روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

الغليل وإن من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه فتدبر (إِنَّ رَبَّكَ) الذي يبلغك إلى غاية الكمال (هُوَ الْخَلَّاقُ) لك ولهم ولسائر الأشياء على الإطلاق (الْعَلِيمُ) بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه أن الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح ، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل ، وقال بعض المدققين : إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش ومالك بن دينار «هو الخالق» وكذا في مصحف أبي. وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير و (الْخَلَّاقُ) مختص بالكثير و (الْعَلِيمُ) أوفق به ، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي جعفر وأبي عبد الله والحسن ومجاهد وأبي العالية والضحاك وابن جبير وقتادة رضي الله تعالى عنهم. وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أبيّ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة ، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة ، وفي أخرى عد يونس دونهما ، وفي أخرى عد الكهف ، وقيل : السبع آل حم ، وقيل : سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم‌السلام ، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن بلفظها وهي الأسباع ، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع : الأمر والنهي والبشارة والانذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم ، وأصح الأقوال الأول. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه ، وقال أبو حيان : إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك. وأورد على القول بأنها السبع الطول أن هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية ، وروي هذا عن الربيع ، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له : إنهم يقولون : هي السبع الطول فقال : لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بإيتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها. واعترض بأن ظاهر (آتَيْناكَ) يأباه ، وقيل : إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير (مِنَ الْمَثانِي) بيان للسبع وهو ـ على ما قال في موضع من الكشاف ـ جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو (كَرَّتَيْنِ) ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثني بمعنى التثنية والأول أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نظرا إلى الأصل وقال في موضع آخر : إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء ، وإطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروي هذا عن الحسن وأبي عبد الله رحمهما‌الله تعالى وعن الزجاج لأنها تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضا : لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل : لأن

٣٢١

كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم ، وقيل : لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى ، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن إطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم ، وروي هذا الادخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به ، وعن أبي زيد البلخي أن إطلاق المثاني على ذلك لأنه يثني أهل الشر عن شرهم فتأمل ، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه إطلاقها عليه مع الاختلاف في الإفراد والجمع ، وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها ـ فمن ـ للتبعيض وعلى الأول للبيان (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) بالنصب عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك بين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الأسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام. البيت ، بناء على أن القرآن في نفسه الأسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، واختار بعضهم تفسير (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) كالسبع المثاني بالفاتحة لما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص (الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [الحجر : ١] بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كله اه ، وأمر العطف معلوم مما قبله. وقرأت فرقة «والقرآن» بالجر عطفا على (الْمَثانِي) ، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمع بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) من زخارف الدنيا وزينتها (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين ، وقيل : رجالا مع نسائهم ، والنهي قيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة ، وقيل : هو لأمته وإن كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام ، وأيد بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته ، فقد أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بإبل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية ، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع. ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه ، وحاصلها مع ما قبل قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغني بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا ، وجعل من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» بناء على أن «يتغن» من الغنى المقصور كيستغني وليس مقصورا على الممدود ، ويشهد لذلك ما في الحديث الصحيح في الخيل «وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا» وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه ، وقال العراقي : إن الخبر مروي لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث.

وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون : لو كانت لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت ،

٣٢٢

فكأنه سبحانه يقول : قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل ، وروي هذا عن الحسن بن الفضل. وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى. نعم روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها إلخ وهو غير معروف ، وقد قالوا : إنه لم يعهد سفره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للشام ، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كالنهي في قوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) حيث إنهم لم يؤمنوا ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه وشق عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم ، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث إنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم ، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) كناية عن التواضع لهم والرفق بهم ، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له ، والجناحان من ابن آدم جانباه (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمه المخوفة بمن لم يؤمن (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قيل : إنه متعلق بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) إلخ على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أي اتيناك سبعا من المثاني إيتاء كإنزالنا أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة : بعضه موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما ، وتفسير (الْمُقْتَسِمِينَ) المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن. وغيره ، وفي الدر المنثور أخرج البخاري وسعد بن منصور والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، وجاء ذلك مرفوعا أيضا ، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال : «سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أرأيت قول الله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال عليه الصلاة والسلام : اليهود والنصارى قال : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ما عضين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنوا ببعض وكفروا ببعض» أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء به ؛ فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول : سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا ، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض ، وحمل توسط قوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) إلخ بين المتعلق والمتعلق على امداد ما هو المراد بالكلام من التسلية. وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله ، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه ، وقيل : هو متعلق بقوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل : أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود هو ما جرى على قريظة. والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك. وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه ، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الاعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] ونظائره ، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة ، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقسام تخصيص من غير مخصص ، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر ، وقال ابن السائب : ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود

٣٢٣

والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث. وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة ، أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات ، ويجعل الذين منصوبا ـ بالنذير ـ على أنه مفعوله الأول و (كَما) مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزءون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم.

وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار ، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم ، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة والأسود وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى ، وقيل : إنه صفة لمفعول الذين أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر ، أي النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.

وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون (كَما أَنْزَلْنا) من مقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يصلح لذلك ، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى ، وفيه من التعسف ما لا يخفى ، وأيضا فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز.

وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه ، وقيل : المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم الله تعالى ، والاقتسام بمعنى التقاسم ، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها به للعذاب المنذر ، والموصول إما مفعول أول ـ للنذير ـ أو لما دل هو عليه من أنذر. وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب ، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب ، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل ، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه ، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي. وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه ، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة ، وبعض من يسلمها يقول : يجوز أن يكون الموصول صفة (الْمُقْتَسِمِينَ) مرادا بهم أولئك الرهط ، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه

٣٢٤

معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه ؛ ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم : (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [الحجر : ٨١] بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه‌السلام حسبما قيل به فيما سبق ، وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنالك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا : فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب كالاقتسام على قتل النبي ، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي ، وفيه بحث ، وقيل : المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى ، وقال أبو البقاء وليته لم يقل : (كَما أَنْزَلْنا) متعلق بقوله تعالى : (مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا ، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وذكر ابن عطية وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب ، ومرادهم على ما قيل أن ما في (كَما) موصولة ، والمراد من المشابهة المستفادة في الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول (قُلْ) أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك ، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم ، وقريب منه ما قيل : المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم ، وفيه ما فيه.

وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه ، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها : والأقرب من الأقوال المذكورة أن (كَما أَنْزَلْنا) متعلق بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) إلخ ، وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية ، وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل.

والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما ، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما ، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال : كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني ، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم. وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته ، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني ، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي ، وتوسيط قوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) إلخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ، ثم نهي عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبئ عن وشك زوالها عنهم ، ثم

٣٢٥

عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها ، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم. ثم رجع إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا ، فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب اه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق.

وفي البحر بعد نقل أكثر هذه الأقوال : وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لكم ولغيركم كما قال سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(١) لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨] اه بحروفه ، وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب ، وعضين جمع عضه وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء ؛ فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء.

وقيل : العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر : عاضه وللساحرة عاضهة ، وفي حديث رواه ابن عدي في الكامل ، وأبو يعلى في مسنده «لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة» وأراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها ، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة.

وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان ، قيل : وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له ، وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول ، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده ؛ ومثل هذا كثير مطرد ، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول : عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم وأسد ، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي لنسألنّ يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك ، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناء على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفي سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم ؛ وروي هذا عن ابن عباس ، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت.

__________________

(١) وقع في الأصل بشير ونذير إلخ والتلاوة كما ذكرنا اه.

٣٢٦

وأجيب بأنه بناء على زعمهم كقوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام. وقيل : المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها. ورد بأن قوله : لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه.

واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك ، واستظهر بعضهم عود الضمير في (لَنَسْئَلَنَّهُمْ) إلى (الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) للقرب ، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) وما للعموم كما هو الظاهر ، وأخرج ابن جرير : وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية : يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين.

وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يسألون عن قول لا إله إلا الله» وأخرجه البخاري في تاريخه ، والترمذي من وجه آخر عن أنس موقوفا ، وروي أيضا عن ابن عمر ، ومجاهد ، والمعنى على ما في البحر يسألون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لمقالها بالأعمال ، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها ، وقيل : لتعليل النهي والأمر فيما سبق ، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم مبني على أن الذين مبتدأ وقد علمت حال ذلك ، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) قال الكلبي : أي أظهره واجهر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا ، ومن ذلك قيل للفجر صديع (١) لظهوره.

وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل ، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز ، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية ، و «ما» جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف ، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثلما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، وقيل : التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء ، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع ، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقا ، وقول مجاهد : كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى ، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد (بِما تُؤْمَرُ) القرآن الذي أوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغهم إياه ، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله : أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول ، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز. ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا أما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع ، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء آخر سهل ، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة ، وقال أبو عبيدة : عن رؤية ما في القرآن منها ، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرؤها فسجد فقيل له في ذلك فقال : سجدت لبلاغة هذا الكلام ، ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)

__________________

(١) كما في قوله. كأن بياض غرته صديع. اه منه.

٣٢٧

أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة ، وقيل : هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم. أخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه بسند حسن قال : المستهزءون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عطيل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه‌السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه‌السلام إلى أكحله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ، ثم أراه الأسود ابن المطلب فأوما إلى عينيه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه. ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ؛ ثم أراه الحارث فأومأ إلى بطنه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها ، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه ، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها ؛ وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه ، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته ، وقال الكرماني في شرح البخاري : إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم : عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، وعمارة بن الوليد ، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر. وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم (١) وأسمائهم وكيفية هلاكهم وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود. وتعقبه في البحر بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم ، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه‌السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر ، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال : ولا حاجة إلى شيء من ذلك ، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علو قدره وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى ، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية ، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد ما لا يخفى.

وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من كلمات الشرك والاستهزاء ، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية. وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل : سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق ، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من

__________________

(١) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا ثمانية اه منه.

٣٢٨

اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل : افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيم الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ) دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه ، قيل : وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد ، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي ، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه ، والمعنى دم على العبارة ما دمت حيّا من غير إخلال بها لحظة ، وقال ابن بحر : اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود ، وقالوا : إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين ، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.

وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء ، أفترى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان ، وأيضا لم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال : إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) إلخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام ، ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس ، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما ، ثم قال سبحانه : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه ، وقوله تعالى شأنه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) إلخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة.

إذا تغيبت بدا

وإن بدا غيبني

وعن لسان هذا المقام (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] اه ، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين

٣٢٩

مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها ، وأن قوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) إلخ في مقابلة (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] والله تعالى أعلم وأحكم.

ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات : ما قالوه مما ملخصه (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب.

وقال ابن عطاء : هذه الآية إرشاد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل : أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عزوجل ولم يجر العذاب على ذلك السنن ، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه ، وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال النووي : أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين ، وقال القرشي : هذا قسم بحياة الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي المتفرسين ، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر ، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق ، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية ، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة ، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى إذا أراد فتح الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة ، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف ، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه ، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة ، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه ، وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بإشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيد رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال : آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق ، ولهم في ذلك عبارات أخرى.

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة ، وقيل : الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام ، ومعنى كونها مثاني أنها ثنى وكرر ثبوتها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه ، وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني ، وقيل : معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عزوجل ومواليدها ، وجاء «لا زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وهو عندهم : الذات الجامع لجميع الصفات (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) إلى

٣٣٠

آخره. قال بعضهم في ذلك : غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧](فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين ، هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضاء ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم

٣٣١

سورة النّحل

وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس : لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده ، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [النحل : ٩٥] إلى قوله سبحانه : (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٦ ، ٩٧] وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة ، وهي مائة وثمان وعشرون آية ، قال الطبرسي وغيره : بلا خلاف ، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف ، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها ، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى ، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون المكذبون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ

٣٣٢

مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ

٣٣٣

مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٥٠)

بقوله عزوجل (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله. وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل : (أَتى أَمْرُ اللهِ) فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة ، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا : (أَتى أَمْرُ اللهِ) وانظر كيف جاء في المتقدمة (يَأْتِيَكَ) بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله ، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر ، وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة ، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال : المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار ، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض ، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه ، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم ، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب ، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع ، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته ، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى ، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه

٣٣٤

قوله سبحانه (١) فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب ، والضمير المنصوب في (تَسْتَعْجِلُوهُ) على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه ، وقيل : يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧ ، العنكبوت : ٥٣ ، ٥٤] وهو خلاف الظاهر ، لكن قيل : إن ذلك أوفق بما بعد ، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب ، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة ، أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة (٢) أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه ، وأما الثاني فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة ، والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.

وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرفع الناس رءوسهم فلما نزل (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) اطمأنوا ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني» ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة ، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد ، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة ، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود.

وبحث فيه من وجوه ، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي يدل على الأخير ، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي لا تعدوه عاجلا ، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم ، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل ، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر ، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس ، وأما خامسا فلأن قوله : بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره ، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة ، وقد عرفت ما في قوله : وقد عرفت ، وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) حيث قال : أي الساعة أو ما يعمها

__________________

(١) قوله والقرينة عليه قوله سبحانه إلخ كذا بخطه ولعله سقط منه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) مقول القول بدليل ما ذكره من التعليل اه.

(٢) قال تعالى :(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) اه منه.

٣٣٥

وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟ ، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء : قد يقال : إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال : «لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) ذعر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فسكنوا». وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال : إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) اطمأنت قلوبهم وسكنوا ، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي ، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ : لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات : إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين ، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير : إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا : (أَتى أَمْرُ اللهِ) إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف ، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له ، وأيضا فإن قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه ، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم ، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر ، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء الخطاب على وفق (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة ، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك ، وعلى قراءة «يستعجلوه» و (يُشْرِكُونَ) بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك ، وقال في الكش : التحقيق أن قوله سبحانه : (أَتى أَمْرُ اللهِ) تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل ، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم‌السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل (يُنَزِّلُ) حالا من ضمير (يُشْرِكُونَ) لا يطابق المقام البتة انتهى.

٣٣٦

وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة ، ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر ، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر ، والتعبير بصيغة الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى ، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه‌السلام ويسمى الواحد بالجمع ـ كما قال الواحدي ـ إذا كان رئيسا ، وعند بعض هو عليه‌السلام ومن معه من حفظة الوحي.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» مخففا من الإنزال ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف ، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم «تنزّل» بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد التاءين وأصله تتنزل ، وابن أبي عبلة «ننزل» بنون العظمة والتشديد ، وقتادة بالنون والتخفيف ، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات (بِالرُّوحِ) أي الوحي كما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن ، وروي عن الضحاك والربيع بن أنس الاقتصار عليه ، وأيّا ما كان فإطلاق «الروح» على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة ، ووجه الشبه أن الوحي يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن ، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح ، وهذا كما إذا قلت : رأيت بحرا يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس ـ كأظفار المنية ـ وليس غير كونه استعارة مصرحة ، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك ، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو خال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح ، وقوله سبحانه : (مِنْ أَمْرِهِ) بيان للروح المراد به الوحي ، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور ، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] لما قالوا : من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط ، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] كما تبين به المجازية ، ولو قيل : يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان (مِنْ أَمْرِهِ) وزان (مِنَ الْفَجْرِ) وليس كل بيان مانعا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص.

وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا ـ بينزل ـ و (مِنْ) سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله ، والأمر على هذا واحد الأوامر ، وعلى ما قبله قيل : فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن «الروح» هو جبريل عليه‌السلام وأيده بقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] وجعل الباء بمعنى مع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن «الروح» خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا. وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه ، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.

والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق ، ويرد بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا

٣٣٧

حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم‌السلام قالوا : الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق فالرسل لا حاجة إليهم ، وهذا جهل ظاهر ، ولعمري إنه زندقة وإلحاد ، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور ، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه إلخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عزوجل لا حجاب ، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون. وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك ، فالأنبياء عليهم‌السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم ، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين ، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله ، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي ، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاءوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم ، ودليلان أقوى من دليل ، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاءوا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه ، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال ، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح على أن (أَنْ) هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم : كتبت إليه بأن قم ، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون (أَنْ) مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل : يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا ، وجوز الزمخشري ذلك وكون (أَنْ) المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال : والتقدير بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا.

وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع ، وفيه بحث ، ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة هاهنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير ، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة ، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرف شأنه ، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا ، وأما في نوح فكلام ابتدائي ، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول : كلامي اضرب زيدا انتهى. وقرئ لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) فالضمير للشأن وهو من خلاف مقتضى الظاهر ، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن ، و (أَنْ) وما بعدها في موضع المفعول الثاني ـ لأنذروا ـ دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف. والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا ، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك ، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار ، وإن أبيت إلا الاشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف.

٣٣٨

وقال الراغب : الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم ، ومحصله على العبارتين التخويف ، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا و (أَنْ) وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا ، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام ، وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني ، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المحذور طارئ فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور ، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه ، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما ، والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر.

وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه ، وكأنه لهذا قيل : إنه لم يأت بشيء يعتد به (فَاتَّقُونِ) جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى.

وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بكفرة ، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد ، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحى به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلا أنا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل ـ إن ـ بالكسر لا بالفتح.

وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره ، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر ، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات ، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل ، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم ، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية ، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى ، وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة.

وقدم قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) على قوله سبحانه : (فَاتَّقُونِ) للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية ، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا ، وله كمالات أخر هي كمالاته البدنية وقواه الحيوانية ، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم‌السلام فقال عز قائلا : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل

٣٣٩

واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية ، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه : (وَاصْبِرْ) [النحل : ١٢٧] إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز ؛ والمراد بالسماوات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة ، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد بالألوهية والربوبية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ؛ ولذا عقب هذا بقوله تعالى : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقرأ الأعمش «فتعالى» بالفاء ، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم ، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدئ ولا يعيد ، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة ، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا ، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر ، وقرأ الكسائي «تشركون» بالتاء.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي هذا النوع غير الفرد الأول منه (مِنْ نُطْفَةٍ) أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا (فَإِذا هُوَ) بعد الخلق من ذلك (خَصِيمٌ) منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم ، وهو صيغة مبالغة ، وقال الواحدي : بمعنى مخاصم ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر.

(مُبِينٌ) مظهر للحجة لقن بها ؛ وقيل : المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته ، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه : اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن ، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله ، وتقرير الأول أن يقال : إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضي لها هو الفاعل الحكيم المختار ، وإن كان الثاني قلنا : إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرىّ الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا أن النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.

ولا يصح أن يقال : إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه. وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى

٣٤٠