تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

قلبه عن الحق لتبتعد كل مشاعره وأحاسيسه عنه شعوريا ، ويبتعد بكل أقواله وأفعاله وعلاقاته عن النهج القويم في ما أمر الله به ونهى عنه في خط الاستقامة في الشريعة ، ويقترب به إلى خط الانحراف في مناهج الكافرين والمنافقين والضالين (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي مصاحب له داخل حياته وخارجها ، يسيطر عليه في كل أوضاعه العامة والخاصة ، بالوسوسة الداخلية ، أو بالمشورة ، أو بتزيين أعماله السيّئة ليراها حسنة.

وقد تحدث الله في كتابه عن شياطين الإنس والجن الذين يوسوسون للناس ويضلّونهم عن السبيل ، ويحركونهم في اتجاهات الباطل من خلال تأثيراتهم النفسية والعملية ، تبعا للعلاقات التي تشدهم إليهم ، فقد يكون الشيطان صديقا أو رفيقا أو أبا أو أخا أو حاكما أو نحو ذلك ، وقد يكون عنصرا خفيّا في الداخل بحيث يحرّك نوازع الإنسان وغرائزه ونقاط الضعف في شخصيته.

وليس المراد بأن الله يقيّض لمن يغفل عن ذكره ، مثل هذا الشيطان ، أن القضية تحصل بشكل مباشر ، بل المراد أن الغفلة عن ذكر الله ، تفتح الأبواب للشيطان ليدخل حياة الإنسان الذي لا يملك ـ نتيجة الغفلة ـ قدرة الانضباط في خط التوازن والاستقامة ، مما يجعله فريسة سهلة للشيطان (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) في ما يثيرونه في تفكيرهم من شبهات ، أو عقائد باطلة ، وفي ما يحركونه في حياتهم من مشاريع منحرفة ، فيصورون لهم أنها تمثل الحق الذي يرغب الإنسان ـ بطبيعته ـ في الارتباط به فلا يبقى لديهم أيّ قلق في الموضوع ، (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) لأن العناوين التي يضعونها للانحراف قد تكون من عناوين الهدى التي يلصقونها به زورا وبهتانا.

وتلك هي مشكلة كثير من الساذجين الذين يزعمون أنهم واعون ، عند ما يقدم لهم الشياطين الباطل في صورة الحق ، والانحراف ، باعتباره استقامة ، الشر بعنوان الخير ، فيزينون لهم سوء عملهم فيرونه حسنا ، ويضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ، بسبب الغفلة المطبقة على عقولهم بحيث لا يثيرون أيّة علامة من علامات الاستفهام التي تفتح أبواب مناقشة

٢٤١

الأمور بعقل واع.

* * *

بئس قرين الغافلين

(حَتَّى إِذا جاءَنا) ووقف في موقف الحساب حيث يواجه الإنسان نتائج المسؤولية أمام الله ، ووجد قرينه هناك ، ورأى كيف قاده إلى هذا المصير المظلم الذي حمل إليه غضب الله ، وأودى به إلى عذابه في نار جهنم ، (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) فهو لا يطيق رؤيته لأنه يذكّره بنقاط الضعف الكامنة فيه والتي حركها هذا القرين ووجّهها في اتجاه الكفر والضلال فأدّى به إلى هذا الموقف. ويمتلئ الضال حقدا وثورة على قرينه ، حتى يكاد يدمّره ـ لو كان له إلى ذلك سبيل ـ باعتباره الشخص الذي أضلّه عن الذكر بعد إذ جاءه ، ومنعه عن اتّباع الرسول في ما يؤدّي به عن الله (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الذي لا يقود صاحبه إلى الخير والنجاة ، بل يقوده إلى الشر والهلاك في النار.

* * *

لا نفع للحسرات اليوم

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أي يوم القيامة (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أنفسكم بالكفر والضلال نتيجة استسلامكم لقرناء السوء واتّباعكم لهم في أفكارهم وأوضاعهم الباطلة (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) فأنتم وهم سواء في العذاب ، مما قد يشعركم بالرضى لأنهم يتحملون مسئولية ضلالكم ، فهم ليسوا بمنأى عن النتائج السلبية في الآخرة ، كما كانوا في الدنيا يهربون من مسئوليتكم عند ما تقعون في المشاكل الصعبة ويتركونكم وحدكم لتحمّل آثارها السيّئة. ولكن ذلك لا يغيّر من واقعكم الصعب شيئا ، لأن تحمّلهم للعذاب معكم لن يرفعه عنكم ، بل إنكم تشاركونهم فيه ، لأنكم تتحمّلون جزءا كبيرا من مسئولية الكفر والضلال الذي عشتموه لما منحكم الله من عقول تدفعكم إلى التفكير ، ومن وحي أنزله على رسله فحملوه إليكم ليدلّوكم على الطريق.

* * *

٢٤٢

الآيات

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥)

* * *

الله منتقم من الكافرين

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الذين أغلقوا آذانهم عن سماع كلمة الحق ، فلا يريدون أن يسمعوا الوحي الذي يبلغه الأنبياء لهم ، أو يحمله الدعاة إليهم (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الذين أغلقوا أعينهم القلبية عن رؤية الخط المستقيم الذي تريد أن تهديهم إليه ، وتدلهم على مواقع الخير الذي يبني لهم حاضرهم ومستقبلهم ليركّزه على أساس متين (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من هؤلاء الذين ضاعت

٢٤٣

عقولهم أمام الإغراءات والتهاويل التي يحشدها الشياطين في مشاعرهم وغرائزهم ، وتاهوا فكريا وروحيا وعمليا ، وضلّوا ضلالا بعيدا ..

ولعل مشكلة هؤلاء ، أن الاهتداء يحتاج إلى إرادة منفتحة على آفاق المعرفة .. بحيث يكون الإنسان باحثا عن الحقيقة بجهده الذاتي في ما يتحرك به عقله ، وتلتقي معه روحه ، بينما يفقد هؤلاء إرادة الهدى ، ويعيشون في الاتجاه المضاد لذلك ، ويعطلون كل الأدوات والوسائل التي تصل بهم إلى مواقع الهدى.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) ونتوفينك (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بعد ذلك ، في ما كفروا وساروا في طريق الضلال من دون حجّة ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) قبل أن نتوفّاك (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) فلن يعجزنا أمرهم على أيّ حال ، فسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) ولا تتراجع عنه أمام هذا الجحود الذي يقابلونك به ، أو هذه اللّامبالاة التي يواجهونك بها ، فإن ذلك لا يسقط روح الرسالة ، ولا يهزم مواقعها ولا يضعف من قدرتها ، ما دمت تملك وضوح الرؤية للطريق الذي تسير عليه ، وللهدف الذي تريد أن تقودهم إليه (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يؤدّي بك وبالناس من حولك إلى الله في خط رضوانه الذي يصل بهم إلى مواقع جنته.

* * *

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) بما يشتمل عليه من أفكار تفتح العقل والقلب والروح على ذكر الله ، الذي يتحوّل إلى عنصر إيجابيّ فعّال في إغناء شخصيتك

٢٤٤

الرسالية التي يزيدها ذكر الله قوّة وحركيّة في اتجاه الدعوة والعمل في سبيله ، وفي إغناء شخصية قومك في التزامهم بالخط المستقيم الذي يقودهم إلى الخير ، ويركّز أقدامهم على قاعدة الحق.

وقد ذكر بعضهم أن المراد بالذكر الشرف الذي يذكر به النبي وقومه ، من بين الأمم ، وهو غير واضح ، لأن القرآن ليس امتيازا اجتماعيا لقوم النبي يحصلون عليه ، بل هي مسئولية فكرية وعملية في خط الاستقامة على طريق الله ، فهو لا يمثل حالة شخصية أو قومية ، بل حالة رسالية ، كما يوحي به قوله تعالى ، بعد ذلك : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن كل ما فيه من تكاليف وتعاليم ترتبط بالمسؤولية التي يتحملها الناس أمام الله في أوامره ونواهيه ، ومفاهيم الحياة المنطلقة من حقائق القرآن. (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الذين يذكرهم قومك ويعترفون بنبوتهم ، فقد جاءوا بالتوحيد على أساس أنه الدعوة التي توحّد الحياة أمام الله ، وتابع رسالتهم في الكتب المنزلة عليهم (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ليشاركوا الله في عبادة الناس لهم ، من موقع الألوهية المستقلة ، أو من موقع الوساطة بين الله وبين الناس ..

والمراد بالسؤال ، الإيحاء بأن التوحيد هو الحقيقة التي تحرك بها كل تاريخ الرسالات ، والتزم بها كل الأنبياء ، مما لا مجال ـ معه ـ لأيّ شك أو شبهة.

* * *

٢٤٥

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

* * *

٢٤٦

معاني المفردات

(بِآياتِنا) : معجزاتنا.

(وَمَلَائِهِ) : أشراف قومه.

(يَنْكُثُونَ) : ينقضون العهد ويخلفون.

(مَهِينٌ) : حقير.

(يُبِينُ) : يفصح.

(مُقْتَرِنِينَ) : ملازمين.

(سَلَفاً) : سابقين إلى النار.

(وَمَثَلاً) : عبرة وموعظة.

* * *

من جديد .. موسى عليه‌السلام مع فرعون وقومه

وهذه من جديد قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وقومه ، ولكنها تتميز ببعض الملامح التي توضح ـ جيّدا ـ طريقة فرعون وأمثاله من الطغاة ، في التفكير ، وفي تقييم أنفسهم وتقييم الآخرين ، وكيف يقومون باستجداء الثقة ممن حولهم عند ما يفقدون الثقة بأنفسهم ، وذلك تأكيد القيم السائدة في مجتمعهم لجهة تقييم الناس طبقيا بالقياس إلى السلّم الطبقي الذي يتميز به أفراد المجتمع.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) التي تصدم كل ما ألفوه في حياتهم ليتطلعوا إلى الإنسان النبي الخارق للعادة في قدرته التي لا يمكن أن تكون قدرة بشر

٢٤٧

عن صفاء الرؤية لله ، وعن طهارة الروح التي تلامس الأشياء الطاهرة في احترام الإنسان في إنسانيته ، وفي الانفتاح على نقاء الحياة في الفكر والروح والشعور والحركة .. فانطلقوا يبحثون عن المجد الذي يرتفع فوق جماجم المستضعفين ، وعن اللذة التي يعتصرونها من آلام المحرومين ، وعن الحركة اللاهية العابثة المتنوعة التي ينطلقون بها بتجميد طاقات الآخرين تأكيدا لوجودهم وتأصيلا لحركتهم الذاتية.

.. وهكذا جاءهم موسى ليصدم ذلك كله ، وليفتح آفاقهم على نور جديد (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فقد جئت لأرفعكم من وحول الأرض إلى ينابيع النور المنهمر من السماء .. لتفكروا في الواقع بحجم الرسالة التي ينفتح الله بها على عباده ، ليرحمهم بروحيتها ، وليفتح قلوبهم على آفاقها ، وليجعلهم يفكرون في الآخرين بعد أن كانوا يفكرون بأنانية الذات ، وليحرّك طاقاتهم في سبيل إسعاد الناس في حياتهم بدلا من إسعاد أنفسهم المختنقة بشهواتهم ، فتعالوا إليّ ، لتستمعوا إلى آياته ، ولتعيشوا العمق الروحيّ لمعانيها ، والامتداد الفسيح لمواقعها ، والانفتاح الرحب في آفاقها ، لتعود إليكم إنسانيتكم التي فقدتموها ، وروحيتكم التي ضيعتموها .. فما ذا كان ردّهم على ذلك كله؟ وما الأجواء التي كانت تسيطر عليهم؟ لا شيء إلا السخرية التي تمتزج بها الضحكات اللاهية العابثة ..

* * *

قوم موسى يطلقون السخرية في وجهه

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) فكيف يمكن أن يكون هذا الإنسان الفقير القادم من مجتمع الاستضعاف رسولا من رب العالمين؟ ومن هو ربّ العالمين؟ وكيف يجرأ على أن يقدّم نفسه بهذه الصفة؟ وما الذي يريده من خلال ذلك؟ إن الأمر يدعو إلى الضحك الساخر لأن الموقف لا يوحي بأيّة

٢٤٨

دّية ليثير بعض التفكير ، أو الجدل ..

ولكن الله لا يهمل المسألة ، بل يضاعف من الضغط عليهم ليراجعوا حساباتهم من جديد ، ليتعرفوا إلى الله من خلال آيات العذاب ، مثلما أراد لهم أن يتعرفوا إليه من خلال آيات الإعجاز.

* * *

تفاضل آيات الله

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) وتوالت الآيات ... من نقص في السنين ، ونقص من الثمرات ، إلى الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات تحدثت عنها سورة الأعراف .. وقد يتساءل القارئ عن هذا التفاضل بين هذه الآيات كيف نرصده ونفسره .. وقد أجاب صاحب الكشاف عن ذلك بأن «الغرض بهذا الكلام أنّهنّ موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة :

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري»(١)

وربما كانت الإشارة بلحاظ أن التدقيق فيها قد يقف بنا على نوع من

__________________

(١) الكشاف ج : ٣ ص : ٤٩١.

٢٤٩

التفاضل من حيث الحجم أو من حيث التأثير السلبي على طبيعة الحياة من حولهم. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) الذي تنزل عليهم في هذه الآيات العذابية ، ليفكروا في الرسول والرسالة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم وضلالهم.

* * *

وقالوا ادع لنا ربك .. ثم نكثوا

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) وتجمعوا حوله ، وقد أدركوا أن هناك قوّة خفيّة غامضة لا يملكون معرفتها تقف وراء هذا الرجل ، ولكنهم لم يتحرروا من عقدة التفكير بكونه ساحرا ، بسبب الجوّ الغامض الذي يلف قوّته ، أو لأنهم يرون العالم الماهر ساحرا ، وربما كان نعته بالساحر مورد الاستهزاء بما يدّعيه من رسالة تربطه بالرب العظيم الخالق الذي لا يعرفونه ، وقد يتخيلونه مجرد وهم يعيش في ذهن موسى الذي أراد أن يعطي دوره السحري مرتبة القوّة المطلقة التي ترتفع به إلى العلاقة بالسماء ليتميز على غيره من عظماء الناس ، ولينازع فرعون مركزه العظيم .. ولهذا حاولوا أن يجأروه في وهمه الكبير ليرفع عنهم نتائج سحره .. وطلبوا منه أن يدعو ربه من خلال العهد الذي عهده عنده ، وأكدوا له اهتداءهم إلى دينه ليرفع عنهم البلاء (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) في خط الرسالة ..

وكشف الله عنهم العذاب ، ليتابعوا المسيرة المثيرة في تجربة جديدة (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) وينقضون العهد الذي قطعوه على أنفسهم ، لأن المسألة عندهم لم تكن جدّية بالمستوى الذي يصل إلى القناعة الفكرية والروحية ، بل كانت طلبا للخروج من المأزق الكبير الذي وضعهم فيه.

* * *

٢٥٠

فرعون يلملم ثقة قومه به

وانتهى هذا الفصل من القصة ، لنطلّ على فصل آخر لنشاهد فرعون وهو ينادي قومه طالبا ـ من جديد ـ الثقة بموقعه ومركزه ، بعد أن اهتزت صورته في نفوسهم ، أو هكذا خيّل إليه (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) وأطلق صوته في أوساطهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي من تحت قصري أو بستاني (أَفَلا تُبْصِرُونَ) كل ذلك لتملئوا عيونكم منه ، ولتستلهموا جانب العظمة فيه وترجعوا إليّ وإلى الخضوع لربوبيتي .. فهل عندكم أيّ شك في ذلك (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) حقير في نسبه وفي ماله وفي شكله (وَلا يَكادُ يُبِينُ) في نطقه ، فما الذي يملك من جوانب العظمة حتى تهتموا به أو تلتفتوا إليه ..

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ليمنحه الذهب رونقا وبهاء وزينة وعظمة ، في ما كان الناس يعتادونه أنهم إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب وطوّقوه بطوق من ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) به ، ليشهدوا على صدقه في رسالته ، لأنّ ذلك هو ـ وحده ـ الذي يؤكد زعمه .. وكان ذلك المنطق قريبا إلى ذهنية قومه ، التي كانت تركز على المقومات الخارجية للشخصية في ما يملكه من مال وجاه وقوّة ، لا في ما يملكه من كفاءات فكرية وروحية وعمليّة ، ولذلك انفعلوا بالمقارنة التي عقدها فرعون بينه وبين موسى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي استفزهم بأسلوبه القريب من سطح عقولهم فحملهم على أن يخفّوا له ولما أراد منهم (فَأَطاعُوهُ) بالانصياع لخطّته في مواجهة موسى ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) لا يملكون الأساس القويّ الذي يركّز أقدامهم على الخط المستقيم في التوازن العملي في ما يفعلونه أو في ما يتركونه ، لأنهم ليسوا بأصحاب فكر يضبط لهم مواقفهم ويحدّد لهم مواقعهم ، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحرّكهم ذات اليمين وذات الشمال.

* * *

٢٥١

الانتقام من الكافرين

(فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا بأفعالهم وأوضاعهم المتمردة على الحق ، استحقوا العقوبة (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) من موقع الحكمة البالغة التي تجعل الانتقام العملي في مصلحة الإنسان والحياة ، لا من موقع التشفي الذاتي الذي لا يتناسب مع عظمة الله (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لتطوى تلك المرحلة القلقة من ذلك التاريخ المليء بالظلم والتخلف والاستكبار (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) في تاريخ الكفر والانحراف (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) الذين يتطلعون إليهم ، ليكون ما وصلوا إليه نموذجا لما يمكن أن يحدث ـ في أيّ وقت ـ في حالات مماثلة في الشعوب الأخرى ليتعظوا بذلك ، وليتراجعوا عما هم عليه من الانحراف.

* * *

٢٥٢

الآيات

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥)

* * *

معاني المفردات

(يَصِدُّونَ) : يصيحون ويضجون.

(خَصِمُونَ) : شديد والخصومة.

٢٥٣

(تَمْتَرُنَ) : تشكّن.

* * *

قريش تناقش موقع السيد المسيح (عليه السلام)

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) وذلك لما أنزله الله في سورة مريم وفي غيرها من السور التي تحدثت عن عيسى عليه‌السلام ، فقد كان ذلك مثار جدل متشنّج من قبل قريش ، بسبب المضمون الغيبيّ الذي يختزنه لجهة خلقه من دون أب ، ولجهة النظرة إليه في عقيدة النصارى ، ولجهة ما أولاه القرآن من تعظيم لشخصيته الرسالية التي تلتقي بشخصية الرسول ، بما يؤكد الصفة الرسالية للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره الحلقة الأخيرة من سلسلة النبوّة ..

وهكذا أراد زعماء قريش المعقّدون من كل المفاهيم الرسالية التي ينزل بها القرآن ، أن يواجهوا الرسالة بالكلمات التي تثير المشاكل ، وتسيء إلى قداسة المضمون الرسالي القرآني سواء تناول فكرة أو شخصا ، فبدأوا يضجون ويضحكون ليجعلوا من الموضوع موضع سخرية واستهزاء بدلا من أن يكون مثار تفكير وتأمّل.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) فلما ذا تتحدث عنه ، وتعظّمه ، ولا تتحدث عن آلهتنا ، فإذا كانت في خلقه وفي شخصيته بعض الأسرار ، فإننا نعتقد أن لآلهتنا مثل هذه الأسرار التي تربطها بالله ، فتستطيع أن تقرّبنا إلى الله ، فنحن لا نتحدث عن آلهة خالقة إذا كنت تنفي عنه صفة الألوهية بهذا المعنى ... وهكذا كانت هذه الكلمة الاستفهامية الواردة على سبيل الإنكار ، مدخلا للإثارة ، التي هي الأسلوب الذي يستعملونه في مواجهة الرسالة ، فهم لا يريدون الدخول في حوار حول الفكرة ليناقشوها بتقديم الحجة التي تؤيدها أو

٢٥٤

تعارضها ، بل يريدون إثارة الضوضاء التي توحي للبسطاء بأنهم في المستوى الذي يستطيعون فيه أن يجابهوا النبي وما يأتي به من قضايا الرسالة (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) عقيما لا يرتكز على أساس ولا يؤدي إلى نتيجة فكرية ، لأن المضمون الذي تحدثوا عنه لا معنى له ، فما هي المناسبة بين آلهتهم ، وبين عيسى عليه‌السلام .. فهل حدّثهم القرآن عن عبادته كخطّ للعبادة الشرعية ، ليجدوا تبريرا لعبادة آلهتهم ، وإذا كان النصارى يعبدونه ، كما توحي أو تتحدث آيات القرآن ، لاعتقادهم بألوهيته بأيّ معنى من معاني الألوهية ، فما هي علاقة القرآن بذلك وهو يؤكد دوره كرسول من الله في موقع البشرية التي لا ترتفع عن هذا المستوى بطريقة الخلق العجيب في ولادته من دون أب ، لأن ذلك من الأمور التي تتصل بقدرة الله ، لا بقيمة الشخص.

إن كلامهم هذا من نوع الكلام الذي لا معنى له كردّ على ما أثاره القرآن ، ولكن ـ كما ذكرنا ـ هو محاولة إشغال الجو بأيّ شيء ، لتعطيل حركة فكر الرسالة في المجتمع ، وليدور الجدال بعيدا عما إذا كان لصيقا بالموضوع أو بعيدا عنه ، كما يفعل كثير من الكافرين والمستكبرين عند ما يريدون مواجهة دعوات الحق والعدل ، بالعمل على صرف الناس عن الاستماع إليها والانشداد نحوها ، وذلك بإثارة الأفكار التي تحرّك الجدال والنزاع بطريقة تمنع الناس من التفكير الهادىء المتّزن ، من دون أن يكون هناك أساس فكريّ يرتبط بالفكرة الرسالية ، في مواقع الموقف المضاد.

* * *

(هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وهي صفتهم الذاتية ، فهم لا يعيشون مسئولية البحث عن الحقيقة بل يحترفون الخصومة ، بكل أساليبها المتلوّنة ، ليصلوا إلى أطماعهم ، وليحافظوا على امتيازاتهم ومواقعهم ، والخصومة فنّ مستقل وجزء

٢٥٥

في لعبة المكاسب الذاتية أو السياسية أو الاجتماعية ، وليست وسيلة من وسائل الوصول إلى النتائج الحاسمة في الحق.

* * *

مواجهة الضجيج الجدلي بالعقل الهادىء

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالرسالة ، وبما آتيناه من قدرة إعجازية متحركة في شخصيته بإذن الله .. وبما فتحنا له من الآفاق الروحية التي يتحرك فيها في ساحة رسالته من خلال تأييده بروح القدس (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) بما يجسّده من النموذج الأمثل الذي يبعث فيهم الثقة بالرسالة ، في مضمونها الروحي ، وفي قيمها الإنسانية وفي بعدها الأخلاقي ، وفي شريعتها المتوازنة ، لأنه يجسّد ذلك كله في حركته في ذاته ، كإنسان رسول ، وفي حركته في رسالته ، كإنسان ملتزم بالرسالة في حياته ..

.. وهكذا رأينا القرآن لا يتناول المسألة في دائرة العقدة الذاتية من منطقهم ، بل يعمل على مواجهة الضجيج بالكلمة الهادئة المعبّرة عن شخصية السيد المسيح عليه‌السلام بعيدا عن كل المعاني التي أرادوا إثارتها من الألوهية والمقارنة بينه وبين أصنامهم ، ليعيد عليهم الفكرة القرآنية التي تلخّص قصة شخصية عيسى عليه‌السلام في أنه عبد الله الذي كان موضعا من مواضع نعمته ، ومثلا حيّا للرسالة في قومه لينطلق ـ من خلالهم ـ إلى الناس كافة.

وهذا هو الأسلوب القرآني الحكيم الذي لا يسمح للآخرين أن يبعدوه عن الخط المنهجي الذي أراد أن يؤكده في قضية المعرفة ، وفي انفتاح الرسالة على الحق فيواجه الضجيج الجدليّ ، بالعقل الهادىء ، والروح المنفتحة ، ثم يبدأ الحديث عن الفكرة ـ بعد هدوء الجو ـ ليستمع إليها الآخرون بكل حكمة واتزان ..

* * *

٢٥٦

العلاقة بين البشرية والنبوة

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يأخذون موقع الخلافة في الأرض بدلا منكم كما تتحدثون ، فإن المسألة ليست بعيدة عن قدرة الله الذي يستطيع أن يصوّر مخلوقاته بأيّة صورة ، ويغير ما يشاء كما يشاء ، ولكنه رأى ـ بحكمته ـ أن يرسل رسله بشرا ليتمّ التفاعل بينهم وبين البشر نظرا للتشابه في الخصائص النوعية التي تلتقي فيها الأفكار والمشاعر والقدرات ، وليمكن للرسول أن يكون في موقع القدوة للآخرين في أوضاعه العملية المتصلة برسالته فلا مصلحة في أن يكون الملك رسولا للبشر ، كما لا مصلحة للبشر في أن يكون رسولا للملائكة ـ لو كان الملائكة يحتاجون إلى رسول ـ.

وقد فسّر صاحب الميزان الآية بطريقة أخرى فقال : «الظاهر أن الآية متصلة بما قبلها ، مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصّه القرآن عن عيسى عليه‌السلام فيخلق الطير ويحيي الموتى ، ويكلّم الناس في المهد إلى غير ذلك ، فيكون كالملائكة المتوسّطين في الإحياء والإماتة والرزق وسائر أنواع التدبير ، ويكون مع ذلك عبدا غير معبود ، ومألوها غير إله ، فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية مختصّ بالملائكة ، وهو ملاك ألوهيتهم ومعبوديتهم ، وبالجملة ، هم يحيلون تلبّس البشر بهذا النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة.

فأجيب بأن لله أن يزكي الإنسان ويطهره من أدناس المعاصي بحيث يصيّر باطنه باطن الملائكة ، وظاهره ظاهر البشر وباطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله ويخلفه مثله ويظهر منه ما يظهر من الملائكة» (١) .. ثم يرد على ما يلتقي بالوجه الذي ذكرناه ، بأنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.

ولكننا نلاحظ أن المسألة المطروحة لدى الوثنيين حول ما يقصّه القرآن ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ١١٨ ـ ١١٩.

٢٥٧

ليست متصلة بالجانب الروحي العميق الذي يلتقي بالعصمة من المعاصي وبالطهارة من الأدناس ، بل هي ناشئة من أن الطبيعة البشرية ـ في ذاتها ـ لا تنسجم مع النبوّة التي هي أمر يتعلق بالأفق الغيبي لله لإحساسهم بالعظمة الضبابية تجاه كل الأمور الخفية من الموجودات التي إذا لم يمنحوها الألوهية فإنهم يتحدثون عنها على أساس العلاقة العضوية بالله ، كما قالوا عن الملائكة بأنهم بنات الله ، وكما قالوا أمرا قريبا من ذلك ، عن الجن ، مما لا يتيسر للبشر الذين يعرفونهم ـ في نقاط قوتهم وضعفهم ـ بالحسّ المباشر ، أمّا مسألة النظم فقد يكفي فيه أن تكون المسألة واردة في الأجواء التي تثيرها رسالة عيسى عليه‌السلام التي تحدثت عنها الآية السابقة على أساس ما جاء في سورة مريم ، وهي مسألة العلاقة بين البشرية والنبوّة ، التي أثاروها ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله العالم.

* * *

الإيمان بالساعة يوصل إلى رضوان الله

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ربما كان الضمير يرجع إلى عيسى باعتبار أنه ممن يعلم به الساعة ، لأن مظهر القدرة في خلقه من غير أب يوحي بالقدرة على قيام الساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي لا تشكّوا بها ولا ترتابوا .. وفيه نوع خفاء في الدلالة ، وربما كان المراد به أنه من أشراط الساعة ، فإنه ينزل على الأرض فيعلم به قرب الساعة ، فلا تشكّوا بها آنذاك ، وهو غير واضح ، لأن الحديث عنها في زمان الرسالة ، وقيل إن الضمير يرجع للقرآن ، باعتبار أنه آخر الكتب المنزلة ، وهو غير ظاهر ، ولعل الأقرب هو تأكيد ما في القرآن من الأحاديث التي تثير قضية الساعة من جوانبها الذاتية ، ومن جوانب الفكرة في ساحة الصراع بين الرسالة وبين خصومها ، مما لا يدع أيّ ريب فيها من ناحية فكرية أو إيمانية في ما تحدث القرآن عن إمكان البعث وعن طبيعة الساعة في تقدير

٢٥٨

الله الذي يقرّر الحقيقة الحاسمة في ما يخبر به عنها على لسان النبي الصادق الذي لم يجربوا عليه كذبا في حياته.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فإن الإيمان بالساعة يفرض اتباع النبي في رسالته لأن ذلك هو طريق الوصول إلى رضوان الله ونعيمه فيها ، وقيل إنه من كلام الله تعالى عن نفسه ، أي اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي ، ولعل الوجه الأول أقرب للجوّ العام.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن الأخذ بالرسالة في خط السير في الحياة في علاقتكم بالله وبالرسول وبالناس وبالحياة من حولكم ، فإنه يريد أن يبعدكم عن الله ، ليقودكم إلى مواقع غضبه التي تؤدي بكم إلى نار جهنم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فتعاملوا معه كما يتعامل الإنسان مع عدوّه في الحذر وفي الاستعداد الدائم للمواجهة.

* * *

عيسى يدعو قومه إلى التقوى وعبادة الله الواحد

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) التي أقدره الله عليها من المعجزات الخارقة (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) في ما يتضمنه الإنجيل من التعاليم التي تمنحكم الذهنية الروحية والعملية ، ومقدرة التوازن في الحياة بحيث تملكون ـ معها ـ وضوح الرؤية للأشياء من حولكم ، وللموقف الذي ينبغي لكم أن تأخذوه في علاقتكم بها ، فتضعون الأشياء في مواضعها في الكلمة والموقف والمنهج.

(وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من قضايا العقيدة ، ومن أحداث الحياة ، مما تحتاجون فيه إلى القاعدة الثابتة القوية التي تكون أساسا للتفكير ، ومنهجا للحركة ، لأن مشكلة كثير من الناس عند ما يختلفون ، هي افتقارهم إلى اللغة المشتركة في دائرة الفكر ، التي يتفاهمون بها ، ويلتقون عليها ، وكل

٢٥٩

واحد منهم يتحدث بطريقة لا يفهمها الآخر ، نتيجة المؤثرات الذاتية التي لا يملكون ـ معها ـ حكما يحكم بينهم ، في الحيثيات الفكرية ، أو في القوّة المهيمنة التي يخضع لها الجميع.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فإن التقوى تمثل الخط المتوازن الذي يشعر الإنسان معه بالثبات في قضية الحركة والمصير ، لأنه يلتقي بالله في أوامره ونواهيه التي إذا انطلق الإنسان معها في دائرة الالتزام الواعي فإنه يصل إلى الهدى الذي لا ضلال معه ، وإلى الأمن الذي لا خوف معه ، كما أن طاعة النبيّ هي العنوان الكبير لطاعة الله ، وللمضمون الواسع للتقوى لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله ، لأنه لا يؤدّي عن ذاته في ما يبلّغه الناس ، بل يؤدي عن الله في ذلك كله.

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فلست إلها يملك سرّ الألوهية ليدعوكم إلى نفسه ، بل أنا عبد لله ، ومربوب له ، كما أنتم مربوبون له ، ولهذا فإنني أدعوكم إلى إخلاص العبادة التوحيدية له لتعبدوه من موقع ربوبيته ، كما أعبده من هذا الموقع ، (فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لأن ذلك هو الذي يوحّد التصور العقيدي للإله ، كما يوحد التحرك في خط الاستقامة الذي يربط بين توحيد الله وحركة الإنسان في هذا الاتجاه.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) فآمن به بعضهم ، وكفر به بعض آخر ، وبدت الرسالة موضعا للخلاف بدلا من أن تكون حلّا لما يختلفون فيه ، انطلاقا من النوازع الذاتية ، والمصالح المادية (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) لأن ذلك هو ما يستحقه الظالمون الذين يظلمون أنفسهم بالابتعاد عن الله ، ويظلمون الحياة كلها بالابتعاد بها عن خط التوحيد الذي هو أساس التوازن بين الإنسان والحياة من حوله.

* * *

٢٦٠