تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

الآيات

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

* * *

كيفية تكليم الله للبشر

كيف يكلّم الله البشر ، هل كما يكلم البشر بعضهم بعضا ، أم بأسلوب يختلف عن ذلك؟

إن الآية تحدثنا عن وسائل ثلاث يوصل بها الله ما يريد من معان يريد للناس أن يعوها في ذواتهم ، أو أن يبلغوها للآخرين منهم ..

.. وإذا كنا نتحدث عن كلامه ، فإننا لا نتحدث عن أصوات تصدر عنه

٢٠١

كما تصدر عن خلقه ، لأن ذلك من شؤون التجسيم الذي لا نقول به ، بل الظاهر أن الله يخلق الكلام كما يخلق العباد ، ليعبّر به عن المضمون الفكري والعملي الذي يلتزمه الناس في حياتهم.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) بطريقة المواجهة المباشرة ، لأن الرؤية التي تفرضها تلك الطريقة غير ممكنة ، ولكن هناك طريقة أخرى لا يكون الكلام فيها (إِلَّا وَحْياً) عبر ما يوحي به إلى الناس بشكل مباشر مما يلقيه في نفوسهم ويثيره في وجدانهم مما يشبه الإلهام الروحي والفكري والشعوري ، (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) في ما يصدره الله من كلام يلقيه إلى بعض عباده الذين يقفون في موقع من الأرض ولا يرون المتكلّم لوجود حجاب معنويّ يفصلهم عنه ، ويمنعهم من رؤيته ، على نحو الحجاب الذاتي ، كما في كلام الله لموسى عليه‌السلام في الطور الذي عبر عنه الله بقوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) [القصص : ٣٠] ولعل اختصاص موسى عليه‌السلام بصفة كليم الله ، كما حدثنا الله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ناشئ من أنه الوحيد الذي حدّثه الله بشكل مباشر بهذه الطريقة.

وقيل : إنه من هذا الباب ما أوحي إلى الأنبياء في مناماتهم ، وهو غير واضح من خلال استعمال كلمة الوحي بالإلهام في القرآن في الإيحاء إلى النحل ونحوها ، وليس من الواضح أن ما يأتي في المنام هو من هذا القبيل بل الوارد في ذلك أن ما يأتيه آت من ملك أو غيره ليحدث كما ورد في ما يأخذ رسول الله من السبات إذا أتاه جبريل في النوم ..

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من الملائكة فيبلّغ النبي وحي الله في رسالته ، وربّما كان المراد من الرسول هو النبي ، بلحاظ إطلاق هذه الكلمة عليه في القرآن ، وعدم إطلاقها على الملائكة ، ويكون مثل هذا تكليما للبشر باعتبار أنه يتضمن خطابا لهم ، وحديثا معهم ، بشكل غير مباشر ، في ما يريد أن يلقيه إليهم من

٢٠٢

أوامر ونواه وتعاليم ، وبذلك يكون المراد من الوحي ، ما يحصل بالإلهام أو بواسطة الملائكة لكثرة إطلاقه في القرآن على ذلك ، ولكن قد ينافي في ذلك ما جاء في الفقرة التالية : (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) حيث يتحمل الرسول مسألة الوحي ، بينما يتحمل النبي مسألة التبليغ ، لأن دوره هو دور التلقّي للوحي.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فهو الذي لا يقترب إليه أحد في علوّه ، فلا اختيار لأيّ مخلوق في أيّ شأن من شؤون الله من تكليم وغيره إلا بإذنه ، وهو الذي يرعى عباده بحكمته في ما يخطّط لهم ، وفي ما ينزله عليهم ، ما يكلفهم به.

* * *

ما الروح؟

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي من خلال ما يريد الله أن يكلمك به ، في ما يلقي إليك من كلامه ، كان الوحي هو السبيل إلى ذلك (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، والظاهر أن المراد منه القرآن الذي أوحى به الله إليه باعتبار أنه يمثل الروح المعنوية التي يبدعها الله من أمره وإرادته ، فهو الفكر الذي يعطي للمجتمع حياته ، وللحياة العامة والنظام المتوازن لحياة الناس ، حيويّتهما.

وهناك أقوال أخرى في تفسير هذه الكلمة «الروح من أمره». فقد قيل : إن المراد بالروح جبريل ، فإن الله سماه روحا قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٤] وقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) [النحل : ١٠٢].

وقيل : المراد بالروح الروح الأمري الذي ينزل مع ملائكة الوحي على الأنبياء كما قال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا) [النحل : ٢] ولكن ذلك يقتضي أن يكون الإيحاء بمعنى الإنزال والإرسال ، وهو غير ظاهر.

* * *

٢٠٣

المعرفة النبوية رسالة إلهية

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) فلم تكن لديك أيّة معرفة ذاتية بالكتاب الذي أنزله الله على رسله من التوراة والإنجيل ، وغيرهما حتى عرّفك الله منه ما أراد لك أن تعرفه ، أو بالقرآن الذي أرسلك الله به حتى أنزله عليك ، ولم يكن لديك أيّة ثقافة شخصية في حدود الإيمان وشرائعه وحركته وما يتعلق به ، حتى جاءك الوحي ليحدّد لك كل ذلك ، في وعي تفصيليّ كامل .. وهذا ما يؤكد لنا أن المعرفة النبوية لم تكن مخلوقة مع النبي في ذاته ، بل هي شيء مكتسب من الله منفصل عن عملية خلقه ، وعن بداية نبوّته ، وليس معنى ذلك أنه لا يملك المعرفة الواعية من خلال تأملاته وتجاربه وألطاف الله التي تحيط به ، بل إن معنى ذلك ، هو التكامل التدريجيّ في شخصيته الروحية والفكرية ، بالمستوى الذي لا يبتعد فيه عن معنى العصمة .. وهذا ما نستوحيه من أكثر من آية من القرآن ، وتلك هي عظمة النبوّة في النبي ، حيث فتحت له آفاقا واسعة لم يكن له عهد بها ، لو لم يعهدها الناس فيه ، ممّا يدل على أن المسألة لم تكن حالة ذاتية ، بل كانت شأنا رساليّا إلهيّا.

* * *

الوحي نور إلهي

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) فليس الوحي رسالة موجّهة إلى النبي ليهتدي بها ، بل هي نور يضيء طريق الناس الذين يفتحون عقولهم وقلوبهم للهداية ، فيمن أراد الله له أن يهتدي بالوسائل الطبيعية للهداية ، تماما كما هو النور الذي لا يختص بحامله ، بل يضيء الطريق لكل من يسير مع صاحبه ذاك على الطريق ، وبذلك كان النبي هاديا بواسطة هذا الوحي الذي أنزله الله في قرآنه ، في ما يشرق من نوره الفكري والروحي في حياة الناس (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا عوج فيه ولا التواء ، لأنه يمثل الخط الذي

٢٠٤

يربط البداية التي ينطلق فيها الناس في وجودهم وإيمانهم من الله ، بالنهاية التي يرجع فيها الناس إليه في مواقع المسؤولية ، (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في ما يمثله ذلك من العلم بكل ما يصلح الكون ويفسده ، في جميع موجوداته ، ومن السيطرة عليه ، بما يجعل الناس في ثقة لسلامة الخط من جهة ، وفي انقياد للألوهية المطلقة القادرة من جهة أخرى ، وهذا هو الصراط الذي لا بدّ لهم من الالتزام به والسير عليه ، لأن أيّ خطّ منحرف عنه لا بدّ من أن يؤدّي إلى الهلاك ، باعتباره خاضعا للفكر الذي يختلف عما يريده الله في وحيه من الفكر ، وللوسائل والأهداف التي لا تتفق مع وسائل الرسالة وأهدافها.

وإذا كان الإنسان يتحرك في الحياة على أساس النتائج المستقبلية التي يصل إليها على مستوى المصير ، والتي تحكم حركته فإن عليه أن يعرف الحقيقة الإيمانية ، التي تحكم وجود الإنسان في دنياه وآخرته ، وهي حقيقة تقرّرها الفقرة التالية : (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فيلتقي الجميع عنده ، بكل خطوطهم الفكرية والعملية ، ليقفوا بين يديه ، وليحدّد لهم مصيرهم من خلال ذلك كله ، إمّا إلى جنّة ، وإمّا إلى نار.

* * *

٢٠٥
٢٠٦

سورة الزّخرف

مكيّة

وآياتها تسع وثمانون

٢٠٧
٢٠٨

في أجواء السورة وتسميتها

في هذه السورة جولة في تاريخ الكفر الذي يتحرك من خلال بعض العقائد الكافرة والضالة التي يواجه الناس فيها الفكر الديني الذي جاء به الأنبياء من عند الله ، من دون أن يكون لهم على التزامهم الفكري والعملي ذاك أية حجة ، فإذا حاورهم الأنبياء من خلال منطق عقلي سليم ، لم يلتفتوا إليهم بل وقفوا منهم موقف التحدي الذي يرفض استماع كلمات الفكر والوحي أو التفكير بها ، لأن المهم بالنسبة لهم الثبات على مواقفهم التقليدية ، بقطع النظر عن القاعدة الفكرية التي ترتكز عليها ، أو تتحرك من خلالها لأنهم لم يكونوا في أجواء التفكير هذا ، مع إطلالة على تاريخ حركة الأنبياء ، مع ذكر بعض النماذج الرسالية الحية منهم التي عاشت الحركية ، في خط الدعوة والمواجهة ، في أكثر من موقع ، كإبراهيم عليه‌السلام الذي يمثل النبيّ المتعدد الآفاق والمواقع والمواقف في خط الرسالة ، وموسى عليه‌السلام ، الذي بدأ تاريخه في مواقع الصراع منذ ولادته حتى نبوّته ، وبعدها ، ما يجعل من دراسة تاريخ هذين النبيّين ، أساسا لبناء حركيّة العمل الإسلامي على أساس القوّة في الموقف ، والحكمة في الأسلوب ، والواقعية في النظرة إلى الصراع.

وقد جاء الحديث عن عيسى ابن مريم عليه‌السلام كنموذج رساليّ آخر

٢٠٩

أحدثت دعوته التوحيدية إلى الله اختلافا وردود فعل .. وينطلق في كل الأجواء الحديث عن إنذار الكافرين في حاضر الدعوة ومستقبلها ، بما أنذر به أسلافهم في ماضي الدعوة .. مع إطلالة على الآخرة ونتائج عمل الكافرين في نار جهنم ، إلى جانب نتائج عمل المؤمنين في نعيم الجنة.

وقد سميت السورة باسم الزخرف ، لاستخدامها كلمة الزخرف في معرض الحديث عما يمكن أن يمنح الله الكافرين من ثراء الدنيا وزخارفها في بيوتهم وأوضاعهم ، لتأثير ذلك على الواقع الفكري والعملي الذي أراد الله له أن يتحرك في خط التنوّع ، وذلك لتوجيه القارئ إلى هذه النقطة المهمة ، كعنوان للمسألة الفكرية التي تتعلق بتنظيم الله للحياة.

* * *

٢١٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ) : أنعرض عنكم ونترككم.

(صَفْحاً) : إعراضا.

(مُسْرِفِينَ) : متجاوزين الحد.

* * *

٢١١

وإنه في أم الكتاب لعليّ حكيم

(حم) من الحروف المقطعة التي ألمحنا إلى الحديث عنها في سورة البقرة ، والشورى ..

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) قد يكون هذا قسما بالكتاب الواضح في مفاهيمه وأحكامه ووصاياه ، وما يمثله من أهمية كبري باعتباره كلام الله الذي أريد له أن يخطط للحياة على أساس الحق والعدل في دائرة التوحيد الإلهيّ ، وحركة الرسالة.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) باللغة التي تتكلمون بها وتفهمونها ، فلا يبقى أمامكم إلا أن تفكروا بمضمونه لتعرفوا حقائق العقيدة والحياة ، ولتصلوا ، بذلك ، إلى القناعات الرسالية ، فلا يكون لكم حجة في ما تنكرون ، أو في ما تنحرفون وتجادلون ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فإن الله قد جعله لكم وسيلة للرجوع إلى العقل في التفكير والحوار ، وللوقوف عند قواعد العقل وموازينه.

وقد ذكر صاحب الميزان في تفسير ذلك معنى آخر فقال : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) «غاية الجعل (١) وغرضه ، وجعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس ، ومن شأن العقل أن ينال كل أمر فكريّ ، وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ ، فمفاد الآية : أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبيّ عن العقول البشرية ، وإنما جعله الله قرآنا عربيا وألبسه هذا اللباس رجاء أن تستأنس به عقول الناس فيعقلوه ، والرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة» (٢).

ولكن التأمّل في هذه الآية لا يدل على ما ذكره ، بل الظاهر منها أن الله

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٨٤ ـ ٨٥.

٢١٢

قد أنزله كتابا عربيا بلغتكم لتفهموه وتعقلوه ، كما يفهم أهل كل لغة الكلام النازل عليهم بهذه اللغة باعتبار وضوح اللغة الذي يمنح الإنسان وضوحا في المطلب ، والله العالم.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الظاهر أن المراد بأمّ الكتاب ـ في ما يذكره المفسرون ـ اللوح المحفوظ ، وأن علوّه في علوّ المنزلة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان من خلاله ، أو في علوّ الفكر الذي يرتفع بالتصور الإنساني لحقائق العقيدة والحياة إلى المرتبة العليا ، أو في علوّ البلاغة ، كما يذكره البعض.

وقد اعتبر صاحب الميزان ، العلو بمعنى «أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول» (١) ولكن الظاهر أن الحديث عنه ، بلحاظ جانب السموّ في معناه وفي أسلوبه للدلالة على أن الله يريد للإنسان العلو من خلاله ، لأنه لا معنى لأن ينزل الله كتابا لا يتعقل الناس حقيقته ومعناه. «بحيث يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أمّ الكتاب نسبة المثل والممثّل ، فالمثل هو الممثّل بعينه لكن الممثّل له لا يفقه إلا المثل» (٢) كما يقول صاحب الميزان ، إذ ليس هنالك حكمة من ذلك بالنسبة إلى طبيعة الكتاب .. وربما كان معنى (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) هو وصف القرآن هناك بهاتين الصفتين ، أمّا الحكمة فيه ، فاشتماله على المضمون الذي يحقق للناس التوازن في حياتهم ويساعدهم على وضع الأشياء في مواضعها ، فيتصورون القضايا في موازينها ، ليملكوا بذلك البصيرة الكاملة في الأمور المتعلقة بقضايا الفكر والحياة.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٨ ، ص ٨٦.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ٨٥.

٢١٣

الذكر حجة على العباد

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي هل نهملكم فلا توجّه إليكم القرآن إعراضا عنكم ، لأنكم أسرفتم وتجاوزتم الحدّ في الكفر والضلال ، وقد جاء السؤال على سبيل الإنكار ، فإن الله لا يهمل عباده ، بل يقيم عليهم الحجة التي تفتح قلوبهم على الحق ، ويقرّب إليهم كل وسائله ، ويقودهم إلى هداه.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) الذين أسرفوا في كفرهم ، كما أسرفتم ، وضلوا كما ضللتم ، لنفتح لهم النوافذ على حقائق العقيدة والحياة وعلى المنهج الأمثل.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فلا يواجهونه بالتفكير بما جاء به وبإرادة الحوار حوله ، كما يفعل العقلاء الواعون المنفتحون على آفاق الحقيقة ، بل يواجهونهم بالسخرية والاستهزاء كما يفعل العابثون.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) فلم تمنعنا قوّتهم وبطشهم بالآخرين وسيطرتهم على من حولهم من إهلاكهم وإنزال العذاب بهم (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) في ما نريد إثارته ليكون نموذجا للأمم القادمة التي تتحرك في أجواء الإسراف العقيدي والعملي ..

وهذا ما دأب القرآن على إثارته في القصص لدى حديثه عن الكافرين السابقين.

* * *

٢١٤

الآيات

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(مَهْداً) : فراشا.

(بِقَدَرٍ) : بمقدار.

(فَأَنْشَرْنا) : فأحيينا.

(الْأَزْواجَ) : الأصناف.

٢١٥

(لِتَسْتَوُوا) : لتستقروا.

(سَخَّرَ) : ذلل.

(مُقْرِنِينَ) : مطيقين.

(لَمُنْقَلِبُونَ) : راجعون.

* * *

الله الخالق للسماوات والأرض

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) عند ما تفاجئهم بالسؤال الذي يخاطب وجدانهم الفطري ، هل يمكن أن يؤمنوا بأن هذه الآلهة التي يدعون خلقت السماوات والأرض؟ يجيبون أنهم لا يؤمنون بذلك ، بل كل ما هناك أنهم يرون لهذه الآلهة دورا معينا في عمق ما يتمثل في داخلها من سر.

(لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) الذي يملك العزّة المطلقة من خلال قوّته المطلقة ، كما يملك بعلمه الإحاطة بكل مفردات الكون المتمثل بالسموات والأرض في دقائقه وأسراره.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) تستقرون فيها وترتاحون تماما ، كما يرتاح الإنسان في المهد. أو تمهيدا يمثل الإعداد التكويني للاستقرار.

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وطرقا تسلكونها إلى مقاصدكم ، فلم يغلقها عنكم في سهولها وجبالها ، بل فتح لكم فيها المنافذ التي تؤدي بكم إلى الوصول إلى مواقع الحياة فيها ، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى معرفة عظمة الله ونعمته ورحمته من خلال ذلك.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) محدود متوازن بحسب ما يحتاجه الناس والحيوانات والنّبات وغير ذلك من الماء ، في ما تختزنه الأرض ، أو

٢١٦

يجري عليها ، أو يتجمع في سطحها ، تبعا للنظام الكونيّ المبني على الحكمة في ذلك.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي أحييناها فاهتزّت بالخضرة التي تجسد حركة النموّ والحياة. (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) من الأجداث لتواجهوا الحياة المتجدّدة في الدار الآخرة ، فإن الحياة هي الحياة ، في الإنسان والنبات على حدّ سواء ، والقدرة هي القدرة عند الله ، فإذا رأيتم الميّت من الأرض يحيا عند ما ينزل عليه الماء بقدرة الله ، ففكّروا أنّ الإنسان يحيا بعد الموت بقدرته ـ سبحانه ـ فكيف تنكرون المعاد بعد ذلك.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) من الموجودات الحيّة والنامية والجامدة ، في ما يمثله قانون الزوجية من شمول للوجود كله ، أو في ما يتمثل فيه من تنوّع لا يجعل الحياة شكلا واحدا ليحصل من ذلك التجدد والاستمرار للحياة.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) فيسهل لكم التواصل بين مناطق البر والبحر ويخفف عنكم عناء السير في المسافات الشاسعة ، والطرق الوعرة التي تثقل الجسد وتنهكه.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) كما يفعل المؤمن الذي يرى الله في كل شيء ويتطلع إليه في مواقع النعمة ليعرف فضله عليه ، كما يتطلع إليه في مواقع العظمة ، ليعرف مدى قدرته ، يبقى وعيه للحياة ، منفتحا على الله في عملية تجدّد متحرّك ، في ما يراه أو يسمعه أو ينتفع به من مفردات النعم المتوافرة في الأرض ، ويعبّر عن إحساسه بنعمة الله وعظمته ، ليكون التعبير مظهرا من مظاهر تأكيد الانسجام بين الإيمان والكلمة في روحيّة تفرز صلة الإنسان الروحية بالله وتقوّي إيمانه.

* * *

٢١٧

تسبيح الله على نعمه

(وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) في تسبيح يعبّر عن الإحساس بالعظمة والنعمة ، ليعطي للممارسة الحياتية معنى روحيّا بالإضافة إلى ما تمثله من معنى مادّي. (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) لأننا لا نملك أيّة طاقة ذاتية تتيح لنا تنظيم حياتنا وتسهيلها بالوسائل الحيّة أو الجامدة التي تتوقف عليها حركة الحياة ، والله ـ وحده ـ هو الذي يعطي الطاقة للإنسان في كل وجوده وفي كل مفردات حياته.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) فمنه البداية ، وإليه الانتهاء نقف بين يديه لنواجه الحساب كله على أعمالنا كلها ، وعلى حياتنا كلها ، فليس عندنا شيء إلّا منه ، وذلك هو خط التربية الإسلامية الذي يريد أن يربط الإنسان بالله ، فيتحسس في أعماقه علاقته به ، بالمستوى الذي يشعر فيه بأن كل شيء منه ، فلا حقيقة إلا وجوده ، ولا قدرة لأحد إلا من خلال قدرته ، مما يفرض على كل إنسان أن يذكر ذلك في وعيه وعلى لسانه.

* * *

٢١٨

الآيات

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥)

* * *

٢١٩

معاني المفردات

(وَأَصْفاكُمْ) : أخلصكم.

(مَثَلاً) : المثل هو الشبه المجانس للشيء.

(كَظِيمٌ) : مملوء كربا وغيظا.

(يُنَشَّؤُا) : يتربى.

(الْحِلْيَةِ) : زينة الأنثى.

(الْخِصامِ) : المخاصمة والمحاجّة.

(أَشَهِدُوا) : أحضروا.

(يَخْرُصُونَ) : يكذبون.

(عَلى أُمَّةٍ) : الطريقة التي تؤمّ وتقصد.

* * *

نسبة الإناث إلى الله

هذه هي بعض الأفكار التي كان الجاهليون المتخلفون يثيرونها في عقائدهم وتصوراتهم عن الله ، وفي منهجهم الذي يركزون عليه انتماءهم العقيدي في حياتهم ، مع الالتفات إلى الأفكار الرسالية التي تواجه ذلك كله.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي ولدا باعتبار أن الولد جزء منفصل عن والده بطريقة التوالد المعروفة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) فهو يكفر بالحقيقة الإلهية التي لا يمكن أن تقبل التجزّؤ كي ينفصل جزء من الله ليكون ولدا له ، والحقيقة الإلهية تمثل

٢٢٠