تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

١
٢

٣
٤

سورة غافر

مكيَّة

وآياتها خمس وثمانون

٥
٦

في أجواء السّورة

وهذه سورة من السور المكية التي تتميز بالحركية الفكرية في ساحة الصراع بين الدعوة وخصومها من الكافرين والمشركين ، بما يثيره هؤلاء من جدال بالباطل يريدون دحض الحق به ، وما يتحدون به الرسالة من أساليب التكذيب المتنوعة ، وما يهوّلون به من الكلمات والمواقف المعاندة المستكبرة .. وتثير في أجواء ذلك مسألة الاستكبار والعلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وكيف يواجه الله ذلك كله ببأسه وعذابه في الدنيا والآخرة. وتتحرك في داخلها خطوات المؤمنين المنفتحين على الواقع في موقف الدعوة ، وساحة التحدي ، وتتحدث عن تجارب بعضهم في مواجهة الطغيان الشامل حيث يصل الاستكبار إلى ادعاء الألوهية ، ودعوة المستضعفين إلى عبادة شخص يصفه أتباعه بالإله من دون الله ، وتأتي السورة على ذكر قصة مؤمن آل فرعون الذي تمرد على قومه ، وواجههم بأسلوب قويّ فاعل يتميز بالصلابة والحكمة والتحدي ، لتقدم نموذجا لكل الرساليين في ساحة الصراع ، ليزدادوا قوّة وحكمة.

وتتنوع الآيات التي تتحدث عن بأس الله في الدنيا الذي يتجلى في مصارع الأمم السابقة ، وفي الآخرة ، ويتجلى في مشاهد يوم القيامة ، وما أعدّ الله للكافرين من عذاب ، وكيف يواجهون الموقف بكل ذلّة وخضوع وحيرة. وتثير أمام النبي مسألة الصبر في الدعوة ومتابعة الحركة لإعلان كلمة الله ، لأن

٧

النصر يحتاج إلى كثير من المعاناة في خط المواجهة ، وإلى مراحل متعددة تهيئ له شروطه. ولا بد لتحقيق النصر من إعلان الموقف الصريح بالتزام الإسلام قولا وعملا كعنوان للشخصية والحركة والموقف ، تأكيدا للتمايز عن الكافرين الذي لا يقبل بأيّة تسوية معهم في ما يريدونه له من الاندماج معهم ، ولو في بعض الخطوط والأفكار.

* * *

سبب التسمية

وقد اختلف المفسرون في تسميتها ، فجاء ذكرها باسم «غافر» من خلال قوله تعالى في بدايتها : (غافِرِ الذَّنْبِ) التي يتحرك مضمونها في ثنايا آيات السورة من الإيحاء بالغفران للتائبين والمنيبين إليه ، والمسلمين إليه أمرهم ، وجاء ذكرها باسم «المؤمن» إشارة إلى قصة مؤمن آل فرعون الذي يمثل النموذج الفريد الذي وقف وحده ضد المستكبرين من قومه ، متمردا على كل المشاعر العاطفية والامتيازات العائلية من موقع الرسالة التي تتحدى وتواجه التحدي بالحكمة والقوّة.

وليس في الاختلاف حول التسمية أيّة مشكلة ، لأن الأسماء ليست داخلة في مسألة الوحي.

* * *

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(ذِي الطَّوْلِ) : الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه.

(لِيُدْحِضُوا) : ليبطلوا.

(حَقَّتْ) : وجبت.

* * *

٩

(اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

(حم) من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فهو ليس تأليف بشر ، كما يدّعي المشركون عند ما ينسبون القرآن إلى رسول الله ، بل هو تنزيل الله الذي اتصف بالعزّة في ما توحي كلمة العزة من قوّة تدحض وسائل التهويل والتنكيل والعناد والجحود التي يستعملونها لإضعاف موقف النبيّ والمسلمين معه ، ليتراجعوا عن الرسالة ويتخذوا موقع المغلوبين أمام الغالبين .. ففي كلمة العزة إيحاء بأن الله أنزل هذا الكتاب من موقع عزته التي لا تغلب ، كما أنزله من موقع علمه الذي أحاط بكل شيء من مصالح العباد ، وما يبني حياتهم على أساس الخير والقوّة والرشاد ، فكانت آيات الكتاب قاعدة للحق الذي يريدهم أن يتبعوه وينهجوا نهجه ، ليأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ، كي يصلوا إلى الشاطئ الأمين في الدنيا والآخرة.

* * *

صورة الله في وعي المؤمن

(غافِرِ الذَّنْبِ) الذي يطلّ على حركة عباده في مواقع أمره ونهيه من خلال مغفرته التي تطّلع على نفوسهم ، فإذا وجدت فيها شيئا من الخير التقت به في تطلعاته المبتهلة إلى الله بالتوبة ، وتطّلع على ظروفهم ، فإذا وجدت فيها بعض العذر في ما يضغط على أفكارهم وعواطفهم وحياتهم مما يقودها إلى الانحراف من دون عمد ، قدّرت لهم المغفرة ليتحركوا من خلالها ـ من جديد ـ في خط الاستقامة.

(وَقابِلِ التَّوْبِ) الذي يقبل التوبة عن عباده ويحب التوابين الذين تدل توبتهم على صدق إخلاصهم ، وعمق إيمانهم ، وطهارة مشاعرهم ، ووعيهم

١٠

للجانب الإنساني الذي يجعلهم خاضعين لنقاط ضعف سببها طبائعهم وغرائزهم وتأثّرهم بالواقع الخارجي المحيط بهم ، مما قد يسقط الإنسان أمامه دون شعور ، فإذا تنبَّهوا لذلك ووعوا خطورة الموقف ، في ما يمثله من عصيان لله ، الذي يقود العاصين إلى نار الله في الآخرة ، تراجعوا عن المعصية ، وأنابوا إلى الله في توبة صادقة تؤكد موقع نقاط القوّة التي تتحدى نقاط الضعف ، فتخضعها للإيمان وللإسلام.

(شَدِيدِ الْعِقابِ) للمتمردين الطاغين الذين عاندوا الحق واستكبروا على حامليه ، ووقفوا ضد حركته ، وحاربوا رسالته ورسله (ذِي الطَّوْلِ) أي الإنعام الذي يفيض به على عباده بما يرعى به حياتهم ، ويدبّر شؤونهم ، لينعموا بذلك ، ويرجعوا إليه ، في تنظيم قضايا معاشهم ومعادهم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو وحده ، الذي اتصف بالألوهية لأنه وحده الذي أوجد الخلق كلهم وأشرف على كل أمورهم بحكمته وقوّته وتدبيره ، فلا إله غيره ، لأن كلّ من عداه مخلوق له محتاج إليه في كل شؤونه الخاصة والعامة ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الذي يرجع إليه الخلق كلهم ليواجهوا نتائج المسؤولية في موقف الحساب أمامه ، ليجزي الذين أساءوا بعقابه والذين أحسنوا بثوابه ..

وتلك هي الصورة البسيطة الواضحة التي يقدّمها الله لعباده ، ليتصوروه بها ، ليعرفوا موقعهم منه وموقعه منهم ، ليعيشوا مع الله في وعي كامل لصفاته المتعلقة بعباده ، المتصلة بالكون الذي يتحركون فيه ، فلا تكون صفة الله غامضة في شعورهم فيتصوروه من موقع الغموض الذي يحيط بالسرّ الكامن في ذاته الذي لا يطّلع أحد على شيء منه ، بل تكون واضحة ليتطلعوا إليه من الموقع الذي يتحسسون فيه رحمته إلى جانب غضبه ، ويدركون فيه عزته وقوّته وعلمه المحيط بكل شيء ، إلى جانب مغفرته وقبوله التوبة ، ويتعرفون فيه على شدة عقابه إلى جانب امتداد إنعامه ، ويعيشون الشعور العميق الممتد في الكون كله ، بوحدانيته وبطلان كل ما عداه ، ويفكرون ـ دائما ـ برجوعهم إليه ،

١١

ووقوفهم بين يديه في نهاية المطاف ، فمنه البداية ، وخط السير ، وإليه النهاية ..

وبهذا يكون وضوح تصورهم لله الذي يعبدونه ، أساسا لعلاقة حميمة تربطهم به وتشدهم إليه وتجعلهم يعيشون معه في جوهر الفكر وروحية العبادة وامتداد الحياة.

* * *

جدال الكافرين

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في ما يثيرونه من كلمات لا تحمل أيّ مضمون عقلانيّ حول ما تحمله آيات الله ، وحول ما يمثله رسول الله من موقع ، وحول الدعوة التي يحملها لهداية الإنسانية إلى سواء السبيل ، فليس لدى هؤلاء دعوة بديلة في مستوى عمق دعوة الإسلام وشمولها ، ليقوم جدالهم على أساس إسقاط فكرة ، وإقامة أخرى. وليس عندهم مفاهيم ذات مضمون فكريّ ضد مفاهيم الدعوة الإسلامية وشرائعها ، ليكون الجدال منطلقا في اتّجاه إبطال مضمونها في وعي الناس ، بل كل ما يفعلونه إثارة الدخان حول الرسول والرسالة ، بطريقة انفعالية تخاطب الغرائز والمشاعر ، ولا تخاطب العقول ، فيكون جدالهم لمجرّد الجدال .. أمّا المؤمنون ، فهم لا يدخلون الجدال إلا عند ما تكون لديهم علامات استفهام يريدون معرفة الجواب عنها ، أو تكون عندهم قناعات فكرية يعملون على تأكيدها في الذهن والواقع ، في مقابل القناعات الفكرية المضادّة .. وإذا ما دخلوا في الجدال ، فإنهم يمارسونه بطريقة عقلانية مسئولة ، لأنهم لا يستهدفون إسقاط مواقف الآخرين وإسكاتهم فحسب ، بل يستهدفون إلى جانب ذلك ، ربح مواقف الآخرين لحساب الحق من خلال اقتناعهم بالحق. وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكافرين في مسألة

١٢

الجدال ، فالمؤمنون ينطلقون فيه من موقع البحث عن الحق ، بينما ينطلق الكافرون فيه من موقع الاستكبار واستعراض القوة التي يفرضونها على الموقف ..

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) الذي يحاولون فيه البروز بمظهر قوي لإثارة الرهبة والخوف في نفوس الناس من خلال مواقع السلطة التي يملكونها ، أو الوسائل العنيفة التي يحركونها ، أو غير ذلك. فلا تعتبر تقلبهم في البلاد مظهر ضغط قويّ شامل ، لأنه سينتهي إلى زوال إن عاجلا أو آجلا ، بل انظر إلى ما يختزن في داخله من نقاط الضعف ، لا إلى ما يبرز في ظاهره من نقاط القوة .. فليسوا أوّل الناس الذين يتحركون بهذه الطريقة ، فقد جاءت أمم قبلهم ، كانت على شاكلتهم في الاستكبار والعناد والتكذيب ، ولكنها تبخّرت مع الزمن ، وسقطت أمام بأس الله.

* * *

جدالهم بالباطل لإسقاط الحقّ

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم عاد وثمود ولوط وغيرهم ، كما كذب هؤلاء (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) فواجهوه بالعناد والتكذيب ، وضغطوا عليه بكل الوسائل ، وعذبوه بما استطاعوا أن يعذبوه به ، ليسقطوا موقفه ، وليضعفوا موقعه ، وليفرّقوا الناس عنه ، (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) فاستغلوا كل العوامل النفسية القلقة التي تعيش في وجدان الناس من حولهم ، وتتحرك في مشاعرهم ، لجهة ما يعيشونه من تقديس لعقائد الآباء والأجداد ، وما يرتبطون به من قضايا الحسّ ، وما كانوا يقترحونه من معجزات على الأنبياء الذين لا يملكون الإتيان بها إلا بإذن الله ، فحكمة الله لا تقتضي الاستجابة لكل مقترحات الناس التعجيزية ، لأن النبي لم

١٣

يأت ليستعرض قدرته الكونية بل جاء ليقدّم رسالته للناس .. وهكذا كان جدالهم بالباطل ، ليسقطوا الحق ، لا ليصلوا إليه ، ظنّا منهم بأن المرحلة التي يملكون فيها القوّة ستستمر إلى ما لا نهاية ، وأن الموقف لهم في كل المراحل ، ولكن ظنهم ذاك لا صلة له بالواقع .. لأن الله ، لهم بالمرصاد ، في ما يهيِّئه للمؤمنين من أسباب النصر ، وفي ما ينزله بهم من عقاب ، (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الذي أهلكهم ودمّرهم وتركهم حديثا لمن بعدهم.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كما عاقب الله هؤلاء المكذبين ، فقد ثبتت كلمة الله التي تمثل حكمه الحاسم ، على الكافرين من الماضين والحاضرين والمستقبلين (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) لأن ذلك هو جزاء الكفر بالله الذي لا يخضع لأي منطق ولأيّ فكر.

* * *

١٤

الآيات

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

* * *

معاني المفردات

(وَقِهِمْ) : وادفع عنهم.

* * *

مهمة الملائكة ودورهم

ما هي مهمة الملائكة ، وما هي علاقتهم بالناس الذين يعيشون على

١٥

الأرض ، وكيف ينظرون إلى المؤمنين؟

إن هذه الآيات تجيب عن ذلك ، وتقول : إن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله ، لا يكتفون بالتسبيح بحمد الله ، وبالإيمان به ، بل يستغفرون للمؤمنين الذين يشاركونهم روحية الإيمان بالله ، ممن عاشوا الإيمان واندمجوا فيه وتابوا بعد أن أخطئوا ، في كلمات خاشعة مبتهلة منفتحة على رحمة الله لكل المؤمنين التائبين.

وهو أمر يوحي إلينا باللقاء الروحي الذي يتحول فيه الملائكة إلى كائنات عاطفية تبتهل إلى الله من أجل الإنسان التائب المؤمن ، وهو ما يجعلنا نتطلع إلى السماء ومخلوقاتها الملائكية لنشعر بإطلالة السماء في ملائكتها على الأرض في إنسانها .. في انطلاقة الإيمان.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) هؤلاء الذين يمثلون النموذج الأعلى من الملائكة في حملهم للعرش ، وهو الموقع الأعلى في السماوات ، لما توحي به كلمة العرش في معناها الكنائي في السلطة العليا في الكون التي هي المظهر الحيّ لسلطان الله .. ولكن ما هي حقيقة العرش؟ وكيف هو حمل الملائكة له؟ وما هي مهمتهم في ذلك ، ومن هم هؤلاء الذين حوله؟ كلها علامات استفهام تطل على عالم الغيب بحيرة ، قد تبقى ممتدة مع تطلّعات المعرفة من دون أن تحصل على جواب ، لأن الله لم يعرّفنا تفصيل ذلك ، فلنترك علم ذلك إليه ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) في ما يعبر عن الشعور بالعظمة بالحمد الذي يختزن في داخله معنى العظمة ومضمونها من خلال الصفات التي توحي بالحمد كله ، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) في وعيهم الخاشع لكل مواقع العظمة في ربوبيته ، وفي انفتاحهم على الكون كله الذي يمثل سرّ الإبداع في حكمته وقدرته ..

* * *

١٦

ملائكة السماء المستغفرون لأهل الأرض

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وأخلصوا لله الإيمان ، وطاف بهم الشيطان في بعض مواقع لهوه وعبثه وغروره ، ثم عادوا إلى الله في روحية الإيمان لتتلقاهم الملائكة في ابتهالات الدعاء الذي يؤكد استغفارهم باستغفار ملائكي حميم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) فأنت الرحيم بعبادك ، العالم بكل الظروف الداخلية والخارجية التي فرضت عليهم الانحراف وأوقعتهم في المعصية ، وأبعدتهم عنك (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) واستغفروا في ندم عميق على ما أسرفوا به على أنفسهم ، وخالفوا به ربهم ، فرجعوا إليك (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) وساروا على هداك ، والتزموا شريعة رسلك ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) لأن انحرافهم لم يكن عميقا ، أو ممتدا في كل حياتهم ؛ بل كان طارئا ، خاضعا لنزوة طارئة ، أو شهوة عابرة ..

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إذا تابوا وآمنوا وأصلحوا أعمالهم واستقاموا في الخطّ الصحيح (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ليعيش المؤمنون في الآخرة حياتهم العائلية التي عاشوها في الدنيا ، عند ما كانوا يمثلون مجتمع الإيمان والصلاح في علاقات القربى التي عاشت مع الإيمان (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا تمثل مغفرته للعاصين انتقاصا من عزته وحكمته ، لأن الرحمة تمثل مواقع القوّة لا مواقع الضعف ، ومعنى الحكمة لا مضمون العبث.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) فلا تؤاخذهم بها بعد أن ابتعدوا عن كل معانيها وعن كل إيحاءاتها بالتوبة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) لأن معنى ذلك هو دخولهم الجنة ، ونيل رضاك (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه الغاية العظمى التي يتطلع إليها المؤمنون ، في طموحاتهم الأخرويّة. واحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد بالسيئات هي الأهوال والشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم ، وهو غير ظاهر ..

* * *

١٧

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(لَمَقْتُ) : المقت : أشد العداوة والبغض.

* * *

مقت الله أكبر من مقت الكافرين أنفسهم

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) يوم القيامة ، عند ما يقفون في موقف الحساب الذي تتحرك نتائجه في اتجاه إدانتهم بالكفر ، واستحقاقهم للخلود في النار ، فيعيشون الأزمة النفسية الصعبة التي يتفجرون فيها غيظا وغضبا ومقتا لأنفسهم على ما كانت تواجه به الرسالات من جحود وكفران ، وما تحركت به من معاص أسقطتهم في سخط الله ، وعرضتهم لنقمته ، وينطلق النداء :

١٨

(لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) لأن السخط الإلهي يعني الطرد من رحمة الله ، والسقوط في عذابه يمثّل سقوطا يحيط بالإنسان من الداخل والخارج ، فيحرق المشاعر التي تلتهب حزنا وألما ، ويأكل كل أحلام الإنسان وتطلعاته ، ويسحق عزته وكبرياءه ، ويحطّم إنسانيته التي يحترم بها نفسه. إنها الهول الذي يطبق على كل كيانه بكل قوّة ، وأيّ هول أعظم من مقت رب السماوات والأرض الذي خلق الإنسان ورزقه ، ما يجعل مقت الإنسان نفسه حيث يعيش فيه التمزق الداخلي ، شيئا بسيطا في حساب الأحاسيس والأفكار ، أمام مقت الله العظيم القادر القاهر ، في ما كان يعيشه الإنسان من تاريخه ، ويتحرك فيه الناس في حياتهم ، (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) وتطيعون أنفسكم الأمارة بالسوء من دون حساب للحقيقة ، ومن دون نظر لمقام الله ، ولكل العواقب السيّئة المترتبة على ذلك.

* * *

١٩

الآيات

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧)

* * *

معاني المفردات

(يُنِيبُ) : يرجع.

* * *

٢٠