تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(يَبُثُ) : البثّ : التفريق والإثارة ، وبثّه تعالى للدوابّ : خلقها وتفريقها ونشرها على الأرض.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : تحويلها وإرسالها من جانب إلى جانب.

* * *

٣٠١

تنوّع آيات الخلق

(حم) من الحروف المقطعة ، (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الذي يفتح عقول عباده بحكمته عبر ما يحدده لهم من مواقع الفكر والحركة في خط حياتهم التي حمّلهم مسئولية إدارتها على ضوء مفاهيم شريعته وأحكامها ، ويمنحهم الثقة بقوّتهم في مواجهة التحديات والمصاعب والأخطار ، من خلال عزته التي تلتقي بالقوّة المطلقة التي لا يغلبها شيء ، ولا يدانيها شيء.

.. وهكذا يريد الله للإنسان أن يعي عظمة الكتاب من خلال التفكير بعظمة الله وقوته وعزته وحكمته ، حيث أنزله وحيا على رسوله (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يتأملون ويفكرون في كل ما يشاهدونه من ظواهر الكون في السماء والأرض على تنوع تلك الظواهر واختلافها من حيث الطبيعة والخصائص ، ساكنة كانت أم متحركة من النور والظلام ، والوجود الحيّ والنامي ، والجامد ، والجمال الساحر المتمثل في كل ذلك ، والإبداع الكامن في الأسرار الخفية للأشياء ، كما يطفو على السطح بأكثر من صورة .. وإذا كان التأمّل عميقا ، والفكر دقيقا ، فلا بد من أن يكون الإيمان هو النتيجة الطبيعية التي ينفتح لها العقل والروح والوجدان ..

(وَفِي خَلْقِكُمْ) هذا الخلق العجيب الذي تمتزج فيه المادة بالروح ، ويحركه العقل والعاطفة ، وتتناسق أجزاؤه وتتعدد خصائصه حتى كأنّ كل عضو فيه عالم فريد في علاقته بالأجهزة الأخرى ووظائفها وهو يبدع الفكر غير المادي من عناصر مادية ، ويحرّك الحياة من حوله ، ويجعل هذا المخلوق الصغير يقود الكون الكبير بطاقته العظيمة التي أودعها الله فيه.

(وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) من هذه المخلوقات العجيبة التي تدب على الأرض ، وتتنوع في خصائصها الداخلية والخارجية ، وفي أدوارها وأوضاعها ومواقع عيشها ، ففيها ما يعيش في أعماق الأرض ، وعلى سطوحها ، وما يطير في

٣٠٢

الفضاء ، على اختلاف قوتها وضعفها ، الأمر الذي يجعل بعضها طعاما لبعضها الآخر ، وقسما منها مسخر لقسم آخر ، من دون أن يطغى نوع على نوع طغيانا مطلقا أو يبيد نوع نوعا آخر إبادة شاملة ، لوجود نوع من التوازن الدقيق الذي يضبط حركة القوّة والضعف ، مما يجعل الحياة تستمر لتتكامل هذه المخلوقات الحيّة في إغناء الحياة بما تحتاج إليه في كل أوضاعها الجزئية والكلية .. وهكذا ينفتح ، من خلال هذه الدوابّ المبثوثة في الأرض والسماء أفق واسع من المعرفة اليقينية لمن يحملون مسئولية الفكر ويريدون الأخذ بأسباب اليقين للتخلص من حالة الغفلة التي تمنع الإنسان من أن يفتح عقله على مفردات المعرفة ، والابتعاد عن حالة الشك التي تجعله يعيش الاهتزاز الحائر أمام الاحتمالات القلقة. فيجدون في وجودهم ، ووجود هذه المخلوقات الحية التي تعيش في عالمهم ، عمق التدبير ، وروعة الجمال ، وسرّ الحكمة ودقّة الصنعة ، وامتداد القدرة ، فإذا هي (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فيعيشون وضوح الرؤية ، وانفتاح القلب وصفاء الروح ، جراء اليقين بالله ، والبعد عن كل عوامل الشك.

* * *

آيات خلق السماء

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المتأتي عن دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس مرّة في كل يوم ، فإذا بالليل والنهار ظاهرتان كونيتان تنظمان للإنسان حياته ، كما تحتفظان للحياة وللأحياء بالعناصر الضرورية لامتدادها في رحلة الوجود ..

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) وهو الماء الذي ينزل من السماء (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عند ما يجعلها صالحة لاحتضان البذور في عملية النموّ والانفتاح ، وربما استوحى البعض من هذا الرزق ، شموله للأشعة التي تنزل من السماء ، فهي ليست أقل أثرا في إحياء الأرض من الماء ذلك أن الماء ينشأ

٣٠٣

عنها بإذن الله ، فحرارة الشمس هي التي تبخّر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطارا وتجري عيونا وأنهارا ، وقد نلاحظ على ذلك أن الأشعة من العناصر التي تشارك في أسباب هذا الرزق وتكمل تأثيره ، ولكنها ليست رزقا بالمعنى المادّي الذي يفهم عرفا من كلمة رزق.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) التي تتنوع وتختلف في خصائصها ومواقعها وحرارتها وبرودتها ، وطبيعتها من حيث الشدة والخفة ، وهي تتحرك وفقا للنظام الكوني الذي يربطها بالكثير من الأوضاع المتصلة بحركة الحياة في الأرض ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأن العقل الذي يدرس كل هذه الظواهر ويدقّق في القوانين التي تحكمها ، وفي الأسرار التي تكمن في داخلها ، لا بد من أن يستوحي منها ، كيف يفتح وعيه على الله الذي هو سرّ كل شيء فيها ، فلا معنى لوجودها بعيدا عنه.

* * *

ما معنى الاختلاف في التعبير عن الآيات؟

وقد تناول المفسرون هذا التنوع في التعبير عن الآيات تبعا لتنوعها ، فقد اعتبر خلق السماوات والأرض آيات للمؤمنين. أمّا خلق الإنسان وسائر الحيوان فهو آيات لقوم يوقنون ، ثم جعل آية اختلاف الليل والنهار والأمطار وتصريف الرياح ، لقوم يعقلون ، فما هو السرّ في هذا الاختلاف ، ولا سيّما إذا عرفنا أن الإيمان حالة يقين ، يحصلها العقل الذي يتحرك فيه الفكر ، ويحتضنه الوجدان .. فهل هو من قبيل التنويع البلاغي للمفهوم الواحد؟ أم هو الاستغراق في وضوح اليقين كما هو الأسلوب القرآني في تنويع التعبير للمعنى الواحد.

وهو خاضع لاختلاف بعض خصائص المعاني في المواقع المتعددة والمتنوعة.

٣٠٤

يقول صاحب الميزان في توجيه ذلك : «إن آية السماوات والأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاق وصدفة ، بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار والأفعال التي يتحصّل منها النظام المشهود ، فخالقها خالق الجميع وربّ الكل ، والإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج ، والمؤمنون بجميع طبقاتهم ، يفهمون ذلك وينتفعون به.

وأما آية خلق الإنسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور فإنها من حيث أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة وهو المسمّى بالملكوت ، وقد خصّ القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥].

وأمّا آية اختلاف الليل والنهار والأمطار المحيية للأرض وتصريف الرياح ، فإنها لتنوّع أقسامها وتعدّد جهاتها وارتباطها بالأرض والأرضيات وكثرة فوائدها ، تحتاج إلى تعقّل فكريّ تفصيليّ عميق ولا تنال بالفهم البسيط الساذج ، ولذلك خصت بقوم يعقلون» (١).

وهناك وجوه أخر في تفسير هذا التنوع ، ولكننا نرجح ما ذكرناه أوّلا من رجوع القضية إلى التنويع في التعبير عن الفكرة الواحدة مراعاة للأسلوب البلاغي الجمالي في الشكل التعبيري.

أمّا الوجه الذي ذكره صاحب الميزان فقد نلاحظ عليه أن من الممكن إرجاع كل آية لكل واحدة من هذه النعوت .. فالآية التي استشهد بها على مسألة اليقين ، قد تحدثت عن ملكوت السماوات والأرض واستخدم فيها كلمة الإيمان في الآيات التي نتحدث عنها ، كما يمكن استخدام كلمة العقل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ١٦٠.

٣٠٥

فيها باعتباره أساس الإيمان المبني على التأمل والمحاكمة العقلية ، والله العالم.

* * *

تلك آيات الله

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) المنثورة في رحاب الكون الدالة على وجوده وتوحيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) في ما تحدث القرآن عنها من الطبيعة والتفصيل ، وفي إيحاءاتها الروحية والفكرية (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) فإن الله يمثل الحقيقة الوحيدة التي تفسر كل الحقائق في معناها ووجودها ، كما أن آياته هي التي توضح المضمون الفكري للحق في الفكر والحياة. فإذا لم ينطلق الإيمان من خلال ذلك ، فمن أين ينطلق بعده؟.

* * *

٣٠٦

الآيات

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(وَيْلٌ) : الويل : الهلاك.

(أَفَّاكٍ) : كذاب.

(أَثِيمٍ) : عاص.

٣٠٧

(رِجْزٍ) : أشد العذاب ، وأصله الاضطراب.

* * *

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) من هؤلاء الكذابين الذين انطلقت حياتهم لتكون كلها كذبا في الموقف والكلمة ، فهم يمارسون الكذب على أنفسهم عند ما يكذبون على الناس ، ويكذّبون الحقائق التي يأتي بها الرسل ، ويغرون الناس بالكذب في حركة الواقع ، وبتكذيب الصادقين ، لأنهم لا يطيقون كلمة الصدق ، ولا أجواء الحق بعد أن أصبح الكذب عنوانا لشخصياتهم وطابعا لحياتهم ، ومن هؤلاء الآثمين الذين عاشوا الإثم تمرّدا على الله ، وحربا على رسله ، وتكذيبا لرسالاته ، في جانب العقيدة والتشريع ، الويل لهؤلاء في كل ما تمثله كلمة الويل من رفض لخطّهم ودعوة لهلاكهم ، وإيحاء بالعذاب الذي ينزله الله عليهم.

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) في ما ينزله الله من القرآن ، يقرأه النبي عليه ، فيستوعب ما تتضمنه من معنى التوحيد لله والاستقامة في نهجه وخطه على مستوى الدعوة والحركة والموقف ، (ثُمَّ يُصِرُّ) على الكفر الذي كان عليه ، ويمتد فيه (مُسْتَكْبِراً) من عقدة الاستكبار الذاتي الذي يعقّده فكريا فلا يتقبل ما يأتي به الآخرون من فكر ، لأنه لا يطيق أن يؤمن بحقيقة آتية من غيره ، حتى لو كان وحيا يحمله إنسان آخر ، كما يعقّده شعوريا فلا يتعاطف مع الرسول ، بل يواجهه بمشاعر الحقد والاستعلاء المدمّر ، فيواجه هذه الآيات (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) بما يثيره حولها من أجواء اللّامبالاة ، أو الإيحاء بالاستغراب للوضع كله (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لأن الله يريد لعباده أن يتواضعوا للحق الذي يأتيهم واضحا

٣٠٨

بالحجة الرسالية التي يقدمها الأنبياء والدعاة إلى الله من بعدهم ، مما يعني أن المستكبرين المعاندين لا يملكون حجة على كفرهم.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) في ما يفرض عليه الموقف أن يسمعه ويستوعبه مما لا سبيل إلى إنكاره ، أو الوقوف منه موقف الغفلة أو اللّامبالاة ، (اتَّخَذَها هُزُواً) وواجهها بكل أساليب السخرية التي تبطل تأثيرها في نفوس الناس ، ككل القضايا التي تقع موقع الهزء الاجتماعي الذي يتقنه الطغاة من الكافرين والمستكبرين ، ليحتفظوا بمراكزهم الطبقية ، وبأوضاعهم المنحرفة ، وبعاداتهم السيّئة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يذلّهم ويخزيهم ويسقط كل جوّهم النفسي الاستكباري بالعذاب الذي يذوقون فيه المهانة والسخرية مما أعطوه لأنفسهم من مكانة وعظمة لا يستحقونهما.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) قيل : إن كلمة وراء تطلق على القدّام وعلى الخلف ـ كما ورد في مجمع البيان ـ «فما توارى عنك فهو وراؤك ، خلفك كان أو أمامك» (١) ، وقيل إن التعبير بذلك ، مع أن جهنم أمامهم في ما يستقبلونه من مصيرهم في الآخرة ، لأنهم لما كانوا مستغرقين في شهوات الدنيا ولذائذها معرضين عن الحق ، غافلين عن النتائج السلبية المترتبة على موقفهم السلبي من الرسالة ، فكأنهم جعلوا جهنم وراءهم من موقع الإعراض عن التفكير في تبعات عملهم. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) فلا قيمة للمال الذي جمعوه ، ولا للجاه الذي حصلوا عليه ، ولا للقوّة المادية التي تحيط بهم ، لأن ذلك لا يعطي أيّة قيمة روحية تقرّب الإنسان إلى الله ، ولا يمنح أصحابه أيّ امتياز ذاتيّ (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) فلا موقع لهؤلاء في ساحة الآخرة ، لأنهم مخلوقون لله ، مربوبون له ، خاضعون في ذواتهم لكل نقاط الضعف البشري وللإمكانات المحدودة التي يملكونها من الله ، فلا يغنون عن أنفسهم شيئا في ما كانوا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١١٠.

٣٠٩

يريدونه من الناس من عبادتهم لهم ، أو في ما قاموا به من سيّئات في موقفهم من الله ، ولا يغنون عن غيرهم ممن كانوا يعبدونهم شيئا ، لأن الله هو الذي يريد أن يعذبهم فكيف ينصرونهم من الله ، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يتناسب مع جريمة الكفر والشرك التي لا يغفرها الله للسائرين فيها.

* * *

شكر نعم الله العظيمة

(هذا) القرآن الذي أنزله الله على رسوله (هُدىً) يهتدي به من يأخذون فكره عقيدة يؤمنون بها ، وشريعته نهجا يلتزمون به ، ومفاهيمه خطا يسيرون عليه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) وهم الضالون الذين يمنعهم كفرهم من الاستقامة على الخط المؤدي إلى النجاة (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وهو العذاب الشديد الذي يضطرب أهله من جراء قساوة الآلام التي يعانونها.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ليسهل لكم بلوغ غاياتكم وتحصيل أرزاقكم ، ومواقع حاجاتكم ، التي لا تستطيعون بلوغها بدون ذلك (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعمة العظيمة ، أولا بالتفكير الجادّ الواعي بما هيأه لكم من وسائل تحققت لفضلها تلك النعمة منها قوانين البحر وحركة الرياح ، وإبداع الفلك ، وذلك الفكر الذي ألهمكم إياه ، وثانيا بالالتزام بأمر الله ونهيه ، كشاهد على الانسجام مع الإيمان بألوهيته ووحدانيته.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فقد جعل الله لكم من الشمس والقمر والنجوم والرياح والمطر والأرض التي تنتج الغذاء والحيوان الذي هيّأ لكم وسائل السيطرة عليه ، والانتفاع به في مختلف المنافع ، من الركوب والشراب والأكل ونحوها وغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه من نعم الله المتناثرة في الكون كله ، التي لولاها لما تمكن الإنسان من الاستمرار في الحياة ، فمنه كان الخلق ، ومنه كان العطاء ، ومنه كانت الرحمة التي امتدت

٣١٠

بذلك كله في حركة الوجود.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فلا يمرون بهذه الأشياء عند ما يشاهدونها أو يتقلبون فيها ، أو يتنعمون بها ، مرورا عابرا ، بل يتوقفون عندها ، ليتأملوا فيها تأمّلا عميقا ، وليدرسوا خصائصها وأسرارها ، وطبيعة القدرة الإلهية وحركة الرحمة فيها .. مما يدفعهم للإيمان بالله من خلالها من موقع عظمته ونعمته ورحمته .. وفي هذه الفقرة ، كغيرها من الفقرات المماثلة ، إيحاء عميق بأن الفكر هو الذي يقود إلى الإيمان بالله ، عند انطلاقه في خط المعرفة الذي يفتح للناس طريق الوعي والإيمان ، في مقابل الجهل الذي يؤدي بهم إلى الغفلة والضلال.

* * *

٣١١

الآيتان

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ(١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)

* * *

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) هذا هو التوجيه الإلهيّ للمؤمنين في مواقف التحدي الذي يواجههم الكفار به ، فقد كانت المرحلة ـ في ما يوحي به السياق ـ مرحلة الدعوة التي تريد أن تفتح القلوب على الله ، وتدفع العقول إلى التفكير في آيات الله ، وكان المؤمنون يلاقون الاضطهاد من الكفار ويستمعون إلى الكلام القاسي اللّامسؤول الذي يوجهونه إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يلاحظون أنهم لا ينطلقون في ذلك من شبهة أو عقيدة ، فهم ليسوا دعاة فكر مضادّ ، مبنيّ على المحاكمة الفكرية ، بل هم دعاة ضلال ساذج ، مبنيّ على الأوهام .. وكان المؤمنون يتحفزون للردّ على الكفار ،

٣١٢

وللمواجهة ، وللدفاع عن أنفسهم ، ولكن المرحلة لم تكن تتحمل ذلك لأنها لم تصل إلى المواجهة ، وكان الكفار بحاجة إلى مزيد من الصبر في الدعوة ، للحصول على الوضوح الذي يزيل الكثير من التعقيدات ، وإلى مزيد من الإيجابية في الموقف الذي يخفف الكثير من السلبيات .. وهكذا كان الأسلوب العملي لهدايتهم هو الصفح عنهم ، والإعراض عن مخاصمتهم ومجادلتهم وعدم مواجهتهم بالموقف الصلب ، وهذا هو المراد من المغفرة عمليا بحيث لا تثير ضد المخطئ ردّ فعل سلبيا عنيفا ، كي لا يثير مشكلة معقّدة ، أو تهيّئ الجو له للتراجع ، على طريقة الرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما يروى عنه ، إنه كان يقول عند ما يشتد اضطهاد قومه من المشركين له : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» بمعنى ترك عقابهم على ما أشركوا فيه ، وما كفروا به ، وما تمردوا عليه ، وتأخير أمرهم إلى وقت آخر لأنهم لا يعلمون وجه الحقيقة في ما أنكروه ، وخطورة ما قاموا به.

ولعل التعبير بقوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) يتضمن إيحاء ، بأنهم يجهلون المسألة الإيمانية التي تبعد مشاعرهم الذاتية عن الرجاء بأيّام الله التي يغفر فيها لعباده ، ويرحم فيها الخاطئين ، ويدخلهم جنته ..

وقد يفهم البعض هذه الآية بطريقة أخرى ويعتبرها لونا من ألوان التسامح في النظرة إلى الكفر أو الشرك ، لتكون المسألة المطروحة هي مسألة اللّامبالاة بقضية الإيمان والكفر ، أو التوحيد والشرك ، مما يتنافى مع الالتزام بالموقف الإيماني الذي يتحرك من موقع الاهتمام ، ويحدد العلاقات على هذا الأساس ..

إننا لا نوافق على ذلك ، بل القضية في هذه الآية هي الوقوف بطريقة متوازنة أمام الانحراف لدراسة الأسلوب الأفضل لمواجهته أو في معالجته ، انطلاقا من الانفتاح النفسي على ظروف انحراف المنحرف مما يجعل المؤمن ـ الداعية ، يستلم زمام المبادرة إفساحا في المجال أمام المنحرف للتراجع عن

٣١٣

انحرافه بلحاظ الظروف الموضوعية التي تحيط بالوضع من جميع جوانبه ، لتحديد الموقف سلبا أو إيجابا ، على أساس ذلك.

* * *

(إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

وإذا فكر الإنسان بالمسؤولية عند اتخاذ هذا الموقف غير الحاسم في مواجهة هؤلاء الذين لا يرجون أيام الله ، فإن القرآن يؤكد أن الجزاء ، في الثواب والعقاب ، من شؤون الله الذي لا يفوته أحد في ما هو العقاب ، ولا يضيّع عمل أحد في ما هو الثواب (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الأعمال الحسنة أو السيئة ذلك أن المسؤولية الفردية تنعكس على نفس العامل بالخير أو بالشر ، من دون أن يكون لمن يتعلقون به ، نصيب في نتائجها.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) من حيث النتائج الجيّدة لعمله على مستوى الحياة الخاصة في الدنيا وعلى مستوى المصير في نعيم الآخرة ، (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) لأن العمل السيّئ ينطلق من حالة سوء في داخل ذات المسيء ، في طبيعة تفكيره وسلوكه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) لتقفوا بين يديه ، وتواجهوا الحساب الذي يحدّد مصيركم النهائي.

* * *

٣١٤

الآيتان

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧)

* * *

إنزال الرسالات لتوحيد الناس

وإذا كان مصير الإنسان الأخروي متعلقا بالعمل الصالح وغير الصالح ، فما الذي يحدّد لنا هذا أو ذاك ، هل هو التقييم الذاتي للأشياء. أم أنّ هناك برنامجا إلهيّا يحدّده الله لرسله ، ويبلّغه الرسل لأممهم؟

إن هذه الآيات تشرح لنا أن الله لم يترك الناس لأنفسهم ليختلفوا في ما بينهم ، بل أنزل الرسالات في كتبه ليوحّد لهم النظرة ، وليحدّد لهم منهج خط السير.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) الذي أنزلناه على موسى ، وهو التوراة

٣١٥

المشتملة على الشريعة الإلهية التي تبين للناس الحلال والحرام. ويمكن أن يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والزبور باعتبار أنها كتب أنزلت على بني إسرائيل الذين بعث فيهم موسى وعيسى وداود ، لأن المقصود بالكتاب هو الوحي المنزل على الرسول ، ولكن بعض المفسرين يلاحظ على ذلك بأن الكتاب لم يطلق في القرآن إلّا على ما يشتمل على الشريعة ، وهذا ما لا ينطبق إلا على التوراة ، لأن الإنجيل لا يتضمن الشريعة ، أما الزبور فإنه يشتمل على الأدعية والأذكار ، (وَالْحُكْمَ) الذي يفصل بين الناس في ما يختلفون فيه عند تطبيق القضايا الكلية التي حددها الكتاب على القضايا الجزئية والمنهاج الذي حدّد الله فيه الوسائل التي يتحرك فيها القضاء ، ويمكن أن يشمل الحكم المعنى المعروف للولاية العامة للناس على أساس أن أهميته في تثبيت النظام العام قد تكون أكثر من القضاء المعروف في القضايا الجزئية ، لأن استقامة الحكم ، واستقامة الحاكم في شخصه ، وفي منهجه العملي ، هي التي تزيل كثيرا من المشاكل التفصيلية في الحياة العامة ، نظرا لعدالة النظام وسلامة التطبيق ، الأمر الذي يجعل من البعيد أن يهمله الله في تخطيطه التشريعي للحياة ، (وَالنُّبُوَّةَ) التي جعلها الله خطا ممتدا في حياة هؤلاء الناس بتعدد الرسل الذين ذكرهم الله لنا في كتابه. وهذه هي نعمة الموقع الفكري الذي يحرّك الوعي في خط المسؤولية ، ويحرّك المسؤولية في الرسالة ، من خلال شخصية النبي والحاكم والداعية.

* * *

تفضيل بني إسرائيل

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) في تنوّع موارد الرزق ، في ما يستطيبه الناس من ألوان الطعام والشراب ، (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) من خلال الموقع والدور والنعمة ، لا من خلال القيمة الذاتية ، التي تتحول في الوعي إلى حالة عنصرية

٣١٦

معقّدة ، فقد أعطاهم الله النعمة الوافرة ، والنبوّة والكتاب والحكم ليأخذوا بالهدى من خلالها ، وليشكروا الله على ما أولاهم من نعمه ، فلما انحرفوا عن الخط المستقيم في ذلك كله ، ذمّهم الله ولعنهم ، وابتلاهم بألوان البلاء ، لأن الله لا يفضّل أحدا لذاته ، بل يمدّه بمواقع الفضل إذا ما أخلص في العمل وفي العبادة لله. وعلى ضوء ذلك ، فلا مجال للقول : إن الله قد أعطى بني إسرائيل ـ كقوم ـ قيمة روحية ومعنوية خاصة ، بما يؤكد مقولتهم التي يدعون فيها أنهم شعب الله المختار ، فإننا نلاحظ ـ تعليقا على ذلك ـ أن الله قد ردّ عليهم ذلك في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ...) [المائدة : ١٨] وقوله تعالى ، في سورة الجمعة : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [الجمعة : ٦ ـ ٧] وقوله تعالى ـ في بيان الخط العام للمسؤولية بعيدا عن طبيعة الانتماء ـ : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء : ١٢٣] وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن تمرد بني إسرائيل ونقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء بغير حق ، مما يوحي بأن المسألة لا ترتفع إلى مستوى التقييم الخاص ، بل تبقى في مستوى الواقع.

* * *

(اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) من الآيات الواضحة الدالة على الحق من دون أيّ شك أو شبهة مما لا يدع مجالا للخلاف ، ولكنهم ـ مع ذلك كله ـ اختلفوا لا بسبب غموض القضية الرسالية ، بل عن عقدة سببها نوازع البغي الكامنة في ذواتهم.

٣١٧

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) عند ما يتحول العلم في شخصية العالم ، إلى نوع من الزهو والخيلاء الذي يبحث فيه الإنسان عن تأكيد نفسه بالانتفاخ كبرياء ، يؤدي إلى أن يواجه الأمور بطريقة تثير التعقيدات ، وتضع الفواصل داخل الفكر الواحد ، ليتحوّل إلى فكرين ، يختلف الناس حولهما ، ليلتزم كل منهم الموقع الذي يفصله عن الآخرين. وهكذا يتحول العلم ، إلى حالة شيطانية باغية ، تفرز العداوة والبغضاء وتخدم مراكز الوجاهة الاجتماعية والثقافية والسياسية داخل المجتمع الواحد ، فهو يصوغ للخلافات نظريات علمية تدعم هذا الخط بحيث يبدو كما لو كان في العمق هو التجسيد الفعلي للحقيقة الدينية ، وتدعم ذاك بالمستوى نفسه ، ليتحوّل الدين إلى دينين تضعه العصبية المذهبية في هذا الجانب أو ذاك ، لينقسم المجتمع على أساس الصفة المذهبية التي يكفر فيها أهل هذا المذهب أتباع المذهب الآخر ، من خلال التحليلات والتدقيقات والحواشي والتأويلات التي يثيرها الخبث العلمي ، لا الطهارة الفكرية.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهم لا يستطيعون هناك التعلّق بما كانوا يتعلقون به من المبرّرات الخلافية على أساس القاعدة العلمية المزعومة ، بل يواجهون الحقيقة الواحدة التي أوحى بها الله إلى رسله من دون زيادة ولا نقصان ، وقد كانوا يستطيعون اكتشافها من خلال المنهج الذي جعله الله أساسا من أسس الوصول إلى الحق ، ولكن روح البغي كانت تمنعهم عن ذلك.

* * *

٣١٨

الآيتان

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(شَرِيعَةٍ) : طريق ورود الماء ، وهي هنا طريق الدين.

(الْأَمْرِ) : أمر الدين.

* * *

الشريعة الإلهية واجبة الاتباع

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) الإلهي الذي وضع لحياة الإنسان في كل جوانبها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية برنامجا تشريعيا كاملا ينظّم كل مناحي تلك الحياة العامة والخاصة ، في جميع الأوضاع والمواقع بما

٣١٩

لا يترك أيّ فراغ يحتاج معه الإنسان للرجوع إلى ما وضعه الآخرون من أصحاب الأفكار الكافرة أو الضالة ، من نظريات نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. وهو لا يثير أيّة مشكلة على مستوى تحقيق التوازن في حركة الشخصية الإنسانية بين المادة والروح ، وبين الذات والجماعة ، وبين الجانب العقلي والجانب الشعوري ، ليعيش الإنسان على الصورة التي يرضاها الله ، في ما يعلمه من عمق المصالح والمفاسد الكامنة في واقع الحياة ، لذا كان الخطاب حاسما للنبي ، وللأمة ، من خلاله ، في دعوتها إلى اتباع هذه الشريعة ، على النهج الذي بيّنه الله في كتابه ، وخططه الرسول في ما ألهمه الله من ذلك الأمر.

(فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في ما يضعونه من شرائع ، أو يركزونه من مفاهيم أو يعدّونه من برامج ، أو يحركونه من أساليب ، أو يثيرونه من أفكار ، تنطلق من الأهواء المتحركة في ساحة الأطماع والشهوات ، بعيدا عن عمق المصلحة الإنسانية في دائرة التوازن ، على خط الاستقامة.

إن الله لا يريد للإنسان المسلم أن ينعزل عن ثقافة الآخرين وحضارتهم بالمطلق ، ولكنه يريد له أن يقف على قاعدة صلبة من الشريعة التي يدعوه الإسلام إلى الالتزام بها ، ثم يواجه ما عند الآخرين بالرفض أو التأييد استنادا إلى المفاهيم الثابتة في قاعدته الفكرية من مواقع القناعة ، لا من مواقع التعصب ، فالإسلام يؤكد الثبات في مواجهة الاهتزاز ، والحوار الفكري في مقابل التعصب.

إن الآية توجّه المسلم إلى نقاط الضعف التي يحاول الآخرون ، ممن لا يملكون العلم ، إثارتها في نفس الداعية لتبعث فيه الاهتزاز لحملة على الانهيار والوقوع تحت تأثير الأجواء الضاغطة التي تدفعه إلى الانحراف من موقع الخوف ، أو الانبهار ، لتؤكد له أن يقف ثابتا في مواقعه من عمق القوّة

٣٢٠