تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

الآيات

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(صاعِقَةً) : الصوت الشديد من الجو.

(رِيحاً صَرْصَراً) : الريح الشديدة السموم ، أو الشديدة البرد أو الصوت.

١٠١

(الْعَذابِ الْهُونِ) : العذاب المهين المخزي.

* * *

الإنذار بالعذاب الدنيوي

لقد كان الإنذار بالعذاب هو الوجه الآخر للأسلوب الذي كان يستعمله لإثارة الكافرين والمشركين ، وحضّهم على التفكير بالمضمون العقيدي للدعوة ، وإخراجهم من أجواء اللّامبالاة التي تؤدي بهم إلى جمود الفكر وحركة الانفعال ، وفي هذه الآيات لون من ألوان الإنذار الذي يستثير ذاكرتهم التاريخية في ما حدث للأمم السابقة التي سمعوا عنها الكثير ، ليخوّفهم من حدوث شيء مماثل لهم ، لأن الأسلوب المتمرّد الذي يتبعونه مع النبي ، هو الأسلوب نفسه الذي اتبعه أولئك مع الأنبياء السابقين ومنهم صالح وثمود.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) ولم ينفتحوا قلبا وفكرا على دعوتك ، ورفضوا الحوار الذي يؤدّي إلى إيضاح الحق من خلال البراهين التي يقدّمها ، والحجج التي يحتج بها ، (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) التي أهلكتهم فلم تبق منهم أحدا ، والصاعقة ـ كما قيل ـ هي الصوت الشديد من الجوّ ثم يكون نارا تؤدي إلى العذاب أو الموت ، وهي في ذاتها شيء واحد ، وهذه الأشياء تأثيرات منها.

* * *

توحّد دعوة الرسل

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فهذه حقيقة تفرض نفسها على العقل والوجدان فلا مجال للشك في وحدانية الله ، لذا لا بد للعباد من أن يوحدوا عبادة الله بما تفرضه من خضوع مطلق وطاعة مطلقة له ، فإذا كان لديكم شبهة حول وحدانية الله نتيجة ما يمكن أن تعيشوه من عقد

١٠٢

مرضية مستعصية ، فتعالوا إلى الحوار في كل جزئياتها وفي فكرها العامّ ، لأن الحوار هو الذي يفتح العقل على العقل ويفسح المجال لتكوين القناعات من أقرب طريق ... ولعلّ جمع الرسل ـ مع أن الآية لم تأت إلا على ذكر رسولين فقط ـ يعود إلى أن دعوة الرسل واحدة ، كما أن الحديث عن إتيانهم من بين أيديهم ومن خلفهم يحمل بعض الإيحاء بأنهم استخدموا كل الأساليب التي تطوق أفكارهم من كل جانب.

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لأن البشر لا يعقل أن يكونوا أنبياء لأن النبوّة حالة غيبيّة سماويّة لا يحصل عليها أو يحملها إلا رجال الغيب السماويّون الذين يقتربون من قدس الله ، وهو أمر لا يحصل عليه أحد ، ولذلك فإن مسألة الإيمان بالبشر الذين يدّعون الرسالة ، كما تدّعونها ، غير واردة عندنا ، (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) لأنه لا يتناسب مع قناعاتنا التي ورثناها من أجدادنا ، ومع الخطوط العامة لموقع النبوّة.

* * *

استكبار عاد من موقع القوة الجسدية

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فقد كانوا يتمتعون بالقوّة الجسدية ، ذلك أن الله زادهم بسطة في الجسد فكانوا من العمالقة ـ كما قيل ـ ولهذا شعروا بالتفوّق والعلوّ على الآخرين الذين كانوا أضعف منهم قوّة ، وهو ما يجعلهم يتحسّسون ضخامة الشخصية في مواقعهم وامتيازاتهم ، كما يتحسس البعض ضخامة أجسادهم ، فتحدث لديهم عقدة التفوق التي تدفعهم إلى الاستكبار والاستعلاء على الآخرين بما يخلقه ذلك من أنانية في الذات وفي الموقف الفكري والعقيدي الذي لا يخشع لفكر الآخرين ،

١٠٣

وإن كان حقا ، ولم يكتفوا بذلك ، بل وقفوا وقفة استعراضيّة للقوّة التي يملكون حتى خيّل إليهم أنهم يملكون قوّة المطلق فقالوا ، وهم يتطلعون إلى من حولهم ، (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) .. ولكن المسألة ـ لديهم ـ مجرّد وهم كبير لا أساس له .. فهم يملكون بعض القوّة ، ولكن من الذي منحهم تلك القوة؟ ثم ما قيمتها أمام قوّة الله التي هي سرّ القوّة في كل شيء؟ فلا قوّة لأحد مهما كانت عظمته ، بدون قوة الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ) من العدم وأعطاهم نعمة الوجود بكل مفرداتها التفصيلية (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) لأن قوّته تمتد في كل شيء ، وتتسع لكل شيء (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وتلك هي مشكلتهم المعقّدة وهي جحود الآيات الإلهية في الوجود والكلمة التي تطلّ على الحق في إشراقة الوضوح ، ولكنهم لا يواجهونها بعمق وواقعية وانتباه.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) وهي الريح الشديدة السموم أو الشديدة البرد أو الشديدة الصوت ، (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي حاملة للتشاؤم ، لما تحتويه من قسوة في حركة الزمن ، كما في أيّام فصل الشتاء التي تنذر بالعواصف ، بحيث تكون الريح الباردة أو العاصفة من نتائج هذه الأيام في موقعها الفصلي من السنة على حسب الأوضاع الطبيعية.

* * *

إشكالية السعد والنحس في الزمن

ليس من الضروري أن يعني ذلك وجود شؤم يتصل باليوم ذاته ، ليكون لدينا أيّام سعد وأيّام نحس ، كما هو المشهور بين الناس ، وكما هو المأثور في بعض الروايات ، فإن الزمن واحد لا فرق في طبيعته من حيث خصائصه الذاتية ، ولكن الله قد يتعبد خلقه بالاحتفال بيوم ، كيوم العيد لمناسبة معينة وقد

١٠٤

يتعبدهم بالتعامل مع يوم آخر بطريقة أخرى ، ليست بهذه المثابة من الاهتمام ..

وقد جاءت أحاديث كثيرة في رفض التطيّر والتشاؤم ، توحي بأن الذي يتمرد عليها قد يحصل على خلاف ما يخافه الناس منها ، جزاء له على رفضه لهذا المنطق الشائع وربّما كان أبلغ دليل على بطلان ذلك هذه الأيام الباردة الشديدة البرد أو ما يشابه ذلك.

(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حيث يحيط بهم العار من جميع جوانبهم حتى يموتوا في وحوله وقذارته ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) من عذاب الدنيا ، لأنه يمثل المصير الأسود القاسي الذي ينتهي إليه الإنسان المستكبر ، (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) لأن الأمر يوم القيامة لله فلا أمر مع أمره.

* * *

(أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فعاشوا في أعماق الظلمة الروحية التي أغلقت نوافذ عقولهم عن النور المنطلق من وحي الرسالة ومن نداء الرسول فلم يستجيبوا لنداء التغيير الفكري الذي يجدّد حياتهم التي اعتادوها في أوضاعهم وعلاقاتهم .. وهكذا أرادوا البقاء على عمى الشرك الذي يتخبطون في أوحاله ، في ما ارتاحوا إليه من طقوس العبادة ، وشؤون الحياة ، وطبيعة العلاقات ، وتركوا لأجله الهدى الذي يدلهم على الله ويعرّفهم حقيقة توحيده ، وروحية عبادته ، وتمردوا على الرسالة وسخروا من الرسول ، وهددوه وتوعدوه.

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) فأنزل الله عليهم العذاب وأخذهم

١٠٥

بالصيحة التي هزّت وجودهم فأحرقته ، أو بما يماثل ذلك من ألوان العذاب فأصبحوا كأعجاز نخل خاوية ، لا يسمع لهم صوت ، ولا تحسّ لهم حركة ، (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والشرك والفسوق .. لأن النتائج لا بد أن تكون بحجم المقدمات في الثواب والعقاب.

* * *

التقوى أساس نجاة المؤمنين

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) من قوم صالح ، أو من قوم هود وصالح ، من ذلك العذاب ، لأنهم انفتحوا على الإيمان والتقوا بالله من خلاله فأدخلهم في رحمته .. ولأنهم كانوا يتحركون مع النبي في خط الدعوة وخط العمل ، وكانوا يشاركونه في الدعوة إلى الله.

(وَكانُوا يَتَّقُونَ) فيلتزمون الحدود التي أرادهم أن يقفوا عندها في حلاله وحرامه ، وهذا هو أساس النجاة من العذاب ، والحصول على الثواب.

* * *

١٠٦

الآيات

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(يُوزَعُونَ) : من الوزع : وهو المنع والكف.

(أَرْداكُمْ) : أهلككم.

١٠٧

(مَثْوىً) : مقام.

(يَسْتَعْتِبُوا) : يطلبوا الرضى ويعتذروا.

(وَقَيَّضْنا) : هيأنا.

* * *

جمع أعداء الله في المحشر

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) من الكافرين المكذبين للرسل فيجمعون في المحشر حيث يدفع بهم (إِلَى النَّارِ) التي استحقوا عذابها بكفرهم وتمرّدهم على الله ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يمنعون ، (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) ووقفوا عندها أو قريبا منها ليسمعوا الحكم الحاسم الذي ينطلق من الحجة القاطعة على جرائمهم ومعاصيهم ، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) من كلامهم بالكفر ، أو ما سمعوه من آيات الله فأعرضوا عنه ، (وَأَبْصارُهُمْ) في ما يراه البصر من أفعال صاحبه أو في ما رآه من الدلائل على وجود الله وتوحيده ، فلم ينفتح عقله لذلك في ما يدعو إليه من الهدى والرشاد ، (وَجُلُودُهُمْ) في ما استمتعت به من المحرمات.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) وقيل : إنما خصوصا بالسؤال دون سمعهم وأبصارهم مع اشتراكها في الشهادة ، لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا ، وآلات مباشرة له بخلاف السمع والأبصار ، فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها. وهكذا كانت المرارة تأكل أحاسيسهم ، فكيف تشهد عليهم جلودهم بما عملوه ، وما الذي أنطقها بهذه الطريقة العجيبة ، وقد كانت في الدنيا لا تملك نطقا؟ ثم كيف تعترف بما فعلته ، وهو أمر يعرّضها للعذاب؟

* * *

١٠٨

الجلود ترد على الكافرين

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فهل سألتم أنفسكم كيف نطق اللسان؟ وما الفرق بينه وبين أي عضو آخر في إزاء قدرة الله .. فهو خالق أجهزة النطق كما هو خالق أجهزة الحياة كلها. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ولم تكونوا شيئا مذكورا بل كنتم في قبضة العدم ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فهو القادر على أن يبعث فيكم الحياة من جديد ليحاسبكم على كل ما صنعتموه في حياتكم.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) لأنكم كنتم غافلين عنها وعن رقابتها عليكم في كل حركاتكم وسكناتكم ، وفي كل أقوالكم وأفعالكم.

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) ولهذا كنتم مستهترين بما تقومون به من الجرائم والجرائر من دون إحساس بالمسؤولية ، لأنكم لا تعون الإحاطة الإلهية بكل شيء.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) فلم تنتبهوا إلى حالة اللاواقعية واللّاوعي التي تبعدكم عن الإحساس بالواقع من كل جهاته ، الأمر الذي جعلكم تنحرفون عن الخط المستقيم ، (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا المصير في وجودهم ولم يبق لديهم أيّ شيء مما يربحونه من قليل أو كثير.

* * *

لا توبة اليوم

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) وذلك بأن يستمروا في الإصرار على العناد والاستكبار ، فيمنعهم ذلك من الاعتذار والاسترضاء لله في ما يتوسلون به إليه لتخليصهم من العذاب ، فإنهم يستمرون في النار.

١٠٩

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) ويتراجعوا عما كانوا فيه ويعتذروا عن كفرهم وتمرّدهم للنجاة من العذاب ، (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي الذين يقبل الله إعتابهم ومعذرتهم ، لأنهم ليسوا بأهل لذلك ، كما أن المقام ليس مقام توبة ، فإن مقام التوبة في الدنيا قبل الموت .. ولعل مضمون هذه الآية هو مضمون قوله تعالى : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦].

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) من شياطين الإنس والجنّ من الذين يتحركون في إضلال الناس فيحرّكون شهواتهم لتندفع إلى ارتكاب الحرام ، ويثيرون أعصابهم لتتصلّب في مواقف الاستكبار والعناد.

(فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) مما يستغرقون فيه من المتع المادية التي يعيشون في شهواتها ولذائذها ، أو مما يتطلعون إليه في المستقبل من ذلك في ما تتعلق به آمالهم وأمانيهم.

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) فاستقر عليهم العذاب الذي جعله الله للكافرين والمتمردين والمعاندين في إرادته الحاسمة التي تجمع الناس ضمن أمم يجمعها الفكر الكافر ، والعمل الشرّير من الماضين والحاضرين ، فكما ثبتت كلمة العذاب على السابقين الذين التزموا خط الانحراف ، فكذلك هم الاحقون الذين يتصلون بهم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم أخذوا بأسباب الخسارة ، ولم يأخذوا بأسباب الربح من الإيمان والعمل الصالح.

* * *

١١٠

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩)

* * *

معاني المفردات

(وَالْغَوْا) : اللغو من الكلام : ما لا معنى له.

* * *

١١١

إثارة التشويش في مواجهة الدعوة

كيف كان الكافرون يواجهون القرآن الذي أنزل عليهم ، وكيف يواجهون العذاب عند ما يدخلون النار.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعضهم لبعض ليصدّوا تأثير القرآن على عقولهم ومشاعرهم ، أو على تفكير الناس من حولهم ، (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) بل أغلقوا آذانكم وقلوبكم عن الاستماع إليه حتى لا ينفذ شيء من معانيه إلى أفكاركم فتنجذبوا إليها بطريقة لا شعوريّة.

(وَالْغَوْا فِيهِ) وتحدثوا بلغو الكلام الذي لا معنى له ، لإثارة الضوضاء من حوله ، بحيث يفقد القارئ توازنه عند القراءة ويضطرب الناس لدى الاستماع إليه ، والإنصات إلى كلماته ، (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) الرسول بهذه الطريقة ، فلا يستمع إليه أحد ، ولا ينجذب إلى دعوته أحد ممن يعيشون بساطة الفكر وعفويّة الروح وصفاء المشاعر والبعد عن التكلّف والتعقيد ، لأن مشكلتنا هي في انجذاب أفكارنا ، لا شعوريا ، إليه أو في انجذاب الآخرين إلى دعوته .. وهكذا كانوا يواجهون الدعوة بالأساليب الضاغطة المتعسفة ، لأنهم عاجزون عن مواجهة التحديات الفكرية التي يطرحها أمام المستمعين إليه ، في ما يطرحه من أفكار ، وفي ما يحرّكه من قضايا ومفاهيم وشرائع في الحياة العامة والخاصة للناس.

ذلك أن العاجزين عن مواجهة المنطق بمثله ، يلجأون إلى استعمال القوّة الغاشمة ، أو إثارة الضوضاء حول العاملين في سبيل الله والداعين إلى دينه. ولمّا كان هؤلاء يفتقرون إلى الحجة على مواقفهم وأفكارهم ، وكانت الحجة لله عليهم ، فإن الله يتهددهم بالعذاب الذي يستحقونه جزاء على ذلك ..

* * *

١١٢

الله يتهدّد اللاغين

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) لأن ذلك هو الردّ على تعقيد الموقف الذي يريدون تحريكه ضد الرسالة والرسول ، بهدف مقابلة التحدي الذي يثيره أمامهم بالتحدي. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من السير على خط الكفر ، ومن اضطهاد الرسول والذين اتبعوه ، (بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) فهي النهاية التي ينتهون إليها ، جراء البداية التي بدأوا بها في خط الكفر بالله وبرسوله وبرسالته ، (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) التي تحيط بهم ، ولا يملكون خلاصا منها ، لأن الخلود فيها هو الزمن الذي لا انقطاع فيه ، بما كانوا بآياتنا يجحدون.

* * *

(رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم يواجهون هذا العذاب الشديد في النار ، ويسترجعون في ذاكرتهم أنّ هذا المصير الذي يواجهونه اليوم جاء نتيجة اتّباعهم لبعض الأشخاص ، وخضوعهم لهم ، ووقوعهم تحت تأثير ما يملكونه من قوة ويطلبون من الله أن يريهم هؤلاء الذين قد يكونون من الجن أو الإنس ليثأروا منهم ، ويواجهونهم بالأسلوب الذي يستحقونه : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وأدّيا بنا إلى هذا المصير الأسود (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) فهذا هو الجزاء الطبيعي ، الذي يستحقانه ، (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) الأذلّين جزاء حالة الاستعلاء والاستكبار التي كانا يمارسانها في الدنيا ، ضدّنا وضدّ كل المستضعفين الذين كان إحساسهم بالضعف أمام المستكبرين الكافرين يجرهم إلى التأثر بهم.

* * *

١١٣

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

* * *

معاني المفردات

(تَدَّعُونَ) : تطلبون.

(نُزُلاً) : ما يعد للنازل.

١١٤

(نَزْغٌ) : النخس بما يدعو إلى الفساد.

* * *

الاستقامة في خط التوحيد والدعوة

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) هذا هو الإسلام في كلمة مختصرة تحدد المنطلق والأفق وخط السير ، فالتوحيد هو المنطلق الذي يصل الإنسان بآفاق الله الذي ابتدأ الوجود بكلمته ، وعاش كل حركته وامتداده بحكمته ونعمته ، وأوحى للإنسان بالرسالة المنفتحة على الحياة كلها برحمته .. وفتح لفكره وروحه وشعوره مطالع الشروق ، في إيحاءات الحق بعلمه ومعرفته ، ورعاه في كل مواقع الحركة في داخل وعيه ، وخارج ذاته ، بلطفه وقوّته ..

وهكذا تنطلق بداية خط السير من الله لتطل على الأفق الواسع الممتد الذي يشمل الحياة كلها ، بكل قضاياها ومشاكلها ووسائلها وأهدافها ، وأفراحها وأحزانها وخطوطها المتحركة في أكثر من اتجاه ، ليكون الله هو النور الذي يشرق في كل فكرة ، وفي كل عاطفة ، وفي كل منهج ، وفي كل علاقة وخطّة ، ويكون الإنسان على نور من ربّه في كل مرحلة من مراحل الطريق.

وهكذا كان الاعتراف بالله وبوحدانيته هو الذي يحدد للإنسان وجهة السير ، ثم تكون استقامته على الخط ذاك بحيث لا ينحرف ذات اليمين وذات الشمال ، ولا يلتفت إلى أيّ شخص مهما كانت عظمته وقدرته ، ولا ينتمي إلى أيّ تيار مهما كانت إغراءاته ، على مستوى الشريعة والسياسة والاقتصاد ، والعلاقات الشخصية ، فلا شريعة له إلا شريعة الله ، ولا سياسة له إلا السياسة التي تنسجم مع العناوين التي يرضاها الله ، ولا اقتصاد إلا في حدود الحلال والحرام ، ولا علاقات شخصية بالآخرين إلا إذا كانت في طريق الله ، بحيث

١١٥

يكون ارتباطه بالناس من خلال الله ، وهكذا لا يجد الإنسان غير الله في كل أموره ..

إنه خط التوحيد ، والاستقامة في اتجاهه ، التي تختصر الرسالة في كل تفاصيلها المتعلقة بالحياة والناس ، باعتبار أن تلك التفاصيل هي المضمون العمليّ الذي يجسد التوحيد الخالص.

* * *

ملائكة الرحمن تتولى الموحّدين المستقيمين

.. إن هؤلاء الذين يعيشون الالتزام بهذا العمق ، وهذه الاستقامة (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند ما يواجهون موقف يوم القيامة (أَلَّا تَخافُوا) من أهوال الحشر ومن سوء العذاب ، (وَلا تَحْزَنُوا) من النتائج السلبية التي قد يلاقيها العباد في هذا اليوم الصعب وما قد يصيبهم من آلام ومشاكل ، لأنكم في منجى من ذلك كله ، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فها هي الجنة الموعودة أمامكم بكل نعيمها وسعادتها ولذاتها ومشتهياتها ، وبكل ما تحتويه من ألطاف الله ورضوانه الذي يشيع في الروح الطمأنينة والاستقرار.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فقد أرادنا الله أن نتولّى أمركم في الحياة الدنيا ونرعاكم ونسدّد خطواتكم في طريق الحق ، في ما وضعه في أيدينا من أسباب على ذلك ، كما أرادنا الله أن نستقبلكم في الآخرة ، بالولاية والرعاية التي تستجيب لكل حاجة أو رغبة لديكم فلن ينقص عليكم شيء مما تريدون وتحبون ، فنحن على استعداد لتلبية رغباتكم فادخلوا الجنة بسلام الروح ، واطمئنان النفس.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) ما تشتهيه من اللذات والمتع الحسية ،

١١٦

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي كل ما تطلبون وكل ما يخطر ببالكم من أشياء يتطلبها الإنسان في عقله وروحه وشعوره. (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) وهو من أعدّ لكم كل هذا النعيم ، وأنزل عليكم هذه الرحمة ، فغفر لكم ذنوبكم التي ألممتم بها في الدنيا ، ورحمكم بالجنة التي أعدها لعباده المؤمنين الصالحين في الآخرة.

* * *

الدعوة الى الله والإسلام أحسن الأقوال

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) من موقع إيمانه الذي عاش عمق العقيدة في عقله ووجدانه ، وتحرّك في حياته من موقع المسؤولية ، في خط الدعوة ، عاملا على فتح عقول الناس وقلوبهم على الله ليعرفوه ويؤمنوا به ويتحركوا في طريق طاعته ، وكان ذلك همه الأساس الذي يحول العقيدة إلى حالة في الذات ، وحركة في الرسالة ، لأن كل مؤمن رسول في حجم قدرته على أداء الرسالة والإيمان في مضمونه شأن من شؤون الدعوة إلى الله ، (وَعَمِلَ صالِحاً) باعتبار أن العمل الصالح هو التجسيد الواقعي للإيمان الذي لا يريد الله له أن يكون مجرد حالة عقلية في الفكر ، أو شعورية في الإحساس ، بل يريده أن يكون موقفا في العمل ، وحركة في الذات ، ولهذا رأينا القرآن يركز دائما على العمل الصالح إلى جانب الإيمان ، فلا يكتفي بالإيمان وحده ، كما لا يكتفي بالعمل وحده (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله في كل أموري في الحياة ، فلا أملك فكرا غير ما أوحاه الله من الفكر ، ولا أتحرك في عاطفة أو شعور إلا في الخط الذي أرادني أن أحرّك مشاعري فيه ، فلا أحب إلا من يحب ، ولا أبغض إلا من يبغض ، ولا أبني علاقاتي العملية إلا في الدائرة التي تبني للأمة القواعد التي تشد الناس بعضهم إلى بعض ، وتجمعهم في العمل والحركة من أجل بناء الحياة على أساس ثابت في مواضع رضى الله ، ولا أنتمي إلا إلى المحور الذي تنطلق في داخله رسالة الله في حركيتها الفاعلة في مواجهة

١١٧

المحاور الأخرى التي تلتزم نهجا غير نهج الإسلام ، وتتحرك في دوائر الكفر والشرك والاستكبار ، وذلك هو تجسيد العبودية المطلقة التي يعيشها الإنسان المؤمن في إسلامه المطلق لله في كل حياته.

وربما نستوحي من قوله تعالى : (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أن الله يريد للإنسان المؤمن إعلان انتمائه إلى الإسلام كلاميا ، تماما ، كما يريد له تأكيد ذاك الانتماء عمليا ، لأن للإعلان الكلامي دورا تربويا في ترسيخ الانتماء في العقل والوجدان ، وفي تأصيل الشخصية الإسلامية عند ما تعطي نفسها عنوانا واضحا ، لا لبس فيه ولا غموض ، وتمنعها من الانحراف تحت عناوين يوحي بها الكفر لإبعاد الإنسان المؤمن عن الالتزام الصريح بالإسلام باعتبار أن صراحة الانتماء قد تعزل الإنسان المسلم سياسيا ، أو اجتماعيا ، أو تعقّد علاقاته مع المجتمع الذي يعيش في داخله ، أو بعد الصراحة تلك تعبيرا عن فقدان المرونة والتصلّب مما لا يتناسب مع عقلية الانفتاح .. فالكفر يعمل على جعل موقف المؤمن الحركي حياديا في الشكل ، تماما كما لو كان بلا لون ولا صفة ولا شخصية ، مما يجعل التعبير العلني عن الانتماء ردّا لكل هذه المحاولات الهادفة إلى إبعاد الإسلام عن واجهة الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية ..

* * *

(لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) في أسلوب الحركة في ساحة الصراع الواقعي عند ما يختلف الناس في مواقع الفكر ، أو في مواقع الحياة العامة والخاصة ، فتثور المشاعر ، وتتعقد المواقف ، حتى تتحوّل إلى خطر كبير على العلاقات الإنسانية في المجتمع ، ويتجه الموقف إلى الصدام الذي يهدّد حياة الجميع ، ويقطع التواصل بين أفراده. وهو موقف يمكن مواجهته بأسلوبين ،

١١٨

أولا : أسلوب السيئة الذي يعمل على إثارة الانفعال الذي يحرك الحقد والعداوة والبغضاء ، ويدفع الموقف إلى القطعية الجزئية أو الكلية ، وهو أسلوب يعتمد الكلمة الحادّة ، والنظرة الغاضبة ، واليد المعتدية. ثانيا : أسلوب الحسنة الذي يعمل على الدراسة العقلانية لكل مفردات الصراع المتناثرة من أفكار ومواقع ومواقف ، ومحاولة اكتشاف العناصر الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوّة بينها ، أو تردمها ، وتجمع العقول والقلوب على قاعدة فكريّة وحياتية واحدة ، وهو أسلوب يعتمد الكلمة الطيبة ، والنظرة الحانية واليد المصافحة ، والالتفات على كل المشاعر السلبية بالمشاعر الإيجابية التي يختزنها الواقع .. وهما أسلوبان في إدارة الصراع ، يريد القرآن الكريم للإنسان أن يقارن دائما بينهما ، ويوجهه إلى اختيار أسلوب الحسنة وهو الأسلوب الأفضل الذي لا يثير المشاعر في حركة عدوانية ، بل يحتويها في حركة صداقة وأخوّة ..

* * *

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإن الإيمان يفرض على الإنسان أن يختار الأحسن في العلاقات ، كما يريده اختيار الأحسن في حركة الحياة ، (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهذا هو الهدف الكبير من استخدام هذا الأسلوب ، وهو تحويل الأعداء إلى أصدقاء سواء في إطار العلاقات الشخصية أو الرسالية أو العملية العامة .. ولعلّ تحقيق هذا الهدف يحتاج من الإنسان إلى كثير من الجهد النفسي والفكري والعملي للتمرّد على الضغوط الداخلية والخارجية التي تقوده إلى التفكير العدواني ، والشعور الانفعالي ، وهذا ما عبرت عنه الآية التالية : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على مشاعر الحرمان التي

١١٩

يفرضها الانفتاح على الآخرين ، ومجاهدة النفس ضد رغباتها العدائية ، وعلى بعض الأوضاع الطارئة الصعبة التي قد تحصل للإنسان من خلال ذلك ، وعلى الوقت الطويل الذي يحتاجه الفكر الهادىء المتزن للوصول إلى الحلول العملية التي تتناسب مع طبيعة المشاكل الموجودة في الساحة ، (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الإيمان والوعي والإنسانية النابضة بكل معاني الخير والإحسان.

* * *

استجر بالله من تسويلات الشيطان

وقد يكون من الطبيعي أن يعمد الشيطان إلى الدخول على هذا الخط وتحريك كل العوامل التي تمنع الإنسان من الاستقامة ، وتدفعه إلى الانحراف ، وتثير فيه حالة الإرباك الداخلي ، مما قد يغفل عنه الإنسان المؤمن عند ما يندمج في هذا الجوّ الانفعالي ، فيبتعد عن التفكير العاقل الهادىء المتزن ، إلى التفكير المجنون الهائج ، وقد يضعف ـ تبعا لذلك ـ عن اتخاذ الموقف السليم .. وهذا ما أرادت الآية التالية ، أن توجه التفكير إليه :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) والنزغ ـ كما قيل ـ هو النخس ، وهو غرز جنب الدابة ، أو مؤخرها بقضيب ونحوه لتهيج .. وعلى ضوء هذا فإن التعبير يكون كناية عن تسويل الشيطان ووسوسته الذي يدخل ـ من خلاله ـ إلى مشاعر الإنسان بطريقة تثيره ليأخذ بالأسلوب الأسوأ ويوجه الموقف إلى القطيعة بدلا من التواصل ، وإلى العداوة بدلا من الصداقة ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) الذي يعيذ عباده المؤمنين الذين يستجيرون به ، من كل ما يحذرون منه أو يخافونه (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فهو الذي يسمع سؤال عباده ، ويعلم حاجاتهم وأفعالهم.

* * *

١٢٠