ) : الانتصار والاستنصار طلب النصرة.

* * *

من ملامح شخصية المؤمنين

ما هي ملامح شخصية المسلم في المجتمع. وما هي القيم التي يتبناها بحيث يكون جديرا برضى الله ، وبالحصول على الموقع الرفيع في الدار الآخرة؟

إنّ هذه الآيات تقدم لنا بعض ملامح تلك الشخصية والقيم الدينية التي تحكمها في الحياة.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذي لا يملك ثباتا ولا امتدادا بل هو مجرد حاجة طارئة لا تلبث أن تزول ، ولذلك كان من الضروري أن لا يعتبر الناس متاع الدنيا أساسا لطموحاتهم في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ونظرتهم العامة إلى الحياة ، بل يتعاملون معه من موقعه الحقيقي كشيء يتناوله الإنسان وهو في الطريق.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) من رضوانه ونعيمه ، فذلك هو الشيء الثابت المستمر في خلود الموقع في الآخرة ، مما يفرض على الإنسان أن يعدّه طموحه الكبير أو الوحيد الذي سعى إليه من وراء حركته المنفتحة على الله وعلى الحياة ، من خلاله .. ولكن ليس شيئا ينال بالتمنيات ، بل لا بد من الجهد الفكري والروحي والعملي الذي يبني ـ على أساس مضمونه الذي يلتقي بالحق ـ شخصيته ، ويحرك ـ من خلاله ـ مشاريعه ، ويركز عليه علاقاته ، وهذا ما أشارت إليه الفقرات الآتية : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فالإيمان بالله الواحد ، منهج يتسع لكل نشاطات الحياة وتطلعاتها وأوضاعها ، ويوجّه نظرة المؤمن إلى خط الاستقامة الذي يبدأ من الله وينتهي إليه ، بحيث لا يرى إلا الله في كل وجوده .. فهو العنوان لكل علاقة ، وهو الوجه لكل عمل ، وهو الأساس لكل

١٨٩

مشروع ، وهو الأمل في كل مستقبل ، وهو الثقة المطلقة ، والأمان الشامل ، في كل حالة اهتزاز ، أو موقع للخوف. من هنا فإن على المؤمن ، عند ما تزدحم حوله المشاكل ، وتقف في وجهه العقبات وتشتد في آفاق حياته العواصف ، وتكثر التهاويل ، وتطوف به الحيرة في كل موقف ، أن يتجه إلى الله ، بعد أن يحرك كل الوسائل التي يملكها لتحقيق ما يريد من النتائج .. فيتوكل عليه ، ويسلم أمره إليه ، ثقة بأنه الولي والمعين والحامي والمدافع عن عباده المؤمنين ضد كل ما يختزنه المجهول من مخاوف وتهاويل.

وبذلك يؤكد الإخلاص في الإيمان كتوكل المؤمن على الله في شخصيته وحركته الذي يمنحه الثقة بالمستقبل ، من خلال الثقة بالله.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) وهي المعاصي الكبيرة التي توعّد الله مرتكبيها بالنار ، لأنها تمثل تمردا على الله ، وتؤدي إلى إفساد حياة الناس الروحية والعملية ، في المواقع الاجتماعية والفردية ، الأمر الذي يفرض على المؤمن أن يبتعد عنها ، (وَالْفَواحِشَ) وهي المعاصي التي تتجاوز نتائجها السلبية على المجتمع الحد ، ويكثر إطلاق كلمة الفاحشة على الزنى واللواط ونحوهما مما يدخل في باب الانحراف الجنسي عن الخط المستقيم ، (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ويتسامحون ويتجاوزون الحالة الانفعالية التي تسيطر على مشاعرهم ، وتؤدّي إلى توتّر أعصابهم ، لأنهم لا يعيشون غضبهم كمشاعر في التوترات الصعبة التي تتصلّب فيها المواقف ، بل كنافذة على العفو والمغفرة ، في ما يمكن أن ينفع الناس والحياة .. وقد نلاحظ أنّ الآية تعالج القضية من ناحية المبدأ ، باعتبار أن المغفرة خلق كريم من أخلاق الشخصية الإسلامية ، من دون الدخول في التفاصيل ، فلا مجال للحديث عن التفصيل بين حقوق الإنسان الشخصية التي يجوز له التنازل عنها وحقوق الله العامة التي لا يجوز للإمام تركها ، أو الحديث عن التنافي بينها وبين الآية الآتية التي تؤكد على الانتصار للبغي ، لأنه لا إطلاق لها في هذه الجهات ، والله العالم.

١٩٠

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في ما أمرهم به أو نهاهم عنه ، أو وجّههم إليه من مناهج الحياة ووسائلها ، فكانوا خاضعين له ، خاشعين لعظمته ، مستسلمين له في عمق الإحساس بالعبودية المطلقة ، أمام الألوهية المطلقة.

* * *

الشورى في الإسلام

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بما تمثله من إخلاص لله وانفتاح عليه ، وإحساس بحضوره في وجدان الإنسان بحيث يخاطبه ويحادثه ويناجيه ، كما لو كان يراه ، (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) لا يستبدّ أحد برأيه ، بل يعتبر التشاور مع الآخرين منهجا عمليا للوصول إلى الحقيقة في ما يصلح أمره وأمور الحياة من حوله .. ولا يستبد الحاكم بقراره بل يعمل على الرجوع إلى أهل الرأي والخبرة والأمانة ليستمع إلى آرائهم في كل أمر من الأمور العامة ، ليزداد بصيرة في ذلك مما يجعل من احتمال الخطأ لديه احتمالا بعيدا ثم يكون الرأي له. والشورى خط إسلامي يشمل كل مواقع الساحة الفكرية والعملية في المجتمع الإسلامي ، بحيث يكون أمر المسلمين خاضعا للشورى التي تفتح أمامهم آفاقا واسعة للتعرف على المصلحة والمفسدة من خلال الآراء المتنوّعة التي تقدمها حركة الصراع بين الأفكار وتصادم العقول ، والتلاقح بينها .. وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة «من شاور الرجال شاركها في عقولها».

ويمكننا استيحاء هذا المنهج في كل مواقع المسؤولية حتى في المواقع التي لم يكن قرارها بيد الناس ، بل كان بيد الله ، كما في النبوّة ، أو في الإمامة ، في رأي الشيعة الإمامية ، فيما كان أمر التعيين بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله .. كما جاء في قوله تعالى في خطابه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩]. وقد كثرت الأحاديث عن الأئمة من أهل البيت في التأكيد على الشورى وفي أن «من استبد برأيه هلك ، ومن شاور

١٩١

الرجال شاركها في عقولها» (١) وفي ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد». مما يوحي بأن الشورى تمثل خط السلامة في حركة المجتمع الإسلامي على مستوى القيادة والقاعدة. وفي ضوء ذلك قد نستفيد من هذا النهج ، أن وجوب إطاعة أولي الأمر ، لا تمنع من توجيههم إلى الأخذ بالشورى في إصدار قرارهم .. بل قد يمثل استبداد غير المعصوم في رأيه ، انحرافا عن الموقع الشرعي الذي يقف فيه ، ويكون كافيا لعزله ، عند ما يتخذ قراراته بغير علم إذا لم يكن من أهل الخبرة في موضوع القرار ، أو إذا لم تكن خبرته كافية للوصول إلى وضوح الرؤية فيه.

وربما كان للمتأمل في القرآن أن يستوحي من الآية ، أنّ الشورى هي القاعدة في كل أمر من أمور المسلمين ، إلا إذا ثبت التعيين من دليل خاص ، لأن كلمة (وَأَمْرُهُمْ) وإن لم يكن لها عموم أو إطلاق ، في ما يناقش فيه البعض ، إلا أن ظهورها في العنوان الذي يمثل الوضع الإسلامي من ناحية المبدأ ، قد يوحي بالعموم من هذه الجهة ، والله العالم.

* * *

الإنفاق وروحية العطاء

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لأن الإنفاق يمثل روحية العطاء التي حوّلها الإسلام إلى عبادة في مواضع الحقوق الشرعية كالزكاة والخمس والصدقة ، وأراد أن يكون الإتيان به بقصد القربة وهي عنوان العبادة في الصلاة والصوم والحج.

وإذا كان الإنفاق سمة المجتمع الإسلامي الإيماني ، فإن ذلك يوحي بتبنيه مبدأ التكامل الاجتماعي ، الذي يجعل كل فرد من المجتمع مسئولا عن كفالة فرد آخر في ما يحتاج إليه في حياته من موقع الحق ، لا من موقع

__________________

(١) ابن أبي طالب ، الامام علي (ع) ، نهج البلاغة ، ضبط نصه د. صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، قصار الحكم : ١٦١ ، ص : ٥٠٠.

١٩٢

التبرّع .. إضافة إلى أن القيادة الإسلامية للمجتمع تقوم بتكفل كل ذوي الحاجات الصعبة من موقع المسؤولية. وهو أمر تناولته النصوص الدينية التي تحدثت عن مسألة الإنفاق في حياة الناس العامة.

وقد لا يقتصر الأمر على الإنفاق على المحرومين من الناس ، بل يمتد الأمر إلى كل سبيل من سبل الله ، وكل طاعة من طاعاته مما تحتاجه الدعوة ، ويفرضه الجهاد في سبيل الله.

* * *

عنوان الانتصار في الظلم

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) من القوى الطاغية المستكبرة التي تريد تحدي حريتهم ومصادرة قرارهم ، والسيطرة على مقدراتهم ، والضغط على أفكارهم ، ليصبحوا مجرّد أتباع لها ، خاضعين لتعاليمها وأوامرها ونواهيها ، فلا يملكون معها إرادة ، ولا يستطيعون الاستقلال في مصيرهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) فلا يخلدون إلى الضعف ويجعلونه مبرّرا لانحرافهم وسقوطهم في أوحال الذل ، بل يعملون على صناعة قوتهم وتحريكها لمواجهة الطغاة المستكبرين ، ليهزموا قوّتهم ، ويسقطوا كبرياءهم لتكون القوّة للمؤمنين ، والضعف للكافرين ، وليكون الدين كله لله ، في ما يمثله موقف المتدينين من العزّة والحرية والقوّة.

وقد يتصور البعض أن هناك نوعا من التنافي بين هذه الآية والآية السابقة التي تتحدث عن المغفرة عند الغضب ، ولكن الظاهر أن تلك الآية تحدثت عن الانفعال الذي لا يسيطر على المؤمن ، بل يترك مجالا للتفكير بالعفو الذي قد يكون الموقف الصحيح الملائم للمصلحة. أمّا هذه الآية ، فتتحدث عن ساحة الصراع التي يقف فيها المؤمنون أمام الباغين الذين يريدون إسقاط الساحة الإيمانية تحت ضغط البغي الكافر أو الظالم ، مما يجعل من مسألة الانتصار ، انتصارا لله ولرسوله وللإيمان .. لا حالة ذاتية تتصل بالمعنى الأخلاقي للسلوك

١٩٣

الفردي ومن هنا كانت الآية في مورد تأكيد القوّة في الموقف ، في ما توحي به كلمة الانتصار من المعنى ، لتكون المسألة أن يأخذ الإنسان بأسباب القوّة التي تتوازن ، ولا تعتدي ، وتفكر ولا تنفعل ، وتحسب حسابات الحركة التي قد تؤدي بها إلى أن يكون الموقف هو موقف العفو الذي يؤكد القوّة لأنه يكون عفوا عند المقدرة ، مما يجعل تأثيره على العدو في الانتصار المعنوي ، أكثر من الأخذ بالانتصار بالقوّة الجسدية القاهرة.

* * *

بين حق الانتصار للنفس والعفو

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) على أساس العدل الذي يقوم على المعاملة بالمثل ، فلا يزيد حجم العقاب على حجم الجريمة ، فذلك هو المقدار المسموح به .. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فتنازل عن حقه من موقع القدرة على أخذه ، انطلاقا من روحية التسامح في شخصيته ، وترفعا عن الانتقام لنفسه وتقرّبا إلى الله بذلك ، وأصلح أمره في ما بينه وبين ربّه في ما يقصده من الانسجام مع خط الإصلاح المنفتح على خط الاستقامة في السلوك ، فإن الله يعامله بالحسنى ويعطيه أجر الصابرين العافين عن الناس ، وهو أجر عظيم في حساب الله.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، ولذلك أباح للمظلومين الانتصار عليهم ، وأوجب ذلك عليهم أحيانا ، لكنه لم يرخّص لهم أن يأخذوا أكثر من حقّهم لأنهم يتحولون بذلك إلى ظالمين في تلك الزيادة (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فلهم الحق بالانتصار لأنفسهم ، فإذا أخذوا حقهم لم يكن هناك أيّ وضع سلبيّ ضدّهم ، لأن العفو عن الظلم ليس أمرا إلزاميّا ولكنه أمر راجع إلى صاحب الحق ، إن اختاره كان له الأجر عند الله لأن العفو يدلّ على السموّ الروحي والأخلاقي الذي تتمتع به شخصيته الدينية ، وإن اختار الانتصار لنفسه ، فلا

١٩٤

إشكال عليه في ذلك لأنه قد أخذ بحقه ، حتى لو استخدم وسيلة محرّمة في ذاتها كالغيبة فإن حرمتها ترتفع بذلك.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فهؤلاء هم الذين يؤاخذهم الله بأفعالهم وأقوالهم الظالمة في ما يتصل بإفساد حياة الناس ، وبما يحركونه فيها من قوانين الطغيان ووسائله وأوضاعه .. وبما يثيرونه في وجدان الناس من تهاويل الخوف والقلق ، وبما يجترحونه بحق الناس من قتل وجرح وتدمير (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جزاء بما كانوا يفعلون ، وإذا كان الله قد فرض عليهم العذاب في الآخرة فقد أراد من عباده المؤمنين أن يواجهوهم بكل وسائل الرفض والقهر والإذلال ، أو يحاصروهم بكل أدوات الحصار وأن يبتعدوا عنهم ، ولا يركنوا إلى كل مشاريعهم وأوضاعهم وتوجيهاتهم ، والعمل على إزالة الظلم من الوجود ، وتدمير البغي في حياة الناس ، بتدمير الظالمين في مواقع قوتهم ، بكل ما يملك المؤمنون من قوّة. وإذا كان الله قد أعطى الأجر من عنده للصابرين الغافرين لمن أساء إليهم في مواضع العفو التي يرضاها الله ، مما لا يسيء إلى الرسالة والحياة ، فإنه قد أكد من خلال ذلك القيمة الروحية التي تمثل عنصر قوّة في الإنسان ، لا عنصر ضعف ، كما قد يتصوره البعض من دلالات القوّة ، في ممارسة رد الفعل ، ودلالات الضعف في الامتناع عنه .. وهذا هو قول الله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لأن ذلك ارتفاع بالموقف عن النوازع الذاتية التي تحركها العوامل الغريزية .. عند ما يقف الإنسان ليواجه الضغط النفسي القاسي المشبع بالألم وبطلب السيطرة على النفس ، فينتصر عليها بقوّة الإرادة الواعية ، وموقف الفكر القويّ.

وهذا ما يريد القرآن أن يعمّقه في وعي الفكر الأخلاقي في اعتبار الصبر قيمة أخلاقية تتصل بالعزم والإرادة القويّة .. مما يوحي بالمعنى الإيجابي للحياة الإنسانية لا بالمعنى السلبي ، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الالتزام به ، التزاما بالجانب القويّ من حركة الإنسان في الحياة.

* * *

١٩٥

الآيات

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ(٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠)

* * *

معاني المفردات

(نَكِيرٍ) : مصدر بمعنى الإنكار.

* * *

١٩٦

الظالمون يوم القيامة

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) .. ويبقى الحديث عن الذين سلكوا طريق الضلال ، بعد أن فتح الله لهم أبواب الهدى ، فلم يدخلوها ، فأضلّهم الله ، بأن أسلمهم لما اختاروه من الضلالة عند ما التزموا بولاية غيره ، وبعبادة الآلهة التي يزعمونها .. ورفع عنهم ولايته فضلّوا سواء الطريق وواجهوا الحقيقة التي تفرض سقوط ولاية كل شخص غير الله ، في النصرة والرعاية ، ووقفوا وجها لوجه أمام المصير الأسود في عذاب جهنم (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الذي ينتظرهم ليعيشوا الخلود معه (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) في تساؤل مرير يحاول أن ينفذ إلى بعض الثغرات التي تفتح لهم مجالا للهروب .. وربما كان هذا التساؤل منطلقا من حالتهم النفسية الضاغطة ، التي تطلب بعض التنفيس عن الضغط الداخلي ، في ما يشبه التمنيات المستحيلة ، وهنا يبرز مشهد هؤلاء الذليل في رعبهم وفزعهم وانسحاقهم وحيرتهم أمام المصير المحتوم (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار ، فها هم في هذا الموقف يقفون في مقامهم لتستعرضهم النار ، من دون حول وقوّة ، لتأكلهم وتلتهمهم بعد ذلك ، تماما كما يقف المحكوم بالإعدام أمام أدوات الموت ، فتتحول النار ، في جوّ الآية التعبيري ، إلى كائن حيّ قويّ يستعرض الظالمين في عملية تحديد للخيارات التي يتخذها ضدهم وهم لا يستطيعون تحديد أيّ خيار للردّ (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) الذي يعيشون فيه الانسحاق والسقوط أمام المصير المحتوم ، بدلا من أن يكونوا خاشعين لله من خلال التزامهم بطاعته في الدنيا ، وفي موقفهم أمامه يوم القيامة حيث يكون الخشوع الروحيّ انفتاحا على ما ينتظرهم من رضوانه ونعيمه الدائم في جنته ، (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) لا يملكون فتح عيونهم ليحدّقوا بها بنظرة واسعة مملوءة بالمشهد الذي يواجههم ، لأنهم لا يطيقون تصوّر ما توحي به من رعب وفزع ، فيسترقون النظر استراقا حبا بمعرفة ما فيها ، ويغضون الطرف هربا منه ولو بعض الشيء.

* * *

١٩٧

خسارة المصير

.. وهنا يقف المؤمنون في مواجهة هؤلاء الظالمين في نظرة تقييميّة لموازين الخسارة التي كان يدعي هؤلاء في الدنيا أنها لصالحهم ، فالمؤمنون في نظرهم ـ أي الكافرين ـ كانوا قد خسروا فرص التمتع بالملذات والشهوات التي ربحوها عند ما كانوا يمسكون بزمام الدنيا بكل أوضاعها الحسية.

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عند ما فقدوا كل شيء ، حتى راحة الموت ، التي هي راحة سلبية ، وواجهوا الخلود في عذاب جهنم التي لا يذوقون فيها إلا ما خبث من الطعام والشراب ، ويتحملون فيها أشد ألوان العقاب .. فلا مجال لأيّة راحة أو لذّة أو شهوة أو جاه أو ما إلى ذلك مما يستمتع به الناس في الجانب المادي والمعنوي من الحياة ، بل الأمر ـ في ذلك ـ على العكس .. وتلك هي خسارة المصير التي لا مجال فيها لأيّ تعويض مستقبليّ بأيّ ربح جديد ، بينما تمثل خسارة الدنيا في مقابل ربح الآخرة حالة طارئة من حالات الخسارة التي لا تمثل شيئا أمام ما ينتظر الإنسان من الربح .. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه عند ما يريد أن يدخل في حسابات الربح والخسارة فلا يفكر بالربح الطارئ الزائل ، ليوجّه طموحاته نحوه ، ولا يفكر بالخسارة المحدودة ليسقط أمامها في مواقفه ، بل يفكر بالربح الدائم كطموح كبير ، ويحذر من الخسارة الدائمة كمشكلة كبيرة .. وذلك ـ في نظر المؤمن ـ هو ربح الآخرة وخسارتها .. ولا سيّما إذا كانت المسألة لا تختص به ـ وحده ـ بل تشمل أهله الذين يعيش كل مشاكل الحياة ومتاعبها وتضحياتها من أجلهم .. مما يجعل خسارتهم خسارة مضاعفة بالنسبة إليه عند ما تضاف إلى خسارة نفسه ، (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) فذلك هو نهاية المطاف ومصير الكافرين الظالمين في الحياة (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) لأنه لا وليّ غير الله في ما تعنيه كلمة الولاية الفعلية من القدرة على النصرة من موقع القوة الواسعة الشاملة التي تتيح للولي أن يحقق ما

١٩٨

يريده من نصرة مواليه ، فالله هو وحده ، الذي يملك القوة المطلقة ، فلا قوّة إلا له ، ولا قوّة لأحد إلا منه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) فيتركه لنفسه ، بعد اختياره للكفر والضلال ، ويهمل أمره فلا يمنحه الهداية بعد ذلك (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلى السعادة التي يسهّل الله الطريق إليها من خلال هدايته ، في فطرة الإنسان ووجدانه ، وفي وحيه الذي أنزله إليه ليخرجه من الظلمات إلى النور ، وفي ألطافه التي يفيض بها عليه.

* * *

لا مهرب من الله

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) هذا هو الخط الإلهيّ الحاسم الذي يدعو الله فيه عباده ليستجيبوا لدعوته في الأخذ بوحيه كمنهج لهم في الحياة ، وكدستور لما يفعلونه أو لما يتركونه ، مما يصلح حياتهم أو يفسدها ، وليتبعوا رسله في تحريك الموقف في تنظيم شؤونهم العامة والخاصة ، وتتحرك الدعوة لتطلب منهم الإسراع قبل فوات الأوان عند ما يأتي يوم القيامة الذي لا مجال لردّه ، لأنه آت لا ريب فيه.

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) فلا مهرب من الله ، ولا ملاذ يمكنكم اللجوء إليه لأن الكون كله له ، ولا حجة يمكن أن تخلصكم من العذاب ، لأنكم لا تملكون أي مبرر لعدم الاستجابة لدعوة الله. (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) في ما تحاولون فيه إنكار ما قدّمت أيديكم من أعمال ، لأن الأمر واضح لا ريب فيه.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) ولم يستجيبوا لنداء الله من خلال النداء الذي توجهه إليهم ، (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) فلست مسئولا عن ذلك بطريقة ضاغطة فوق العادة ، لأن دورك الرسالي هو التبليغ بكل الأساليب التي تقودهم إلى الاقتناع بالإيمان ، إذا أقبلوا على الدعوة بعقولهم وقلوبهم.

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) فهذا هو الدور الذي ينبغي للأنبياء أن يقوموا به ،

١٩٩

فإذا أدّوه قاموا بواجبهم الطبيعيّ الذي أوكل الله إليهم أمره.

* * *

(فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) في ما نرزقه من صحة وبنين وقوّة وغير ذلك من النعم ، فإنّ ردّ فعله هو الاستغراق في النعمة ، والانشغال بها عن التفكير في الله المنعم الذي أغدقها عليه ، فإذا جاءته نعمة (فَرِحَ بِها) فرح البطر والزهو والخيلاء. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) في ما يعرض عليهم من أصناف البلاء كالمرض والخوف والجوع والفقر ونحو ذلك ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الأعمال السيّئة التي تفسد البلاد والعباد ، وتؤدي إلى النتائج السلبية ، على أساس السنن الحتمية التي أودعها الله في الكون في علاقة المسببات بأسبابها (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) ينسى نعمة الله ، فلا يذكر فضله عليه في الماضي ، ويستغرق في إحساسه بالألم ويبدأ بالشكوى والتمرّد ويغفل عن طبيعة الصلة بين عمله والبلاء ، ليعرف أن خلاصه بيده والرجوع إلى الله ، والتراجع عن موقع الخطأ.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يخلق ما يشاء ، فلا بدّ للناس من أن يرجعوا إليه في ما يحبون وفي ما يشتهون ، لأن الأمر كله له لارتباط كل شيء بمشيئته وإرادته.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) فهو الذي يحرّك التنوع من خلال حكمته في حركة الحياة الإنسانية في الأرض ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) بحيث يجمع الذكور والإناث لبعضهم ، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له ولد من كلا الصنفين. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) يعلم ما يصلح خلقه ، ويقدر على أن يبدع الأشياء طوع إرادته.

* * *

٢٠٠