روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

٨١

(المر) أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا الله أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز ، والإشارة إلى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك ، والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، واستفيد هذا على ما قيل من اللام ، وذلك أن الإضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب ، والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعا من أنواعه. وحيث إنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك.

وجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن ، و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة ، والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، والظاهر أن المراد جميعه. وجوز أن يراد به المنزل حينئذ ، ورجح إرادة القرآن بأنه المتبادر من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث ، وأيّا ما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لا يخفى ، وقيل : الإشارة ـ بتلك ـ إلى ما قص سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام من أنباء الرسل عليهم‌السلام المشار إليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) [يوسف : ١٠٢] وجوز على هذا أن يراد بالكتاب ما يشمل التوراة والإنجيل ، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة.

وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى ـ المر ـ مرادا بها حروف المعجم أيضا وجعل ذلك مبتدأ أولا و (تِلْكَ) مبتدأ ثانيا و (آياتُ) خبره والجملة خبر الأول والرابط اشارة ، وأما قوله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة (أُنْزِلَ) من الفعل ومرفوعه صلته و (مِنْ رَبِّكَ) متعلق ـ بأنزل ـ و (الْحَقُ) خبر ، والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله ؛ والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال ، وفي أسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها : أي بنيك أفضل؟ ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل والله إنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، وذلك كما أنها نفت التفاضل آخرا بإثبات الكمال لكل واحد دلالة على أن كمال كل لا يحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض ، كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصا الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لا يختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة ، وهو على ما قيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف ، وقيل : إنه لتقرير ما قبله والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل المنزل عليه حقا فذلك المنزل أيضا حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق ، ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ما قبله ، ولعل الأول أولى ومع ذا لا يخلو عن خفاء أيضا ، ولو قيل : المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع إلى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفا للمشار إليه بالإعجاز من جهة ذلك ، ويكون هذا وصفا له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لا يكون فيه ذلك بكونه حقا مطابقا للواقع إذ لا تستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع إلى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر.

٨٢

وجوز الحوفي كون (مِنْ رَبِّكَ) هو الخبر و (الْحَقُ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أو كلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض ، وهو إعراب متكلف ، وجوز أيضا كون الموصول في محل خفض عطفا على (الْكِتابِ) و (الْحَقُ) حينئذ خبر مبتدأ محذوف لا غير.

قيل : والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله :

هو الملك القرم وابن الهمام

البيت ، وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر ، ولكل وجهة ، وإذا أريد بالكتاب ما روي عن مجاهد ، وقتادة فأمر العطف ظاهر ، وجوز أبو البقاء كون (الَّذِي) نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في : أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين ، وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة ، ولم نر من ذكره في المفرد.

وأجاز الحوفي أيضا كون الموصول معطوفا على (آياتُ) وجعل (الْحَقُ) نعتا له وهو كما ترى. ثم المقصود على تقدير أن يكون (الْحَقُ) خبر مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه ، وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناء على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا : الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله تعالى وإلا لكان من يحكم به كافرا لقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] وكل ما ليس منزلا من عند الله تعالى ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله الله تعالى ، والمثبتون لذلك أبطلوا ما ذكروه في المقدمة الأولى بأن المراد بعدم الحكم الإنكار وعدم التصديق أو المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل الله تعالى ، ولا شك أنه من شأن للكفرة أو المراد بما أنزله هناك التوراة بقرينة ما قبله ، ونحن غير متعبدين بها فيختص باليهود ويكون المراد الحكم بكفرهم إذ لم يحكموا بكتابهم ، ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف ، وما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من الله تعالى ما يشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحا (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] وهو دال على ما حقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر.

ويحتمل أيضا على ما قيل أن يكون المراد هو الحق لا غيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناء على تحريفها ونسخها ، وقد يقال : إن دليلهم منقوض بالسنة والإجماع ، والجواب الجواب ، ولا يخفى ما في التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة ما لم يسم فاعله ، والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) قيل هم كفار مكة ، وقيل : اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقا (لا يُؤْمِنُونَ) بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الإسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الاخبار (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي دعائم ، وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كاهاب وأهب يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند ، وقيل : المفرد عمود ، وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم ، وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام ،

٨٣

وقيل : إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا.

وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب «عمد» بضمتين ، وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة ، والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد ، والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد (تَرَوْنَها) استئناف لا محل له من الإعراب جيء به للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل : ما الدليل على ذلك؟ فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني.

ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى ، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين ، وأيّا ما كان فالضمير المنصوب للسماوات.

وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي «ترونه» لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر ، وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال : ولا ترى الضب بها ينجحر. لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف ، ويحتمل توجه إلى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره ، والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض ، فيكون العمد على هذا استعارة. وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة ، وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك ، وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس ، فالحق أن العمد قدرة الله تعالى ، وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

ورجح في الكشف استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف ، والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق ، ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في (تَرَوْنَها) إذا كان راجعا إلى السموات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء. وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة ، والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا ، وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي ، وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة. وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك. وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان. فإن قيل : فيهما حجب عن الابصار الكامل قلنا : وكيف عرفتم أنكم أدركتكم هذه الكواكب إدراكا تاما انتهى ، على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك

٨٤

الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا : لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون إثباته كرة النار وما يقال : إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد ، وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين ، وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر ، ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعا ، وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته ، وعليه الأثريون كما قال القسطلاني ، ويؤيده ظاهر ما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء» ، وفي رواية «الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر ، ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا ، وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها.

وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له ، وبرهن عليه بما يرده ـ كما قال العلامة ابن حجر ـ ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جيلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل ، وخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء ، وعن مجاهد مثله. ونقل صاحب حل الرموز ان له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة ، وفي القلب من صحة ذلك ما فيه ، بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة ، والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن ، وفي الزرقة الاحتمالان. بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه ، ويؤول هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد ، وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعا بغير ذلك. وفي الكشف ما يشير إليه ؛ وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر ، ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن (تَرَوْنَها) خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد (ثُمَّ اسْتَوى) سبحانه استواء يليق بذاته (عَلَى الْعَرْشِ) وهو المحدد بلسان الفلاسفة ، وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول ، وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة تمثيلية للحفظ والتدبير ، وبعضهم فسر استوى باستولى ، ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قد قمنا الكلام فيه ، وأيّا ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] لأن إيجاده قبل إيجاد السموات ، ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل (ثُمَ) على التراخي في الرتبة ، نعم قال بعضهم : إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضا وبينهما تراخ

٨٥

في الرتبة (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) يسير في المنازل والدرجات (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت معين ، فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جرى كل منهما كما في قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : ٣٨](وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩] وهو المروي عن ابن عباس ، وقيل : أي كل يجري لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ١ ، ٢] وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا ، قيل : والتفسير الحق ما روي عن الحبر ، وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير. ثم إن غايتهما متحدة والتعبير ـ بكل يجري ـ صريح في التعدد وما للغاية إلى دون اللام ، ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعا ، وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم ، واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغني وغيره. وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم ، وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر ، وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمر العالم العلوي والسفلي ، والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ينزلها ويبينها مفصلة ، والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل ، أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها ، وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد.

والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير (اسْتَوى) وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له ، وجوز أن يكون (يُدَبِّرُ) حالا من فاعل (سَخَّرَ) و (يُفَصِّلُ) حالا من فاعل (يُدَبِّرُ) ، و (اللهُ الَّذِي) إلخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر ، وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة (يُدَبِّرُ) خبره وجملة (يُفَصِّلُ) خبرا بعد خبر ، ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا ، ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر ، ثم قال : وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل : كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه ، وفي الإتيان بالمبتدإ والخبر معرفتين ما يفيد تحقيق إن هذه الأفعال دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول ، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ) إلخ ، على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السموات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر ، وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الأوائل بقوله سبحانه : (يُدَبِّرُ يُفَصِّلُ) للإيقان والثواني بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي من فضل السوابق لإفادتها اليقين واللواحق ذرائع إلى حصوله لأن الفكر آلته والإشارة إلى تقديم الثواني بالنسبة إلينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر اه وهو من الحسن بمكان فيما أرى ، ولا تنافي كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية

٨٦

تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء ، وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك ، وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال : وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة.

فإن قيل : لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال : إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل. وقرأ النخعي وأبو رزين. وأبان بن تغلب عن قتادة «ندبر». «نفصل» بالنون فيهما ؛ وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في «نفصل» بالنون الخفاف. وعبد الوهاب عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص ، وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن. والأعمش «نفصل» بالنون ، وقال المهدوي : لم يختلف في (يُدَبِّرُ) وليس كما قال لما سمعت ، ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي بسطها طولا وعرضا ، قال الأصم : البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه ، ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها ، وقيل : كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت ، وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها : اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد ، ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام. واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية ، والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان. فواحدة تقول : إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء. وأخرى تقول بعكس ذلك ، وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة ، وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية ، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك ، وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين. وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر ، فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع.

واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء؟ فإن قالوا : إذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة. قلنا : فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر ، لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة ، والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كري حسا ، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك ، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى. نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة ؛ وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كرية. وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل. وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون

٨٧

فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات ، والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم ، ومال ابن سينا إلى أنها ملونة ، واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيئا فيه اشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الاشفاف بالكلية. واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال : إن لونها هو الغبرة ، ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة ، وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد ، ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم ابيضت مرة أخرى. والذي صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك ، نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبرا صحيحا في ذلك ، وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم ، (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] لا يثبته كما ستعلم إن شاء الله تعالى ، والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا ، ومثل ذلك فيما أرى ما روي عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إن الله تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا انس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلاثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان ، وكذا ما أخرجه ابن حاتم عن عبد الله بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران ، والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا. فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسعا فرسخ في ثلاثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض ، والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا إلا تسع فرسخ في المحيط المذكور ، وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين.

وزعموا أن الموضع الطبيعي للأرض هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء إلى الجوانب العميقة منها. وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها. وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال ، وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة ، وأما ما عدا ذلك فقال الإمام : لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر كان مثله ، والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها ، وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد : وإنما حكموا بأن

٨٨

المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في أرصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزءا من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون. ونحن نقول بوجود الخراب وانه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير ، لكنا نقول : ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال : إنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك ، وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكر كجمل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا ، والجمع هنا في صفة ما لا يعقل ، قيل : فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفردة كما قيل ، على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل اه.

وتعقب بأنه لعل من قال : إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكر وأنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة. وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في ـ علامة ـ يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد.

وقال أبو حيان : إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت ، وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور ، وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل ، وكذا لا حاجة إلى ما قيل : إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشئ من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية ، هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها ، وفي الخبر «لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة: ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال؟ قال : نعم الحديد ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد؟ قال : نعم النار ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من النار؟ قال : نعم الماء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء؟ قال : نعم الهواء ، فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء؟ قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله» وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس ، ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا (١) وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن

__________________

(١) في الإقليم الأول عشرون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث ثلاثة وثلاثون وفي الرابع خمسة وخمسون وفي الخامس ثلاثون وفي السادس أحد عشر وفي السابع مثله اه منه.

٨٩

تقف في الوسط كما يحكى عن صنم حديدي في بيت مغناطيسي الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب. ورد بأن الأصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز ، وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود ، ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به ، وأيضا ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها ، وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق ، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر ، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك ، وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه ، ويرد دليل تناهي الأجسام ، ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء أما مع كون محدبها فوق ومسطحها أسفل وأما مع العكس ، ورد بأن مجرد الطفو لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد ما فيه ، وذهب محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل ، قال في المباحث المشرقية : والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن يقال : جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فإما أن تحصل في حيز معين أو لا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الاحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لا لسبب منفصل ، وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا ، ثم ذكر في تكون الجبال مباحث : الأول الحجر الكبير إنما يتكون لأن حرا عظيما يصادق طينا لزجا إما دفعة أو على سبيل التدريج.

وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض ، أما الأول فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلّا من التلال ، وأما الثاني فإن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقي الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا ، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف (١) وتكونت الجبال ، ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا انهد ما دونه بقي أرفع وأعلى ، إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها. والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد ، وأن يكون من جهة أن

__________________

(١) وذكر حضرة مولانا علي رضا باشا خلد الله تعالى ملكه خلود الجبال أن من جملة أسباب التكون أن بعض المياه تخرج من بعض العيون فتنقلب حجرا وهكذا لا تزال تخرج وتنقلب حجرا إلى أن يصير ذلك جبلا عظيما ويتفق له عارض فينقطع وذكر أنه شاهد ذلك اه منه.

٩٠

القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوى تحجره ومنه ما يضعف ؛ وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا. والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انتثر عما بين الساقين. هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا للمئونة. نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظنا ضعيفا. وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضا فإنا كثيرا ما نرى ذلك في مواضع المطر. وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت مع المطر ، على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشف ، وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضا. واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيض الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فإذا انتقل الحضيض إلى جانب الشمال انعكس الأمر. ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد.

ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضي إض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحرا والبحر لا يزال يكون برا بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا نظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر ، فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير. نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم إن ينكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل ، فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية. نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة ، وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الأرض ما شاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي ، وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى

٩١

السماء والأرض وكانت الأرض غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا ، وفيه أيضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث ، وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس ، وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وانها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق ، ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك ، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير ، لا يقال : إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم ، وهذا السؤال نظير أن يقال : إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة ، وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم ، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم‌السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال إلخ.

ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء ، فإن بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه ، ثم إنا نقول : ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى.

وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا : إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الانبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل ، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة ، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه : أحدها أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة ، وثانيها : أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهر الأرضين ، وثالثها : إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل ، وأما

٩٢

المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال ، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض (١) العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها ، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام «لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت» على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا للمصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك.

وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات ، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا : إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة ، ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك ، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض. وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك ، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها ، على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفكلية ، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة وهم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء ، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر ، وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة ، وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفي ما فيه ، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت» على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث إن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه ، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت

__________________

(١) هو الرشتي سيد كاظم ا ه منه.

٩٣

في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى. ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي ذكره البغوي في سورة «ن» ولم ينكر صحة الخبر في أن أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت إلا أنه قال : المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما رواه سلطان المحدثين البخاري «أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفا» بتنكير لفظ حوت ، ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وإن ادامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا ، وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر ، وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر «كلكم حارث وكلكم همام» وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء ، وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر ، ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفراء ، ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الأملح في ذلك اليوم ، وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد : إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره ، وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون. وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطى لأهل النار يأكلونه ، وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت ، وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضا وسقما.

ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل تارة ما تحت الأرض؟ فقال : الحوت وسئل أخرى فقال : الثور ، وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين الذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض. وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء ، والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الإخبار ؛ والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه الا ثور أو حمار. وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادئ الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهي كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم ، والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن ، وحينئذ فيمكن القول بترتيب آخر. نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى (١) وذكر بعض

__________________

(١) ومن رام الجمع بين الشريعة والفلسفة فقد رام الجمع بين الضدين كما لا يخفى اه منه.

٩٤

الفضلاء أنه لم يجىء في ترتيب الأجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام ، وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها ، فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي (وَأَنْهاراً) جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض ؛ وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال سبب لتكونها على ما قيل. وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت ، وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما تخرج الأنهار منها ، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة ، وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها ، والأكثرون أن النزول من السحاب ، والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة ، وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر.

والأنهار التي جعلها الله تعالى في الأرض كثيرة ، وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا (٢) وقيل : هي أكثر من ذلك ، وجاء في أربعة منها أنها من الجنة ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل كل من أنهار الجنة» والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنه ، وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام ، وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند ، ومقدار جريه أربعمائة فرسخ ، وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك ، وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي : إن فيه إنكارا من أوجه. أحدها قوله : الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة. الثاني قوله : سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. والثالث قوله : ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام انتهى.

وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري ، ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن ، وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان : الأول أن المراد تشبيه مياهها بمياه الجنة والإخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام. والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء. ولورد إلى اعتبار التشبيه أي إنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه ، وقال النووي : الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة.

__________________

(٢) في الإقليم الأول ثلاثون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث اثنان وعشرون وفي الرابع كذلك وفي الخامس خمسة عشر وفي السادس أربعون وفي السابع كذلك والله تعالى أعلم اه منه.

٩٥

ويأبى التأويل الأول ما في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت : يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال : أما النهر إن الباطنان فنهران في الجنة (١) وأما الظاهران فالفرات والنيل ، وضمير أصلها لسدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره.

والقاضي عياض قال هنا : إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهي في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبه النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها ، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه ، قيل : ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز ، والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها ، وكأني أرى بعض الناس لا يلتزمون ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار ، وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر آفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده.

وللاخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر.

وجاء في بعض الأخبار مرفوعا «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون» وحمل ذلك على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر ، ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروي في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه ، والله تعالى أعلم (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) متعلق ـ بجعل ـ في قوله تعالى : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك.

وقيل : المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت ، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا ، وجوز أن يتعلق الجار ـ بجعل ـ الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل.

وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر ، وقيل : الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ، ففيه اسناد ما لمكان الشيء إليه ، وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه ،

__________________

(١) هما السلسبيل والكوثر ا ه منه.

٩٦

وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) [الزمر : ٥] بجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس ، قيل : والأول أوجه وأبلغ ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار ، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض.

وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر «يغشّي» بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيما وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار ، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه (لَآياتٍ) باهرة قيل : هي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها ـ ففي ـ على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها ، وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك لإنسان دون الحيوان ، ولا يقال : إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب ، ولهذا روي تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة.

وقال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها ، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول ، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية.

وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ) جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجر لا للزرع إلى غير ذلك (مُتَجاوِراتٌ) أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين ، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض ، وأخرج عن الحسن أنه فسر ذلك بالأهواز. وفارس. والكوفة. والبصرة ، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات ، وفي بعض المصاحف «وقطعا متجاورات» بالنصب أي وجعل في الأرض قطعا (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين كثيرة (١)(مِنْ أَعْنابٍ) أي من أشجار الكرم (وَزَرْعٌ) من كل نوع من أنواع الحبوب ، لمراعاة أصله حيث كان مصدرا ، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى ، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى إن منها شفافا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفى ، ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب. وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها ، وتأخير قوله تعالى : (وَنَخِيلٌ) لئلا يقع بينها

__________________

(١) التقييد بذلك من المقام ا ه منه.

٩٧

وبين صفتها وهي قوله تعالى : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين ، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ، ومنه قيل : للعم صنو ، وكسر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور ، ولغة تميم وقيس (صِنْوانٌ) بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والسلمي. وابن مصرف ، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص.

وقرأ الحسن ، وقتادة بالفتح ، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته ، وقرأ الحسن «جنات» بالنصب عطفا عند بعض على «زوجين» مفعول «جعل» و «من كل الثمرات» حينئذ حال مقدمة لا صلة «جعل» لفساد المعنى عليه أن جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب ، ولا يجب هنا تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه.

وزعم بعضهم أن العطف على (رَواسِيَ) وقال أبو حيان : الأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفا على (كُلِّ الثَّمَراتِ) على أن يكون هو مفعولا بزيادة (مِنْ) في الإثبات و (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) حالا منه ، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين ، فلعل عدم نظم قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها ـ على ما قيل ـ الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع. وقرأ جمع من السبعة (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) بالجر على أن العطف على (أَعْنابٍ) وهو كما في الكشف من باب ـ متقلدا سيفا ورمحا ـ أو المراد أن في الجنات فرجا مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرا وأنزه. وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزا لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب (يُسْقى) أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ ؛ وهي قراءة الحسن. وأبي جعفر ، قيل : والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي (بِماءٍ واحِدٍ) لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء الأمطار أو من ماء الأنهار ، وقيل : إن الثاني أوفق بقوله سبحانه : (وَنُفَضِّلُ) أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا (بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) آخر منها (فِي الْأُكُلِ) لمكان التأنيث ، وأمال فتحة القاف حمزة والكسائي والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل ، وهو هنا الثمر والحب ، وقول بعضهم : أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما من باب التغليب ، وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء على بناء الفاعل ردا على (يُدَبِّرُ) و (يُفَصِّلُ) و (يُغْشِي) وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف. وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع «بعضها» وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فصل من أحوال القطع وغيرها (لَآياتٍ) كثيرة عظيمة باهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يعلمون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لها لا يعجزه شيء ، وقيل : المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى. ثم إن الأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية ـ ففي ـ تجريدية مثلها في قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت: ٢٨] على المشهور. وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية ، والآيات إفرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ـ ففي ـ على معناها ؛ ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى ، وحيث كانت دلالة

٩٨

هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره ، ولذلك ـ على ما قيل ـ لم يتعرض جل شأنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضا ، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين ، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية :

والأرض فيها عبرة للمعتبر

تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها

وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف

وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع

أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئا واحدا

هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند

والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا

إلا حكيم لم يرده باطلا

وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحا قيل إنما استسبخت هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه‌السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو ، ثم قال : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] ا ه قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية (وَإِنْ تَعْجَبْ) أي إن يقع منك عجب يا محمد (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) إلى آخره فإنه الذي ينبغي أن يتعجب منه ، ورفع عجب على أنه خبر مقدم و (قَوْلُهُمْ) مبتدأ مؤخر ، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرا عجيبا ، وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة ـ لعجب ـ لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر الله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب ، وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة ، وذلك كما قال سيبويه في ـ كم مالك ـ ان كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل ، ونقل أبو البقاء القول بأن عجب بمعنى معجب ثم قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع (قَوْلُهُمْ) به. وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ما له أو غرفة ماؤه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول ، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها.

والظاهر أن (أَإِذا كُنَّا) إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكي به ، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار ، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من (قَوْلُهُمْ) على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان : إعراب متكلف وعدول عن الظاهر ، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك ، والعامل في

٩٩

(إِذا) ما دل عليه قوله تعالى : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو نعاد ، والجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه ، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له ، وتكرير الهمزة في (أَإِنَّا) لتأكيد الإنكار ، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تنتصب (إِذا) بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام. ورد الأول في المغني بأن (إِذا) عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله :

وإذا تصبك خصاصة فتحمل

قيل : فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور ، ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغني أيضا.

وقيل : معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه.

وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح. ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله» وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم.

وذهب بعض إلى أن الخطاب في (إِنْ تَعْجَبْ) عام ، والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه ، وقيل : المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب ، وقيل : المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث ، واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا. وفي المؤمنين. والعنكبوت. والنمل. والسجدة والواقعة. والنازعات. وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات ، فقرأ نافع. والكسائي بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا.

وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فإنهما قرءا في العنكبوت بالخير في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين (أُولئِكَ) مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عزوجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم‌السلام (وَأُولئِكَ) مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وفيه احتمالان : الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله :

١٠٠