روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلا لا يقبل ذلك لأنه العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلا وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل ، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلا وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلا ولا أظنك في مرية من ذلك ، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر ، قيل : ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) بناء على أن (أُمُّ الْكِتابِ) هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل : يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه ، وتفسير (أُمُّ الْكِتابِ) بعلم الله تعالى مما رواه عبد الرزاق. وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه ، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا : وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو.

والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا (١) لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضا لقيام الدليل العقلي على تناهي الأبعاد مطلقا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه ، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري ، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير (أُمُّ الْكِتابِ) بما هو المشهور ، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره ، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت. ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور. منها أنه قد صح من دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القنوت : «وقني شر ما قضيت» وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأولى ولم لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه. ومنها ما صح في حديث التراويح من عذره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخروج إليها ، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله : «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير ، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض ، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لو لا العلم بإمكان التغيير والتبديل. ومنها ما صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك : «أخشى أن تقوم الساعة» فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضا مع اخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانا طويلا فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وان ما قضي من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك. ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفا من النار حتى أن منهم من كان يقول : ليت أمي لم تلدني ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول : لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدا لظننت أني ذلك الواحد ، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير. ومنها أنه لو لا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا

__________________

(١) وفي الأخبار ما يؤيد ذلك اه منه.

١٦١

بد أن يكون وإلا فمحال أن يكون ، وطلب ما لا بد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به ، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وأيضا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : «لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» وأخرج ابن مردويه. وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء» وهذا لا يكاد يعقل على تقدير أن القضاء لا يتغير ، وفي الأخبار والآثار مما هو ظاهر في إمكان التغير ما لا يحصى كثرة ، ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود ، ثم ان القضاء المعلق يرجع في المال إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في دفع ما يرد عليه ، ودفع ما يرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل. وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة فإنهم قالوا : إنه تعالى إذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج عنها فإما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله ، والأول يوجب التغير في ذاته سبحانه ، والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة ، وهو ما ذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا اضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم. أو صفة حقيقية ذات إضافة ، فعلى الأول يتغير نفس العلم ، وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط ، وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز. وأجاب كثير من الاشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له ؛ وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول ، والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم ؛ ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير ما في علم الله تعالى والا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله ما لا يخفى ، ولا يلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار ، واعترض بأنه على هذا القول لا يبقى وثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لا يبقى وثوق بالأخبار بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الاخبار الأول لأنه اخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك ، وأيضا يلزم من ذلك نفي نفس الأمر أو نفي كون تعلق العلم على وفقه وكلا النفيين كما ترى. بقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل. واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على الله سبحانه وفيه ما فيه هذا.

ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ما ذكرناه أولا قبل حكاية الأقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل. وغيره عن ابن عباس ، وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالأحكام الفرعية ، ويراد بأم الكتاب الأحكام الأصلية فإنها مما لا تقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الأحكام الفرعية التي فيه إنما تصح ممن أتى بها لكن لا يساعد على هذا المأثور عن السلف. نعم هو مناسب للمقام كما لا يخفى ، وزعم الضحاك. والفراء أن في الآية قلبا والأصل لكل كتاب أجل. وتعقب بأنه لا يجوز ادعاء القلب إلا في

١٦٢

ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعى فساد المعنى عليه ؛ وأيا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير ، ولهذا فسره غير واحد بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن عامر (وَيُثْبِتُ) بالتشديد (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) أصله إن نريك و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ومن ثمة ألحقت النون بالفعل ، قال ابن عطية : ولو كانت (إِنْ) وحدها لم يجز الحاق النون ، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه ، قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان ـ بما ـ وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع (ما) وعدم الإتيان بها ، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه : (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) مفعول ثان ، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، والعدول إلى صيغة المضارعة لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار ، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك ، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر ، وهذا الحصر مستفاد من إنما لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى ، وقوله تعالى : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الظاهر أنه معطوف على ما في حيز إنما فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات. واعتبر الزمخشري عطفه على جملة (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم ، قيل : وهو الظاهر ترجيحا للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلا حصر ، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية. وفي البحر عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان (نُرِيَنَّكَ) و (نَتَوَفَّيَنَّكَ) لأن المعطوف على الشرط شرط ، وقوله تعالى: (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) لا يصلح أن يكون جوابا للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه ، فيقال والله تعالى أعلم : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب ، ويكون قوله تعالى : (فَإِنَّما) إلخ دليلا عليهما ، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر.

ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه : (أَوَلَمْ يَرَوْا) إلخ. والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي أرض الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) من جوانبها بأن نفتحها شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك.

ومثل هذه الآية قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤] وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي وغيرهم ، وروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاقتصار على الأخير ، وروي أيضا عن مجاهد فالمراد من الأرض جنسها ، والأطراف كما قيل بمعنى الأشراف ، ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب ، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق :

واسأل بنا وبكم إذا وردت مني

أطراف كل قبيلة من يمنع

وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم. وقول بعضهم : طرف كل شيء خياره ، وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه : العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفا

١٦٣

قال ابن عطية : أراد كرم الله تعالى وجهه خيارا ؛ وأنت تعلم أن الأظهر جانبا ، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق. وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني ، وتقرير الآية عليه أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة وموتا بعد حياة وذلا بعد عز ونقصا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى ، وقيل : نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم ، والأول أيضا أوفق بالمقام منه ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وفي الحواشي الشهابية أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا ، وجملة (نَنْقُصُها) في موضع الحال من فاعل (نَأْتِي) أو من مفعوله ؛ وقرأ الضحاك (نَنْقُصُها) مثقلا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في البحر (وَاللهُ يَحْكُمُ) ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والاذلال حسبما يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار ، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها ، وقوله سبحانه : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) اعتراض أيضا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا ، وقيل : هو نصب على الحال كأنه قيل : والله تعالى يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرا وإليه ذهب الزمخشري ، قيل : وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى ، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه يسمى الذي يطلب حقا من آخر معقبا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي ، قال لبيد :

حتى تهجر بالرواح وهاجها

طلب المعقب حقه المظلوم

وقد يسمى الماطل معقبا لأنه يعقب كل طلب برد ، وعن أبي علي عقبني حقي أن مطلني. ويقال للبحث عن الشيء تعقب ، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم ، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسبما يرى ، وكأنه قيل : لا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب ، وقال ابن عباس : المعنى سريع الانتقام.

(وَقَدْ مَكَرَ) الكفار (الَّذِينَ) خلوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء ، وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ) أي جنس المكر (جَمِيعاً) لا وجود لمكرهم أصلا ، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم جرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر إن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون ، كذا قاله شيخ الإسلام ، وقد تكلف قدس‌سره في ذلك ما تكلف ، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الاشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم

١٦٤

والتابعون واللغويون ، وقيل : وجه الحصر أنه لا يعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا. وفي الكشاف أن قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) إلخ تفسير لقوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر. وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعا لا لهم ، على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيت لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) حين يأتيهم العذاب (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة الحميدة من الفريقين وان جهل ذلك قبل ، وقيل : السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذ ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار ، وهذه قراءة الحرميين. وأبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة «وسيعلم الكفار» بصيغة جمع التكسير.

وقرأ ابن مسعود «الكافرون» بصيغة جمع السلامة ، وقرأ أبي «الذين كفروا» وقرأ «الكفر» أي أهله ، وقرأ جناح بن حبيس «وسيعلم» بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع ، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرا ، وفسر عطاء «الكافر» بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون ، وقال ابن عباس : يريد بالكافر أبا جهل ، وما تقدم هو الظاهر ، ولعل ما ذكر من باب التمثيل (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل : قاله رؤساء اليهود.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام : هل تجدني في الإنجيل رسولا؟ قال : لا. فأنزل الله تعالى الآية ، فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله ، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز ، قيل : والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بهذا العنوان من ترك العناد وآمن.

وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدا بيني وبينكم ، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ومن لم يؤدها فهو خائن ، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا ، وقيل : المراد «بالكتاب» التوراة والإنجيل ، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد الله بن سلام والجاورد وتميم الداري ، وسلمان الفارسي ، وجاء عن مجاهد وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد الله ولم يذكروا غيره.

وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال : جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال : أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)؟ قالوا : اللهم نعم. وأنكر ابن جبير ذلك ، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية. والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون : إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك ، وأنت تعلم أنه لا بد لهذا من نقل.

١٦٥

وفي البحر أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية ، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به ، ولك أن تقول. إذا كان المعنى على طرز ما في الكشف وانه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد الله بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره ، ولا مانع أن تكون الآية مكية ، والمراد من الذين كفروا أهل مكة (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب لذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم. نعم قال شيخ الإسلام : إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف ، وقيل : المراد بالكتاب اللوح و (مَنْ) عبارة عنه تعالى ؛ وروي هذا عن مجاهد. والزجاج ، وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله تعالى ، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا وهو شهيدا بيني وبينكم ، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

فلا محذور في العطف ، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر. وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل : وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا (١) من بناء السورة الكريمة على ما بني وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة ، ولهذا فسره الزمخشري بقوله : كفى بالذي إلخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزل على أسلوب فائق على المتعارف ، ويعضد ذلك القول أنه قرأ على كرم الله تعالى وجهه. وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمر وابن أبي إسحاق ومجاهد والحكم والأعمش (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضا وابن السميفع والحسن بخلاف عنه (وَمَنْ عِنْدَهُ) بحرف الجر و (عِلْمُ الْكِتابِ) على أن علم فعل مبني للمفعول و (الْكِتابِ) نائب الفاعل فإن ضمير (عِنْدَهُ) على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراءات ، وقيل : المراد ـ بالكتاب ـ اللوح «وبمن» جبريل عليه‌السلام. وأخرج تفسير (مِنْ) بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى.

وقال محمد بن الحنفية والباقر ـ كما في البحر : المراد «بمن» علي كرم الله تعالى وجهه ، والظاهر أن المراد «بالكتاب» حينئذ القرآن ، ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملا لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد ، والظاهر أن (مَنْ) في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل ، ويؤيده أنه قرئ بإعادة الباء في الشواذ ، وقيل : إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ (شَهِيداً) ويراد بذلك الله تعالى ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، والعلم في القراءة التي وقع (عِنْدَهُ) فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف ؛ فيكون فاعلا لأن الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك :

__________________

(١) وقد ذكرناه فيما مر فتذكر اه منه.

١٦٦

مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري ، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمها أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجود وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فيما ناب عنه من ظرف أو مجرور ، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك ، وقد أعرب الحوفي (عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) مبتدأ وخبرا في صلة (مَنْ) وهو ميل إلى المرجوح ، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه ، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) قيل : عهد الله تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فيصلون بقولهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.

وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف؟ فقال : الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا ، وقال بعضهم الخشية أدق والخوف أصلب (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) صبروا عما دون الله تعالى بالله سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلبا لرضاه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أفادوا مما مننا عليهم من الأحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ما صار لهم ظاهرا وباطنا أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضا (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) الحاصلة لهم من تجلي الصفة الالهية السنية (السَّيِّئَةَ) التي هي صفة النفس ، وقال بعضهم : يعاشرون الناس بحسن الخلق فإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) قيل : يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الأرواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الأفعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم ـ ولأجل عين ألف عين تكرم ـ (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والامدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذين صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستقر فيه (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العلمي بالغيب (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) قالوا : ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم ، وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال ، وذكر السر بالمناجاة ، وذكر الروح بالمشاهدة ، وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق ، وذكر الله تعالى بالفناء فيه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وذلك أن النفس تضطرب بظهور

١٦٧

صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فإذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن ، وسائر أنواع الذكر إنما يكون بعد الاطمئنان ، قال الهزجوري : قلوب الأولياء مطمئنة لا تتحرك دائما خشية أن يتجلى الله تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالأدب (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تخلية وتحلية (طُوبى لَهُمْ) بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ما أخرج سبحانه أحدا من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به.

وقال الجنيد قدس‌سره : لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين الله تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والأوراد ، ومطايا الفضل عزائم الأمور فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما بعده (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فيه على ما قيل إشارة إلى أنه إذا شرف الله تعالى شخصا بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحا في ولايته ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره ؛ ومن هنا قيل : الأمور مرهونة لأوقاتها ، وقيل : لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قيل : يمحو عن ألواح العقول صور الأفكار ويثبت فيها أنوار الأذكار ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان ، وقيل : يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله ، وقال ابن عطاء: يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة ، وقيل : يمحو ما يشاء عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفني ويثبت ما يشاء فيها فيوجد (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه ، وقيل : لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات ، وذكروا أن الألواح أربعة. لوح القضاء السابق العالي عن المحو الإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ. ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قيل : ذلك بذهاب أهل الولاية الذين بهم عمارة الأرض ، وقيل : الإشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئا فشيئا حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا وبافناء صفاتها بصفاتنا ثانيا وبإفناء ذاتها في ذاتنا ثالثا (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل الله تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى في الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم

١٦٨

سورة إبراهيم

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور ، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين ، وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة ، وقال الإمام : إذا لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لا يختلف الغرض فيه إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته يعني أنه لا يختلف الحال وتظهر ثمرته إلا بما ذكر فإن لم يكن فليس فيه إلا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة ، وهل في هذه السورة منسوخ أو لا؟ قولان والجمهور على الثاني. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن فيها آية منسوخة وهي قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤] فإنه قد نسخت باعتبار الآخر بقوله تعالى في سورة النحل : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١٨] وفيه نظر ، وهي إحدى وخمسون آية في البصري ، وقيل : خمسون فيه ، واثنان وخمسون في الكوفي ، وأربع في المدني ، وخمس في الشامي. وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر ، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا ، وإذا أريد ب (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة ، وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى وتضمنت هذه الأخبار به من جهة الرسل عليهم‌السلام وأنهم قالوا : ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله ، وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [الرعد : ٣٠] وحكي هنا عن إخوانه المرسلين عليهم‌السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه ، واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في قوله سبحانه : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) [إبراهيم : ٢٤] إلى آخره ، وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر ، وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك ، وأيضا قال الجلال السيوطي : إنه ذكر في الأولى قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) [الرعد : ٣٢] وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل. والمستهزئين. وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ) [إبراهيم : ٩] الآيات ، وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء ، وجمعا أيضا في آخر ما ختما به ، وبقي مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام والله تعالى أعلم بما في كتابه.

١٦٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ

١٧٠

وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

(الر) مر الكلام فيما يتعلم به (كِتابٌ) جوز فيه أن يكون خبرا ـ لالر ـ على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدإ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدإ محذوف أو مفعول لفعل محذوف أو مسرودا على نمط التعديد ، وجوز أن يكون خبرا ثانيا للمبتدإ الذي أخبر عنه ـ بالر ـ وأن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي كتاب عظيم ، وقوله تعالى : (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدءاته قيل في موضع التفسير ، وفي إسناد الإنزال

١٧١

إلى ضمير العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم ، واللام متعلقة ب (أَنْزَلْناهُ) ، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عزوجل من الآلهة المختلفة كالملائكة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرئ «ليخرج الناس» بالياء التحتانية في «يخرج» ورفع «الناس» به (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذين يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود ، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم ، وقال محيي السنة : اذنه تعالى أمره وقيل : علمه سبحانه وقيل : إرادته جل شأنه وهي على ما قيل متقاربة ، ومنه الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر. وفي الكلام على ما ذكر أولا ثلاث استعارات. إحداهما ما سمعت في الاذن والأخريان في (الظُّلُماتِ) و (النُّورِ) وقد أشير إلى المراد منهما ، وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل الله تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعا لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملا هناك فقيل : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) إلى آخره ، وكان الظاهر ـ بإذننا ـ إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير ، وقيل : (رَبِّهِمْ) للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض ، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن الله تعالى كما قال سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] اه ، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد ، وكأنه للإنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧] استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت ، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه ، وشمول الإذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الانزال لإخراجهم جميعا ، وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك ، ومن هنا فساد قول الطبرسي : إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة وإلا لزم أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه ، وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح ، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها ، ونقل عن ابن القيم وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والسنة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف ، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التأويل ، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه ، والباء متعلقة ـ بتخرج ـ على ما هو الظاهر ، وجوز أن يكون متعلقا بمضمر وقع حالا من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم ، ومنهم من جوز كونه حالا من فاعله أي ملتبسا بإذن ربهم. وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورد بما رد فتأمل. واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل. واستدل بها أيضا كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفصيل ذلك في تفسير الإمام.

١٧٢

(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى : (إِلَى النُّورِ) وقال غير واحد : إن (صِراطِ) بدل من (النُّورِ) وأعيد عامله وكرر لفظا ليدل على البدلية كما في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال. واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نورا أولا لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به ، ثم جعل ثانيا جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد.

وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر ، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور؟ فقيل : (إِلى صِراطِ) إلى آخره ، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له ، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله ، وقال أبو حيان : النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه ، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر.

وقال الإمام : إنما قدم ذكر (الْعَزِيزِ) على ذكر (الْحَمِيدِ) لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات ، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير (الْحَمِيدِ) بما ذكر لغيره ، وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن (الْحَمِيدِ) هو المحمود المثني عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له تعالى أبدا ، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد ، وأما ما ذكره في (الْعَزِيزِ) فهو قول لبعضهم ؛ وقيل : هو الذي لا مثل له.

وربما يقال على هذا : إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم : التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ولعل كلامه قدس‌سره بعد لا يخلو عن نظر ، وقوله تعالى : (اللهِ) بالرفع على ما قرأ نافع. وابن عامر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته ، وبالجر على قراءة باقي السبعة والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية : والحوفي وأبي البقاء ، وعطف بيان في قول الزمخشري قال : لأنه أجري مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا ، ولعل جعله جاريا مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد.

ثم إنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم ، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما إعرابه نعتا مقدما. والثاني أن يجعل ما بعد الصفة بدلا ، والوجه الثاني أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه ، وعلى هذا يجوز أن يكون (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) صفتين متقدمتين ويعرب

١٧٣

الاسم الجليل موصوفا متأخرا ، ومما جاء فيه تقديم ما لو أخر لكان صفة وتأخير ما لو قدم لكان موصوفا قوله :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات ، ومثله قوله :

لو كنت ذا نبل وذا شزيب

لم أخش شدات الخبيث الذيب

وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى (الَّذِي لَهُ) أي ملكا وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خبره وما تقدم أولى ، فإن في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط وإظهار تحتم سلوكه على الناس ما ليس في الخبرية ، والمراد بما في السموات وما في الأرض ما وجد داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما ، ومن الناس من استدل بعموم (ما) على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الإمام ، وقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل.

وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمزة بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال : ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال : ويل له كسلام عليك ، وقال الراغب : قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر ، وويس استصغار ، وويح ترحم ، ومن قال : هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت له ذلك ، وقوله سبحانه : (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على ما في البحر وغيره بالخبر ، وجوز أن يكون في موضع الحال على ما في الحواشي الشهابية و (مِنْ) بيانية ، وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشئ عنه ، وقيل إن الجار متعلق : بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون من قائلين يا ويلاه كقوله تعالى : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣] ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لا يجوز ، وقد مر قريبا في الرعد ما يتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم. وفي الكشاف أن (مِنْ عَذابٍ) إلخ مصل بالويل على معنى أنهم يولولون إلى آخر ما ذكرنا ، وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف ، واستظهر هذا في البحر. وفي الكشف أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد إليه قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] وأمثاله أشار هنا إلى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فإنه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح ، ولم يرد أن هنالك فصلا بالخبر لقرب ما مر في قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٤] اه. واعترض عليه بأنه لا حاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لا يحتاج إلى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة ، و (مِنْ) بيانية لا ابتدائية حتى يحتاج إلى ما ذكر ، ولا يخفى قوة ذلك وأنه لا يحتاج إلى التكلف ولو جعلت (مِنْ) ابتدائية فتأمل ، والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة ، وجوز أن يكون المراد عذابا يقع بهم في الدنيا (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره ، فالسين للطلب ، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك ما يحبه ويشتهيه من الأطعمة اللذيذة لضرره ، ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين الله تعالى والإيمان به وهو الصراط الذي بين شأنه ، والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار.

١٧٤

وقرأ الحسن «يصدون» من أصد المنقول من صده صدودا إذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة إلى القراءة الأخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها ، ومن مجيء أصد قوله :

أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم

صدود السواقي عن أنوف الحوائم

ونظير هذا وقفه وأوقفه (وَيَبْغُونَها) أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها (عِوَجاً) أي زيغا واعوجاجا وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة ، وقيل : المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجا قادحا فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك ، وكلا المعنيين أنسب مما قيل : إن المعنى يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من الكافرين فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما ينسابه من المعاني المعتبرة في الصراط ، فالكفر المنبئ عن الستر بإزاء كونه نورا ، واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة. والصد عنه بإزالة كون سالكه عزيزا.

وقال الحوفي. وأبو البقاء : إنه صفة الكافرين ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) سواء كان في موضع الصفة ـ لويل ـ أو متعلقا بمحذوف ، ونظير ذلك على الوصفية قولك : الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لا يجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما والتركيب الصحيح فيه أن يقال الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة ، وقيل إذا جعل (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لا يضر الفصل بها وهو كما ترى وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتا فقطع أي هم الذين ، وجوز أن لا يقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) أي بعد عن الحق (بَعِيدٍ) وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل ، وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول ، والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل. وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازا ـ كجد جده ـ إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وذاك أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد.

ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه ، فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه ، والإسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضا ، وفي الكشاف هو من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله ، ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وبعيدا ، وكتب عليه في الكشف أن الاسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد ابعادهم في الضلال وتعمقهم فيه.

وأما قوله : فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها ، وقوله : أو فيه بعد على جعل الضلال مستقرا للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما ، وإليه الإشارة بقوله : لأن الضال قد يضل مكانا بعيدا وقريبا ، والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لا يوازن وزانه ، وعلى جميع التقارير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت ما بين الحق والباطل أو ما بين أهلهما وجاز أن يكون قوله : ذي بعد أو فيه بعد وجها واحدا إشارة إلى الملابسة بين الضلال والبعد لا بواسطة صاحب

١٧٥

الضلال لكن الأول أولى تكثيرا للفائدة ، ثم قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) دون أن يقول سبحانه : أولئك ضالون ضلالا بعيدا للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في إثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم.

(وَما أَرْسَلْنا) أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالا (مِنْ رَسُولٍ إِلَّا) متلبسا (بِلِسانِ قَوْمِهِ) متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا ، وقيل : بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم ، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه‌السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم ، وأما يونس عليه‌السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا. وقرأ أبو السمال. وأبو الحوراء. وأبو عمران الجوني «بلسن» بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش ، وقال صاحب اللوامح : إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية. وقرأ أبو رجاء. وأبو المتوكل. والجحدري «بلسن» بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ «بلسن» بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل (لِيُبَيِّنَ) ذلك الرسول (لَهُمْ) لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشمول رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين ، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف ، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت (١) الحكمة المنبئ عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان ، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة ، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما فيه ، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين ، كذا قرره شيخ الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان ، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم ، والمراد من قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم العرب كلهم ، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وفيه نظر ظاهر.

وقال ابن قتيبة : المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم ، وقيل : إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : نزل القرآن بلغة مضر ، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعا منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش ، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل : وكيف؟ فقال : لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم ؛ وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال : نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن ، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم ، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول : إن في القرآن ما نزل بلغة حمير. وكنانة. وجرهم. وأزدشنوءة. ومذحج وخثعم وقيس عيلان وسعد العشيرة.

__________________

(١) قوله اقتضت إلخ هكذا بخطه اه منه.

(٢) ادعى بعضهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم كل اللغات لعموم البعثة وإن كان لم يتكلم على خلاف بغير العربية فافهم ولا تغفل اه منه.

١٧٦

وكندة. وعذرة. وحضر موت. وغسان. ومزينة. ولخم. وجذام. وحنيفة. واليمامة. وسبأ. وسليم. وعمارة. وطي. وخزاعة. وعمان. وتميم. وأنمار. والأشعريين. والأوس. والخزرج. ومدين ؛ وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم ، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط ، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول : إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم ، ونقل أبو شامة عن بعض ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في اللفظ والإعراب ، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر ، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشا مما لا أظن أن أحدا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب. وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ وهذا إن صح ظاهر في العموم ، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك ، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى ، وقيل : الضمير في (قَوْمِهِ) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه ، وقيل : كان يترجم ذلك جبريل عليه‌السلام ونسب إلى الكلبي ، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر ، وضمير (لَهُمْ) للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة. وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير (لَهُمْ) للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد.

وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم قوم بدلالة السياق ، والجواب كما في الكشف أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال : لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل. وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول ، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى.

وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علما بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا ، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالما بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علما ضروريا بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك ، على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء؟ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيص بالمعرفة مسلم وغير ضار (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه ، وقيل : يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف (وَيَهْدِي) يخلق الهداية أو يمنح الألطاف (مَنْ يَشاءُ) هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك ، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما ، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠](١) كأنه قيل : فبينوه لهم فأضل الله تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة ، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين

__________________

(١) هكذا نظمها وجاء في أصل المؤلف «فانفلق» وهو غلط اه.

١٧٧

على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦] على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه ، والفاء على هذه تفصيلية ، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم‌السلام المتعاقبة عليهم ، وتقديم الإضلال على الهداية ـ كما قال بعض المحققين ـ إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم‌السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء ، وهذا محقق لما سلف من تقييد لإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغالب في مشيئته تعالى (الْحَكِيمُ) فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة ، وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض إلى الرسول عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق ، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه ، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات ، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) الآية (بِآياتِنا) أي ملتبسا بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه‌السلام ، وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بمعنى أي أخرج ـ فإن ـ تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء ، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن ، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه.

وزعم بعضهم أن (أَنْ) هنا زائدة ولا يخفى ضعفه ، والمراد من قومه عليه‌السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون (مِنَ الظُّلُماتِ) من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨](إِلَى النُّورِ) إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به ، وقيل : أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكمال (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام ، والعطف على (أَخْرِجْ) وجوز أن تكون الجملة مستأنفة ، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار ـ على ما قيل ـ بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم ، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضا والربيع ومقاتل وابن زيد المراد ـ بأيام الله ـ وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية ، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها ، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع ، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم :

وأيام لنا غرر طوال

عصينا الملك فيها إن ندينا

وأنشده الشهاب للمعنى السابق ، وأنشد لهذا قوله :

وأيامنا مشهورة في عدونا

وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه ، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وجعل أبو

١٧٨

حيان من ذلك بيت عمرو ، والأظهر فيه ما ذكره الطبرسي.

وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى ، لكن ذكر شيخ الإسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أولا على ما روي ثانيا بأنه يرد الثاني ما تصدى له عليه‌السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى بعد ، وهو يبعد صحة الحديث ، والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل :

مصائب قوم عند قوم فوائد

مما لا ينبغي أن يلتفت إليه عاقل في هذا المقام. نعم إن قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ظاهر في تفسير الأيام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالا لا يستدعيه على بعضها.

وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه‌السلام القبط و (الظُّلُماتِ) و (النُّورِ) الكفر والإيمان لا غير ، وقيل: قومه عليه‌السلام القبط. وبنو إسرائيل وكان عليه‌السلام مبعوثا إليهم جميعا إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله تعالى وأن لا يشركوا به سبحانه شيئا ، وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة.

وقيل : هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من (الظُّلُماتِ) و (النُّورِ) إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر الله تعالى ، ونحن نقول : نسأل الله تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في التذكير بأيام الله تعالى أو في الأيام (لَآياتٍ) عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ، وهي على الأول الأيام ، ومعنى كون التذكير ظرفا لها كونه مناطا لظهورها ، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن كلمة (فِي) تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء ، والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع ، وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم ، فإذا كانت الإشارة إليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصبر على بلائه تعالى (شَكُورٍ) كثير الشكر لنعمائه عزوجل.

وقيل : المراد لكل مؤمن ، فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين ، وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوي القامة بادي البشرة في الكناية عن الإنسان ، والتعبير عن المؤمن بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على ما في باطنه. والمراد على ما قيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدي إلى تلك المرتبة ، فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ما قبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الإيمان لا يكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل ، وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضي للشكر ، وقيل : لأنه من قبيل التروك يقال : صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فإنه ـ كما قال الراغب ـ تصور النعمة وإظهارها ، قيل : وهو مقلوب الكشر أي الكشف ، وقيل : أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه ، وهو على ثلاثة أضرب : شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح ، وذكر أن توفية شكر الله تعالى صعبة ، ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح (١) وإبراهيم (٢) عليهما‌السلام ، وقد يكون انقسام الشكر

__________________

(١) قال تعالى فيه (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) اه منه.

(٢) قال فيه «شاكرا لأنعمه اجتباه» اه منه.

١٧٩

على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجها للتقديم والتأخير ، وقيل : ذلك لتقدم متعلق الصبر ـ أعني البلاء ـ على متعلق الشكر أعني النعماء.

(وَإِذْ قالَ مُوسى) شروع في بيان تصديه عليه‌السلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور (وَإِذْ) منصوب على المفعولية عند كثير بمضمر خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر غير مرة أي اذكر لهم وقت قوله عليه‌السلام (لِقَوْمِهِ) الذين أمرناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) تعالى الجلية (عَلَيْكُمْ) وبدا عليه‌السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل ، وقيل : بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط ، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه‌السلام مأمورا بالترغيب والترهيب ، أما إذا كان مأمورا بالترغيب فقط فلا سؤال ، والظرف متعلق بنفس النعمة أن جعلت مصدرا بمعنى الأنعام أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما أي اذكروا انعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم ، و (إِذْ) في قوله سبحانه : (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضا على تقدير جعلها مصدرا أي اذكروا إنعامه عليكم وقت انجائكم ، ويجوز أن يتعلق بكلمة (عَلَيْكُمْ) إذا كانت حالا لا ظرفا لغوا للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل : اذكروا نعمة الله تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم ، ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة الله مرادا بها الأنعام أو العطية المنعم بها (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصل السوم ـ كما قال الراغب ـ الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم : سامت الإبل فهي سائمة ، ومجرى الطلب في قولهم : سمته كذا (سُوءَ الْعَذابِ) مفعول ثان ـ ليسومونكم ـ والسوء مصدر ساء يسوء ، والمراد جنس العذاب السيئ أو استعبادهم واستعمالهم من الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك.

وفي أنوار التنزيل أن المراد بالعذاب هاهنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى : (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) هاهنا ، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة ، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك ، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم‌السلام تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس ، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف ، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير ، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى المراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضا ، وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة. إنه سيولد لبني إسرائيل من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله تعالى شيئا وقرأ ابن محيصن «ويذبحون» مضارع ذبح ثلاثيا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنه حذف الواو (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يبقونهن في الحياة مع الذل ، ولذلك عد من جملة البلاء أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :

ومن أعظم الرزء فيما أرى

بقاء البنات وموت البنينا

والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما ، ولا اختلاف في العامل لأنه وإن كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ (أَنْجاكُمْ) في الحقيقة ، والاقتصار على الاحتمالين الأولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله لا يظهر وجهه.

١٨٠