روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وبعض الزوابع يكون عند حربهم ، فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب.

وأخرج البيهقي في الأسماء وأبو نعيم والديلمي وغيرهم بإسناد صحيح ـ كما قال العراقي ـ عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. وصنف حيات وكلاب. وصنف يحلون ويظعنون ، وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر ، ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء ، وصنف يغلب عليهم الحل والارتحال ، وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن ، وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكلهم بذلك دون الصنفين الآخرين ، فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن ، وقد قالوا : إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء. ورد بأن الله تعالى قد تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور ـ إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك ، وربما يقال : إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين ، وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار بعض الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه ، وقد قال الهيتمي : إن رجال هذا الحديث وثقوا وفي بعضهم ضعف ، فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون الله تعالى الملك العلام ، ثم إن مساق الآية الكريمة ـ على ما قيل ـ كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) نصب بإضمار أذكر ، وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه ، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أذكر وقت قوله تعالى : (لِلْمَلائِكَةِ) الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض ، وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه (إِنِّي خالِقٌ) فيما سيأتي ؛ وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف (بَشَراً) أي إنسانا ، وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلطه في ذلك أبو العباس. وغيره من الصوف والوبر ونحوهما ، ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ، ويستوي فيه الواحد والجمع.

وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا ، وقيل : أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع ، وبعض من قال إنه المراد قال : ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم : إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم (مِنْ صَلْصالٍ) متعلق ـ بخالق ـ أو بمحذوف وقع صفة (بَشَراً مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل : صورته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفح في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها ، والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة.

وقال حجة الإسلام : عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا بالنار عن نتيجته ومسببه

٢٨١

وهو ذلك الاشتعال. وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه. ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا ، ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ، ولهم على ذلك عدة أدلة.

الدليل الأول : أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما ، والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادي الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة ، ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك ، والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم.

الدليل الثاني : ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعقلنا لذاتنا لأجل صورة أخرى مساوية لها تحصل فيها وإما أن لا يكون بل لأجل أن نفسها حاضرة لها ، والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني ، وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته ، فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها ، وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه ، وأكثر تلامذته من الاعتراضات وأجاب عنها.

الدليل الثالث : ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة؟ وليس يمكن أن يقال : إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر ، فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة.

الدليل الرابع : لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة.

الدليل الخامس : أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل ، وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطلا ، وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال

٢٨٢

في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا.

وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال : والذي نعول عليه أن نقول : إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل ، أما أولا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة ، وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية والداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجزء دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الاستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزاء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل ، ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب. ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا نعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به ولا ، والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا ، والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك ، وبطل أيضا أن يقال : إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا ، وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل : لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل ، وليس لأحد أن يقول : هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزءا من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به فهو جوهر مجرد وهو المطلوب ، وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف ، وسئل حجة الإسلام عن ذلك فقال : لو نطقت الشمس وقالت : أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي وقوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا ، وليس لأحد أن يقول : إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة الله

٢٨٣

تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التميز فقد قالوا : كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا : لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول : التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللوم والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى ، وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا لله عزوجل انتهى.

وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. قال الشيخ عبد الرءوف المناوي : قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها ـ على ما قال ابن جماعة ـ قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية ، وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت. وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين ، وقال اللقاني : جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت.

وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعزاه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القابل والفاعل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله ، وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلناه عن الجمهور فقال : إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس (١) لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو ـ هو ـ أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.

ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية اه ، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على تجرد الروح بإبطال كون الإنسان عبارة

__________________

(١) وبه يرد على بعض المعاصرين أيضا تدبر اه منه.

٢٨٤

عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني : أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك إلا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال : فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت. وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض. واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية ، وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه الله تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول : إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني ، وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة ولو لا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها ، وقال بعضهم : إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل ، وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥] الآية ، ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه : إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار الله تعالى القائمة لا في أين من الله عزوجل مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق ، واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام : الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل ، وقد قال بذلك من الفلاسفة أرسطو ومتبعوه ، واستدلوا عليه بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أو لا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهله وذلك محال ، وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال ، وعلى الثاني لا بد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها ، والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات ولوازمها ، وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطرز قيل له : ما تقول في خبر «إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام»؟ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فقال رحمه‌الله تعالى : نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل ، وقد قالوا : إن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق الله تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي ، وحينئذ يقال : لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم‌السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات ونحوها ، وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد ، ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم‌السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة

٢٨٥

لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخيرة من أرواح الملائكة.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «أنا أول الأنبياء خلقا» فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولا حقة في الوجود ، وهو معنى قوله الحكيم : أول الفكر آخر العمل ، فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على وجودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها ، ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم‌السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إشارة إلى هذا أيضا وإنه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء ، ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة.

وحينئذ يقال : إن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا ؛ والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي ، وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقرير صورة الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري على وفق العلم السابق الأزلي ، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور ، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك على ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية ، وقد يقال : إنهما جوهران روحانيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم ، وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق : ٤] فإذا فهمت معنيي الوجود فقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني اه.

واعترض على الاستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم. الأول لم لا يجوز أن يقال : إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال : الكل لو كان واحدا وكان قابلا للانقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول : مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للانقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها. الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لا بد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو بثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور. الثالث سلمنا أنه لا بد من مميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي ، وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع. الرابع سلمنا أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض ؛ قولكم : إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بإبطال التناسخ فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله : إذا ثبت حدوث النفس فلا بد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المبادئ المفارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن

٢٨٦

فيجيء الدور. الخامس سلمنا عدم تعلقها ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول.

السادس : المعارضة وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيها شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فليكف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة ، قولهم : لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت ، قلنا : لا يجوز لأن كل ما انقسم وجوب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لا مع غيره فتلك المخالفة إن كانت بالماهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق.

فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس ، فثبت أن كل واحد قابل للانقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار. سلمنا أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الانقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب.

وقولهم : لم قلتم إن الامتياز لا يوجد إلا عند عند الاختصاص بوصف ، قلنا : يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص ، وقولهم لم قلتم : إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة؟ قلنا : هب أن الأمر كما قلتموه إلا أنا لا نعرف بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فإنا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية ، وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة.

وقولهم : إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ. قلنا : ليس كذلك. لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معلولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية ، وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فإذن تعينها لا بد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله.

وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث ، فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق. قولهم : لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض إلخ؟ قلنا : لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن النفس المعينة عن غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة ، وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الامتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور ، فإذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقبل البدن لا قابل فلا تميز. والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق.

وأما المعارضة فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم إنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الامتياز.

والحاصل أن الامتياز لا بد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص

٢٨٧

وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان ، وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه ، وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق والله تعالى الموفق.

وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أو لا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس ، والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره ، وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا.

الأول : أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس. الثاني أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية ، فإذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة.

الثالث : أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية ، ويرد عليهم أنه إن أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك ، وإن أريد به أنها تكون منطبعة في البدن فلم قلتم : إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجب أن تكون منطبعة فيه ، وأيضا للمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية ، والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليست من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الانطباق على ما بين في محله ، وقولهم : لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل ، ثم إن كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره ، وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور :

الأول : أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الاشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية.

الثاني : أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات ، وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية ، وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأنا لا نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإرادة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة ، ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات.

الثالث : أنه بين في محله أن كل ماهية مجردة لا بد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس ، ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره (١) فلا يحتاج في

__________________

(١) قوله فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره هكذا بخطه اه.

٢٨٨

غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا ، فثبت الاتفاق في النوع وهي أدلة واهية.

أما الأول فلقائل أن يقول : لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الاختلاف كونها مركبة؟ والاشتراك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكون مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهياتها ، ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب ، ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا ، ومثل هذا يقال هنا كيف لا وقد قالوا : الجوهر مقول على النفس والجسم.

وأما الثاني فمداره الاستقراء ، ويضعف ذلك لوجهين : أحدهما : أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات. وثانيهما أنه لا يمكننا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن.

وأما الثالث : فهو يقتضي أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه ، وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع ، وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك ، وأحسن ما عول عليه في الاستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال : ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين أخلاقا وبالعكس ، وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة والسلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولى هذا العالم ومعلوم أن ذلك ليس لقوة مزاجه فليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف الجواهر ، وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الإقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر الله تعالى طويل الذيل ، وبالجملة أن الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطريق إليه وعر ، وقد جعل الله سبحانه ذلك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله.

(فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أمر للملائكة عليهم‌السلام بالسجود لآدم عليه‌السلام على وجه التحية والتعظيم أو لله تعالى وهو عليه‌السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عزوجل كقول حسان :

أليس أول من صلى لقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) أي فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة (كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (أَجْمَعُونَ) بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد ، هذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجمعين على الاجتماع في وقت الفعل ، وقال البصريون : إنها ككل لإفادة العموم مطلقا.

ومن هنا منع تعاطفهما فلا يقال جاء القوم كلهم وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] لظهور أن لا اجتماع هناك. ورده في الكشف بأن الاشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر وهو كل لم يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا ، والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة ، ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا

٢٨٩

تأكيدا ، فالحق في المسألة مع الفراء والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل ، وزعم البصريون أنه إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص.

وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيارا والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكثرة وروده في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك ؛ وفي الصحيح «فله سلبه أجمع. فصلوا جلوسا أجمعون» ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم كل عند الاجتماع ، ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الانفراد ، وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما هو بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا. ثم إنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكي من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر.

(إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جني ، وقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] مؤول كما ستعلمه إن شاء الله تعالى ، وقوله سبحانه : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء بناء على أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فجملة (أَبى) إلخ متصلة بما قبلها ، ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها ، والجملة خبرها كذا قيل : وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون : إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالاستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن ، والكوفيون يقدرونه بسوى ، وقال قوم منهم ابن يسعون : إلا مع الاسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا ، وقال في قوله : وما بالربع من أحد إلا الاواري ـ إلا فيه بمعنى لكن الاواري اسم لها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال : لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله ولكن زنجيا عظيم المشافر. اه.

والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به ، نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم ، ووجه الانقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم‌السلام ، والانقطاع ـ على ما قال غير واحد ـ يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أو في حكمه ، وما قيل : إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والاعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغني بذكر الملائكة عليهم‌السلام عنهم وأنه معنى الانقطاع وتوجه اللوم من ضيق العطن. (قالَ) استئناف مبني على سؤال من قال : فما ذا قال الرب تعالى عند إبائه؟ فقيل قال سبحانه : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ) أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب ، وقوله تعالى : ما منعك (أَلَّا تَكُونَ) أي في أن لا تكون (مَعَ السَّاجِدِينَ) لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم ، وكأن في صيغة الاستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله ، ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة إشعارا بأن كلّا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته ، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر ، والظاهر أن قول الله تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو

٢٩٠

منصب عال إذا كان على سبيل الإعظام والإجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى. (قالَ) استئناف على نحو ما تقدم (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد (لِبَشَرٍ) جسماني كثيف (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إجمالية إلى ادعاء خيريته وشرف مادته ، وقد نقل عنه لعنه الله تعالى التصريح بذلك في آية أخرى ، وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة ، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قيل : لم أمتنع عن الانتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول ، وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية :

فشمال والكأس فيها يمين

ويمين لا كاس فيها شمال

ولله تعالى در من قال :

كن ابن من شئت واكتسب أدبا

يغنيك مضمونه عن النسب

إن الفتى من يقول ها أنا ذا

ليس الفتى من يقول كان أبي

على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك. (قالَ) استئناف كما تقدم أيضا (فَاخْرُجْ مِنْها) قيل : الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر ، وأيد بظاهر قوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) [الأعراف : ١٣] وقيل لزمرة الملائكة عليهم‌السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بانزوائه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبادر وكفى به قرينة ، وقيل : للجنة لقوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥ ، الأعراف : ١٩] ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية ، وقيل : أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها ، وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله ، فكأنه قيل : إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لا شرف عنصرك الذي تزعمه ، وقيل : تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف الله تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده الله تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة والسلام وكرمه ، وقيل : تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل : جواب ما لا يرتضي السكوت ، وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطيفة إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو كعابد النار يهواها وتحرقه. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) الإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه ، ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة الله تعالى لقوله سبحانه : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) [ص : ٧٨](إِلى يَوْمِ الدِّينِ) إلى يوم الجزاء ، وفيه إشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ ، وفيه من التهويل ما فيه ، وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل ، وقيل : إنما غيا بذلك لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧ ، ١٠٨] على قول.

وقال بعضهم : إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة الله تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن الله تعالى له وإبعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد. (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) امهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فامهلني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي آدم عليه‌السلام وذريته

٢٩١

للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره ، قيل : ولينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروي عن ابن عباس والسدي ، وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغيي من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة.

(قالَ) الرب سبحانه (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة : إن في ورود الجواب جملة اسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليلا على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم لا لإنشاء إنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين ، فالفاء لربط الإخبار بالإنظار بالاستنظار كما في قوله:

فإن ترحم فأنت لذاك أهل

وإن تطرد فمن يرحم سواكا

لا لربط نفس الإنظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ، ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى ، وقيل : إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو وقت النفخة الأولى كما روي عن ابن عباس ، وعليه الجمهور.

ووصفه بالمعلوم إما على معنى أن الله تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله تعالى ، وقال آخرون : إنه عليه اللعنة أعطي مسئوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به محدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت ، واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة ؛ واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله ، وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر هاهنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز. ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال : إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم الله تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله ، وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان ، وأغرب منه ما قيل : إنه هلك في بعض غزواته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا ، والمشهور المعول عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة ، ونقل عن الأحنف ابن قيس عليه الرحمة أنه قال : قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث وهو يقول : لما حضر آدم عليه‌السلام الوفاة قال : يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ، ثم قال لملك الموت : صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه قال : يا رب حسبي فضج الناس وقالوا : يا أبا إسحاق كيف ذلك؟ فأبى وألحوا فقال : يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك أثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلئوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها

٢٩٢

وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول : قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال : فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فيثير منها البخار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه‌السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه‌السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ، ويقال : آدم وحواء عليهما‌السلام اطلعا اليوم على عدوكما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك ، وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه‌السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له : يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه‌السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول : كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا ، وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بسبب إغوائك إياي (لَأُزَيِّنَنَ) أي أقسم لأزينن (لَهُمْ) أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر ، وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضا : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) [الإسراء : ٦٢] ومفعول (لَأُزَيِّنَنَ) محذوف أي المعاصي (فِي الْأَرْضِ) أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فأنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر ، ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها ، وذكر أن هذا المعنى عرفي للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها ، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزيين محلّا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور ، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي ، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه ، ونحوه قول ذي الرمة :

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة ، وجوز جعل الباء للقسم و «ما» مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن ، وإقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك ، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر (فَبِعِزَّتِكَ) [ص : ٨٢] والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بالإغواء غير متعارف انتهى ، وفيه نظر ظاهر فإن قوله : (فَبِعِزَّتِكَ) يحتمل القسمية أيضا ، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له. نعم إن دعواه عدم تعارف القسم بالإغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها ، وفي نسبة الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عزوجل ، وأول المعتزلة ذلك وقالوا : المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لا فعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الإغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه

٢٩٣

وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار انظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب.

وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الإغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة ، وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية.

فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) حيث أفاد أن الإغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى ، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس ، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم (أَجْمَعِينَ) أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين ونافع والحسن والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك ، وكان الظاهر وإن منهم من لا أغويه مثلا ، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه إثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به ، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا.

(قالَ) الله سبحانه وتعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَ) أي حق لا بد أن أراعيه (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره ، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة (عَلَيَ) تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الإصلاح عليه تعالى ، وقال أهل السنة : إن ذلك وإن كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فجيء ـ بعلي ـ لذلك أو إلى ما تضمنه (الْمُخْلَصِينَ) بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلي من غير اعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك علي إذا انتهى المرور عليه ، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول ، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وليست (عَلَيَ) فيه بمعنى إلي. نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها ، وأخرج عن زياد بن أبي مريم وعبد الله بن كثير أنهما قرءا «هذا صراط مستقيم» وقالا : «علي» هي إلي وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل ، وهي متعلقة بيمر مقدرا و (صِراطٌ) متضمن له فيتعلق به.

وقال بعضهم : الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلي وليس ذلك لك ، والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك ، وعن مجاهد وقتادة أن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك علي أي لا تفوتني ، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤] والمشار على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه ، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول ، واختار في البحر كونها إلى الإخلاص ، وقيل : الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال :(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف : ١٦] إلخ ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر.

٢٩٤

وقرأ الضحاك وإبراهيم وأبو رجاء وابن سيرين ومجاهد وقتادة وحميد وأبو شرف مولى كندة ويعقوب ، وخلق كثير «عليّ مستقيم» برفع «عليّ» وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي تسلط وتصرف بالإغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد ، والاستثناء على هذا في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) منقطع واختار ذلك غير واحد ، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء ، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ولذا لم يعطف على ما قبله ، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء.

وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية ، واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف ، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين ، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة ، واتفق النحويون كما قال أبو حيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآمدي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه ، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على ألف إلا ألفين ، وقيل : إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه استثناء النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان ، وتحقيق هذه المسألة في الأصول ، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أنه قال : المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل ؛ وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد ، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى.

وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضا ولا محذور في ذلك ، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الادعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان علي ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه ، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢].

فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم ، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة.

و (مَنِ) على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون. واستدل الجبائي بنفي أن يكون له

٢٩٥

سلطان على العباد على رد قول من يقول : إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم ، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير ، والأول بأن اعتباره أدخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه و (أَجْمَعِينَ) توكيد للضمير ، وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه ، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم ، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان ، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو ، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال ، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد ، وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفظاعة (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روي ذلك عن عكرمة وقتادة ، وأخرج أحمد في الزهد والبيهقي في البعث وغيرهما من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها ، وجاء في ترتيبها عن الأعمش وابن جريج وغيرهما غير ذلك ، وذكر السهيلي في كتاب الاعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن ذكرها اه ، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه ، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال : إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها ، وقيل : الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم.

والجملة ـ كما قال أبو البقاء ـ يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الاتباع والغواة (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده ، فباب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين ، وروي هذا الترتيب في بعض الآثار ، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين ، وروي غير ذلك ، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات.

ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة ، وقرأ ابن القعقاع «جزّ» بتشديد الزاي من غير همز ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ ابن وثاب «جزء» بضم الزاي والهمز «ومنهم» حال من «جزء» وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجار والمجرور الواقع خبرا له ، ورجح أن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع

٢٩٦

فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في (مَقْسُومٌ) لأنه صفة (جُزْءٌ) فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف ، وكذا لا يجوز أن يكون صفة (بابٍ) لأنه يقتضي أن يقال منها ، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته ، قال أبو عثمان : أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) رموه وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم. والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون ؛ وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات ، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) قال ابن عطاء : أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عزوجل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم ، وقيل الإشارة في ذلك : إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر ، وقيل : الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم ، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا. (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلي جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير ، وفي الخبر «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» ثم إنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته.

٢٩٧

وقال بعضهم : نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة ، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة ، والازدهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك ، وقيل : أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) بالتدابير الجزئية (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم ، قال بعضهم : إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء (وَما نُنَزِّلُهُ) في عالم الشهادة (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده ، قيل : إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار ، ومن هنا قال حمدون : إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم ، وكان الجنيد قدس‌سره إذا قرأ هذه الآية يقول : فأين تذهبون؟ ويقال : خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار ، ومنهم من قال : النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك (وَأَرْسَلْنَا) على القلوب (الرِّياحَ) النفحات الإلهية (لَواقِحَ) بالحكم والمعارف ، قال ابن عطاء : رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه ، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقي من حرمها (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي سماء الروح (ماءً) من العلوم الحقيقية (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) وأحييناكم به (وَما أَنْتُمْ لَهُ) أي لذلك الماء (بِخازِنِينَ) لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) القلوب بماء العلم والمشاهدة (وَنُمِيتُ) النفوس بالجد والمجاهدة ، وقيل : نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة ، وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات ، وقال الواسطي : نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا ، وقال الوراق : نحيي القلوب بنور الإيمان ونميت النفوس باتباع الشيطان ؛ وقيل وقيل : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) للوجود والباقون بعد الفناء (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) وهم المشتاقون الطالبون للتقدم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس ، ومن هنا قال ابن عطاء : من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين ، وقيل : المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض ، وقيل : الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة ، وقيل : الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص ، وقيل : غير ذلك (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه‌السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه ، وسماه بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه ، ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له ، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا ، ولذا قيل : من عرف نفسه عرف ربه ، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما

٢٩٨

تظهر إذ ذاك ، ولذا لما تم الأمر وجلدت (١) النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه‌السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان ، ومن هنا قيل :

لو قال تيها قف على جمر الغضى

لوقفت ممتثلا ولم أتوقف

وقال بعض أهل الوحدة : إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى ، وقد أخطأ أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الاثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية ، ومن هنا قال قائلهم :

ما آدم في الكون ما إبليس

ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل عبارة وأنت المعنى

يا من هو للقلوب مغناطيس

وقال الحسين بن منصور :

جحودي لك تقديس

وعقلي فيك منهوس (٢)

فمن آدم إلاك

ومن في البين إبليس

وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك ، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه ، وفي الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر» أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار. أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال : كانت للأنبياء عليهم‌السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا

__________________

(١) هي كلمة مستعملة عند العامة يقولون جلدت الكتاب أي وضعت له جلدا وبهذا المعنى استعملت هنا جريا على المتعارف عندهم وإلا فقد قال بعض الأفاضل : جلدت الكتاب بمعنى أزلت جلده فليحفظ اه منه.

(٢) أصله القليل اللحم من الرجال اه منه.

٢٩٩

له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي : أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس : أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي : إن الله تعالى يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) قال إبليس : قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي : ويقول الله تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠ ، فصلت : ٣٦] وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله تعالى منك قال إبليس : صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب ، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ

٣٠٠