تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

أو يراد به الإشارة إلى المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة وأصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف. (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) في حالة فرار وهزيمة خائفة مرعبة (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذاب الله ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يتركه لنفسه ، ويهمله فلا يفيض عليه من لطفه ورحمته ، (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لأنّ للهدى أسبابه التي خلقها الله وطوعها لإرادة العبد واختياره ، فإذا رفضها واستكبر عليها ، وسلبه الله رعايته ، فلا يملك أحد أن يحقق له الهداية.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) في ما كان يثيره أمامكم من فكر توحيديّ يهديكم إلى معرفة الله ، ومن روح مسلمة تسلم كل حياتها لله في إسلام القلب واللسان والحركة (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) فلم تؤمنوا به ، ولم تصدقوه ، بل واجهتم دعوته بعلامات الاستفهام الهادفة إلى التحدي وإثارة الجدال العقيم ، لا الوصول إلى معرفة الحقيقة .. (حَتَّى إِذا هَلَكَ) وانتقل إلى جوار ربّه (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) في إعلان لانتهاء عهد الرسل ، لأن ذلك لن يكلفكم شيئا في الالتزام ، باعتبار أن الإيمان بالرسل شيء يتصل بالماضي ، في الوقت الذي تؤكدون فيه حرية الانتماء في المستقبل ، حيث لا موقع للرسالات (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ممن لا ينفتح على حدود الله ، ولا يقف عند ضوابط المعرفة ، ولا يبني قناعاته الفكرية على قاعدة اليقين ليلتزم به.

ولعلّ هذه الآية هي المناسبة الوحيدة التي تحدث فيها القرآن عن شخصية يوسف الرسالية ، ومعاناته مع قومه ، نتيجة تمردهم عليه وشكهم في رسوليته في حركة الدعوة في حياته .. فقد كان القرآن يتحدّث عنه بصفته الحاكم الإداري الذي يملك السلطة على مقدرات مصر المالية.

* * *

٤١

مقت الله للجدال العابث اللّاهي

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) فهم لا يجادلون استنادا إلى حجة أو برهان ، بل من موقع العبث واللهو والعناد (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) لأن مثل هذا الموقف الجامد المتعنّت أمام كل دلائل الحقيقة ، لا يستحق إلا أشد البغض والاحتقار والعذاب (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فلا يفقهون شيئا مما يسمعون ولا يفهمون حقيقة في ما يفكرون ، لأن قلوبهم قد أغلقت على الجهل الذي يعيش في عمق شخصياتهم ... نتيجة ما عاشته من كبرياء وما تحركت به من جبروت ..

* * *

٤٢

الآيات

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦)

* * *

٤٣

معاني المفردات

(مَرَدَّنا) : مرجعنا.

(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) : أرد أمري إلى الله.

(وَحاقَ) : أحاط ونزل.

(غُدُوًّا وَعَشِيًّا) : صباحا ومساء.

* * *

(يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ...) لأطلع إلى إله موسى عليه‌السلام

ويعود فرعون من جديد ، وكأنه استمع للحوار بين هذا المؤمن وقومه ، فيرد عليه بشكل غير مباشر ، ليخفّف من تأثير فكرة الخوف التي أثارها المؤمن في حديثه عن الله ، كحقيقة وجود كما لو كان مؤمنا به ، خلافا لأسلوبه السابق في تناول تلك القضية ، فهو الآن يطرح أمامهم تاريخ الرسالات والرسل مع شعوبهم.

وكان أسلوب فرعون يتمثل في إظهار المحاولة الجادّة للصعود إلى ربّ موسى ليراه ويحاسبه ، تماما كما لو كان الله شخصا كبقيّة الأشخاص الذين يحاربهم ويحاربونه ، ويجادلهم ويجادلونه ، إنه يوحي لهم بأنه يريد اكتشافه ، هل هو حقيقة أم وهم وخيال.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) ويوحي كلامه بأنه يريد بناء شامخا في أعلى درجات الارتفاع (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) أي الوسائل التي أستطيع من خلالها الصعود إلى السماوات ، (أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) الذي يتحدث عنه موسى كما لو كان ساكنا في السّماء لأتأكّد من وجوده هناك (وَإِنِّي

٤٤

لَأَظُنُّهُ كاذِباً) لأنه لم يظهر لأحد من الناس ، وهو أمر لا يستطيع أن يصدّقه أحد ، لأنه لا معنى لوجود إله عير مرئيّ ، وهكذا حاول فرعون الإيحاء لمن حوله بالقوّة الكبيرة التي ينازع بها إله السماوات والأرض (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) في ما وجده حوله من خضوع الناس له وتزلّفهم إليه بإعلان قبولهم لدعواه الربوبية وهو خضوع وتزلف يبعثان في نفوس الطغاة الشجاعة للاستعلاء على الناس (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) القويم الذي يصل بالإنسان إلى معرفة الله والعمل بطاعته والخضوع لإرادته في الحياة (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي هلاك وانقطاع ، لأنه يسير في الطريق الخطأ الذي يؤدي إلى النتائج السلبية التي تربك كل مخططاته ضد الحق وأهله فإن الله له بالمرصاد ..

* * *

المؤمن يستخدم أسلوب الوعظ

ولكن مؤمن آل فرعون ، واقف لفرعون بالمرصاد ، يتابع كلماته ويرصد تأثيره على الناس ، ليخفف من ذاك التأثير أو يبطله ، فنراه ـ في هذا الموقف ـ يرفع صوته من جديد ، بأسلوب زاخر بالمرارة والعاطفة ، ومملوء بالموعظة والنصيحة ، يبصّر قومه بالحياة وفنائها والآخرة وخلودها ، ثم يحدّد لهم طبيعة المسؤولية ونتائجها ، فكل إنسان يتحمل مسئولية عمله ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ولن يتحمل أيّ شخص مسئولية شخص آخر ، ولذا فإن عليهم أن يواجهوا مسئوليتهم بأنفسهم لأن فرعون لن يستطيع أن يدفع عنهم أيّ شيء.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ولا تتبعوا فرعون الذي يريد أن يقودكم إلى طريق الغيّ والفساد ، ليستغلكم في ما يحقق أطماعه ويوصله إلى غاياته الاستكبارية في التجبر والبغي في الأرض بغير الحق ثم ينتهي أمره إلى الفناء ، فلا تحصلون منه على شيء لأنكم ستموتون معه أو

٤٥

في سبيله دون أيّة نتيجة طيبة .. أما أنا ، فليست لدي أيّة غاية ذاتية ، بل كل هدفي إعطاء نظرتكم إلى الحياة امتدادها الفعلي ، لتروا أن حياتنا هذه ليست نهاية المطاف ، فهناك حياة أخرى تواجهون بها نتائج المسؤولية تبعا لحركة المسؤولية في الدنيا في نطاقها السلبي أو الإيجابي.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) زائل يحمله الإنسان مدة ثم يفارقه (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) التي يخلد الإنسان فيها في نعيم دائم أو عذاب خالد. و (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) فذلك هو الجزاء العادل الذي يضع العقوبة في حجم الجريمة ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فلا فرق في قيمة العمل بين إنسان وآخر ذكرا كان أو أنثى ، لأن الأنوثة والذكورة لا تمنحان طبيعة العمل أيّة ميزة ، فقد يكون عمل المرأة أفضل من عمل الرجل أو العكس وقد يتساوى عملهما في القيمة ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لأن الإيمان هو المضمون الروحي الذي يميّز روحية العمل ، ويمنحه معنى يتصل بالله بدلا من أن يبقى جامدا في مضمونه المادي الذي يتصل بالأرض ، (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) لأن عطاء الله للعاملين في سبيله المتقربين إليه ، لا حدود له ، فهو الكريم الذي لا يقف كرمه عند حد.

* * *

يا قوم تعالوا إلى الإيمان فتنجوا ...

وهنا نلمح حدوث تجاذب وصراع بينه وبينهم ، فقد حاولوا في ما يبدو منعه من الانطلاق بعيدا في هذا الاتجاه ، وجرّه إلى حياتهم وملذاتهم وشهواتهم ، ولكنه ظل صامدا في موقفه ، يشرح لهم الفارق بين دعوته ودعوتهم ، فهو يدعوهم إلى الجنة وإلى السعادة ، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة .. أمّا هم ، فإنهم يدعونه إلى السير مع شخص لا يشكّل الارتباط به

٤٦

أيّة ضمانة للحياة ، بينما الارتباط بالله يمثل كل المعاني الخيّرة الطيّبة يعيش الإنسان معها عزيزا في ظل عزّة الله ، مطمئنا إلى مصيره في ظل غفران الله.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) من النار (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) فقد كانوا يحاولون جرّه إلى عقيدتهم وخطّهم الفكري والعملي في الحياة ، لينسجم مع جوّ العائلة المالكة الكبيرة التي تريد الإبقاء على وحدتها في الموقف والانتماء .. لكنه رد على المحاولة ، بقوة لا مهادنة فيها ولا مجاملة ، لأن المسألة تتصل بالعقيدة الحقّة ، الأمر الذي يجعل الموقف جهادا في سبيل جرّهم إليه.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) لا يكون انتمائي إلى مجتمعكم من دون أساس أو حجة (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الذي يملك القوّة كلها ، فهو الذي يعطي القوّة للأقوياء ، كما يملك الرحمة كلها التي تشمل المذنبين الراجعين إليه بالمغفرة.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من عبادة هذا الفرعون الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بالله ، فكيف يملكهما لغيره ، وكيف يكون إلها للناس وهو مخلوق لله خالق الحياة والناس ، فهو (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) لأنه لا يمثل أيّة حقيقة ثابتة في الواقع الدنيوي والأخرويّ ، (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) فهو الذي بدأ الخلق فوجدوا من موقع إرادته ، وهو الذي يعيدهم ليقفوا أمامه ليحاسبهم على أعمالهم ويدخل الذين آمنوا واتقوا منهم في رحمته فيكونوا من أصحاب الجنة ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر والعصيان (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) حيث يلاقون جزاء أعمالهم الشرّيرة.

* * *

٤٧

نهاية الحوار

وفي نهاية هذا الفصل يختم المؤمن حوارة معهم ، بعد استنفاد كل الوسائل ليقول لهم (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) من الفكر الإيماني ، والخط التوحيدي ، والنهج المستقيم ، وستستعيدون كلامي كله ، عند ما تصطدمون بواقع الحياة الذي يتحدى كل أوضاعكم وأعمالكم ، تماما ، ككلّ الأصوات الخيّرة التي لا تلامس أرواح وأفكار الناس الذين توجه إليهم نداءها إلّا بعد حين.

ثم يعلن لهم أنه ينفض يديه منهم ويفوض أمره إلى الله بقوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) فهو الذي يتولى تدبيري في الدنيا ، وتدبيري في الآخرة (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) لا يفوته من أمرهم شيء ، مما يخفونه ومما يعلنونه.

* * *

الله يستجيب لعبده المؤمن

.. وتأتي اللمسة القرآنية ، لتؤكد استجابة الله له في هذا التفويض ، حيث وقاه الله سيئات مكرهم ، بينما واجهوا نتائج مسئوليتهم ، فانتهوا إلى النار ، وبئس القرار (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) وأبطل كل تدبيرهم في الضغط عليه ، ومحاصرته ومصادرة حريته ، وهزيمة موقفه ، (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) وهو (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) في عذاب مستمر في عالم البرزخ يعيشون فيه العذاب النفسي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) حيث ينطلق نداء الله القوي الحاسم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) الذي يستحقونه لطغيانهم وكفرهم.

* * *

إيحاءات القصة والحوار

وقد لا يفوت القارئ ، وهو يتابع هذه الآيات ، كيف يمكننا أن نطبّق

٤٨

كثيرا من عناصر هذا الأسلوب على ما نواجهه في حياتنا المعاصرة ، ومنها النقاط التالية :

١ ـ وجود مؤمنين غير معلنين يدعون إلى الله يعيشون مع مجتمعاتهم بأسلوب يعطي انطباعا بأنهم لا يختلفون عن مجتمعاتهم تلك من حيث الانتماء ، ومن حيث طريقة الحياة ، ولكن من دون أن ينحرفوا عن الخط الصحيح ، وهم يتابعون الدعوة من أجل كسب أكبر عدد ممكن من الأفراد إليها من جهة ، والاطلاع على الخطط التي توضع ضد الإيمان من جهة أخرى.

وهذا هو الذي تعبر عنه فكرة «التقية» الإسلامية التي يعتمدها الشيعة ويرون شرعيتها استنادا إلى المبادئ القرآنية المتعددة ، ومنها هذه القصة ، وقصة عمار بن ياسر وغيرها.

٢ ـ ملاحقة العاملين في سبيل الله للأفكار التي يطلقها الحاكمون المنحرفون وغيرهم ، في أوساط المجتمع ، لتضليله ، ولتبرير خطواتهم العدوانية والانحرافية بأسلوب يربط المجتمع بالفكرة ، بعيدا عن أيّة سلبيات صدامية توجب الدخول في مواقف عنيفة لم يستعدّ الدعاة لها في مرحلتهم التي يمرون بها ، بحيث يتحول الحوار بينهم وبين المجتمع في هذه القضايا ، إلى حوار غير مباشر بينهم وبين الحاكم ، باعتبار هذا الأسلوب طريقة عمليّة ومحاولة أخيرة ، لهداية الحاكم وإيقاظ ضميره ، وإلقاء الرعب في نفسه عند ما يشعر بالأصوات التي ترتفع ضد أفكاره وخطواته بهدوء وقوّة وحكمة ، فلا تترك له أيّة حجّة لمواجهتها وتصفيتها.

٣ ـ استيحاء الروح الرسالية التي تعيش في وجدان الداعية وضميره وخطواته من أسلوب هذا المؤمن ، حيث نشعر بالوداعة الإيمانية التي تبدو في حياته ، وبالهدوء القوي الذي يسيطر عليه ، والعاطفة الفيّاضة التي تنساب في كلماته وخطواته ، والحكمة الرائعة في أسلوب الحوار والدعوة ، مما يوحي

٤٩

بابتعاده عن أجواء التحدي العام ، حتى في أشدّ الحالات التي يواجهها ضدهم ، فنحن لم نلمح ـ في نهاية المطاف ـ في أسلوبه أي إعلان عن انتمائه إلى موسى ، بل بقي على طريقته التي بدأها ، من اعتبار نفسه إنسانا يحكم للحق ، انطلاقا من دراسته للموقف وقناعته به ، لا من موقع انتسابه إلى أحد أطراف النزاع.

٤ ـ الإبقاء على الأسلوب الوعظي الذي يرتكز على التخويف من الله ، ومن نتائج الحساب في الآخرة ، حتى مع المتكبرين والمتجبرين والطغاة ، في مواجهة لتحديهم الناس بما يملكون من قوة بتحدّ أكبر منه يطرح قوّة الله في المقابل باعتبارها القوّة التي لا تقاوم ، ثم محاولة إحداث الفجوة بينهم وبين الناس ، عبر ربط قضية الحق والباطل بالخوف من المصير ، مما يخلق لدى الناس شعورا بضرورة الابتعاد عن مواطن الخطر مهما كانت.

٥ ـ التركيز على إيضاح الخط الفاصل بين الدعوة إلى الله ، وبين الدعوة إلى غيره ، بإبراز الخصائص التي تتميز به كلٌّ من الدعوتين ، وإظهار الطابع الأصيل لكل منهما ، والتركيز على النتائج العملية التي تترتب على اختيار طريق الإيمان بالله في سلامة المصير ، بينما يؤدّي السير في الطريق المعاكس إلى نتائج خطرة على الدنيا والآخرة ، كما لاحظنا ذلك في أسلوب هذا المؤمن في الدعوة ، حيث ختم حديثه مع فرعون بالتركيز على طبيعة دعوته التي تنتهي إلى النار.

ولا بد لهذا الأسلوب من مواجهة المؤثّرات الفكرية والاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية ، التي تساهم في توجيه الرأي العام ، وتعطي لبعض التيارات والأفكار المطروحة ، ثقة اجتماعيّة أو رفضا اجتماعيّا ، لأن تلك المؤثرات قد تضلّل الرأي العام وتنحرف به عن وضوح الرؤية ، فتلبس الباطل لبوس الحق ، أو تمنح الحق ثياب الباطل ، كما نلاحظه في بعض التيارات السياسية والاقتصادية التي توجّه التفكير إلى بعض العوامل الحيويّة التي تحرك

٥٠

المجتمع ، نتيجة المشاكل الكبيرة المطروحة من خلالها ، فتوحي لنا بأن تلك العوامل هي كل شيء ، مما يؤدي إلى عزل بقية العوامل المؤثرة على الحياة بحيث تبدو عوامل لا ترتبط بقضايا المصير ، لأن المصير أصبح شأنا دنيويّا لا علاقة له بالآخرة ، أو بالإيمان بالله من قريب أو بعيد.

٦ ـ إن ظاهرة مؤمن آل فرعون ، تؤكّد الفكرة الإسلامية التي ترفض اعتبار البيئة عاملا حاسما يشلّ عنصر الاختيار والإرادة في الإنسان لجهة ما يتخذه من مواقف وما يقوم به من أعمال ، ليكون ذلك مبرّرا شرعيّا للانحراف من جهة ، ودليلا على الاتجاه الجبري الفلسفيّ الذي ينكر على الإنسان حريته من موقع البيئة التي تسيطر على تفكيره وتوجّه إرادته في اتجاه محدد منحرف أو مستقيم.

إن وجود مثل هذا الإنسان الذي يولد في مجتمع الشرّ ، ووجود امرأة فرعون التي تعيش تحت ضغط هذا المجتمع ، يؤكّد الفكرة التي تعتبر جوّ الشرّ عنصرا يشجع الشرّ ، ويضعف مقاومة الإنسان ضده ، ولكنه لا يلغي المقاومة ، بل يبقي للإنسان مجال التعبير عن إرادته في ظل الظروف الصعبة ، ويسمح للإنسان بتجربة الانتصار. ونجد في المقابل ، الإنسان الذي يولد في مجتمع الخير ، أو يعيش فيه ، كابن نوح وامرأته ، وامرأة لوط ، وغيرهم من الأشخاص الذين لم تمنعهم أجواء الخير التي عاشوا فيها ، من أن ينحرفوا بسبب مؤثرات الانحراف التي استجابوا لها.

إن البيئة ـ في الأساس ـ لا تضع أمام الإنسان حاجزا مستحيل الاختراق بينه وبين الخروج عن إرادة مجتمعة وسلوكه ، بل تضع أمامه عقبات وصعوبات يمكن للإنسان اختراقها بقوّة الفكر والإرادة ـ لو شاء ذلك ـ بعد جهد طويل.

وهذا ما يبعث في نفوس العاملين إرادة الانتصار على عوامل البيئة الشرّيرة وضغوطها ، ويمكنهم من دفع الإنسان بعيدا عن أفكار البيئة وأخلاقها وسلوكها العملي ، من أجل دفع عملية تغيير المجتمع إلى الأمام بقوّة.

* * *

٥١

الآيات

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥)

* * *

٥٢

معاني المفردات

(يَتَحاجُّونَ) : يتخاصمون.

(نَصِيباً) : قسطا.

* * *

المستكبرون والمستضعفون يتحاجّون في النار

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) عند ما يجتمع المستكبرون والمستضعفون ويلتقون وجها لوجه ، يتذكر المستضعفون الأساليب التي كان يتبعها المستكبرون في إضلالهم وفي توريطهم في المعاصي التي توصلهم إلى غضب الله ، لأن المستضعفين لم يكونوا ذوي شخصيات قوية تستطيع رفض أوامر المستكبرين ونواهيهم مما حوّل المستضعفين إلى أدوات مسخّرة لكل مشاريع المستكبرين الشيطانية ، وهكذا كان المستكبرون السبب في هذا المصير الذي انتهى إليه المستضعفون .. (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) فقد كانوا الجمهور التابع الذي لا يملك قراره ، ولا إرادته ، بل يتلقّى التعليمات منهم ، فإذا كانت هناك حرب ظالمة يريد المستكبرون ظلم الناس من خلالها ، قادوهم إليها ليقاتلوا لحسابهم ، وإذا كانت هناك مواقف منحرفة يريدون تأكيدها في المجتمع طلبوا منهم العمل على الالتفاف حولها ، وإذا كانت هناك ضغوط مادّية أو معنوية يريدون ممارستها على بعض القوى المضادّة لهم في الأمة ، أرادوا أن يكونوا الأدوات الضاغطة عليها ، وبهذا كانت تبعية المستضعفين سببا في تقوية مراكز المستكبرين التي يظلمون الناس من

٥٣

خلالها ، فيقتلونهم ، ويسجنونهم ، ويعذبونهم ، ويظلّلونهم ، ويضغطون عليهم في مصالحهم ، وكان هؤلاء الضعفاء هم القوّة الغاشمة التي يسيطر بها الأقوياء على الضعفاء الآخرين ، ولولاهم لكان الضعفاء أقوى من المستكبرين ، لأن المستكبرين لا يمثلون عددا كبيرا في الأمة ، ولا قوّة هائلة فيها ، لأن قوتهم مستمدة من قوّة المستضعفين كما أن كثرتهم العددية ناتجة عن كثرة أتباعهم .. ولهذا كان الضعفاء يحملون كل أوزارهم التي استحقوا بها دخول النار ، لأنهم يملكون فكرا يمكّنهم من معرفة الحقيقة ، ويملكون إرادة تمكنهم من رفض الأوامر والنواهي الظالمة الطاغية ، ومواقع للقوة يستطيعون أن يبتعدوا بها عن مواقع الضعف .. فكانت مسئوليتهم في انحرافهم عن الخط المستقيم كاملة.

وهكذا وقف الضعفاء أمام المستكبرين ليذكّروهم بصفة التبعية التي أعطتهم القوة التي انطلق فيها ملكهم ، وكبرت فيها سلطتهم ، وامتدت بها مواقعهم ، وأخذوا يطلبون مساعدتهم في الآخرة كما ساعدوهم في الدنيا ، ظنّا منهم أنهم يملكون موقعا ضاغطا على الواقع الأخروي كما كانوا يملكون مثل هذا الموقع في الدنيا .. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) فهم مقتنعون بأنهم لا يستطيعون تخليصهم من النار التي سيقعون فيها ، لذلك طلبوا منهم التدخل للتخفيف عنهم ، من قسوة عذابها .. وربما كان طلبهم ذاك ليس طلبا حقيقيا ينمّ عن اعتقادهم بقدرتهم على التدخّل ، بل كان هدفه تسجيل نقطة حادّة عليهم لأنهم كانوا سبب دخولهم النار ، من موقع دور التبعية الذي فرضوه عليهم باستغلالهم لنقاط ضعفهم. فهم يريدون أن يقولوا لهم ، في ما يوحي به هذا الاحتمال ، إذا كنتم تملكون في الدنيا القوة التي تستعرضون بها عضلاتكم المعنويّة ، فهل تملكون ذلك الآن؟! ليبقى السؤال متحديا ساخرا متحركا من موقع المرارة الروحية. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) فليست فيها ميزة للمتبوعين على التابعين ، ولا يملك أحد منا أيّة قوّة فيها ولم يكن لنا عذر ، كما لم يكن لكم أيّ عذر في ما جنيناه أو جنيتموه

٥٤

من ذنوب وجرائم ، سواء كان ذلك متمثلا في ضلالنا أو إضلالنا لكم ، أو كان متمثلا في ضلالكم بالخضوع لنا ، وأنتم قادرون على التمرد علينا ، لأنكم تستطيعون الحصول على القوّة ولكنكم فضلتم الراحة والاسترخاء ، على المواجهة والمعاناة ، فأسقطتم إرادتكم تحت تأثير إرادتنا ، فلا تطلبوا منا أيّة مساعدة لتخفيف العقاب عنكم ، لأنكم تعرفون أننا لا نملك من ذلك شيئا ، فكلنا محكومون (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) ولا رادّ لحكمه ، وهو الحكم العدل.

* * *

بين أهل النار وخزنتها

وينتهي حوار المستضعفين مع المستكبرين .. وينتقل الجميع الذين وجدوا أنفسهم في قلب المشكلة من دون أن يغني أحد منهم عن الآخر شيئا ، ليقفوا في موقف آخر ، وليتجهوا إلى المشرفين على شؤون النار طالبين الوساطة ، تماما ، كما كانوا ـ في الدنيا ـ يتوجهون إلى المقرّبين من الملوك ، ليشفعوا لهم عندهم : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ) فإن دعاءكم مقبول لديه ، لأنكم من المقرّبين عنده ، (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) ، نرتاح فيه ، ونتخفف من قسوة الآلام التي تنهش أجسادنا والحروق التي تلسع كل أعصابنا.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) وكنتم ممن قامت عليه الحجة بالبلاغ ، فلم تكن هناك أيّة موانع تمنعكم عن الإيمان ، لا من الناحية الداخلية في مضمون الرسالة ، ولا من الناحية الخارجية في الرسول الذي حملها ، وفي الجوّ الذي عاشته الدعوة في الأسلوب والحركة؟! (قالُوا بَلى) فقد واجهنا الحقيقة بكل وضوح ، ولكننا وقفنا منها ومن رسولها موقفا مضادّا نتيجة العناد والاستكبار ، (قالُوا فَادْعُوا) لأننا لا نملك أن ندعو الله في أمركم

٥٥

بأيّ شيء بعد ما عرّفنا الله مواقع الدعاء للمذنبين ، والشفاعة للخاطئين ، فنحن لا نملك الإرادة المستقلّة في ذلك كله ، بل نحن تابعون لأمره ، خاضعون لإرادته ، لذا حاولوا أن ترفعوا أكفّكم بالدعاء إلى الله ، لتجرّبوا حظّكم عنده (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لأن الله قد أغلق باب رحمته عنكم لكفركم وتمرّدكم عليه.

* * *

إنا ننصر رسلنا والمؤمنين

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيما نهيّئه لهم من وسائل النصر وما نمنحهم إياه من قوّة الغلبة في حركة الواقع ، أو من قوّة الحجة في حركة الفكر ، أو في تحريك الصراع في الساحة ، لإثارة الجوّ لمصلحة الرسالة على أساس الاهتمامات الجدّية التي تثيرها لمصلحة أعدائها وأصدقائها ونحو ذلك ، ممّا يجعل لهم موقعا مثيرا في الحياة في دائرة السنن الكونية التي أودعها الله في حركة الواقع في ساحات الصراع. (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) في ما يمنحهم من درجات عالية ، وموقع مميّز ، وشأن عظيم يتميزون به عن مواقع الطغاة والمستكبرين الذين يلقى بهم إلى دركات الجحيم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) عند ما يحاولون تبرير كفرهم وانحرافهم عن الله ، لأنهم لا يملكون الحجة في ذلك كله بعد أن أقام الله عليهم الحجة من كل جانب (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) التي تمثل إبعادهم عن مواقع رحمة الله ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي الدار السيئة وهي جهنم.

* * *

التوراة كتاب هدى ونور

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) في ما حددنا له من الفكر التوحيدي ، وخططنا

٥٦

له من التشريع الإيمانيّ العملي الذي يبلغ به الناس مواقع مصالحهم في الدنيا والآخرة .. فيلتقون بالبداية المشرقة التي تطلّ بهم على النهاية الهادية. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وهو التوراة ، (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ليكون منطلقا للمعرفة التي تمثل النور الذي يطرد جحافل الظلام ، وقاعدة للفكر الذي يتحرك به العقل ليميّز بين الحق والباطل ، وليبني لهم الأساس الذي يركز لهم مجتمع القيم الروحية والفكرية التي تقودهم إلى الخير وتبعدهم عن الشر ، ولكنهم ، في ما توحي به الآيات القرآنية الكثيرة ، لم يهتدوا به ، ولم يستقيموا على طريقه ، بل حرّفوه عن مواضعه ، واشتروا به ثمنا قليلا وتمرّدوا على الرسالات التي جاءت من بعده ، وعلى الرسل الذين حملوها إليهم كما تمرّد غيرهم من بعدهم ، فكان بينهم وبين الكافرين والمشركين حلف غير مقدس (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) حيث وعد الله رسله بالنصر ، عند ما يحين موعده .. لأن ذلك يحتاج إلى المعاناة وتحمّل ما تفرضه ساحة الصراع من آلام في شدّتها وقسوتها.

* * *

كيف نفهم أمر النبيّ بالاستغفار؟

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هل هناك ذنب لا بدّ للنبي من أن يستغفر منه ، وما هي طبيعته؟ ولا سيّما في ما يتعلق بتبليغ الرسالة ، في أسلوبها وحركتها وحيويّتها وحكمتها وهو أمر لا يمكن أن ينسب أحد فيه إلى الرسول إلا كلّ سموّ وعلوّ وحكمة ، فقد كان الرسول يعطي من نفسه الكثير ، لكي يفتح قلوب الناس على الله ، وعلى الحق النازل في وحيه فكيف نفهم المسألة؟ وكيف تلتقي دعوة النبي إلى الاستغفار بالعصمة التي تجسّدها سيرته ، قبل أن يجسّدها

٥٧

معنى العصمة في نبوّته؟ وهل نجد لها تفسيرا آخر؟ فقد ذكر المفسرون في قوله تعالى في سورة الفتح : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] أن الذنب فيها هو الذي كان أهل مكة يعتبرونه ذنبا في حقّهم ، في ما أوقعهم فيه من مشاكل ومتاعب بسبب دعوته التي أدخلتهم معه في حروب كثيرة ، ولكن ما معنى أمر الله له بالاستغفار؟

وقد يراد منه المعنى العباديّ الذي تختزنه كلمة «الاستغفار» في عمقها الدال على الإحساس بالعبودية لله ، والاعتراف بالخضوع له ، والانسحاق بين يديه ، تماما كما هو موقف العبد من سيّده عند ما يقف موقف الاعتراف الخاشع الخاضع ، كما هو المعنى العبادي في كلمة الحمد والتسبيح والتهليل والتكبير الذي يوحي بالإحساس ، من دون تحديد المضمون ، والله العالم.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) في صلاة دائمة خاشعة يمتزج فيها التسبيح مع الحمد ليكون ذلك تعبيرا عن التعظيم الذي يعيشه النبي في عمق روحه أمام الله.

* * *

٥٨

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣)

* * *

٥٩

معاني المفردات

(بِغَيْرِ سُلْطانٍ) : بغير حجة ودليل.

(داخِرِينَ) : صاغرين ، ذليلين.

(مُبْصِراً) : مضيئا تبصرون فيه.

(تُؤْفَكُونَ) : تصرفون.

* * *

قاعدة جدال المشركين في آيات الله

لماذا يجادل هؤلاء الذين يواجهون الرسالات في آيات الله؟ وما هي خلفيّاتهم النفسية؟ وكيف يعالج القرآن الموقف من خلال منطقهم؟ هذه الآيات تحدّد ذلك كله ..

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) فهم لا يملكون حجّة من علم على ما يلتزمونه من نهج في العبادة ، أو على ما يعارضونه من خط الرسالة والدعوة ، ولم ينطلقوا من موقع شبهة في الفكر أو خطأ في الحساب ، فكيف اتخذوا ذلك الموقف؟ .. إن الناس يتخذون الموقف ، عادة ، من خلال التصورات المضطربة في تفكيرهم ، في ما يتيقنون به ، أو في ما يظنون ، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) فهم ينطلقون من عقدة استكبار تمنعهم من الخضوع للحق الذي يهدد امتيازاتهم الطبقية ، أو طموحاتهم الذاتية ، أو من اتّباع الرسول الذي لا يحتل موقعا متقدما على المستوى المالي أو الاجتماعي في السلّم الطبقي للمجتمع ، وبذلك كان هدف جدالهم الوصول إلى تعقيد الموقف منه ، وإثارة الشكوك حوله لإبعاد الناس عنه ، بوسائل تخاطب

٦٠