روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

في الآية. ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لا يخفى ، قيل : ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع (كانَ) ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من الله تعالى شيء (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع أي ولكن حاجة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير ، والمراد بالحاجة شفقته عليه‌السلام وحرازته من أن يعانوا.

وذكر الراغب أن الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج ، وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية. وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جمعا لها وهو محجوج بوروده في الفصيح ، وفي التصريح باسمه عليه‌السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه‌السلام قد اشتهر بالحزن والرقة ، وجوز أن يكون ضمير (قَضاها) للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه‌السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة ، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته ، والاستثناء منقطع أيضا ، وجملة (قَضاها) صفة (حاجَةً) وجوز أن يكون خبر (إِلَّا) لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب. وغيره عن ابن الحاجب ، وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية.

وجوز الطيبي كون الاستثناء متصلا على أنه من باب : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.

فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئا إلا شفقته التي في نفسه ، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فإذن ما أغني عنهم شيئا أصلا (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) جليل (لِما عَلَّمْناهُ) أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا فكانت الحال كما قال ، فاللام للتعليل و (ما) مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه‌السلام ، وجوز كون (ما) موصولا اسميا والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه ، وقيل : المعنى أنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن إثارة ، وهو إشارة إلى كونه عليه‌السلام عاملا بما علمه وما أشير إليه أولا هو الأولى ، ويؤيد التعليل قراءة الأعمش (لِما عَلَّمْناهُ) وفي تأكيد الجملة بأن واللام وتنكير (عِلْمٍ) وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه‌السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر ، وقيل : المراد «لا يعلمون» إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر. وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادئ.

وقيل : المراد (لا يَعْلَمُونَ) أن يعقوب عليه‌السلام بهذه المثابة من العلم ، ويراد ـ بأكثر الناس ـ حينئذ المشركون فإنهم لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة ، وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه.

وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فقال : إن لنا قضاء وقدرا وسر قدر وسر سره ، وبيانه أن الممكنات الموجودة ، وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة ، ثم إن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شئونات ذاتية لحضرة الواجب تعالى ، فكما أن الواجب تعالى والشئون الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول

٢١

التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها ، فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد ، والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص ، وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده ، وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادات أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شئونات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال ، ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة ، وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه ، وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا ، فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم ، فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر ، لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة ، ولذا ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم‌السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال : لا أسعى في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي؟.

وقال بعض المحققين : إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضي معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأبى ما قلناه كما لا يخفى «هذا».

وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضا لا يعلم ، وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه ، فإن الكلام فيما علم كذلك ، فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ، ومن المعلومات العلم بالعلم ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق ، وسر القدر عين تحكمه في الخلائق ، وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم.

وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيزا عليه‌السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له : يا عزيز لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها ، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل ؛ فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود ، والأزل لا يقبل السؤال عن العلل ، والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى) أي ضم (إِلَيْهِ أَخاهُ) بنيامين ، قال المفسرون : إنهم لما دخلوا عليه عليه‌السلام قالوا : أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم

٢٢

وأصبتم وستجدون ذلك عندي ، وبلغوه رسالة أبيهم ، فإنه عليه‌السلام لما ودعوه قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولا له : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا ، وقال أبو منصور المهراني : إنه عليه‌السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه‌السلام بكى ثم إنه أكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه‌السلام : بقي أخوكم وحده فقالوا له : كان له أخ فهلك قال : فأنا أجلسه معي فأخذه وأجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله ، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال : ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال : هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه‌السلام على فراشه فجعل يوسف عليه‌السلام يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك أيها الملك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه‌السلام وقام إليه وعانقه وتعرف إليه عند ذلك (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك ، والقول بأنه عليه‌السلام تعرف إليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر. وروي عن ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما إلا أن ابن إسحاق قال : إنه عليه‌السلام قال له بعد أن تعرف إليه : لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم ، قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى ما يعمله فتيانه عليه‌السلام من أمر السقاية ونحو ذلك ، وهو لعمري مما لا يكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام ، وقال وهب : إنما أخبر عليه‌السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف إليه الأمر ، ومعنى (فَلا تَبْتَئِسْ) إلخ لا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم ، وروي أنه قال ليوسف عليه‌السلام : أنا لا أفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال : افعل (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) ووفى لهم الكيل وزاد كلّا منهم على ما روي حمل بعير (جَعَلَ السِّقايَةَ) هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس ، وقيل : كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب ، وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روي عن عكرمة أو بدون ذلك كما روي عن ابن عباس والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب ، وقيل : من فضة مموهة بالذهب ، وقيل : كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم ، يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك ، والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه‌السلام نفسه ، ويظهر من حيث كونه ملكا أنه عليه‌السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحدا فجعلها (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين من حيث يشعر أو لا يشعر.

وقرئ «وجعل» بواو ، وفي ذلك احتمالان الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب (لَمَّا) والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مسمع كما في مجمع البيان ، وفي الكشاف وغيره نادى مناد.

وأورد عليه أن النحاة قالوا : لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه. وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الإعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وقد يقال : قياس ما في النظم الجليل على المثال المذكور ليس في محله وكثيرا ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» والعير الإبل التي عليها

٢٣

الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء ، وهو اسم جمع لذلك لا واحد له ، والمراد هنا أصحاب العير كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خيل الله اركبي» وذلك إما من باب المجاز أو الإضمار إلا أنه نظر إلى المعنى (١) في الآية ولم ينظر إليه في الحديث (٢) وقيل : العير قافلة الحمير ثم توسع (٣) فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار ، وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد ، وحمل العير هنا على قافلة الإبل هو المروي عن الأكثرين ، وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير ، والخطاب ب (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) إن كان بأمر يوسف عليه‌السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق ؛ ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة (٤) السقاية ، ولا يضر لزوم الكذب لأنه إذا تضمن مصلحة رخص فيه. وأما كونه برضا أخيه فلا يدفع ارتكاب الكذب وإنما يدفع تأذي الأخ منه ، أو يكون المعنى على الاستفهام أي أإنّكم لسارقون ولا يخفى ما فيه من البعد وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه قيل والأول هو الأظهر الأوفق للسياق. وفي البحر الذي يظهر أن هذا التحيل ورمي البراء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه‌السلام بوحي من الله تعالى لما علم سبحانه في ذلك من الصلاح ولما أراد من محنتهم بذلك ، ويؤيده قوله سبحانه : و (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف : ٧٦] وقرأ اليماني «إنكم سارقون» بلا لام (قالُوا) أي الاخوة (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي على طالبي السقاية المفهوم من الكلام أو على المؤذن إن كان أريد منه جمع كأنه عليه‌السلام جعل مؤذنين ينادون بذلك على ما في البحر ، والجملة في موضع الحال من ضمير (قالُوا) جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم أي قالوا مقبلين عليهم (ما ذا تَفْقِدُونَ) أي أي شيء تفقدون أو ما الذي تفقدونه؟ والفقد كما قال الراغب : عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فإنه يقال له ولما لم يوجد أصلا ، وقيل : هو عدم الشيء بأن يضل عنك لا بفعلك ، وحاصل المعنى ما ضاع منكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة.

وقرأ السلمي «تفقدون» بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدا نحو أحمدته إذا وجدته محمودا. وضعف أبو حاتم هذه القراءة ووجهها ما ذكر ، وعلى القراءتين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم : ما ذا سرق منكم على ما قيل لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلا عن أن يكونوا هم السارقين له ، وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم ما ذا؟ ، وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البراء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التأكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث قالوا في جوابهم :

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) ولم يقولوا سرقتموه أو سرق ، وقيل : كان الظاهر أن يبادروا بالإنكار ونفى أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلبا لإكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام ، وعدلوا عن ما ذا سرق منكم؟ إلى ما في النظم الجليل لما ذكر آنفا ، والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الإفهام والإفصاح ؛ ولذا أعاد الفعل ، وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة.

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد ، وقرأ أبو هريرة

__________________

(١) فقيل إنكم لسارقون اه منه.

(٢) فقيل اركبي دون اركبوا اه منه.

(٣) وقيل تجوز بها لقافلة الحمير فتأمل اه منه.

(٤) والكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا فتدبر اه منه.

٢٤

ومجاهد «صاع» بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء «صوع» بوزن قوس.

وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطبان «صوع» بضم الصاد وكلها لغات في الصاع ، وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث ، وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح ، «صواغ» بالغين المعجمة على وزن غراب أيضا ، وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو ، وقرأ زيد بن علي «صوغ» على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول. وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أي أتى به مطلقا ولو من عند نفسه ، وقيل : من دل على سارقه وفضحه (حِمْلُ بَعِيرٍ) أي من الطعام جعلا له ، والحمل على ما في مجمع البيان بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل ، وكأنه أشار إلى ما ذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن.

واستدل بذلك كما في الهداية وشروحها على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأن مناديه علق الالتزام بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه‌السلام ، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار ، وأورد عليه أمران : الأول ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه. الثاني أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة. وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير : إن الملك قال : لمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم فيكون ضامنا عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة. وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له ، وإضافتها إلى سبب الوجوب ، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر.

وفي كتاب الأحكام أنه روي عن عطاء الخراساني (زَعِيمٌ) بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع ، وهذا أصل في جواز قول القائل : من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة وإن لم يشارط رجلا بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير : ولعل حمل البعير كان قدرا معلوما ، فلا يقال : إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين.

وقال الإمام : إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله «الزعيم غارم» وليس كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة.

ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم ، وتعقب بأنه لا دليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله (قالُوا تَاللهِ) أكثر النحويين على أن التاء بدل من الواو كما أبدلت في تراث وتوراة عند البصريين ، وقيل هي بدل من الباء ، وقال السهيلي : إنها أصل برأسها ، وقال الزجاج : إنها لا يقسم بها إلا في الله خاصة. وتعقب بالمنع لدخولها على الرب مطلقا أو مضافا للكعبة وعلى الرحمن (١) وقالوا

__________________

(١) قيل على ضعف اه منه.

٢٥

تحياتك أيضا. وأيّا ما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم ، فقد روي أنهم كانوا يعكمون (١) أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئا واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات ، ولذا قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) علما جازما مطابقا للواقع (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي لنسرق فإن السرقة من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ، ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم فكأنهم قالوا : إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل.

وقيل : إنهم أرادوا نفي لازم المجيء للإفساد في الجملة وهو تصور الإفساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا : ما مر لنا الإفساد ببال ولا تعلق بخيال فضلا عن وقوعه منا ولا يخفى بعده (وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ما كنا نوصف بالسرقة قط ، والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول ، ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة ، والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام ، ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله :

ولقد علمت لتأتين منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها

وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه ، وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا إلخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبى ما تقدم (قالُوا) أي أصحاب يوسف عليه‌السلام (فَما جَزاؤُهُ) أي الصواع ، والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته ، وقيل : الضمير لسرق أو للسارق والجزاء يضاف إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازا ، وقد يقال : بحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر ، وفي التعبير ـ بإن ـ مراعاة لجانبهم (قالُوا) أي الإخوة (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ) أي أخذ من وجد الصواع (فِي رَحْلِهِ) واسترقاقه ، وقدر المضاف لأن المصدر لا يكون خبرا عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة ، واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه‌السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتا لأحدهم بأي وجه كان وكأنهم تأكيدا لتلك الإشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله (فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق بإعادته كما في قولك : حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد ، فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل : فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه ، قيل : وذكر الفاء في ذلك لتفرعه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد ، ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني ، وجوز كون (مَنْ) موصولة مبتدأ وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر (جَزاؤُهُ). وأن تكون (مَنْ) شرطية مبتدأ و (وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فعل

__________________

(١) وليتهم قد كانوا عكموا فم ذئبهم عن أكل يوسف عليه‌السلام اه منه.

٢٦

الشرط وجزاؤه فهو جزاؤه والفاء رابطة والشرط وجزاؤه خبر أيضا كما في احتمال الموصولة. واعترض على ذلك بأنه يلزم خلو الجملة الواقعة خبرا للمبتدإ عن عائد إليه لأن الضمير المذكور ـ لمن ـ لا له. وأجيب بأنه جعل الاسم الظاهر وهو الجزاء الثاني قائما مقام الضمير والربط كما يكون بالضمير يكون بالظاهر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو ـ هو ـ أي فهو الجزاء ، وفي العدول ما علم من التقرير السابق وإزالة اللبس والتفخيم لا سيما في مثل هذا الموضع فهو كاللازم ، وقد صرح الزجاج بأن الإظهار هنا أحسن من الإضمار وعلله ببعض ما ذكر وأنشد :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

وبذلك يندفع ما في البحر اعتراضا على هذا الجعل من أن وضع الظاهر موضع الضمير للربط إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قال سيبويه فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك ، وأن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسئول عن جزاؤه فهو حكاية قول السائل ويكون (مَنْ وُجِدَ) إلخ بيانا وشروعا في الفتوى ، وهذا على ما قيل كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم : جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة : ٩٥] فإن قول المفتي : جزاء صيد الحرم بتقدير ما استفتيت فيه أو سألت عنه ذلك وما بعده بيان للحكم وشرح للجواب ، وليس التقدير ما أذكره جزاء صيد الحرم لأن مقام الجواب والسؤال ناب عنه. نعم إذا ابتدأ العالم بإلقاء مسألة فهنالك يناسب هذا التقدير.

وتعقب ذلك أبو حيان بأنه ليس في الأخبار عن المسئول عنه بذلك كثير فائدة إذ قد علم أن المسئول عنه ذلك من قولهم : (فَما جَزاؤُهُ) وكذا يقال في المثال ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إن فائدة ذلك إعلام المفتي المستفتي أنه قد أحاط خبره بسؤاله ليأخذ فتواه بالقبول ولا يتوقف في ذلك لظن الغفلة فيها عن تحقيق المسئول وهي فائدة جليلة.

وزعم بعضهم أن الجملة من الخبر والمبتدأ المحذوف على معنى الاستفهام الإنكاري كأن المسئول ينكر أن يكون المسئول عنه ذلك لظهور جوابه ثم يعود فيجيب وهو كما ترى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الأوفى (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بالسرقة ، والظاهر أن هذا من تتمة كلام الإخوة فهو تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة وقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهي عما فعل بهم غافلون ، وقيل : هو من كلام أصحاب يوسف عليه‌السلام ، وقيل : كلامه نفسه أي مثل الجزاء الذي ذكرتموه نجزي السارقين. (فَبَدَأَ) قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره ، وقيل : يوسف عليه‌السلام فقد روي أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه : لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلا أو بعد أن خرجوا من العمارة إليه عليه‌السلام فبدأ (بِأَوْعِيَتِهِمْ) أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة ورجح ذلك بمقاولة يوسف عليه‌السلام فإنها تقتضي ظاهرا وقوع ما ذكر بعد ردهم إليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش إليه عليه‌السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه يأمره بذلك (قَبْلَ) تفتيش (وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين لنفي التهمة.

روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال : ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ ، وقيل : الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان ، والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب بمقام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ما قيل ، وعليه

٢٧

يكون عليه‌السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم من رحل وغيره.

وقولهم : مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لا يقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فإنه يفهم معه أن كلّا منهم باع ما له من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد.

وقرأ الحسن «وعاء» بضم الواو وجاء كذلك عن نافع وقرأ ابن جبير «إعاء» بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا (كِدْنا لِيُوسُفَ) أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك وإلا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه وتريده على ما قالوا محال عليه تعالى ، وقيل : إن ذلك محمول على التمثيل ، وقيل : إن في الكيد اسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه‌السلام وبالتصريح إليه سبحانه والأول حقيقي والثاني مجازي ، والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك ، وفي درر المرتضى إن كدنا بمعنى أردنا وأنشد :

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) [يوسف : ٥] فإنها للضرر على ما هو الاستعمال الشائع.

(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي في سلطانه على ما روي عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روي عن قتادة ، والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد كأنه قيل : لما ذا فعل ذلك؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي ، وغيره أن يضاعف عليه الغرم. وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه‌السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو إلا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه ، وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الإرشاد المذكور ومبادئه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف عليه‌السلام وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا ، وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا ليوسف عليه‌السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة إلى البعض ، وكذا يقال في تفسير من فسر (كِدْنا لِيُوسُفَ) بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط إلخ ، والاستثناء على كل حال من أعم الأحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى ، وأيّا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق وإذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفا لدين الملك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة.

٢٨

وقيل : إن جملة ما كان إلخ في موضع البيان والتفسير للكيد وإن معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث ، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) أي رتبا كثيرة عالية من العلم ، وانتصابها على ما نقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات ، وجوز غير واحد النصب على المصدرية ، وأيّا ما كان فالمفعول به قوله تعالى : (مَنْ نَشاءُ) أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه‌السلام ، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) من أولئك المرفوعين (عَلِيمٌ) لا ينالون شأوه.

قال المولى المحقق شيخ الإسلام قدس‌سره في بيان ربط الآية بما قبل : إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مبادئه المؤدية إليه فالمراد برفع يوسف عليه‌السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه‌السلام إلى ما يتم من قبله من المبادئ المفضية إلى استبقاء أخيه ، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بدونه أو أرشدنا كلّا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بمجرد ذلك.

وحينئذ يكون قوله تعالى : (نَرْفَعُ) إلى (عَلِيمٌ) توضيحا لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدره يرفع كلّا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه‌السلام لم يكن على يقين من صدور ذلك منهم وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله تعالى شأنه وجودا وعدما ، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية ، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لا يخفى. وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم ، والإفتاء وإن كان لم يكن داخلا تحت قدرته عليه‌السلام لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم ، والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من غرضه في أخيه إلا بذلك ، وحينئذ يكون قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) توضيحا لقوله سبحانه : (كِدْنا) وبيانا لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحا ليوسف عليه‌السلام برفعه إليها (وَفَوْقَ) إلخ تذييلا له أي نرفع الدرجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى ، والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ما قيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفي مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال : وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو الله عزّ وعلا ، وبيان ذلك على ما في الكشف أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه‌السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علما لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه ، وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علما أيضا وإما على تحقيق أن الله تعالى رفعه درجات وهو إليه لا منازع له فيه فقال : وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه إليه بالعلم كما رفع يوسف عليه‌السلام ، وذكر أن ما يقال : من أن الكل على الثاني مجموعي وعلى الأول بمعنى كل واحد كلام غير محصل لأن

٢٩

الداخل على النكرة لا يكون مجموعيا ، وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى ما لا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه ، ولا بد من تخصيص في لفظ (كُلِ) والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي ، ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني ، والمعنى وفوق كل واحد واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول ، ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه. ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحا ليوسف عليه‌السلام وتعظيما لشأن الكيد وكون الثانية تذييلا هو الأظهر فتأمل. وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك ، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوقه عليم للآية فيلزم أن يكون فوق وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان بمكان. وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به الله تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله ، وكون المراد من العليم ذلك هو إحدى روايتين عن الحبر ، فقد أخرج عبد الرزاق وجماعة عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده : «وفوق كل ذي علم عليم» فقال ابن عباس : بئسما قلت الله العليم وهو فوق كل عالم ، وإلى ذلك ذهب الضحاك ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني الله تعالى بذلك نفسه ، على أنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن الله تعالى عالما بناء على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم ، وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان الله تعالى عالما أن يكون فوقه من هو أعلم منه ، فإن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله.

وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من نشاء» بالإضافة ، قيل : والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين. وقرأ يعقوب بالياء في «يرفع» و «يشاء» وقرأ عيسى البصرة «نرفع» بالنون و «درجات» منونا و «من يشاء» بالياء. قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن إنكارها. وقرأ عبد الله الحبر «وفوق كل ذي عالم عليم» فخرجت كما في البحر على زيادة ذي أو على أن «عالم» مصدر بمعنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم ، والذي في الدر المنثور أنه رضي الله تعالى عنه قرأ «وفوق كل عالم عليم» بدون (ذِي) ولعله إلا ثبت والله تعالى العليم (قالُوا) أي الإخوة (إِنْ يَسْرِقْ) يعنون بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يريدون به يوسف عليه‌السلام وما جرى عليه من جهة عمته ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف عليه‌السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحاق عليه‌السلام وكانت إليها منطقة أبيها وكانوا يتوارثونها بالكبر فكانت لا تحب أحدا كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب إليه فأتاها فقال : يا أختاه سلمي إلى يوسف فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة فقالت : والله ما أنا بتاركته فدعه عندي أياما انظر إليه لعل ذلك يسليني ، فلما خرج يعقوب عليه‌السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه‌السلام من تحت ثيابه ثم قالت : فقدت منطقة أبي إسحاق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه‌السلام فقالت : والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الآية : «سرق يوسف عليه‌السلام صنما لجده أبي

٣٠

أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره إخوته بذلك ، وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال : كان يوسف عليه‌السلام غلاما صغيرا مع أمه عند خال له وهو يلعب مع الغلمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالا صغيرا من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته. وقال مجاهد : إن سائلا جاءه يوما فأخذ بيضة فناولها إياه وقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة فأعطاها السائل. وقال وهب : كان عليه‌السلام يخبئ الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل : وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه وإليه ذهب مكي. وقال بعضهم : المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث ، قيل وهو كلام حقيق بالقبول.

وأنت تعلم أن في عد كل ما قيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفا تصلف فإن فيه ما لا بأس في نسبته إلى بيت النبوة ، وإن ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة إلى يوسف عليه‌السلام مما لا يليق نسبة مثله إليهم لأن ذلك كذب إذ لا سرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لا يكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولا وآخرا وما قاله البعض. وقيل : إنه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كما لا يخفى على من له ذوق ، على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقا وأتوا بكلمة (إِنْ) لعدم جزمهم بسرقته بمجرد خروج السقاية من رحله ، فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين. وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا إخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا : يا ابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يده إلى السماء فقال : والله ما فعلت فقالوا : فمن وضعها في رحلك؟ قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم ، فإن كان قولهم : (إِنْ يَسْرِقْ) إلخ بعد هذه المقاولة فالظاهر أنها هي التي دعتهم «لأن» وأما قولهم : «إن ابنك سرق» فبناء على الظاهر ومدعى القوم وكذا علمهم مبني على ذلك ؛ وقيل : إنهم جزموا بذلك و (إِنْ) لمجرد الشرط ولعله الأولى لظاهر ما يأتي إن شاء الله الله تعالى تحقيقه و (يَسْرِقْ) لحكاية الحال الماضية ، والمعنى إن كان سرق فليس ببدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين ، وتنكير (أَخٌ) لأن الحاضرين لا علم لهم به. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي سريج عن الكسائي والوليد بن حسان. وغيرهم «فقد سرّق» بالتشديد مبنيا للمفعول أي نسب السرقة (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه‌السلام مما قالوا : وقيل : أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها (فِي نَفْسِهِ) لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى : (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) [نوح : ٩](وَلَمْ يُبْدِها) أي يظهرها (لَهُمْ) لا قولا ولا فعلا صفحا لهم وحلما وهو تأكيد لما سبق (قالَ) أي في نفسه ، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل : فما ذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك؟ فقيل : قال (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلة في السرق ، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء ، وقال الزجاج : إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن (قالَ أَنْتُمْ) إلخ بدل من الضمير ، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة. وتعقب ذلك أبو علي بأن الإضمار على شريطة التفسير على ضربين ، أحدهما أن يفسر بمفرد نحو نعم رجلا زيد وربه رجلا. وثانيهما أن يفسر بجملة كقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وأصل هذا أن يقع في الابتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) [طه : ٧٤](فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] وليس منها ـ شفاء النفس مبذول ـ وغير ذلك ، وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعا عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير. وفي أنوار التنزيل أن المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن ، واعترض عليه بالمنع. وفي الكشف أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى

٣١

يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَ) [البقرة : ١٣٢] إلخ.

وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة بجملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة. وفي الكشاف جعل (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول. واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل (قالَ) إلخ بدلا من ـ أسر ـ ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه ، نعم قال أبو حيان : إن الظاهر أنه عليه‌السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم ، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فأسره» بتذكير الضمير (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي عالم علما بالغا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا ، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد. وقال أبو حيان : إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره. واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة ، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم ، ألا ترى قولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) جزما. (قالُوا) عند ما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك ، وقيل : أرادوا مسنا كبيرا في القدر ، والوصف على القولين محط الفائدة وإلا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فأتم إحسانك فما الانعام إلا بالإتمام أو من عادتك الإحسان مطلقا فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك ، فالإحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام ، والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ما ذهب إليه بعض المدققين ، وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم تكون مستأنفة لبيان ما قبل إذ أخذ البدل إحسان إليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ

٣٢

وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥)

(قالَ مَعاذَ اللهِ) أي نعوذ بالله تعالى معاذا من (أَنْ نَأْخُذَ) فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها (إِنَّا إِذاً) أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه (لَظالِمُونَ) في مذهبكم وشرعكم وما لنا ذلك ، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد ، وإيثار (مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) على من سرق متاعنا الأخصر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة ، والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع ، وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع ، والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضا حقيقة.

وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازا لأنهم يعلمون أنه لا يجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، ثم قال : وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه‌السلام : (مَعاذَ اللهِ) لأنه تعوذ من غير جائز ، ويحتمل أن لا يريدوا هذا المعنى ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لا يعول عليه أصلا كما لا يخفى ؛ ولجواب يوسف عليه‌السلام معنى باطن هو أن الله عزوجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما لنفسي وعاملا بخلاف الوحي (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي يئسوا من يوسف عليه‌السلام واجابته لهم إلى مرادهم ، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في البحر ، وقال غير واحد : إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأن المطلوب

٣٣

المرغوب مبالغ في تحصيله ، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه ، ومن تسميته ذلك ظلما بقوله : (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ).

وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل (١) غضبا وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال : أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه‌السلام لولد له صغير : قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده. وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه‌السلام يسكن غضبه ، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته : من مسني منكم؟ فقالوا : ما مسك أحد منا فقال : لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه‌السلام ، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا : عشرة قال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه‌السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال : أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) إلخ ، ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين.

وجوز بعضهم كون ضمير (مِنْهُ) لبنيامين ، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ «استأيسوا» من أيس مقلوب (٢) يئس ، ودليل القلب على ما في البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وحاصل المعنى (٣) لما انقطع طمعهم بالكلية (خَلَصُوا) انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس.

وقول الزجاج : انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر (نَجِيًّا) أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام ، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير (٤) بمعنى معاشر ، أي مناج بعضهم بعضا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد :

وشهدت أنجية الخلافة عاليا

كعبي وارداف الملوك شهود (٥)

وأنشد الجوهري :

إني إذا ما القوم كانوا أنجية

واضطربوا مثل اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصي بيه. وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كمغني وأغنياء (قالَ كَبِيرُهُمْ) أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد ، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة ، أو كبيرهم في العقل وهو

__________________

(١) وقيل : شمعون وروي عن وهب اه منه.

(٢) في مجمع البيان أن أيس ويئس كل منهما لغة اه منه.

(٣) على تقرير كون الزيادة للمبالغة اه منه.

(٤) وخليط بمعنى مخالط وسمير بمعنى مسامر وغير ذلك اه منه.

(٥) وهو يقوي كونه جامدا كرغيف وأرغفة اه منه.

٣٤

يهوذا قاله وهب. والكلبي ، وعن محمد بن إسحاق أنه لاوي (أَلَمْ تَعْلَمُوا) كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم : «ألم تعلموا».

(أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه ـ فمن ـ ابتدائية (وَمِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم. و (ما) مزيدة والجملة حالية ، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها ، وجوز أن تكون (ما) مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول (تَعْلَمُوا) أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه‌السلام ، وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه ، وقيل : بجواز العطف على اسم (أَنَ) ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبرا له فهو (فِي يُوسُفَ) أو (مِنْ قَبْلُ) على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه‌السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه‌السلام وقع من قبل.

واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف عليه‌السلام كما هو مفاد الأول ، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني.

وفيه أيضا ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبرا ولا صلة (١) ولا صفة ولا حالا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول : يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد ، وأجاب عنه في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه كما في الآية الكريمة ، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضي فدل على أن الامتناع ليس معللا بما ذكر.

وقال الشهاب : (٢) إن ما ذكروه ليس متفقا عليه فقد قال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة : إنها تقع صفات وأخبارا وصلات وأحوالا ونقل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب ، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافا والمشهور أنها (٣) معارف ، وقال بعضهم : نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل. والفاضل صاحب الدر سلك مسلكا حسنا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولا عليه بأن يكون مخصوصا معينا صح الأخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيء إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة ، ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضي مع أن كلام الرضي غير متفق عليه انتهى ، وهو كما قال تحقيق نفيس ، وقيل : محل المصدر الرفع على الابتداء والخبر (مِنْ قَبْلُ) وفيه البحث السابق ،

__________________

(١) أورد على أنها لا يكون صلة قوله تعالى : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) ودفع بان الصلة قوله سبحانه: (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) و «من قبل» ظرف لغو متعلق بخبر كان لا مستقر صلة اه منه.

(٢) وذكر أنه تحقيق حقيق بان يرسم في دفاتر الأذهان ويعلق في حقائب الحفظ والجنان اه منه.

(٣) وذكر السيرافي في شرح الكتاب ما يقتضي أن الغايات معارف لا يقدر ما حذف بعدها إلا معرفة فتأمل اه منه.

٣٥

وقيل : (ما) موصولة ومحلها من الأعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة (فَرَّطْتُمْ) صلتها والعائد محذوف ، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية.

وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) تكرار فإن جعل خبرا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز ، وقيل : (ما) نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) مفرع على ما ذكره وذكر به ؛ و «برح» تامة وتستعمل إذا كانت كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم : برح الخفاء ، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت (الْأَرْضَ) على المفعولية ، ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبرا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض ؛ وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريا على قضية الميثاق (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في البراح بالانصراف إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب ، قال في البحر : إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه ، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرا له ولو الموت ، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم (لِي) فيها وأخره في الثانية فليفهم (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا) له (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل : هو من كلام يوسف عليه‌السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر. (وَما شَهِدْنا) عليه (إِلَّا بِما عَلِمْنا) من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف. وقرأ الضحاك «سارق» باسم الفاعل.

وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية «سرّق» بتشديد الراء مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى (وَما شَهِدْنا) إلخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر. واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا ، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين ، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجبا للسرق في شرعهم أولا ، قيل : فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم ، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علما كقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة : ١٠] وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم ، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضا مبنيا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر (وَما كُنَّا) إلخ بما فسّر به على القراءة الأخيرة ، وقيل : معنى (ما شَهِدْنا) إلخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم (وَما كُنَّا) إلخ كما هو وهو ذهاب أيضا إلى أنهم غير جازمين. وفي الكشف الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم : إن يسرق فقد سرق تمهيد بين ، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبا محرما وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم ، وكان قبل أن تنبئوا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضا ، على أن قولهم: (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) مؤكدا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعا وإلا كان عليهم أن يقولوا : جزاؤه من وجد في رحله متعديا أو سارقا ونحوه ، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل هاهنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه ، وكذا لما ذكرناه في تفسير (جَزاؤُهُ)

٣٦

إلخ ، ولعل الأمر في هذا هين. ومن غريب التفسير أن معنى قولهم : (لِلْغَيْبِ) لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا : «وما شهدنا إلا بما علمنا ـ من ظاهر حاله ـ وما كنا لليل حافظين» أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه ، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير المظلم مع تبلج صبح المعنى المشهور ؛ وأيا ما كان فلام (لِلْغَيْبِ) للتقوية والمراد حافظين الغيب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون كما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر ، وقيل : قرية بقربها لحقهم المنادي بها ، والأول ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه‌السلام والثاني الظاهر على القول بأنه المؤذن ، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضا عند سيبويه وجماعة. وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر والأكثرون على المقابلة بينهما ، وأيا ما كان فالمسئول عنه محذوف للعلم به ، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه‌السلام ، وقيل : من أهل صنعاء ، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقا.

وقيل : لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود حالة تحقيق الحال والاطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه‌السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة. وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة ، وقال بعض الأجلة : الأولى ابقاء (الْقَرْيَةَ) و (الْعِيرَ) على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيا على دعوى ظهور الأمر بحيث إن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديما وحديثا ومنه قول ابن الدمينة :

سل القاعة الوعسا من الاجرع الذي

به البان هل حييت اطلال دارك

وقوله :

سلوا مضجعي عني وعنها فإننا

رضينا بما يخبرن عنا المضاجع

وقوله :

واسأل نجوم الليل هل زار الكرى

جفني وكيف يزور من لم يعرف

ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز. نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به ، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكر حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال : إنه تأكيد في محل القسم ، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسما مقدرا ، وقيل : المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذبا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله (قالَ) أي أبوهم عليه‌السلام وهو استئناف مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل : فما ذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال؟ فقيل : قال أبوهم عند ما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه. يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه‌السلام : إذا أتيتم أباكم فاقرءوا عليه‌السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله ، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال ، و (بَلْ) للاضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة

٣٧

عن التسبب فيما نزل به وإنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك.

وقال أبو حيان إن هنا كلاما محذوفا وقع الاضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت إلخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه‌السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه‌السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا. وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه انهم كانوا عند أبيهم عليه‌السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه‌السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدا ليتخلف دونهم ، واتهام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لا سيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم ، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى اشعار بأنهم كانوا حراصا على أخذه وهو من التسويل وان اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا ، والتنوين في (أَمْراً) للتعظيم أي أمرا عظيما (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي وحالهم (الْحَكِيمُ) الذي يبتلي ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة ، قيل : إنما ترجى عليه‌السلام للرؤيا التي رآها يوسف عليه‌السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لا سيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجا عظيما ، وانضم إلى ذلك ما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده (وَتَوَلَّى) أي أعرض (عَنْهُمْ) كراهة لما جاءوا به (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) الأسف أشد الحزن على ما فات ، والظاهر أنه عليه‌السلام أضافه إلى نفسه ، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف ، والمعنى يا أسفي تعال فهذا أوانك ، وقيل : الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول ، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الارزاء عنده وإن تقادم عهده أخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبدا

ولم تنسني أوفى المصيبات بعده

ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل : إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى ، وقال الإمام : إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة ، وقيل : لأنه عليه‌السلام كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث.

وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير «لم تعط أمة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] إلا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم ، ألا يرى إلى

٣٨

يعقوب عليه‌السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال ، وفي (أَسَفى) و (يُوسُفَ) تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره ، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه‌السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى : (فَارْتَدَّ بَصِيراً) [يوسف : ٩٦] وهو يقابل بالأعمى ، وقيل : ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه‌السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه‌السلام يدرك إدراكا ضعيفا ، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، وكان الحسن ممن يرى جوازه.

فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائده وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما‌السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه ، والظاهر أنه عليه‌السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير ، ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه‌السلام دخل على يوسف عليه‌السلام في السجن فعرفه فقال له : أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال : نعم. قال : ما فعل؟ قال : ابيضت عيناه من الحزن عليك قال : فما بلغ من الحزن؟ قال : حزن سبعين مثكلة قال : هل له على ذلك من أجر؟ قال : نعم أجر مائة شهيد. وقرأ ابن عباس ومجاهد (مِنَ الْحُزْنِ) بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما. واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب ، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.

وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال : «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب. ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد : يا رسول الله ما هذا؟فقال : هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال : ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال : ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه‌السلام (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ، وقيل : مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه ، وهو من كظم السقاء إذا شده بعد ملئه ، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه‌السلام (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم : ٤٨] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى (وَالْكاظِمِينَ) [آل عمران : ١٣٤] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحدا قط ، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه‌السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى ، ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول (قالُوا) أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه‌السلام (تَاللهِ تَفْتَؤُا) أي لا تفتأ ولا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

٣٩

لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفي لا يقارنهما ولو كان المقصود هاهنا الإثبات لقيل لتفتأن ، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين ، وقال الكوفيون والفارسي : يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير «لأقسم بيوم القيامة» وقوله :

لأبغض كل امرئ

يزخرف قولا ولا يفعل

ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال : والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا ، ولا فرق بين كون القائل عالما بالعربية أولا على ما أفتى به خير الدين الرملي ، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال : علي الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم ، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول : قال غير واحد : إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم : والله أقوم مثلا لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه ، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك ، ويؤيده ما في الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يمينا مع أن العرب ما نطقت بغير الجر ، وقال أيضا : إنه ينبغي أن يكون ذلك يمينا وإن خلا من اللام والنون ، ويدل عليه قوله في الولوالجية : سبحان الله أفعل لا إله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه ، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه ، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد ، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين ، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه ، ونظر فيه.

أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية ، وأما ثانيا فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجردا من اللام والنون وجعله يمينا مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال : إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى ، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف.

وقال الفاضل الحلبي : إن بحث المقدسي وجيه ، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة ، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلا ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها ، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه ، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا ، ومثله في الفتح ، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لا يجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل : ما قام زيد فإن قلت : بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام ، ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر ، ومثله في التلويح ، وقول المحيط والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات والله لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية ، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين ، ومن هنا قال السائحاني : إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعا جديدا واصطلحنا عليها اصطلاحا حادثا وتعارفناها تعارفا مشهورا فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعلي الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اه ، ونظير هذا ما قالوه : من أنه لو أسقطت

٤٠