روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قائلين : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٨٣ ، النمل : ٦٨](لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) متعلق بما دل عليه (بَلى) وهو يبعثهم ، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ)(١) من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا ، والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين ، وتقديم الجار والمجرور لرعاية رءوس الآي (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم‌السلام (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم : (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) دخولا أوليا.

ونقل في البحر القول بتعلق (لِيُبَيِّنَ) إلخ بقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم ، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وابطال مقالة المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك ، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عزوجل وعبادته ، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته ، وفيه أنه إنما لم يدرج على الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا : وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون ، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل ، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق ، وليس بين الصدق والحق كثير فرق ، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر.

قيل : ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) دون وليجعل الذين كفروا عالمين ، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل : لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلى منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل ، وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل : ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه ، وهذا كما يقال للجاني : غدا تعلم جنايتك ، وحينئذ وجه تخصيص الاسناد بهم ظاهر ، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في

__________________

(١) في الأصل «فيه يختلفون» وبني عليه قوله الآتي وتقديم الجار والمجرور لرعاية رءوس الآي ولكن التلاوة (يختلفون فيه) اه.

٣٨١

علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم ، وهو زعم باطل ، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث ، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الاثني عشرية ، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه ، وما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه إنه قال : إن قوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الآية نزلت في غير مسلم الصحة ، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي ، ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية ، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد وهو ظاهر فافهم.

(إِنَّما قَوْلُنا) استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يعلم كيفيته ـ فما ـ كافة و (قَوْلُنا) مبتدأ ، وقوله تعالى : (لِشَيْءٍ) متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد قم فقام ، وقال الزجاج : هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء ، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته ، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم ، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور ، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال : إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك.

وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى : (لِشَيْءٍ) وجهين : أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم ، والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم ، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا اه ، وفيه من الخفاء ما فيه ، وأيّا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان (إِذا أَرَدْناهُ) ظرف ـ لقولنا ـ أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) في تأويل مصدر خبر للمبتدإ ، واللام في (لَهُ) كاللام في (لِشَيْءٍ فَيَكُونُ) إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون ، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون ، وقيل : إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدإ محذوف أي ما أردناه فهو يكون ، وكان في الموضعين تامة ، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال : إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل ؛ أو يقال : (إِنَّما) مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى : (كُنْ) وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع ، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون ، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق.

وقيل : إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف ، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم ، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن

٣٨٢

المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه ، وتعقب بما يطول ، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين ، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام.

واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال : إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل ، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم (كُنْ) ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف ، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.

وقال الإمام : إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه : الأول أن قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث ، والثاني أنه علق القول بكلمة (إِذا) ولا شك أنها تدخل للاستقبال ، والثالث أن قوله تعالى : (أَنْ نَقُولَ) لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال ، والرابع أن قوله سبحانه (كُنْ فَيَكُونُ) كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي ، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع. وما ذكر من دلالة (إِذا) و (نَقُولَ) على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد ، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال : ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة ، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا ؛ فقال بعضهم بالأول ، وقال آخرون : ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا ، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم ، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي. وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى ، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي. وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث ، وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل ، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم ، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة ، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى.

وقرأ ابن عامر والكسائي هاهنا وفي [يس : ٨٢](فَيَكُونُ) بالنصب ، وخرجه الزجاج على العطف على (نَقُولَ) أي فإن يكون أو على أن يكون جواب (كُنْ) ، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك ، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك : قلت لزيد اضرب تضرب.

وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور ، ثم قيل : والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى أن أقل لك اضرب تسرع إلى

٣٨٣

الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة ، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية ، وقال بعضهم : إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن (فَيَكُونُ) كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدإ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة ، وفيه ما فيه (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) أي في حقه ـ ففي ـ على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه ـ ففي ـ للتعليل كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن امرأة دخلت النار في هرة» والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومتاركته واستعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها في الله تعالى وخرجوا (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي من بعد ظلم الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي مباءة حسنة ، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا ، وعن الحسن دارا حسنة ، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه ، والثاني أوفق بقوله تعالى : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [الحشر : ٩] ، وأيّا ما كان ـ فحسنة ـ صفة محذوف منصوب نصب الظروف ، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبوئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة ، وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة ، وقيل : هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف ، وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل : التقدير عطية حسنة ، والمراد بالعطية المعطى ، ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا ، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف ، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي البحر أن الظاهر أن انتصاب (حَسَنَةً) على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا ، وعلى جميع التقادير (الَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ وجملة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) خبره.

وجوز أبو البقاء أن يكون (الَّذِينَ) منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور ، والأول متعين عند أبي حيان قال : وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدإ خلافا لثعلب ، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك «إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية ، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه ، والجار والمجرور متعلق بما عنده ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من (حَسَنَةً) هذا.

ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال : ربح البيع يا صهيب ؛ وقال عمر رضي الله تعالى عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية : إنه الصحيح ، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بها الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله : نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد ، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في الدر المنثور ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين

٣٨٤

هاجروا : هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ظلمهم ثم قال : وظلمهم الشرك ، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ «ظلموا» بالبناء للفاعل.

وأورد على الخبرين أنه قيل : إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية ، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك ، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة ، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها ، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، والكل كما ترى ، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه ، لكن قيل : إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر ، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة ، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا ، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا الآيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وقال بعضهم : إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وعبد الله رضي الله تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع بن خيثم ـ لنثوينهم ـ بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه ، قال في البحر : وانتصاب (حسنة) على تقدير إثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا. واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة (أَكْبَرُ) مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية ، وقيل : المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته ، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين ، وقيل : هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي. وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك ، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير ـ هم ـ ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل ، وقيل : تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين ، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة ، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبروا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة

٣٨٥

العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها ، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم‌السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة ، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها ؛ وعبد الله والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] فأهله اليهود.

قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم‌السلام كانوا رجالا فاخبارهم بذلك حجة عليهم ، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى أخبار هؤلاء ، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك ، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير : المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما.

ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قاله أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا ، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه قال : نحن أهل الذكر ، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق : ١٠ ، ١١] على قول ، ويقال على مقتضى ما في البحر : كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين ، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية عن أنس قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل : يا رسول الله بما ذا دخل عليه النفاق؟ قال : يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إلى آخره» مما لا يصح ، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان ، وقال الرماني والزجاج ، والأزهري : المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل : اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا ، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه‌السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ؛ ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة ، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها ، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد ، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم‌السلام قوله تعالى : جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم‌السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي ، وقال الجبائي : إن الملائكة عليهم‌السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم‌السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روي أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل عليه‌السلام على صورته التي هو عليها مرتين وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه‌السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٨٦

ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب ، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه‌السلام حضر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه. واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.

وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيه والسؤال عنها من الأصول ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اه.

وصحيح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد ، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر ، وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي : إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم ، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع ، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا ، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتى ولا يقضى بكل مهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العلم به ؛ وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا) الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز ، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه ، والصحيح ما سمعت أولا ، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.

وقال بعضهم : إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) أي بالمعجزات والكتب ، والأولى للدلالة على الصدق ، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.

وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار المجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال : بم أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه ـ بأرسلنا ـ السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع (رِجالاً) أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك : ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات ، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط ، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة سيان دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.

وقال في الكشف : والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب

٣٨٧

أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك ، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه ، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه ، وهو حسن لو لا أن الاستعمال والقياس آبيان ، وقال بعضهم : إنه متعلق به فمن غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا.

وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا ، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار ، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو ، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش في الظرف والجار والحال ، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش ، لكن قال الشهاب : إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع ، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة ـ لرجالا ـ أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه ، قيل : لأنه نكرة متقدمة ، نعم قيل : بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في (إِلَيْهِمْ) وقيل : يجوز كونه حالا من (رِجالاً) لأنه نكرة موصوفة ، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.

وجوز أيضا تعلقه ـ بنوحي ـ وقوله سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول ، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره ، وما نقل من منعه ليس بثبت ، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجالا متلبسون بالبينات ، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما ، وأشبه إلا وجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف.

وجوز أن يتعلق ـ بتعلمون ـ فلا اعتراض ، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي ، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل ، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه ، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول : إن كون الرسل عليهم‌السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم ، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت (١) من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره ، قاله في الكشف أيضا ، ثم قال : ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فانكارهم انكارهم ، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن ، وما ذكر أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزامهم ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق ، وهذا ظاهر على تقدير تعلق (بِالْبَيِّناتِ) ـ بيعلمون ـ والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض ، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول ، فافهم ذاك ، والله تعالى يتولى هداك

__________________

(١) وزعم بعضهم أن التبكيت إنما جاء من (إن) فتدبر اه منه.

٣٨٨

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له ، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا ، وقيل : المراد بالذكر العلم وليس بذاك (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم‌السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال ، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين ، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه.

وقيل : المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى ، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية ، واستأنس له بما

أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه» وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه ، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار ، ولعل قوله عزوجل : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب ، وقال بعض المعتزلة : أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال : وفيه دلالة على أن الله تعالى إرادة من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر ، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب ، ومن قدرها منا أراده منها ، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر ، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله ، وقيل : أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل ، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراموا ضد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه ، وعمم بعضهم فقال : هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم‌السلام ، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر ، و «السيئات» نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) مفعول لأمن أو (السَّيِّئاتِ) مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن (السَّيِّئاتِ) بمعنى العقوبات التي تسوؤهم ، و (أَنْ يَخْسِفَ) بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف ، وقيل : هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال : ـ كما قال الراغب ـ خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا ، فالباء إما للتعدية أو للملابسة و (الْأَرْضَ) إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي

٣٨٩

يرجون إتيان ما يشتهون منها ، وقال البيضاوي أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط ، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر ، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة ، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل. دعها سماوية تجري على قدر. فيكون مجازا ، لكن قيل عليه : إنه لا يلائم المثال وإن كان لا يخصص (أَوْ يَأْخُذَهُمْ) أي العذاب أو الله تعالى رجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.

(فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي حركتهم إقبالا وإدبارا ، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة ، وروي عن ابن عباس في أسفارهم ، وحمله على ذلك ـ قال الإمام ـ مأخوذ من قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه ، وقيل : المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا ، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم ، ولا أراه يصح.

وقال الزجاج : المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل جوز الشيء وتحصيله ، والمراد به القهر والإهلاك ، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه ، والفاء قيل : لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك ، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

وقال غير واحد من الأجلة : على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته ، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا.

وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة ، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال : نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته :

تخوف الرحل منها تامكا قردا (١)

كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر رضي الله تعالى عنه : عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم ، والجار والمجرور قال أبو البقاء : في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم.

وقال الخفاجي : الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزع به على التفسير الثاني ، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر ، ثم إن

__________________

(١) قوله : تامكا أي سناما ، وقوله : قردا أي متراكما والنبعة شجر يتخذ منه القسيّ ، والسفن بفتح السين والفاء المبرد اه منه.

٣٩٠

بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة ، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الاثنين عموم من وجه أو مطلقا.

وذكر الإمام ، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ، وكان الظاهر في الآية أن يقال : أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث إن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في ـ يعذبهم ـ إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل : لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف ، وقيل لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بنفي معه ، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلى معه ، وقيل : إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه جاء «السفر قطعة من العذاب» لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل : أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رءوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جلّ وعلا ، وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة ، وقيل : هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل ، وقيل : هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه ، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جلّ شأنه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين (إِلى ما خَلَقَ اللهُ).

وقيل : الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان «أو لم تروا» بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى : «فإن ربكم» كما أن الجمهور قرءوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى :

٣٩١

«أفأمن الذين مكروا» وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و «ما» موصولة مبهمة ، وقوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه ، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدي فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا مطاوع له لازم ، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني :

طلبت ربيع ربيعة الممهى لها

وتفيأت ظلّا له ممدودا

ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب ، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنّى (١) بها عن امرأة :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ تذوق

ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء ، وقيل : هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه ، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي :

فسلام الإله يغدو عليهم

وفيوء الفردوس ذات الضلال

والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ، ومن هنا قال الأزهري : إن تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، وقال أبو حيان : إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره ، وإضافة الضلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى ، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى ، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جمادا أو نباتا على ما عليه بعض المفسرين ، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه ، وكلا القولين على تقدير كون (مِنْ) بيانية كما سمعت ؛ وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة ـ بخلق ـ المراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر (كُنْ) كما قال سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، ولا يخفى بعده ، واعترض أيضا بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم (ما) أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و «يتفيؤ» صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة (يَتَفَيَّؤُا) حينئذ ليست صفة ـ لشيء ـ إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة ـ لما ـ لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم «ما» لا يجوب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة.

وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر ، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق

__________________

(١) حيث يقول :

أبى الله إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه تروق

اه منه.

٣٩٢

المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال (سُجَّداً لِلَّهِ) أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها ، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد ، وقوله تعالى : (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء ، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء ، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل ، قال ذو الرمة :

فلم يبق إلا داخر في مخيس (١)

ومنحجر في غير أرضك في حجر

فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر ، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى ، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به ، وجوز كون (سُجَّداً) والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.

والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة ، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب (ما خَلَقَ) شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون (سُجَّداً) حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم.

وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز ، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر ، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة ، وليس بشيء كما لا يخفى ، ثم إن قلنا على هذا الوجه : إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفتان ، وتعدد الحال جائز عند الجمهور ، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين ، وإن قلنا : إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة ، وقال أبو البقاء : (سُجَّداً) حال من الظلال (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من الضمير في (سُجَّداً) ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه ، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون (سُجَّداً) حالا من ضمير (ظِلالُهُ) والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري ، ورجحه في الكشف فقال : إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥] فجاعلهما حالا من الضمير في (ظِلالُهُ) مقصر ، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد ، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في (خَلَقَ اللهُ) إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور ، والعامل في الحال الثاني (يَتَفَيَّؤُا) على ما قال ابن مالك في قوله تعالى : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة : ١٣٥] اه ، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين ، وأما جعل (وَهُمْ داخِرُونَ) حالا من ضمير (يَرَوْا) فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.

هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال

__________________

(١) أي سجن اه منه.

٣٩٣

فالظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني يمين البلد وشماله ، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل يز أو كحله» (١) على اختلاف الأرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس ، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم ، وقيل : المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله ، و (عَنِ) كما قال الحوفي متعلقة ب (يَتَفَيَّؤُا) وقال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالا ، وقيل : هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية. ولهم في توحيد (الْيَمِينِ) وجمع (الشَّمائِلِ) ـ وهو جمع غير قياسي ـ كلام طويل.

فقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى : (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] و (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧] وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع ، وقيل : اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى ، وقال الفراء : إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع ، وقال الكرماني : يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها أو تيمنا بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد ، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف ، وهو قريب من الأول ، وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال ، وقيل : المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل : يتفيّأ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين ، وهو كما ترى ، ونقل أبو حيان عن استاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة ، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق (سُجَّداً) المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير (ظِلالُهُ) المجاور له يمينا ، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا. فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب ، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربة ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد (النُّور) في كل القرآن ، وجمع ما يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراده النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما ، وقد يقال : إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات ، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر ، وآخر أيضا وهو أنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب ، ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و «كلتا يديه يمين» ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة

__________________

(١) يساوي في حساب الجمل : ١٦٧.

٣٩٤

الخلق إليه تعالى ، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك ، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء ، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة ، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس ، وما ألطف وقوع (سُجَّداً) بعد (الشَّمائِلِ) على هذا ؛ وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح ، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.

وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه ، ثم قال : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.

وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص ، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف ، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك ، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية ، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيأ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل ، وقرأ أبو عمرو ، وعيسى. ويعقوب «تتفيأ» بالتاء على التأنيث ، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر. وقرأ عيسى «ظلله» وهو جمع ظلة كحلة وحلل ؛ قال صاحب اللوامح : الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني عرض ، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى ، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه ، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي ، ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى ، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة :

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية

وفار للقوم باللحم المراجيل

فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء ، وقول الآخر :

يتبع أفياء الظلال عشية

فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله : رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا به ظلها فكأنه رفع الظل ، وقوله : أفياء الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه ، وقال بعضهم : المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة ، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل : الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله ، وتفسر الظلة بما هو كهيئة الصفة ، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عزّ من قائل ما قال ، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا ، والاسم الجليل متعلق ـ بيسجد ـ والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به

٣٩٥

قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء ، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين ، وقوله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن (مِنْ) البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم‌السلام ، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم‌السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير ، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية ، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض ، والدابة اسم لما يدب على الأرض و (الْمَلائِكَةُ) عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما ، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا ، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم‌السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض ، والمراد بالملائكة عليهم‌السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم ، و «ما» إذا قلنا : إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب ، وأما إن قلنا : إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب ، وفي أنوار التنزيل إن (ما) لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا ، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من ، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما ، وأراد أن لا دليل في اللفظ ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء : إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم (وَهُمْ) أي الملائكة مع علو شأنهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته تعالى شأنه والسجود له ، وتقديم الضمير ليس للقصر ، والسين ليست للطلب وقيل : له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به. وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل (يَسْجُدُ) مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم ، بذلك ، وإنما لم يجعل الضمير ـ لما ـ لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب ، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) وممن صرح بعود الضمير فيه على (ما) أبو سليمان الدمشقي ، وقال أبو حيان : إنه الظاهر ، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم (مِنْ فَوْقِهِمْ) إما متعلق ـ بيخافون ـ وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من (رَبَّهُمْ) أي كائنا من فوقهم ، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى ، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك.

٣٩٦

والجملة حال من الضمير في (لا يَسْتَكْبِرُونَ) وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته ، واختاره ابن المنير وقال : إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق ، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية : إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح ، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه ، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء ، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر ، وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفى ، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف على ما قيل ، وقيل : إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين ، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب ، ويرده ، قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٨ ، ٢٩] ولا ينافي ذلك عصمتهم ، وقال الإمام : الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال ، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وفي القلب منه شيء ، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية ، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (أَتى أَمْرُ اللهِ) وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي ، ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال (أَتى) ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأن هذا ليس وقت ظهوره ، ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات وجود الغير ، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) وهو العلم الذي تحيا به القلوب (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم المخلصون له (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وقال بعضهم : أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي ، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم‌السلام ، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [فصلت : ٣٠] وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم ، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إلخ ، وفي قوله سبحانه : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس‌سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده ، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول عليه ، فمحمول بنور الفعل ، ومحمول بنور الصفة ، ومحمول بنور الذات ، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود ، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة ، والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء ، وهذه الأصناف للسالك ، وأما المجذوب فمحول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة ، وفي قوله سبحانه : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام ؛ وقال بعضهم : إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع

٣٩٧

وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك الإنكار حيث أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية ، ألا ترى الصوفية الذين منّ الله تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم ، وممن زعم الانتظام في سلكهم كالكشفية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل ، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم ، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله والاشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب منه الإدراك والتحقق بالجمادات ، وقال الواسطي في الآية : المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي السبيل القصد وهو التوحيد (وَمِنْها جائِرٌ) وهو ما عدا ذلك (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) وهم الأوتاد أرباب التمكين (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي تضطرب ، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت (وَأَنْهاراً) وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب (وَسُبُلاً) وهم المرشدون الداعون إليه تعالى (وَعَلاماتٍ) وهي الآيات الآفاقية والأنفسية (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب.

وقال بعضهم : ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار ، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات ، وسبيل العقول إلى أنوار الآيات ، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات ، والسبل في الحقيقة غير متناهية ، ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم ، وأخص العلامات في العالم الأولياء ، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي ، وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب ، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها.

وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم : إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ ، وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا ، ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره ، فالطريق المأمون عند كل رشيد الاستغاثة والاستعانة على الله عزوجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده ، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته ، وأما الأبرار والسعداء فقسمان ، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد وصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت ، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد

٣٩٨

المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار ، وقيل : طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.

وقيل : طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات ـ لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها ـ ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل :

من شاوروه فأبدى السر مشتهرا

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وجانبوه فلم يسعد بقربهم

وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا

لا يصطفون مذيعا بعض سرهم

حاشا ودادهم من ذاكم حاشا

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قيل : أي يتمثل صوره ومظاهره (عَنِ الْيَمِينِ) جهة الخير (وَالشَّمائِلِ) جهات الشرور ، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله : والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) ينقاد (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) لأنه القاهر المؤثر فيهم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) طوعا وانقيادا ، والله تعالى الهادي سواء السبيل.

ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات ، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ

٣٩٩

الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما

٤٠٠