تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

تفطّر السماوات والتسبيح لله

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) من خشية الله والإحساس بعظمته التي لا يستقيم أمامها شيء .. وقيل : إن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض وقولهم : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) [مريم : ٨٨] وقد قال الله تعالى فيه : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠].

وقيل : إن «الذي يهدي إليه السياق ـ والكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثاره ـ أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم ، المارّ بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض ، فإنّ مبدأ الوحي هو الله سبحانه ، والسماوات طرائق إلى الأرض ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [المؤمنون : ١٧].

والوجه في تقييد (يَتَفَطَّرْنَ) بقوله : (مِنْ فَوْقِهِنَ) ظاهر ، فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن ، من عند من له العلوّ المطلق والعظمة المطلقة ، فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن.

على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه ، فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة ، تكاد السموات يتفطرن بنزوله ، ولكونه كلاما نازلا من عند ذي العلوّ المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن» (١).

ولكننا نلاحظ أن السياق جار في الحديث عن جوانب عظمة الله ، ويوحي بانفعال الكون بتلك العظمة ، فهذه المخلوقات الكونية الضخمة التي توحي بالرفعة والعلو والعظمة لا تملك إلا أن تهتز أمام علوّه وعظمته ، مما يجعل هذا الاحتمال أقرب إلى السياق ، فإن الحديث عن الوحي لم يتحرك في

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ١٠.

١٤١

التفاصيل ، بل تحرك من خلال كونه دليلا على الله وعلى الرابطة التي تربط عباده به ، ولعل الفقرة التالية تؤكد ذلك ، وهي قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) فإن الحديث عن تسبيح الملائكة بحمد ربهم وتنزيههم إياه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات ، يوحي بأن اتّجاه الحديث هو الله في مواقع عظمته ، فكأن السموات تسبح الله وتختزن الإحساس بعظمته في تسبيحها حتى تكاد تنفطر من خلال ذلك .. كما أن الملائكة يمارسون هذا التسبيح ، ويطلّون على الأرض ليشاهدوا المخلوقات الحية العاقلة التي قد تخطئ في تصورها لله وتنحرف في طاعتها له ، ولكنها تظل منفتحة عليه في عمق المعرفة ، وروحية الإيمان فيستغفرون لها ويطلبون من الله أن يغفر لها خطاياها ، ويهيئ لها سبيل الهداية الذي يجعلها سائرة في خط طاعته ورضاه.

وقد حاول صاحب الميزان أن يفسر سؤالهم الله الغفران لأهل الأرض ، أن يحقق لهم سبب حصول المغفرة ، «وهو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه ، فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرّع لهم دينا يغفر لمن تديّن به منهم ، فالمعنى : والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرّع لمن في الأرض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك» (١).

ويستشهد ـ على هذا القول ـ بتعلق الاستغفار بمن في الأرض بقوله : «إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] وقد حكى الله تعالى عنهم : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] الآية» (٢) :

ونلاحظ على ذلك ، أن الظاهر من الاستغفار معنى يتصل بالواقع العملي

__________________

(١) (م. س) ، ج : ١٨ ، ص : ١١.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ١١.

١٤٢

للإنسان بشكل مباشر ، وما أخطأ فيه من التزام أوامر الله ونواهيه ، لتكون المغفرة أساسا لإيجاد الجو الذي يقود الإنسان نحو الهداية ، وذلك بإغلاقها ملفّ الماضي والابتداء بسلوك جديد .. أما الحديث عن اختصاص الاستغفار بالذين آمنوا ، فهذا أمر يستفاد من دليل آخر ، لا من الآية الكريمة ، ولعل الآية المذكورة في سورة المؤمن تؤكد أن المراد بالاستغفار هو غفران الذنوب التي اقترفها المؤمنون التائبون ، وذلك هو قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر : ٧ ـ ٩].

وربما كانت الآية الأخيرة واضحة في الدلالة على ما ذكرنا من طلب وقايتهم السيئات التي قاموا بها ثم تابوا منها ، بوقايتهم من نتائجها السلبية في عذاب جهنم ، والله العالم.

* * *

(اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

(أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الذي يستجيب للتائبين فيغفر لهم ويرحمهم برحمته في نعيم الآخرة ، كما يغفر للمؤمنين الذين عاشوا روح الإيمان ولم يوفقوا للتوبة ، ولكنهم كانوا يعيشون جوهر التوبة في روحيتهم التي لم تبتعد عن الله في العمق وإن ابتعدت عن بعض حدوده في الشكل ، كما نلاحظه في بعض الناس الذين يريدون أن يتوبوا ، ولكنهم يسوّفون التوبة استعجالا للأخذ بأسباب الشهوات ، وهكذا كان الحديث عن الله العزيز الحكيم

١٤٣

الذي له ملك السماوات والأرض العلي العظيم ، ليتولى الناس الله وحده في حياتهم باعتباره ـ وحده ـ صاحب الولاية على الكون ، فهو المهيمن على الكون كله ، وعلى الأمر كله .. ولكن هناك بعض الناس الذين لا ينفتحون على ولاية الله في أمورهم ، بل يرتبطون بولاية بعض المخلوقين انشدادا إلى العظمة الطارئة التي يملكها هؤلاء من دون التفات إلى أن كل ما لديهم من الله الذي خلقهم وأعطاهم من نعمه كل ما يستعينون به على امتداد الحياة في وجودهم .. وقد أراد الله للرسول أن لا يتعقّد من ذلك فيذهب نفسه حسرات عليهم ، بل يترك أمرهم لله ، لأن الله هو الذي يتولّى شؤونهم ، لأن دور النبي ـ معهم ـ هو دور الداعية وليس دوره دور الوكيل عن الناس.

* * *

الله حفيظ على أعمال الكافرين

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) فقد اتخذوا منهم شركاء لله ، في الربوبية وفي العبادة والطاعة ، لجأوا إليهم في كل حاجاتهم وأمورهم حتى خيّل إليهم أنهم يملكون الولاية والنصرة ، بشكل مستقلّ ، لمن ينتمي إليهم ويتولاهم.

(اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) يحفظ أعمالهم ويحصيها ، ويتولى نتائجها السلبية مع ما يؤاخذهم به من عذاب يوم القيامة ، وليس للنبي شيء من أمر ذلك.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فلم يفوّض الله أمرهم إليك ولم يحمّلك مسئولية الدعوة والهداية بالتذكير والإنذار والتبشير.

* * *

١٤٤

الآيات

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

* * *

معاني المفردات

(أُنِيبُ) : أرجع.

(فاطِرُ) : خالق ومبدع.

(يَذْرَؤُكُمْ) : يخلقكم.

(مَقالِيدُ) : مفاتيح.

١٤٥

(وَيَقْدِرُ) : يضيّق.

* * *

عروبة القرآن ومهد الدعوة

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغته وأسلوبه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل الجزيرة العربية ، والغاية من عروبة القرآن ، هي أن يفهم هؤلاء الدعوة لاستعمالها لغتهم التي يعرفونها ويملكون أسرارها وعناصر ثقافتها ، ولعل التركيز على هذه المنطقة باعتبارها الساحة التي تنطلق فيها الدعوة وتتحرك منها الحركة الإسلامية .. لأن من الضروري لكل دعوة أن تكون لها نقطة انطلاق وقاعدة حركة ، وكان من الطبيعي للنبي العربي أن تكون قاعدته المنطقة العربية ، وأن يجعل انتماؤه إلى قريش ومكة موقع دعوته الجغرافية مكة ، والبشرية قريش. ولهذا قال الله له : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: ٢١٤] فليس من المعقول أن يترك النبي أهله وعشيرته وبلده ، ليتجه ـ في البداية ـ إلى إنذار قوم آخرين ، لأن هؤلاء الناس سوف يسألونه لماذا لم تبادر إلى إنذار قومك ودعوتهم قبل أن تنذرنا ، وقد يتساءلون عما إذا كانت هناك نقاط ضعف في شخصيته ، يعلمها قومه فيه ، أو نقاط خلل في دعوته لا تخفى على قومه .. فهرب منهم إلى قوم آخرين.

ولهذا كانت الانطلاقة الأولى في مكة ، لتكون قاعدة الدعوة ، باعتبارها مركزا يجتذب ما حوله من القرى ، فهي عاصمة المنطقة من الناحية الدينية والتجارية والثقافية ، مما يجعلها النقطة المركزية التي يلتقي فيها الجميع ، ويتناقل أخبارها كل ما حولها نظرا للأهمية الكبرى التي يضفيها الموقع على تلك الأخبار. لذا فإن الصراع الذي دار بين النبي وبين قريش في مكة أحاط الدعوة بقدر كبير من الاهتمام لاقته من شعب المنطقة ، نظرا لملاحقة الناس

١٤٦

لكل تفاصيل صراع الدعوة مع خصومها ، ثم في الحروب التي أعقبت تلك المرحلة بين المسلمين وبين قريش ..

* * *

عروبة القرآن وانتماؤه العام

نستطيع أن نفهم عروبة القرآن في لغته ، وعروبة الدعوة في موقعها الجغرافي ، وفي مواقعها الإنسانية ، من خلال عروبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي قضت حكمة الله إرساله من هذه الأمة ، وإليها ، فقد اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة بالذات قاعدة انطلاق الدعوة في فهمها للرسالة ، بلغتها ، التي نزل القرآن بها ، وفي وعيها لروحيتها والتزامها بها ، وحملها الدعوة إليها ، وانتمائها الرسالي إليها الذي جعلها تنفتح إنسانيا على الساحة العالمية التي تتحرك فيها الرسالة كدعوة للاهتداء بهدى الله في قرآنه وشريعته.

ولكن ذلك ـ مهما بلغ من الأهمية ـ لا يتضمن إقرارا بالتفوق العربي ، أو أن الحاكم المسلم يجب أن يكون عربيا ، أو الوصول إلى درجة التطرف التي وصل إليها البعض ، وهي القول إن الإسلام دين عربيّ ، بالمعنى الفكري والروحي للكلمة.

فقد استطاع الإسلام من خلال القرآن والسنة أن يعرّب المسلمين من غير العرب ، الذين أخذوا بأسباب الثقافة العربية حتى تفوّقوا على كثير من العرب في ذلك ، كما أن الإسلام استطاع أن يعطي العرب البعد الإنساني الذي يحمله في مضمونه الفكري والروحي ، بحيث جعل العروبة خصوصية إنسانية تتفاعل مع الخصوصيات الإنسانية الأخرى في الدائرة الإسلامية ، لتكون معنى في الإنسان لا معنى في القومية الضيّقة .. ومن خلال ذلك نشعر بالحاجة إلى أن يعيش العرب الإسلام كرسالة عالمية تتغذى من طاقة الوعي المنفتح على كل

١٤٧

أسرار اللغة ، لتنفتح على كل أسرار الشريعة والمنهج والخطوط الفكرية في الإسلام وليعطوا الإسلام من جهدهم في الحاضر والمستقبل ، كما أعطوه في الماضي ، وليكون العنصر الأساس في شخصيتهم الإنسانية. ليمتدوا به إلى العالم بدلا من أن يحبسوه في دائرتهم الخاصة أو يهربوا منه إلى دائرة أخرى لا يشكل الإسلام عنصرا أصيلا فيها.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) فتعرّفهم يوم القيامة ، وتحدثهم عن النتائج الحاسمة التي تتوزع بين النتائج الإيجابية والسلبية التي تشكل ثمرة أعمال الناس : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون المتقون الذين أخلصوا لله الإيمان والطاعة ، (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وهم الكافرون المتمردون الذين أنكروا الله ، أو أنكروا توحيده ، أو تمردوا على طاعته وكذبوا رسله.

* * *

(لَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) وذلك بأن يجعل الهداية جزءا من التكوين الذاتي لشخصيتهم ، فيبدعها فيهم كما أبدع أعضاءهم ، وهو القادر على ذلك ، ولكن الله أراد لهم أن يتحركوا في خط الهداية من موقع الاختيار الذي تشكله القناعة ويؤكده الالتزام ، ليكون مصيرهم محكوما للإرادة والاختيار في الالتزام بالنهج الذي يحدّد نوعيته في الآخرة ، (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) وهم الذين اختاروا ولاية الله وارتبطوا به ورجعوا إليه عبر الإيمان به ، فأعطاهم الله ولايته التي ينصرهم من خلالها ، وينشر عليهم ظلال رحمته ، ويرعاهم بعين لطفه وعنايته.

(وَالظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو الشرك ، أو التمرد على الله ومحاربة رسله ورسالته ، (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأن الذين جعلوهم أولياء

١٤٨

لهم من دون الله ، وانتصروا بهم في الدنيا ، وأمّلوا أن ينصروهم في الآخرة ، لا يملكون لهم شيئا ، لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا فكيف يملكونه لغيرهم ، وما قيمة قوّتهم أمام قوة الله حتى ينصروهم من الله؟! ولذلك يدخلون النار من دون أن يخلصهم أحد منها ، بينما يدخل المؤمنون الجنة بإيمانهم وعملهم الصالح.

* * *

ما المراد بجعلهم أمّة واحدة؟

وقد ذكر في الميزان «أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة وإدخال الجميع في السعير ، أي أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار ، فلو لم يشأ لم يفعل ، ولكنه شاء أن يفرّق بين الفريقين. وجرت سنته على ذلك ووعد بذلك ، وهو لا يخلف الميعاد» (١) ، وقد اعترض على ذلك صاحب الكشاف الذي فسّر الآية بما فسرناها به. «بأن الآيات ـ كما عرفت ـ مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته ، وأنّ تفرق الناس في يوم الجمع فريقين ، سبب يستدعي وجود النبوة والإنذار من طريق الوحي وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك ولا ملزم به بل له أن لا يفعل ، وهذا المعنى يتم بمجرد أن يجعلهم متفرقين فريقين بل أمّة واحدة كيفما كانوا ، وأمّا كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى له هناك» (٢).

ونحن نلاحظ على ذلك ، أن ظاهر الآيات هو تأكيد جانب الاختيار الذي أراد للناس أن يواجهوا به مسألة الإنذار الذي يتضمنه الوحي النازل من الله ، ليختاروا مصيرهم باختيارهم الطريق الذي يؤدي بهم إلى الجنة ، أو الطريق

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢٠.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٨ ، ص : ٢٠ ـ ٢١.

١٤٩

الذي يؤدي بهم إلى النار .. وبذلك كان قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) تأكيدا لهذه النقطة ، وبيانا لقدرة الله على أن يخلقهم مؤمنين ليكونوا أمة واحدة في خط الإيمان ، بحيث تلتقي إرادته التكوينية في إيمانهم ، بإرادته التشريعية في ذلك ولكن الله لم يشأ ذلك بل ترك لهم حرية الاختيار .. وأمّا اختصاص الفرقة بالمؤمنين فمن خلال أن الله لا يمكن أن يجعل الكفر حالة تكوينية في الكافر ، لأن ذلك لا ينسجم مع حكمته التي تقتضي أن يكون الخلق على أساس الحق ، كما لا ينسجم مع عدله إذا كان يريد أن يدخلهم النار.

وأمّا ما ذكره من «أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار ، فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين» فنلاحظ عليه ، أن هذه المسألة ليست مطروحة كمشكلة فكرية ، فلم يقل أحد بأن الله ملزم بذلك بل المطروح في مسألة الإيمان والكفر هو جانب الجبر والاختيار ، الذي أخذ مكانا واسعا في القرآن باعتباره المظهر الحي للعدالة الإلهية في مسألة تقديره للمصير ، والله العالم.

وقد نقل في الميزان عن بعضهم : «إن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمّة واحدة كافرة كما في قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) [البقرة : ٢١٣] فالمعنى : ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم ، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر» (١).

ونلاحظ على ذلك أن هذا مخالف للسياق على ضوء ما ذكرناه ، مع أنه لا يناسب الجعل الذي يعنى الإيجاد الذي يتصل بالجانب الإيجابي في تكوين الكفر في وجودهم ، لا بالجانب السلبي في عدم تدخله بإيجاد الأسباب التي قد تؤدي إلى إيمانهم ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢١.

١٥٠

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي كيف يتخذون لأنفسهم أولياء من دون الله يعبدونهم ويتوجهون إليهم بحاجاتهم ، ويطيعونهم في معصية الله ، لينصروهم في المواقف التي تحتاج إلى النصرة؟! وكيف يفكرون بهذه الطريقة في مسألة الولاية التي تحتاج في مضمونها إلى أن يملك الولي القدرة المطلقة التي يتمكن بها من أن يتصرف في القضايا كما يشاء من دون أن يمنعه مانع .. ليشعر الذي يتولونه بالاطمئنان إليه في كل ما يعتمدون عليه فيه ، وليس هناك من يملك ذلك غير الله.

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أمّا هؤلاء فهم مخلوقون لله مربوبون له ، خاضعون ، بمنطق حاجاتهم له ، فإذا أراد العاقل أن يتخذ وليا فليتخذ الولي الذي يرجع إليه في الأمور كلها.

(وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) ويبعثهم إليه ، ويجمعهم عنده ، ليجزي المؤمنين الجنة بما عملوا ويجزي الكافرين النار ، بكفرهم ، فهو الذي يملك أمر القيامة كله.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن القدرة كلها بيده ، فلا يقدر أحد من مخلوقاته على شيء إلا بما منحه الله من القدرة.

* * *

الله مرجع الإنسان الدائم

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) فهو الذي يملك الحكم الذي يفصل بين الناس ، فهو مبدع الحق ، ومشرّعه ومحرك الوجود على أساسه ، والمهيمن على الوجود ، والمرجع الأول والأخير فيه .. وفي ضوء ذلك قد نستوحي كيف ينبغي لنا أن نرجع إلى قوله عند ما تختلف أقوالنا وآراؤنا ، وأن نرجع إلى نهجه في التشريع والحياة عند ما يختلف الناس في شرائعهم

١٥١

وتقاليدهم وعاداتهم ، وأن ننهي حوارنا مع الآخرين بعد استنفاد كل وسائل الإقناع بإرجاع الأمر إلى الله الذي يحكم بيننا وبينهم يوم القيامة. فهذا هو خط الإيمان الذي يتحرك منه المؤمن مع الله في كل أموره وقضاياه ، ويكون الله كل شيء في حياته ، منه البداية وإليه النهاية ، ومن خلاله يتحدد خط السير ، فليس هناك إلّا الله في الفكر والمنهج والحركة والاتجاه والانتماء والعلاقات.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) الذي يربّي الكون والحياة والإنسان ، بما يدبره في نظامه الكوني والتشريعي ، من موقع امتلاكه للأمر كله ، الذي لا يملكه معه أحد ، ولا يملك أحد شيئا إلا من خلال ما ملكه .. ولذلك ، فهو الذي ينفتح الإنسان عليه انفتاحا كليا من دون تحفظ ، ثقة برحمته وحكمته ولطفه وعنايته وتدبيره.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وبما أن الله يملك القدرة كلها ، فلن يخاف من يتوكل عليه أيّة مشكلة في الطريق ، وأيّة مفاجأة صعبة قد تربك واقعه ومصيره ويتحرك نحو أهدافه بقوّة الروح ، وصلابة الإرادة ، وبالثقة بالله ، بعد أن يكون قد أحكم أمره في ما يملكه من أسباب الحركة وحكمة التخطيط. وإذا كان الله هو الذي يحكم بين عباده ، ويقرّر مصيرهم ، فلن يخاف من يرجع إليه ، على قاعدة الإيمان به والاستقامة في طريقه ، لأن ذلك سوف يجعله موضعا لرحمة الله ورضوانه.

* * *

الله فاطر السماوات والأرض

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي أبدع خلقها بقدرته ، وهو الذي يديرها ويدبرها بإرادته وحكمته ، ويقدّر لها امتداد وجودها عبر التفاعل الزوجي الذي يحقق استمرار الوجود (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فكثركم

١٥٢

بذلك وتحرك الوجود الإنساني من خلاله ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) فامتد وجودها في الحياة بذلك لينتفع الناس بها.

(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ذكر صاحب الكشاف أن الخطاب في «يذرؤكم» للإنسان وللأنعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم (١) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فهو المتفرد في ألوهيته بكل صفاته ، لا يشاركه أحد في أي شيء ، لأنه المطلق في كل شيء ، وغيره محدود في وجوده ، بالحدود التي وضعها الله لذاك الوجود .. وهذا ما يفرض أن تكون الولاية له ، لا لغيره.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الذي يستمع لحاجات خلقه التي يدعونه إلى تلبيتها ، كما يبصر كل أوضاعهم وأعمالهم في ما يأخذون به أو في ما يدعونه ، ويطلع على خفاياهم ليرعاهم بلطفه في بعض أمورهم ، التي يحتاجون فيها إلى رعايته ، وليحاسبهم على بعض أعمالهم ، التي ينحرفون بها عن خط الله.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فبيده مفاتيحها ، بما تشتمل عليه من خزائن رزقه ، (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) فيوسّع له من الرزق ، ويمدّ له فيه ، ويؤمن له ما يحتاجه من الضرورات ، إلى رفاهيّة العيش بما يرفع مستوى حياته ، (وَيَقْدِرُ) فيضيّق عليه ، (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو الذي يعرف مصالح العباد ، ويطلع على حاجاتهم ، فقد تكون مصلحة البعض أن يوسّع عليهم ، وتكون مصلحة البعض الآخر أن يضيّق عليهم ، فمسألة البسط والتقدير تتصل بنظام الحياة المتقن ، الذي يقيم قواعدها على أسس متينة ثابتة ، قوامها الحكمة في التخطيط والتدبير.

* * *

__________________

(١) انظر : الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٤٦٢.

١٥٣

الآيات

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(شَرَعَ) : بيّن ووضّح.

١٥٤

(يَجْتَبِي) : يصطفي.

(داحِضَةٌ) : زائلة وباطلة.

* * *

الدين منطلق وحدة

في هذه الآيات حديث عن وحدة أصول الرسالات ومفاهيمها العامة التي تبقى ثابتة من دون خلل أو اهتزاز ، وإن اختلفت حركة جزئياتها ومصاديقها التطبيقية ، في ما يمكن أن يتغير من خصوصيات الشرائع ومفردات الأحكام ، فإن ذلك التغير يمثل تغيرا في التطبيق لا في النظرية ، وفي الآيات أيضا حديث عن أسباب اختلاف الناس في أديانهم ـ مع وحدة الدين الحق ـ ، فلم يكن التفرق ناشئا من حالة جهل ، بل عن عقدة بغي وأنانية دفعتهم إلى إنكار الحق الواضح والانحراف عن الصراط المستقيم ، بهدف الحصول على امتيازات ذاتية أو الحفاظ على ما لديهم من امتيازات ، وإسقاط لدعاة الحق ، خوفا من علوّ شأنهم ، وارتفاع درجتهم في الأمة بحيث يسيطرون على الواقع كله.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) من توحيد الله في العقيدة والعبادة ، والسير على خط تقواه في كل مجالات العمل ، (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من ذلك ومن تفاصيل الأحكام التي تتحرك مفرداتها في خط التوحيد ، بما يمثله التوحيد من موقف وحركة ، إلى جانب الفكر الذي يعيش في الذهن.

(وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) وهم الذين يمثلون ـ إلى جانب نوح ـ النبوّة العامة التي تتحرك في دائرتهم كل النبوّات الخاصة وهي تشتمل المبادئ العامة في العقيدة ، والأخلاق وفي مقدمتها الوصايا العشر ، والخطوط المتحركة على صعيد الشريعة ، في ما تفرضه حاجة الزمن في مرحلة معينة مما قد تتجاوزها مرحلة أخرى .. ولم تكن تلك الوصايا فكرا يراد له أن

١٥٥

يعيش في الذهن ؛ بل كان موقفا وحركة في خط الثبات والاستقامة والوحدة ، فقد أنزل الله الدين على خلقه ليكون منطلق وحدة ، وحركة استقامة .. فلا بد من إقامته وتحويله إلى خطّ للسير ، ومنهج للعمل وعنوان للشخصية ، وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية ، التي جاءت بمثابة التفسير للوصايا الإلهية للأنبياء ، ولتلخيص الإرادة الإلهية التي تؤكد المعنى الحركي في داخلها.

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وذلك بالالتزام به ، والانتماء له ، والسير على منهجه ، وتحويله إلى سلوك عمليّ في الحياة ، والوقوف عند ثوابته وجعلها منطلق وحدة وملتقى موقف ، لتصل الناس في كل مرحلة من مراحل النبوّات بخط النبوّة التي سبقتهم ، وينفتحوا على ما يأتي بعدهم من نبوّات ، إذا كانوا يحملون بعض الفكرة عنها ، فلا يتجمد الإبراهيميّون أمام الموسويين ، ولا يتجمد الموسويون أمام العيسويين ، ولا العيسويون أمام المسلمين ، لأن كل نبيّ يطرح مبادئ العقيدة والأخلاق العامة نفسها التي طرحها النبي الذي سبقه أو يليه ، بحيث لا يترك مجالا للتضاد في الانتماء إلى النبوات كي لا يتفرق المؤمنون بالله في أديانهم ، لأن الله قد وضع لطريق الإنسانية مراحل عدة ، كل رسالة فيها خطوة متقدمة على الطريق مما يجعل كل نبيّ يكمل ما بدأه النبي السابق.

* * *

الله يصطفي أنبياءه

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من الإيمان بتوحيد الله ورسوله ورسالته ، وما تشتمل عليه من التزامات أخلاقية في أنفسهم وأموالهم وعلاقاتهم ، ولكن ما قيمة هذا الموقف المتشنّج المعقّد من الأنبياء ، فلن يستطيع المشركون ـ مهما بلغوا من القوّة ـ أن يوقفوا خط الرسالات ، فإذا كان هؤلاء قد كفروا بها ، فإن هناك كثيرا ممن انفتحوا على الله وعلى رسله ، كما أن

١٥٦

لا قيمة لاستغرابهم لأن يكون النبيّ منهم ، في الوقت الذي لم يكن في الموقع الكبير الذي يتناسب مع مركزهم .. لأن الله هو الذي يصطفي رسله ويجتبي أنبياءه ، عبر مقاييس تختلف عن مقاييسهم ، فإذا كانوا يعتبرون المال والقوّة والمركز الاجتماعي ونحوها من الأسس التي يرتكز عليها الموقع النبوي ، إذا أمكن للبشر أن يكونوا أنبياء ، فإن الله يعتبر العقل والروحية والخلق العظيم والكفاءة الرسالية في إبلاغ الدعوة والثبات في مواقع الاهتزاز ونحو ذلك مما يؤهل الإنسان لاحتلال موقع متقدم يلتقي فيه هي المقياس الذي يرفع من مقام الإنسان لديه ويعلي من درجته.

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) فهو الذي يصطفي من عباده من يتميزون بالمواصفات التي تؤهلهم لاحتلال الموقع الرسالي ، فهو «أعلم حيث يجعل رسالته» .. وهناك وجه آخر لتفسير هذه الفقرة ، وهو ما ذكره في تفسير الميزان من أن المقصود أن «الله يجمع ويجتلب إلى دين التوحيد ـ وهو ما تدعوهم إليه ـ من يشاء من عباده» (١). ولكن هذا التفسير يجعل كلمة (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) بمثابة التوضيح للأولى ، بينما تكون الفقرتان مختلفتين على التفسير الأول ليكون قوله تعالى : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) بمثابة إشارة إلى هؤلاء الذين يرجعون إلى الله ويخلصون له من موقع الإيمان العميق ، فيهديهم الله إليه ويوفقهم إلى ذلك ، والله العالم.

* * *

بين العلم والأنانية

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) فلم ينفتحوا على العلم من القاعدة الأخلاقية التي تمتد في شخصية العالم وتمنحه روحية التواضع لله ، والخضوع للحق ، والانفتاح على الحوار الفكري الذي يقود إلى النتائج

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٣٠.

١٥٧

الحاسمة في قضايا العقيدة والحياة ، بل استغرقوا في الجانب الذاتي من العلم ، الذي يوحي بالأنانية ، ويقود إلى الشعور المرضي بضخامة الشخصية ، التي تدفعه إلى طلب مركز اجتماعيّ يرفعه إلى مقام الزعامة والرئاسة .. وعلى ضوء ذلك ، تتحرك حساباته على أساس الربح والخسارة في الجانب المادي ، وتنطلق العلاقات في هذا الخط ، وترتكز المواقف على هذا الأساس .. وهذا ما يدفعهم إلى ظلم بعضهم بعضا وظلم الآخرين ، كما يقودهم إلى الحسد والتنافس على المراكز والمواقع والتأكيد المبالغ فيه على خصوصيات الذات الفكرية التي تشكل حاجزا منفصلا غرضه الفصل بين الناس حماية لمصالح البعض ومواقعهم. وهذا هو الأساس الذاتي في الخلافات المعقدة في المواقع الفكرية والاجتماعية والسياسية .. وهو أمر قد لا يمثل خطورة كبيرة في غير الجانب العقيدي في المسألة الدينية ، لأن الفصل في القضايا المادية ، أو في مستوى الأمور الذاتية في أكثر من صعيد ، أمّا المسألة الدينية فإن الخطورة فيها تشتد حتى تصل إلى درجة الإشراف على الهلكة في علاقة الناس بالله وبالحياة كلها ، فإن الانحراف في هذا المجال يؤدي إلى الهلاك على مستوى المصير .. فإن الله قد يغفر للناس بعض صغائر الذنوب وكبائرها ، ولكنه لن يغفر لهم أن يشركوا به ، أو بعض الذنوب الكبيرة التي تطال خطورة نتائجها الحياة كلها ..

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في ما أراد للناس من أن يأخذوا الفرصة للتوبة وللرجوع إليه ، فقدّر لهم أن يعيشوا أمدا معينا من دون أن ينزل عليهم العذاب ليهلكهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال العذاب في الدنيا قبل الآخرة فيهلكهم جميعا ، وهو أمر ميّز به الله أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأمم السابقة التي أنزل عليها العذاب.

* * *

الوراثة الدينية المتعصّبة

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ممن جاءوا بعد هؤلاء الذين أوتوا

١٥٨

العلم ، فلم يكن لديهم أيّ معرفة يستطيعون بها الحصول على وضوح الرؤية الفكرية في هذه المسألة ، بل انطلقوا في مواقفهم من حالة وراثية يقلّد فيها الآخرون الأولين على أساس النسب أو البيئة ، أو الموقع الديني ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) والريبة فيه هي نتيجة ما يحملونه عنه من تصور ، أو نتيجة الخلفيات الذاتية المعقدة التي تكمن وراء ذلك ، لأنهم لا ينطلقون ، في موقفهم من الرسالة الجديدة والوحي الجديد ، الذي جاء مصدّقا لما معهم ، من قاعدة فكرية للرفض ، بل من عصبية دينيّة ، لا تحمل من الدين معناه وروحيته وحيويته ، بل تحمل منه الانفعالات التي توحي لهم بأن الدين يقف عندهم ليكون خاتمة لكل وحي ورسالة ، فلا يسمحون لوضوح الرؤية بأن ينفذ إلى تصوراتهم من خلال الحجج التي يقدمها الكتاب الجديد والرسول الجديد.

* * *

ادع واستقم كما أمرت

(فَلِذلِكَ) أي لأن الله شرع لكم هذا الدين وأراد منكم أن تقيموه على أصوله ، وأن تثبتوا عليه وتثبّتوه بالكلمة والممارسة ، وأن تجعلوا مفاهيمه أساسا للوحدة ، ولا تتفرقوا فيه ليأخذ كل فريق منكم جانبا منه مما ينفعه في ذاتيته وأنانيته ، ويترك الجانب الآخر الذي لا يتوافق مع ما يريده ، (فَادْعُ) إلى هذا الدين بكل ما تملكه من وسائل الدعوة بما يقيمه في الحياة ، ويثبته في العقول والمشاعر ، (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) في خطه المستقيم الذي يصل البداية بالنهاية ، فيبدأ من الله ويتحرك في خط دينه وشريعته ، وينتهي إليه في الإخلاص له ، والانطلاق مع رضوانه ، فإن الاستقامة تعني الوقوف مع كل حكم من أحكامه ، ومع أيّ مفهوم من مفاهيمه بكل دقة واتزان من دون أن ينحرف عنه ذات اليمين وذات الشمال ، وهي تمثّل ـ إلى جانب ذلك ـ عمق الالتزام الروحي بالدين والانسجام مع كل مفرداته من دون زيادة ولا نقصان.

١٥٩

ذلك أنّ ما يريده الله من الإنسان المسلم الداعية ، أن ينطلق في دعوته من موقع التحديد الدقيق للفكرة الإسلامية ، فلا يدخل فيها شيئا من أفكار الباطل ليقرّبها إلى الناس الذين قد لا يرغبون في الحق إذا لم يكن ممزوجا بالباطل ، فيعمد بعض الدعاة إلى التساهل في المفاهيم ، ويفسح المجال أمام الانحراف لأن يزحف إليها ، طلبا لرضى الناس من خلال ذلك ، وهو ما يحدث غالبا في بعض الأجواء الثقافية المعاصرة التي يشن فيها بعض المثقفين ممن يحملون فكرا غير إسلاميّ ، حربا إعلاميّة نفسيّة ضد المسلمين الملتزمين ، فيتهمونهم بالتطرف والتعصب والتعقيد لجرّهم إلى تقديم التنازلات والالتزام ببعض مفاهيم الباطل ، بذلك يحصلون على صفات التسامح والاعتدال والواقعية .. التي تقرّبهم من المجتمع وتجعلهم مرضيّين عنده ، وهكذا يستمر الضغط بهذه الطريقة في كل موقع من مواقع الإسلام التي يحتاج فيها الباطل إلى موقف إسلاميّ متسامح لحسابه ليقدّم المسلمون التنازلات حتى ينتهي الأمر بهم إلى التنازل عن الإسلام نفسه ..

لهذا ، فإن اعتبار الإسلام هو المقياس الذي نقيس به اتجاه التطرف والاعتدال والتسامح والتعصب ، أمر ضروريّ ليستقيم للدعاة الإسلاميين دينهم الحق ، ولتتوازن خطواتهم الفكرية والعملية على خط الإسلام فكرا وعملا وحركة ، لأن المفهوم الإسلامي يقضي بأن يخضع الواقع للإسلام ، ويتغيّر على أساسه ، لا أن يخضع الإسلام للواقع لنغيّر الإسلام من خلاله ..

لا تتبع الأهواء

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فإن ما عندهم من عقائد وعادات وأوضاع لم ينبع من دراسة فكرية عميقة للمصالح والمفاسد التي تكمن في داخلها ، بل من الأهواء التي تحركها الانفعالات والأحاسيس في ما يشتهونه ، وما يتحسسونه ، على مستوى الأهواء الفردية التي يلتقي عليها الأفراد ، أو على مستوى الأهواء الطبقية ، في ما يلتقي عليه أفراد الطبقة المستغلة المسيطرة على الوضع كله ، أو

١٦٠