روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى : (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به (كَلِمَةً طَيِّبَةً) نصب على البدلية من (مَثَلاً) و (ضَرَبَ) متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي. والمهدوي. وأبو البقاء ، وهو على ما قيل : بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد. واعترض عليه بأنه لا معنى لقولك ضرب الله كلمة طيبة إلا بضم (مَثَلاً) إليه فمثلا هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره ، ولا يخفى أن هذا بناء على ظاهر قول النحاة : إن المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم ، وقوله سبحانه : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) صفة (كَلِمَةً) أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة ، وجوز أن يكون كلمة منصوبا بمضمر و (ضَرَبَ) أيضا متعدية لواحد أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) كقولك : شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.

وأجاب عنه السمين بما فيه بحث ، وجوز أيضا أن يكون ضرب المذكور متعديا إلى مفعولين إما لكونه بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني (مَثَلاً) لئلا يبعد عن صفته التي هي (كَشَجَرَةٍ) قيل : ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلا لا كلمة طيبة مثلا لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أو لها مثلا. وقرئ «كلمة» بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر «كشجرة» ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و «كشجرة» صفة أخرى (أَصْلُها ثابِتٌ) أي ضارب بعروقه في الأرض. وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت أصلها» وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى.

قال ابن جني : لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجريت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل ، والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظا ومعنى فالأحسن تقديم الأصل عناية به ، ومن ثم قالوا : زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث إن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول ، ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظا فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلا له وفضلة ملحقة به ، وكذلك قولك : مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع ما في التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجها حسنا ، وهو أن ثابت أصلها صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسما مفردا لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد وذاك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف «أصلها ثابت» فإنه جملة قطعا ، وقال بعضهم : إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ما أشير إليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب.

وقال ابن تمجيد : هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صورة ومرة معنى مع ما فيه من الإجمال والتفصيل كما في (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فإنه لما قيل : «كشجرة طيبة ثابت» تبادر الذهن من جعل (ثابِتٌ) صفة لشجرة صورة أن شيئا من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل : (أَصْلُها) علم صريحا أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل : كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر (وَفَرْعُها) أي أعلاها من قولهم : فرع الجبل إذا علاه ، وسمي الأعلى فرعا لتفرعه على الأصل ولهذا أفرد وإلا فكل شجرة لها فروع وأغصان ، ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والإضافة حيث لا عهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الأصل وإضافته على ما اشتهر تفيد العموم فكأنه قيل : وفروعها (فِي السَّماءِ) أي في جهة العلو (تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي ثمرها (كُلَّ حِينٍ) وقت أقته الله تعالى لإثمارها (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادة خالقها جل شأنه ، والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله على ما

٢٠١

أخرجه البيهقي. وغيره عن ابن عباس ، وعن الأصم أنها القرآن ، وعن ابن بحر دعوة الإسلام ، وقيل : التسبيح والتنزيه ، وقيل : الثناء على الله تعالى مطلقا ، وقيل : كل كلمة حسنة ، وقيل : جميع الطاعات ، وقيل : المؤمن نفسه ، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر ، وكأن إطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه‌السلام ، والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الأكثرين ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد.

وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال : كنا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب فقال أنس لأبي العالية : كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه «ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ثابت أصلها» وأخرج الترمذي أيضا. والنسائي. وابن حبان. والحاكم وصححه عن أنس قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقناع من بسر فقال : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) ـ حتى بلغ ـ (كُلَّ حِينٍ) قال : هي النخلة (١). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند ، وأخرج ابن جرير ؛ وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنها شجرة في الجنة ، وقيل : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه.

ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشأها وهو الإيمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الأعمال الصالحة والأفعال الزكية يصعد إلى السماء ، وما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين ، ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل. والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين ، فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال : إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك ، واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال : إن النخلة ما بين حملها إلى صرامها ستة أشهر ، وأفتى رضي الله تعالى عنه لرجل حلف أن لا يكلم أخاه حينا أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنيفة ، فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الإثبات ستة أشهر ، وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف إليه لأنه الوسط ولأن القليل لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والأربعون سنة لا تقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد ، ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلانا حينا مثلا ، وهذا بخلاف لأصومن حينا فإن له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله ، ومتى نوى الحالف مقدارا معينا في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلا منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لا يخفى على المتتبع فليتذكر (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى. وقرئ

__________________

(١) قال الترمذي الحديث الموقوف أصح اه منه.

٢٠٢

(وَمَثَلُ) بالنصب عطفا على (كَلِمَةً طَيِّبَةً) وقرأ أبيّ «وضرب الله مثلا كلمة خبيثة» (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد ، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة ، والمثل بمعنى الصفة الغريبة (اجْتُثَّتْ) أي اقتلعت من أصلها ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي استقرار على الأرض ، والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة. وروي ذلك أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الضحاك أنها الكشوث ، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر :

فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق

ولا نسيم ولا ظلّ ولا ثمر

وقال الزجاج وفرقة شجرة الثوم ، وقيل : شجرة الشوك ، وقيل : الطحلب ، وقيل : الكمأة وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت ، وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضا تفسير هذه الشجرة بالكافر. وروى الإمامية ـ وأنت تعرف حالهم ـ عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وعلي كرم الله تعالى وجهه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما ، وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية.

فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ)» لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق والمخالف ، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل ، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر ، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه.

وللإمام الرازي قدس‌سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصا وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها. الصفة الأولى كونها (طَيِّبَةً) وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها ، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب. والثانية كون «أصلها ثابتا» وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك. والثانية كون (فَرْعُها فِي السَّماءِ) وهو أيضا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب. والرابعة كونها «دائمة الثمر» لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضا إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ.

ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة ، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه ، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته ، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة ، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن ، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين ، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون

٢٠٣

والفساد بعيد عن التغير والفناء ، وأيضا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلا زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني ، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التعظيم لأمر الله تعالى» ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية ، وكذا محبة الله تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك ، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة والسلام ، «والشفقة على خلق الله تعالى» ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخبر إلى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى ، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلا فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى. وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما علمت من الأحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لا ينفك عن السبب ، فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لاحظ شيئا لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لا يرى شيئا إلا يرى الله تعالى قبله ، وأيضا قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة ، وفي قوله سبحانه : (بِإِذْنِ رَبِّها) دقيقة عجيبة وذلك لأن الإنسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي ـ هي ـ وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول.

وذكر بعضهم في هذا المثال كلاما لا يخلو عن حسن ، وهو أنه إنما مثل سبحانه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ. وأصل قائم. وأغصان عالية فكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب. وقول باللسان. وعمل بالأركان ، ولم يرتض قدس‌سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال : بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها ، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل ، واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب والله تعالى أعلم ، وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضا إلا أنه تعالى وصفها بثلاث صفات. الصفة الأولى كونها (خَبِيثَةٍ) وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فإن الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب. والثانية «اجتثاثها من فوق الأرض» وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الأول. والثالثة نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية ، والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل بالله تعالى والإشراك به سبحانه فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس الشقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولا ثبات ولا قوة بل هو داحض غير ثابت اه ، وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة ، والظاهر أن الجار متعلق ـ بيثبت ـ وكذا قوله سبحانه : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يثبتهم بالبقاء على

٢٠٤

ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الأخدود. ولجرجيس. وشمشون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله تعالى عنهم (وَفِي الْآخِرَةِ) أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية : التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له : من ربك؟ قال : ربي الله. قالا : وما دينك؟ قال : ديني الإسلام : قالا : ومن نبيك؟ قال : نبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا فالمراد من (الْآخِرَةِ) يوم القيامة ، وأخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هذه الآية: (يُثَبِّتُ اللهُ) إلخ في الآخرة القبر» وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض ؛ وكان الداعي لذلك عموم (الَّذِينَ آمَنُوا) وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر ، وجوز تعلق الجار الأول ـ بآمنوا ـ على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه ، وكذا جوز تعلق الجار الثاني ـ بالثابت ـ ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب ولا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال ، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشئ عن سوء استعدادهم ، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم ـ بالذين آمنوا ـ ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه ، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة ، وإضلالهم ـ على ما قيل ـ في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم‌السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره اقعد فقيل له : من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك ، وإذا قيل له : من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا فذلك قوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من تثبيت بعض وإضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك ، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه ـ كما قيل ـ من الإيذان بالتفاوت في مبادئ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلى غير ما هو مبدأ صدور الآخر ، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها (أَلَمْ تَرَ) تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه (كُفْراً) عظيما وغمطا لها ، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني و (كُفْراً) المفعول الأول ، وتوهم بعضهم عكس ذلك ، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر ، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري ، والوجهان كما في الكشف خلافا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل هاهنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر ، والمراد بهم أهل مكة فإن الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقا في أعناقهم.

٢٠٥

وأخرج الحاكم وصححه. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين : هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وأخرج البخاري في تاريخه. وابن المنذر. وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك(١).

وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم والله كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم ، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة (وَأَحَلُّوا) أي أنزلوا (قَوْمَهُمْ) بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال ، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨](دارَ الْبَوارِ) أي الهلاك من بار يبور بوارا وبورا ، قال الشاعر :

فلم أر مثلهم أبطال حرب

غداة الحرب إذ خيف البوار

وأصله ـ كما قال الراغب ـ فرط الكساد ، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك (جَهَنَّمَ) عطف بيان للدار ، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل ، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلا منها ، وقوله تعالى : (يَصْلَوْنَها) أي يقاسون حرها حال من الدار أو من (جَهَنَّمَ) أو من «قومهم» أو استئناف لبيان كيفية الحلول ، وجوز أبو البقاء كون (جَهَنَّمَ) منصوبا على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية ، فالمراد بالإحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والأسر ، وأيد بما روى عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر ، وبقراءة ابن أبي عبلة (جَهَنَّمَ) بالرفع على الابتداء ، ويحتمل أن يكون (جَهَنَّمَ) على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث إنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساويا ، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرءوا بغير الراجح أو المساوي ، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحا ، وأنت تعلم أن قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) يرجح التفسير السابق (وَبِئْسَ الْقَرارُ) على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أي جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها ، وفيه بيان أن حلولهم وصليّهم على وجه الدوام والاستمرار (وَجَعَلُوا) عطف على (أَحَلُّوا) أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم (لِلَّهِ) الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار (أَنْداداً) أمثالا في التسمية أو في العبادة ، وقال الراغب : ند الشيء مشاركه في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا ، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه.

(لِيُضِلُّوا) قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا (عَنْ سَبِيلِهِ) القويم الذي هو التوحيد ، وقيل : مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار ، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من المجموع ، وله نظائر في الكتاب الجليل ، وقرأ ابن

__________________

(١) كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عزوجل قُلْ تَمَتَّعُوا الآية اه منه.

٢٠٦

كثير. وأبو عمرو. ورويس عن يعقوب (لِيُضِلُّوا) بفتح الياء ، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وذلك أنه لما كان الإضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد وقيل عليه : إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه أندادا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه. ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده ، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوازمه أولا وفيه تأمل (قُلْ) لأولئك الضلال المتعجب منهم (تَمَتَّعُوا) بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفرا واستتباع الناس في الضلال ، وجعل ذلك متمتعا به تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها ، وفي التعبير بالأمر ـ كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو أمر الشهوة ؛ وعلى هذا يكون قوله تعالى : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله : والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار ، ويجوز أن يكون الأمر مجازا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية ، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه وقلت : أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول : فإذا قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى.

قال صاحب الكشف : إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الأداء إليه مختلف ، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول : أطع فلانا ، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه ، والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى.

وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر ، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له ، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف ، وذكر غير واحد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي : كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت ؛ فإن المقصود ـ كما قال صاحب الفرائد ـ التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول.

وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري إن في (تَمَتَّعُوا) إيذانا بأنهم لانغماسهم إلخ ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم. والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن و (إِلَى النَّارِ) في موضع الخبر ، ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق ـ بمصير ـ وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بالى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل ، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور. والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة.

ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى انهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعا لهم وتشريفا وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها ، وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما تهديدا وغيره ، ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد. والأخفش. والمازني محذوف دل عليه (يُقِيمُوا) أي قل لهم : أقيموا الصلاة

٢٠٧

وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب (قُلْ) عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا ، ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذانا بإكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال ، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر ، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية ـ قل ـ بمعنى بلغ وأد الشريعة والزم في جواب ذلك. وهو قريب مما تقدم.

وحكي عن أبي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف ، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك : قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب ، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.

وعن أبي علي وجماعة أن (يُقِيمُوا) خبر في معنى اومر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) إلى قوله سبحانه : (تُؤْمِنُونَ) [الصف : ١٠ ، ١١] إذ المراد منه آمنوا ، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد ما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه ، وذهب الكسائي. والزجاج وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى :

محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا

وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم (قُلْ) نائب منابه ؛ كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك. والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه ، منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين ، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة ، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب. قليل. وكثير. ومتوسط ، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية ، والمتوسط ما تقدمه قوله غير أمر كقوله :

قلت لبواب لديه دارها

تيذن فإني حمؤها وجارها

والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار ، وإن تقييد الجواب بقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) إلى (وَلا خِلالٌ) ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به ، وقال : ابن عطية : ويظهر أن مقول القول (اللهُ الَّذِي) إلخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك ، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون (يُقِيمُوا) مجزوما في جواب الأمر لأن قول (اللهُ الَّذِي) إلخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا هذا ، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا ، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال.

ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وإن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور ، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض ، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأمورا به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأمورا به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدرية

٢٠٨

لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل ، والأصل انفاق سر وانفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه ، ويجوز أن يكون الأصل إنفاقا سرا وإنفاقا علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية إما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية ، وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه ، والمقصود ـ كما قال بعض المحققين ـ نفي عقد المعاوضة بالمرة ، وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع انتهى ، وقيل : إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء ، وعلى هذا جاء قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه» ولا مانع من إرادة المعنيين هنا ، فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل : لا معاوضة فيه (وَلا خِلالٌ) أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال ، وقال الأخفش : هو جمع خليل كأخلاء وأخلة ، والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به ، ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى ، فعل الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة ، وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما ، و (فِيهِ) ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه ، ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] حيث أثبت فيه المخالة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات.

وقيل في التوفيق بين الآيتين : إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى ، مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفي العداوة لا يلزم منه المخالة وهو كما ترى ؛ ومثله ما قيل : إن الإثبات والنفي بحسب المواطن. والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر ، وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأي غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء ، وتذكير إتيان ذلك اليوم على ما في إرشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث إن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال والواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به. وفيه أيضا أنه لا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث إن تركها كثيرا ما يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وأنت تعلم بعده لفظا بناء على تعلق (سِرًّا وَعَلانِيَةً) بالأمر بالإنفاق ، ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين ، واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني ، وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في الكشف ، وفيه في تقرير الحاصل أن قوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما

٢٠٩

أنفق لوجه الله تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل : لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك ، والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به ، وليفيد المضادة بين ما ينفع عاجليا وما ينفع آجليا ، وذكر في آية [البقرة : ٢٥٤](مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به ، وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعا في كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الإنفاق مطلاقا وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل : دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه ، ولو قيل : دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اه ولا يخلو عن دغدغة.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب «لا بيع فيها ولا خلال» بفتح الاسمين تنصيصا على استغراق النفي ، ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال؟ ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلا : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ ، وهذا أولى مما قيل : إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعما لا دلائل ، والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان ، والمراد خلق السموات وما فيها من الإجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي السحاب (ماءً) أي نوعا منه وهو المطر ، وسمي السحاب سماء لعلوه وكل ما علاك سماء ؛ وقيل : المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ، وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار.

واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطرا ، ثم قال : وإذا كان هذا أمرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا ، وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها ، وأيّا ما كان «فمن» ابتدائية وهي متعلقة «بأنزل» وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاه السلطان من خزائنه مالا أو لما مر غيره مرة من التشويق إلى المؤخر (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس ، ونصبه على أنه مفعول (فَأَخْرَجَ) و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان له فهو في موضع الحال منه ، وتقدم (مِنَ) البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك ، واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون (مِنَ) للتبعيض ، والجار والمجرور في موضع الحال و (رِزْقاً) مفعول (فَأَخْرَجَ) أيضا ، وجوز أن تكون (مِنَ) بمعنى بعض مفعول أخرج و (رِزْقاً) بمعنى مرزوقا حالا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك ، ويجوز أن يكون (رِزْقاً) باقيا على مصدريته ،

٢١٠

ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق ـ لأخرج ـ لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسا على المشهور ، وقيل : من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الأخفش و (لَكُمْ) صفة ـ لرزقا ـ إن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل : رزقا إياكم ، والباء للسببية.

ومعنى كون الإخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج ، وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه ، وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا : إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان ، وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي. و (الثَّمَراتِ) يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك : أكلت ثمرة بستان فلان ، وقد تقدم لك ما ينفعك تذكره في هذا المقام فتذكر (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك ، وقيل : بأن جعلها لا ترسب في الماء (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) حيث توجهتم (بِأَمْرِهِ) بمشيئته التي بها نيط كل شيء ، وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال ، ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره (١) وكذا تسخير الرياح (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك ، هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة الجارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي دائمين في الحركة لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا. أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر ، والقول بجريانهما إذا غربا تحت الأرض مروي أيضا عن الحسن البصري وهو الذي يشهد له العقل السليم وللأخباريين غير ذلك ، وظاهر الآية إثبات الحركة لهما أنفسهما. والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون إحداهما الحركة الأولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لها بقسر المحدد لفلكيهما ، والأخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية ، ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم.

وأثبت الشيخ الأكبر قدس‌سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو ، والفلك عنده مثل الماء والهواء.

ذكر بعض الأخباريين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء الله تعالى وحيث شاء سبحانه ، والأفلاك ساكنة عند هذا البعض ، وكذا عند الشيخ قدس‌سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه ، والأخبار في هذا الباب ليست بحيث تسد ثغر الخصم. وذكر النسفي أنه ليس فيها ما يعول عليه ، وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن المخبر الصادق لله مما لا بأس به ، وفسر بعضهم (دائِبَيْنِ) بمجدين تعبين وهو

__________________

(١) فيه استخدام فلا تغفل اه منه.

٢١١

على التشبيه والاستعارة ، وأصل الدأب العادة المستمرة ، ونصب الاسم على الحال ، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات ، ولعمري أن الله سبحانه جعلهما اجدى من تفاريق العصا. وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهروردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية ، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر ، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولو لا ذلك ما كان كون ولا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها ، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به ، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن الله تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم ، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف ، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا ، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى ، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعا ، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال : لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور ، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر.

وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل : لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل ـ أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر ـ نعمة واحدة ، وقد تقدم نظيره آنفا ، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد ، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل المسرة. ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناء بشأنها ، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتماما لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالأنهار ، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اه ، وليس بشيء يعول عليه.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعض جميع من سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة ـ فمن كل ـ مفعول ثان ـ لآتي ـ و (مِنْ) تبعيضية ، وقال بعض الكاملين : إن (كُلِ) للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : و (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٤٤] واعترض على حمل (مِنْ) على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ (كُلِ) عن فائدة زائدة لأن (ما) نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له.

ودفع بأنه بعد تسليم كون (ما) نصا في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا ، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه ، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع والصنف لا لفرد بخصوصه ، وفسر (ما سَأَلْتُمُوهُ) بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل ، فلا ينفى إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال ، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالا له بلسان الحال وهو من

٢١٢

باب التمثيل ، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : الأصل وآتاكم من كل منا سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى ، و (ما) يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في (سَأَلْتُمُوهُ) عائد عليها ، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه ؛ ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعا إليه تعالى يكون العائد على الموصول محذوفا مستندا بأنه لو قدر متصلا لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز (١) ولو قدر منفصلا حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اه.

وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعيا أن منع اتصال المتحدين رتبة خاصة فيما إذا ذكرا معا أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه ، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضا فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك : جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذ يفوت ذلك الغرض ، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت ، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم ، وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسئولكم.

وقرأ ابن عباس والضحاك ، والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن قائد وقتادة وسلام. ويعقوب ونافع في رواية (مِنْ كُلِ) بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، وجوز على هذه القراءة أن تكون (ما) نافية والمفعول الثاني (مِنْ كُلِ) كما في قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه ، وهو إخبار منه تعالى بسبوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم ؛ وروي هذا عن الضحاك ، ولا يخفى أن الوجه هو الأول لما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأولى.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر.

وقال الواحدي : إن (نِعْمَتَ) هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم إنعاما ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقا ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع ، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به ، والمراد بها الجمع كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله (لا تُحْصُوها) وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل : إن الاستغراق ليس مأخوذا من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا ، والمراد ـ بلا تحصوها ـ لا تطيقوا حصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية ، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر

ثم استعمل لمطلق العد وقال بعض الأفاضل : إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره ، ولو الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول (إِنْ تَعُدُّوا) بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضا والأول أولى ، وقال بعض الفضلاء : إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها.

__________________

(١) قال ابن مالك. وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا. اه منه.

٢١٣

وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظرا إلى توهم أنه يطاق ، قيل : والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها ، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول. وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال :

الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية ، والدماغية سبعة وقد اتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد منها ، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضا إلى شعب أدق من الشعر ، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ، ولو أن واحدة اختلت كيفا أو وضعا أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية ، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة ، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل الانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له ، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام ؛ وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا وتأمل به الإنسان في حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل. الثاني أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها ، فأما الأول فاعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح ، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة ، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ؛ ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة ، وإنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل ؛ وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل ، وأنى للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه. وقال مولانا أبو السعود قدس‌سره بعد كلام : وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السر ودقّ فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلق بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدئ الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي.

وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكم الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية ، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده ، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء ،

٢١٤

وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء ، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه ، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم : إن الوجود نعمة وكذا كل ما يتبعه من الكمالات ، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية ، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة ، فالنعم غير متناهية ، ولك أن تقول من بيان ذلك : إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية ، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك ، فيكون كل مرتبة منه متناهيا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضا لا تحصى.

وفي رواية ابن أبي الدنيا. والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. ثم الظاهر المراد بالنعمة معناها اللغوي ـ أعني الأمر الملائم ـ لا المعنى الشرعي ـ أعني الملائم الذي تحمد عاقبته ـ إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب ، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقا ، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر. وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك ، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.

وأخرج البيهقي في الشعب. وغيره عن سليمان التيمي قال : إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم ، وعن طلق بن حبيب قال : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه‌السلام قال : رب أخبرني ما أدنى نعمتك علي؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى : هذا أدنى نعمتي عليك. واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص. ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم.

ومن العجيب أن أبا على الشبلي البغدادي ، وقيل : ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات :

ودهر ينثر الأعمار نثرا

كما للغصن بالورق انتثار

ودنيا كلما وضعت جنينا

غذاه من نوائبها ظؤار

إلى أن قال :

نعاقب في الظهور وما ولدنا

ويذبح في حشا الأم الحوار

وننتظر البلايا والرزايا

وبعد فللوعيد لنا انتظار

٢١٥

ونخرج كارهين كما دخلنا

خروج الضب أخرجه ال

وجار فما ذا الامتنان على وجود

لغير الموجدين به ال

خيار فكانت أنعما لو أن كونا

نخير قبله أو نس

تشار فهذا الداء ليس له دواء

وهذا الكسر ليس له انجبار

إلى آخر ما قال ، ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) يظلم النعمة باغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر (كَفَّارٌ) شديد الكفران والجحود ، وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والأول أنسب بما قبله ، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من أفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفرا ، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : لم يراعوا حقها؟ أو لم حرمها بعضهم؟ وقيل : إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا ، وفي النحل (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١٨] وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] وبعده (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) فكان ذلك نصا على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وأما في المحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضيلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضا على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك اطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر لله السابق ويرجمه ، وأيضا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه ، فحصل من المنعم ما يناسل حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه ، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الأنعام ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه وقصوره. إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره. وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه. وفيه بحث ، وقيل : إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحا فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

ومن باب الإشارة في الآيات : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فيه احتمالات عندهم فقيل : من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة ، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات ، وهو المراد بقولهم : النور البحت الخالص من شوب المادة والمدة. وقال جعفر : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة ، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب ، وقال أبو بكر بن طاهر : من ظلمات الظن إلى نور الحقيقة وقيل غير ذلك (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج إلى الفعل (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) الذي يقهر الظلمة بالنور (الْحَمِيدِ) بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) المحجوبين (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وهو عذاب الحرمان (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) الحسية والصورية (عَلَى الْآخِرَةِ)

٢١٦

العقلية والمعنوية (وَيَصُدُّونَ) المريدين (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريقه الموصول إليه سبحانه : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) انحرافا مع استقامتها (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والألم يفهموا فلا يحصل البيان ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك ، وعلى هذا لا ينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لا يعرفونه ، وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية ، ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتاب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده إلى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر ، كفر أبي جهل إيمان بالنسبة إليه ، ومن هنا صدر الأمر السلطاني إذ كان الشرع معتني به بالنهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس‌سره ومن انخرط في سلكه (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إضلال لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته ممن بقي على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيئات والاعتقادات (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه :

سقيا لها ولطيبها

ولحسنها وبهائها

أيام لم يلج النوى ب

ين العصا ولحائها

وما أحسن ما قيل :

وكانت بالعراق لنا ليال

سلبناهن من ريب الزمان

جعلناهن تاريخ الليالي

وعنوان المسرة والأماني

وأمره عليه‌السلام بتذكير ذلك ليثور غرامهم ويأخذ نحو الحبيب هيامهم فقد قيل :

تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى

يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

وجوز أن يراد بأيام الله تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر ـ على ما قيل ـ مقامان للسالك قبل الوصول (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) قال الجوزجاني : أي لئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس ، ويعم ذلك كله ما قيل : لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيرا منها ، وللشكر مراتب وأعلى مراتبه الإقرار بالعجز عنه. وفي بعض الآثار أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني يا داود ، وقال حمدون : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) أي إن سبحانه لا شك فيه لأنه الظاهر في الآفاق والأنفس (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) موجدهما ومظهرهما من كتم العدم (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ليستر بنوره سبحانه ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) منعهم ذلك عن اتباع الرسل عليهم‌السلام (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة ما من الله تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك ، وكثيرا ما يقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب (وَما كانَ لَنا

٢١٧

أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). جواب عن قول أولئك : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الولي الكرامة تعنتا ولجاجا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن الإيمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية ، فالمتوكل لا يريد إلا ما يريده الله تعالى ، ومن هنا قيل : إن الكامل لا يحب إظهار الكرامة ، وفي المسألة تفصيل عندهم (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد. وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب. وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية ، وإن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالى : (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) إلخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء وفسروا الشيطان بالوهم ؛ وقد يفسرونه في بعض المواضع بالنفس الأمارة. والقول المقصوص عنه في الآية عند ظهور سلطان الحق ، وبعضهم حمل الشيطان هنا على الشيطان المعروف عند أهل الشرع وذكر أن قوله : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) دليل بقائه على الشرك حيث رأى الغير في البين وما ثم غير الله تعالى ، وإلى هذا يشير كلام الواسطي حيث قال : من لام نفسه فقد أشرك ، ويخالفه قول محمد بن حامد : النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضي عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها ، ويأباه ما صح في الحديث القدسي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فتأمل (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) لم يذكر من يحييهم ، وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفوة والقربة ، ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات ، وما أطيب سلام المحبوب على محبة وما ألذه على قلبه :

أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس

تسيل من الآماق والاسم أدمع

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) إشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتا بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتي أكلها في جميع الأنفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية ، وقال بعضهم : الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان ، وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق كل وقت بتسهيله تعالى (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال الصادق رضي الله تعالى عنه : يثبتهم في الحياة الدنيا على الإيمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن ، وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على ما فيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الأزل وحكمه سبحانه الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) في الحياتين لسوء استعدادهم (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) من الهداية الأصلية والنور الفطري (كُفْراً) احتجابا وضلالا (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) من تابعهم واقتدى بهم في ذلك (دارَ الْبَوارِ) الهلاك والحرمان (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب الله سبحانه (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) كل من نظر إلى ذلك

٢١٨

والتفت إليه (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي سماوات الأرواح (وَالْأَرْضَ) أي أرض الأجساد (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي سماء عالم القدس (ماءً) وهو ماء العلم (فَأَخْرَجَ بِهِ) من أرض النفس (مِنَ الثَّمَراتِ) وهي ثمرات الحكم والفضائل (رِزْقاً لَكُمْ) في تقوى القلب بها (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) أي فلك العقول (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ) شمس الروح (وَالْقَمَرَ) قمر القلب (دائِبَيْنِ) في السير بالمكاشفة والمشاهدة (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ) ليل ظلمة صفات النفس (وَالنَّهارَ) نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بلسان الاستعداد فإن المسئول بذلك لا يمنع (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) السابقة واللاحقة (لا تُحْصُوها) لعدم تناهيها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء (كَفَّارٌ) لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها ، وقيل : إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى ، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ

٢١٩

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت ، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) يعني مكة شرفها الله تعالى : (آمِناً) أي ذا أمن ، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد ، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار ، والفرق بين ما هنا وما في [البقرة : ١٢٦] من قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أنه عليه‌السلام سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف ، وتحقيقه أنك إذا قلت : اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن ؛ وإذا قلت : اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية ، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر ، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وهاهنا سؤال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأن يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة.

قال في الكشف : والتقصي عن ذلك إما بأن المسئول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة ، وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا ، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول ، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسئول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف ، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك ، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه‌السلام بقوله : (إِنِّي أَسْكَنْتُ) إلخ اه.

وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم ، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين ، فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى أولا ، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل ، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه‌السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد.

وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه‌السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) أي بعدني وإياهم (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي عن عبادتها ، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي «وأجنبني»

٢٢٠