روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه ؛ وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهما ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله تعالى ، وقيل : إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الإجرام العظيم العلوية والسفلية؟ (قُلِ اللهُ) أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء ، ويجوز أن يكون ذلك تلقينا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه ، وقيل : إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه.

وقال مكي : إنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر باعلامهم به ، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر: ٣٨] وحينئذ كيف يقال : انهم جهلوا الجواب فطلبوه؟ نعم قال البغوي : روي أنه لما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب ، وهو يفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى (قُلْ) إلزاما لهم وتبكيتا (أَفَاتَّخَذْتُمْ) لأنفسكم (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) عاجزين (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) وهي أعز عليهم منكم (نَفْعاً) يستجلبونه (وَلا ضَرًّا) يدفعونه عنها فضلا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه ، والهمزة للإنكار ، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك ، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معا ، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده ، ويفهم ـ على ما قيل ـ من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم ، واختلف في الدليل الأول فقيل : هو ما يفهم من قوله تعالى : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) وقيل : هو ما يفهم من قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلخ فتدبر (قُلْ) تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها (وَالْبَصِيرُ) الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد ، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية ، وكذا على ما قيل : إن المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة بالثاني العالم بها ، وقيل : إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن الكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز. ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل (١) والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ) التي هي عبارة عن الكفر والضلال (وَالنُّورُ) الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضا ، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس والكفر غيرهم ، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر.

و «أو» كما في البحر منقطعة وتقدر ـ ببل ـ والهمزة على المختار ، والتقدير بل أهل تستوي ، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضا كما في قوله :

أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم

وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، ويجوز فيها بعد (أَمْ) هذه أن يؤتى بها

__________________

(١) هذا من إرخاء العنان أو من باب المشاكلة كذا قيل فتدبر اه منه.

١٢١

لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [يونس : ٣١] ويجوز أن لا يؤتى بها لأن «أم» متضمنة للاستفهام ، وقد جاء الأمران في قوله :

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

أثر الأحبة يوم البين مشكوم

وقرأ الأخوان. وأبو بكر «أم هل يستوي» بالباء التحتية ، ثم إنه تعالى أكد ما اقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه : (أَمْ جَعَلُوا) أي بل أجعلوا (لِلَّهِ) جلا وعلا (شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) سبحانه وتعالى ، والهمزة لانكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى ، والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) بسبب ذلك وقالوا : هؤلاء خلقوا كخلق الله تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق ، والمقصود بالإنكار والنفي هو والمقيد على ما نص عليه غير واحد من المحققين. وفي الانتصاف أن (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) في سياق الإنكار جيء به للتهكم فإن غير الله تعالى لا يخلق شيئا ولا مساويا ولا منحطا وقد كان يكفي في الإنكار لو لا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق.

وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقارا للمخاطب كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤] ، وهاهنا (كَخَلْقِهِ) جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان ، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووصفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضا ، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا ، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه. والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك ، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه ، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم (قُلْ) تحقيقا للحق وإرشاد لهم (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من الجواهر والاعراض ، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق.

وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم. ومن الناس من يحتج أيضا لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية (الْقَهَّارُ) الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فكيف يكون المغلوب شريكا له تعالى ، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله ، وهو يحتمل أن يكون من مقول القول وأن يكون جملة مستأنفة.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي من جهتها على ما هو المشاهد ، وقيل : منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها ، وقيل : أنزل منها نفسها (ماءً) أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الأجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز من (مِنَ فَسالَتْ) بذلك (أَوْدِيَةٌ) دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد.

قال أبو علي الفارسي : ولا يعلم أن فاعلا جمع على أفعلة ، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر

١٢٢

وأطيار. ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال : واد وأودية ويجمع فعيل جمع فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة ، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على الماء الجاري فيه ، وهو اسم فاعل من ودي إذا سال فإن أريد الأول فالإسناد مجازي أو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية ، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي ، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى (بِقَدَرِها) أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس ، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد ، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير ، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام ، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الصفة لأودية ، وجوز أن يكون متعلقا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية «بقدرها» بسكون الدال وهي لغة في ذلك.

(فَاحْتَمَلَ) أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر (السَّيْلُ) أي الماء الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودا مذكورا بقوله تعالى : (أَوْدِيَةٌ) ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل ، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة ، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي الكذب ، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من سالت اه. وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقيا كان أو مجازيا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك فكيف يتصور فيه الاستخدام. نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر (١) اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا ، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل (زَبَداً) هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم ، وهو معنى قول ابن عيسى : إنه وضر الغليان وخبثه ، قال الشاعر :

وما الفرات إذا جاشت غواربه

ترمي أواذيه العبرين (٢) بالزبد

(رابِياً) أي عاليا منتفخا فوق الماء ، ووصف الزبد بذلك قيل : بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة ، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدا فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية

__________________

(١) كقول بعض المولدين. أخت الغزالة إشراقا وملتفتا. اه منه.

(٢) أي الجانبين ا ه منه.

١٢٣

مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادئ الرأي من غير مداخلة في الحق (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الإيقاد (عَلَيْهِ) وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره ، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة «توقدون» بتاء الخطاب ، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى : (فِي النَّارِ) عند أبي البقاء والحوفي ، قال أبو علي : قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص : ٣٨] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها ، وقال مكي. وغيره : إن (فِي النَّارِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أي كائنا أو ثابتا فيها ، ومنعوا تعلقه ـ بتوقدون ـ قالوا : لأنه لا يوقد على شيء الا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى ، وقال أبو حيان : لو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقيل : إن زيادة ذلك للإشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد ؛ والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس. والرصاص ، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالإيقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارا لكبريائه جل شأنه على ما قيل ، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله تعالى : (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) فوفى كل من المقامين حقه فما قيل : إن الحمل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل.

ونصب (ابْتِغاءَ) على أنه مفعول له كما هو الظاهر ، وقال الحوفي : إنه مصدر في موقع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات (زَبَدٌ) خبث (مِثْلُهُ) أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه رفع (زَبَدٌ) على أنه مبتدأ خبره (مِمَّا يُوقِدُونَ) و (مِنَ) لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل ، وإنما لم يتعرض لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان إنزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلا فيه بل له إخلال بذلك (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة : (يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي مثل الحق ومثل الباطل ، والحذف للابناء (١) على كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل (فَأَمَّا الزَّبَدُ) من كل من السيل وما يوقدون عليه ، وأفرد ولم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك (فَيَذْهَبُ جُفاءً) مرميا به يقال : جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به ، ويقال : أجفا أيضا بمعناه ، وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته ، ويقال : جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف ، وقرئ «جفالا» باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقا أيضا أخذا من جفلت الريح الغيم كجفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة ، قال ابن أبي حاتم : ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان أعرابيا جافيا ، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن ، والنصب على الحالية (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي من الماء

__________________

(١) قوله للأبناء كذا بخط المؤلف ولعله للابتناء تأمل اه.

١٢٤

الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث (فَيَمْكُثُ) يبقى (فِي الْأَرْضِ) أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها ؛ وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها ، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله ، وقيل : النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره ، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.

وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة ، ومثل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا.

وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» وقال ابن عطية : صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرع من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه ، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب العجيب (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد ، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه : «يضرب الله الحق والباطل» إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير النفوس ، والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : (الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره ، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) سبحانه وعاندوا الحق الجلي (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من أصناف الأموال (جَمِيعاً) بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه

١٢٥

جميعا ليتخلصوا عما بهم ، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موضع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل : وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وإن دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام ؛ فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل : والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) إلى آخره الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) تقتضي أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) إلخ بدل ما ذكر ، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضا صاحب الكشف قال : إن قوله تعالى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير ، وأوثر الإجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر ، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيئ على ما روي عن إبراهيم النخعي. والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعني بالمناقشة. وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم (وَمَأْواهُمْ) أي مرجعهم (جَهَنَّمُ) بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي المستقر ، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم.

وقال الزمخشري : اللام في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) متعلقة بيضرب الله الأمثال وقوله سبحانه: (الْحُسْنى) صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) معطوف على الموصول الأول ، وقوله جل وعلا : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب ، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى ، قال أبو حيان : والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا وإنما هو نفي الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه حينئذ يكون (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) إلخ كلاما مفلتا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم إلخ ، ولو كان هنا حرف يربط (لَوْ) بما قبلها زال التفلت ، وأيضا أنه يوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما : وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجها لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموما بمثل هذين ، ألا ترى قوله تعالى : (كَذلِكَ) ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضا ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف ، وأيضا قوله تعالى : (الْحُسْنى) صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) إلخ مفلتا وقد قالوا : إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون أنه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الاشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوما انتهى. قال بعض المحققين : إن ما ذكر متوجه

١٢٦

بحسب بادئ الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى : (كَذلِكَ) يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك ، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله : إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة ، وأما أن الصفة مؤكدة أولا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا ، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر ، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس ، وعود الضمير على ما قبله مطلقا هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة : وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) [التحريم : ١١] ونظائره ، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ؛ ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال : إن جعل (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالأصالة ومن صلة (يَضْرِبُ) أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل.

ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان ، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد ، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

عن قول المتنبي :

إذا كان مدحا فالنسيب المقدم

أكل فصيح قال شعرا متيم

وهو الذي فهمه السلف من الآية ، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدءون بقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) وقال صاحب المرشد : إنه وقف تام والوقف على (الْحُسْنى) حسن وكذا على (لَافْتَدَوْا بِهِ) والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة : (المر) أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة (تِلْكَ آياتُ) علامات (الْكِتابِ) الجامع الذي هو الوجود المطلق (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية ، وجعل الشيخ الأكبر قدس‌سره عمادها الإنسان الكامل ، وقيل : النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه ، وقيل : رفع سماوات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بالتأثير والتقويم ، وقيل : عرش القلب بالتجلي (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ) شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية «والقمر» قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو كماله بحسب الفطرة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب

١٢٧

المبادئ (يُفَصِّلُ الْآياتِ) في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) عند مشاهدة آيات التجليات (تُوقِنُونَ) عين اليقين.

وقال ابن عطاء : يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها (أَنْهاراً) من علوم الحقائق (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) تجلى الجلال وتجلى الجمال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في آيات الله تعالى ، قال أبو عثمان : الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير ، وقيل : تصفيته لوارد الفوائد ، وقيل : الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها ، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يفتكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين ، وقيل : في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها (جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي أعناب العشق (وَزَرْعٌ) أي زرع دقائق المعرفة (وَنَخِيلٌ) أي نخل الإيمان (صِنْوانٌ) في مقام الفرق (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) في مقام الجمع ، وقيل : صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الطعم الروحاني ، وقيل : أشير أيضا إلى أن في أرض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) بعد ظهور الآيات (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى.

وقيل : إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور ، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس‌سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك ، وهذا عند الشيخ قدس‌سره مبني على أن الجواهر والأعراض كلها شئونه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن ، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الأعراض ، والشيخ قدس‌سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك ما يقول بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود ، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) فلم يعرفوا عظمته سبحانه (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) فلا يقدرون أن يرفعوا رءوسهم المنكسة إلى النظر في الآيات (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

١٢٨

فِيها خالِدُونَ) لعظم ما أتوا به (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بمناسبة استعدادهم للشر (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) عقوبة أمثالهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن رسخت فيه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) تشهد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) هو الله تعالى ، وقيل : لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها (وَما تَزْدادُ) بالتزكية وبركة الصحبة (وَكُلُّ شَيْءٍ) من الكمالات (عِنْدَهُ) سبحانه (بِمِقْدارٍ) معين على حسب القابلية (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في ممكن استعداده (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) بإبرازه إلى الفعل (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) ظلمة ظلمه نفسه (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جنب القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها إياه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعم الظاهرة أو الباطنة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الاستعداد وقوة القبول ؛ قال النصرآبادي : إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام ، وعن بعض السلف أنه قال : إن الفأرة مزقت خفي وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) إذ الكل تحت قهره سبحانه ، قال القاسم : إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم ، ولله تعالى در من قال :

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول ما يجني عليه اجتهاده

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) أي برق لوامع الأنوار القدسية (خَوْفاً) خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه (وَطَمَعاً) طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) بماء العلم والمعرفة ، وقيل : يرى المحبين برق المكاشفة وينشئ للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة ، وأنشدوا للشبلي :

أظلت علينا منك يوما غمامة

أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها

فلا غيمها يصحو فييأس طامع

ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها

وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي ، وأنشدوا :

ما كان ما أوليت من وصلنا

إلا سراجا لاح ثم انطفى

وذكر الإمام الرباني قدس‌سره في المكتوبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا يرقى وأطال الكلام في ذلك مخالفا لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيي الدين قدس‌سره. وغيره ، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبسا (بِحَمْدِهِ) وإثبات ما ينبغي له عز شأنه (وَالْمَلائِكَةُ) وتسبح ملائكة القوى الروحانية (مِنْ خِيفَتِهِ) من هيبة جلاله جل جلاله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) هي

١٢٩

صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للّطف الكلي (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيحرقه عن بقية نفس ، وفي الخبر «إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال ابن الزنجاني : الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم ، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة ، وكأني بك تقول : إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل. والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري ، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد ، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى ، ولعلك تقول : كان الأولى مع هذا ترك ذلك. فنقول : قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته (وَهُوَ) سبحانه (شَدِيدُ الْمِحالِ) في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله :

هيهات أن تصطاد عنقاء البقاء

بلعابهن عناكب الأفكار

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) الأصنام (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) المحجوبين (إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي ضياع لأنهم لا يدعون إلا له الحق وإنما يدعون إلها توهموه ونحتوه في خيالهم (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) ينقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الحقائق والروحانيات (طَوْعاً وَكَرْهاً) شاءوا أو أبوا (وَظِلالُهُمْ) هياكلهم (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي دائما ؛ وقيل : يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرها.

وقيل : الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من سماء روح القدس (ماءً) أي ماء العلم (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أي أودية القلوب (بِقَدَرِها) بقدر استعدادها (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) من خبث صفات أرض النفس (رابِياً) طافيا على ذلك (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) طلب زينة النفس لكونها كمالات لها (أَوْ مَتاعٍ) من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما (زَبَدٌ) خبث (مِثْلُهُ) كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس «فأما الزبد فيذهب جفاء» منفيا بالعلم «وأما ما ينفع الناس» من المعاني الحقة والفضائل الخالصة «فيمكث في الأرض» أرض النفس ، وقال بعضهم : إنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية ، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد ، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى ، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي ، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس

١٣٠

ويبقى ما هو خالص لله تعالى ، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل ، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الانس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من الله عزوجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى ، وقال ابن عطية : روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : «أنزل من السماء ماء» إلخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه ، ثم قال : وهذا قول لا يصح ـ والله تعالى أعلم ـ عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك ، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه : إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول : إن صح ذلك فمقصود الخبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه ، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه ، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك «للذين استجابوا لربهم» بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس «الحسنى» المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء «والذين لم يستجيبوا له» تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية «لو أن لهم ما في الأرض» الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها «ومثله معه لافتدوا به» مما ينالهم من الحجاب والحرمان (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الحرمان «وبئس المهاد» جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ

١٣١

قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى هو (الْحَقُ) الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب لا يدركه ولا يقدر قدره وهو ـ هو ـ فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال ، والمراد كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى ، والهمزة للإنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وما بين من المصير والمآل كأنه قيل : أبعد ما بين حال كل من الفريقين وما لهما يتوهم المماثلة بينهما.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو من يعلم بالواو مكان الفاء (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بما ذكر من

١٣٢

المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الألف ومعارضة الوهم ، فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب إليه الراغب ، وقيل : هما مترادفان والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك.

والآية (١) على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حمزة رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل وقيل : في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل ، وقيل : في عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل ، وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها ، والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن (فَمَنْ يَعْلَمُ) عطف على جملة (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) إلخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وذكر من معنى الآية على ذلك ما ذكر قال : ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) وهو كما ترى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا : بلى ، أو بما عهد الله تعالى عليهم في كتبه من الأحكام فالمراد بهم ما يشمل جميع الأمم ، وإضافة العهد إلى الاسم الجليل من باب إضافة المصدر إلى مفعوله على الوجه الأول ومن باب إضافة المصدر إلى الفاعل على الثاني ، وإذا أريد بالعهد ما عقده الله تعالى عليهم يوم قال سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] كانت الإضافة مطلقا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وهو الظاهر كما في البحر ، وحكى حمل العهد على عهد ألست عن قتادة ، وحمله على ما عهد في الكتب عن بعضهم ، ونقل عن السدي حمله على ما عهد إليهم في القرآن ، وعن القفال حمله على ما في جبلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات إلى غير ذلك واستظهر حمله على العموم (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثقوا من المواثيق بين الله تعالى وبينهم من الإيمان به تعالى والأحكام والنذور وما بينهم وبين العباد كالعقود وما ضاهاها ، وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل.

وقال أبو حيان : الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للتي قبلها لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه ، وقال ابن عطية : المراد بالجملة الأولى يوفون بجميع عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصى الله تعالى بها عبيده ويدخل في ذلك التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي ، والمراد بالجملة الثانية أنهم إذا عقدوا في طاعة الله تعالى عهدا لم ينقضوه اه ، وعليه فحديث التعميم بعد التخصيص لا يتأتى كما لا يخفى ، وقد تقدم الله سبحانه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية من كتابه كما روي عن قتادة ، ومن أعظم المواثيق ـ على ما قال ابن العربي ـ أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه.

وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد لعظم شأنه فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحدا سواه فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحدا من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال ولم ير من أخرجه فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل؟ فينبغي الاقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضا. وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال ، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا : لو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار ، ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل. نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون فآها ثم آها مما يفعلون.

__________________

(١) هي أفمن يعلم إلخ اه منه.

١٣٣

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) الظاهر العموم في كل ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الحسن : المراد صلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيمان به ، وروي نحوه عن ابن جبير ، وقال قتادة : المراد صلة الأرحام ، وقيل : صلة الإيمان بالعمل ، وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام وعيادة المرضى وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم ، ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الأنبياء عليهم‌السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعا ولا يفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة ما يطلب في حقها وجوبا أو ندبا ، وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان (١) قالوا : اتقوا الله تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن محسنا ، ومفعول «أمر» محذوف والتقدير ما أمرهم الله به ، و «أن يوصل» بدل من الضمير المجرور أي ما أمر الله بوصله (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقا ، وقيل : المراد وعيده تعالى على قطع ما أمروا بوصله (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام ، والخشية والخوف قيل بمعنى ، وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيدا وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه ، ولذا قال سبحانه : «يخشون» أولا «ويخافون» ثانيا ، وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله ، لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى : «خشية إملاق» و «لمن خشي العنت منكم» وفرق الراغب بينهما فقال : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

وقال بعضهم : الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية ، وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ، يدل على ذلك أن تقاليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفالتدبر ، والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لا كلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما ، نعم اختار الإمام ان المراد من (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أنهم يخافونه خوف مهابة وجلالة زاعما أنه لو لا ذلك يلزم التكرار وفيه ما فيه. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) طلبا لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا ، وقيل : المراد طالبين ذلك فنصب (ابْتِغاءَ) على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له ، والكلام في مثل الوجه منسوبا إليه تعالى شهير.

وفي البحر أن الظاهر منه هاهنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال : خرج زيد لوجه كذا ، وفيه أيضا أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه : ولذا قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال ، فمن الأول (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] ومن الثاني (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤١]

__________________

(١) كأنهم تعرفوا إليه بأنهم من منشئه فأجاب بأن الجامع التقوى لا المولد ، وقيل : كأنهم افتخروا بأنهم من خراسان والأول أولى اه منه.

١٣٤

ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب ، والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها. وفي إرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيها عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء ، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه ، وعطف قوله سبحانه : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص على العام ، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقا وهو أولى ، ومعنى إقامتها إتمام أركانها وهيئاتها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب (سِرًّا) حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء ، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهرا (وَعَلانِيَةً) حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر ، وقال بعضهم : إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب ، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإلا فالأولى أداؤها علانية ، وقيل : السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم ، ولعلّ تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته ، وجاء في الصحيح عد المتصدق سرا من الذين يظلمهم الله تعالى في ظله يوم القيامة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ، وعن ابن جبير يردون معروفا على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا وقيل : يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها. وفي الحديث أن معاذا قال : أوصني يا رسول الله قال : «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرة الذنب. وقيل : بلا إله إلا الله شركهم ، وقيل : بالصدقة العذاب. وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، وقيل وقيل ، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم

وقال في الكشف : الأظهر التعميم أي يدرءون بالجميل السيئ سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصا بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال ، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة (أُولئِكَ) أي المنعتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة ، وليس المراد بهم أناسا بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة ـ على ما قيل ـ في الأنصار ، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قوله سبحانه : (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة ، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى : «والعاقبة للمتقين» وفسرها الزمخشري أيضا بالجنة إلا أنه قال : لأنها التي أراد الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال.

١٣٥

وجوز أن يراد ـ بالدار ـ الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة ، وقيل : الجار والمجرور خبر اسم الإشارة و «عقبى» فاعل الاستقرار ، وأيا ما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة.

وقال بعضهم : إن المراد مآل أولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر ، ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة ، والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى. والجملة خبر للموصولات المتعاطفة أن رفعت بالابتداء أو استئناف نحو أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات؟ إن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات ـ لأولي الألباب ـ على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر ، والأول أوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين ، وحسن العطف في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ) وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى ، وقوله سبحانه : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار كما قال الزجاج بدل كل من كل ، وجوز أبو البقاء. وغيره أن يكون مبتدأ خبره قوله تعالى : (يَدْخُلُونَها) وتعقب بأنه بعيد عن المقام ، والأولى أن يكون مبتدأ محذوف كما ذكر في البحر ، ورد بأنه لا وجه له لأن الجملة بيان لعقبى الدار فهو مناسب للمقام ، والعدن الإقامة والاستقرار يقال : عدن بمكان كذا إذا استقر ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر أي جنات يقيمون فيها ، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : «جنات عدن» بطنان الجنة أي وسطها ، وروي نحو ذلك عن الضحاك إلا أنه قال : هي مدينة وسط الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، وجاء فيها غير ذلك من الأخبار ، ومتى أريد منها مكان مخصوص من الجنة كان البدل بدل بعض من كل. وقرأ النخعي «جنة» بالإفراد ، وروي عن ابن كثير وأبي عمرو «يدخلونها» مبنيا للمفعول (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وهو كما قال أبو البقاء عطف على المرفوع في ـ يدخلون ـ وإنما ساغ ذلك مع عدم التأكيد للفصل بالضمير الآخر ، وجوز أن يكون مفعولا معه. واعترض بأن واو المعية لا تدخل إلا على المتبوع. ورد بأن هذا إنما ذكر في مع لا في الواو وفيه نظر ، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهليهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم. أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن جبير قال : يدخل الرجل الجنة فيقول : أين أمي أين ولدي أين زوجتي؟ فيقال : لم يعملوا مثل عملك فيقول : كنت أعمل لي ولهم ثم قرأ الآية ، وفسر «من صلح» بمن آمن وهو المروي عن مجاهد وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفسر ذلك الزجاج بمن آمن وعمل صالحا ، وذكر أنه تعالى بين بذلك أن الأنساب لا تنفع إذا لم يكن معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. ورد عليه الواحدي فقال : الصحيح ما روي عن ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة ، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة فلو دخلوها بأعمالهم لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة. وضعف ذلك الإمام بأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فإذا بشر الله تعالى المكلف بأنه إذا دخل الجنة يحضر معه أهله يعظم سروره وتقوى بهجته. ويقال : إن من أعظم سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله تعالى على الخلاص منها ، ولذلك حكى سبحانه عن بعض أهل الجنة أنه يقول : «يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» وعلى هذا لا تكون الآية دليلا على أن الدرجة تعلو بالشفاعة. ومنهم من استدل بها على ذلك على المعنى الأول لها.

وتعقب بأنها أيضا لا دلالة لها على ما ذكر. وأجيب بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيما لشأنهم فالعلو بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى. وقال بعضهم : إنهم لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول

١٣٦

الجنة كان جعلهم في درجتهم مقتضى طلبهم وشفاعتهم لهم بمقتضى الإضافة. والحق أن الآية لا تصلح دليلا على ذلك خصوصا إذا كان الواو بمعنى مع فتأمل ، والظاهر أنه لا تمييز بين زوجة وزوجة وبذلك صرح الإمام ثم قال : ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه. وما روي عن سودة أنها لما هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك كالدليل على ما ذكر. واختلف في المرأة ذات الأزواج إذا كانوا قد ماتوا عنها فقيل : هي في الجنة لآخر أزواجها. ويؤيده كون أمهات المؤمنين زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها مع كون أكثرهن كن قد تزوجن قبل بغيره عليه الصلاة والسلام. وقيل : هي لأول أزواجها كامرأة أخبرها ثقة أن زوجها قد مات ووقع في قلبها صدقه فتزوجت بعد انقضاء عدتها ثم ظهرت حياته فإنها تكون له. وتعقب بأن هذا ليس من هذا القبيل بل هو يشبه ما لو مات رجل وأخبر معصوم كالنبي بموته فتزوجت امرأته بعد انقضاء العدة ثم أحياه الله تعالى وقد قالوا في ذلك : إن زوجته لزوجها الثاني. وقيل : إن الزوجة تخير يوم القيامة بين أزواجها فمن كان منهم أحسنهم خلقا معها كانت له وارتضاه جمع. وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام والفتح أفصح ؛ وعيسى الثقفي «ذريتهم» بالتوحيد (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل.

أخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك أنه قرأ الآية حتى ختمها ثم قال : إن المؤمن لفي خيمة من درة مجوفة ليس فيها جذع ولا وصل طولها في الهواء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ومال لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب منها سبعون ألفا من الملائكة مع كل ملك هدية من الرحمن ليس مع صاحبه مثلها لا يصلون إليه إلا بإذن بينه وبينهم حجاب» وروي عن ابن عباس ما هو أعظم من ذلك.

وقال أبو الأصم : أريد من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ، وقيل : من أبواب الفتوح والتحف ، قيل : فعلى هذا المراد بالباب النوع و (مَنْ) للتعليل ، والمعنى يدخلون لإتحافهم بأنواع التحف ، وتعقب بأن في كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظرا فإن ظاهر كلام الأساس وغيره يقتضي أن يكون مجازا أو كناية عما ذكر لأن الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الأرزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدد المأتيات فإن لكل جهة تحفة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي قائلين ذلك وهو بشارة بدوام السلامة ، فالجملة مقول لقول محذوف واقع حالا من فاعل (يَدْخُلُونَ) وجوز كونها حالا من غير تقدير أي مسلمين ، وهي في الأصل فعلين أي يسلمون سلاما ، وقوله تعالى : (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق كما قال أبو البقاء بما تعلق به (عَلَيْكُمْ) أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه ، ومنع هذا ـ كما قال السيوطي ـ السفاقسي وقال : لا وجه له ، والصحيح أنه متعلق بما تعلق به (عَلَيْكُمْ) وجوز الزمخشري تعلقه ـ بسلام ـ على معنى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ؛ ومنعه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين المصدر ومعمول له بالأجنبي وهو الخبر ، ووجه ذلك في الدر المصون بأن المنع إنما هو في المصدر المؤول بحرف مصدري وهذا ليس منه مع أن الرضي جوز ذلك مع التأويل أيضا وقال : لا أراه مانعا لأن كل مؤول بشيء لا يثبت له جميع أحكامه ، وجوز لهذه العلة العلامة الثاني تقديم معمول المصدر المؤول بأن والفعل عليه في نحو قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور : ٢] وقال في الكشف : إن (عَلَيْكُمْ) نظرا إلى الأصل غير أجنبي فلذلك جاز أن يفصل به ، على أن الزمخشري لم يصرح بأنه معموله بل من مقتضاه ولذا قال : أي نسلم إلخ فدل على أن التعلق معنوي يقدر ما يناسبه ، ولو جعل معمولا للظرف المستقر أعني (عَلَيْكُمْ) فيكون متعلقا معنى ـ بسلام ـ ضرورة لكان وجها خاليا عن التكلف ، وجعله أبو حيان خبر مبتدأ محذوف و (بِما) مصدرية والباء سببية أو بدلية أي هذا الثواب الجزيل بسبب صبركم في الدنيا على المشاق أو بدله. وعن أبي عمران بما صبرتم

١٣٧

على دينكم ، وعن الحسن عن فضول الدنيا ، وعن محمد بن النصر على الفقر ، والتعميم أولى. وتخصيص الصبر بالذكر من بين الصلات السابقة لما أنه ملاك الأمر والأمر المعتنى به كما علمت (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة ، وقيل : المراد بالدار الآخرة ، وقال بعضهم : المراد أنهم عقبوا الجنة من جهنم ، قال ابن عطية : وهذا مبني على ما ورد من أن كل رجل من أهل الجنة قد كان له مقعد من النار فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى بالجنة بإيمانك وصبرك. وقرأ ابن يعمر «فنعم» بفتح النون وكسر العين وذلك هو الأصل ، وابن وثاب «فنعم» بفتح النون وسكون العين وتخفيف فعل لغة تميم ، وجاء فيها ـ كما في الصحاح ـ «نعم» بكسر النون واتباع العين لها ؛ وأشهر استعمالاتها ما عليه الجمهور. وأخرج ابن جرير عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وكذا كان يفعل أبو بكر. وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم ، وتمسك بعضهم بالآية على أن الملك أفضل من البشر فقالوا : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجلّ مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ولا شك أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته إنه يزوره الأمير. والوزير. والقاضي. والمفتي دل على أن درجة المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذا هاهنا ، وهو من الركاكة بمكان.

ولم لا يجوز أن يكون ما هنا نظير ما إذا أتى السلطان بشخص من عماله الممتازين عنده قد أطاعه في أوامره ونواهيه إلى محل كرامته ثم بعد أن أنزله المنزل اللائق به أرسل خدمه إليه بالهدايا والتحف والبشارة بما يسره فهل إذا قيل : إن فلانا قد أحله السلطان محل كرامته ودار حكومته وأنزله المنزل اللائق به وأرسل خدمه إليه بما يسره كان ذلك دليلا على أن أولئك الخدم أعلى درجة منه؟ لا أظنك تقول ذلك. نعم جاء في بعض الأخبار ما يؤيد بظاهره ما تقدم ، فقد أخرج أحمد. والبزار. وابن حبان. والحاكم وصححه. وجماعة عن عبد الله بن عمرو قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم فيقول الله تعالى : إن هؤلاء عباد لي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ومن أنصف ظهر له أن هذا لا يدل على أن الملائكة مطلقا أفضل من البشر مطلقا كما لا يخفى ، وذكر الإمام الرازي في تفسير الآية على الوجه المروي عن الأصم في تفسير دخول الملائكة من كل باب أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي مختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفات المخصوصة فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب اه. وتعقبه أبو حيان بأنه كلام فلسفي لا تفهمه العرب ولا جاءت به الأنبياء عليهم‌السلام فهو مطروح لا يلتفت إليه المسلمون. وأنت تعلم أن مثل هذا كلام كثير من الصوفية (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) أريده بهم من يقابل الأولين ويعاندهم بالاتصاف بنقائض أوصافهم (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الاعتراف به ، قيل :

١٣٨

المراد بالعهد قوله سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] وبالميثاق ما هو اسم آلة أعني ما يوثق به الشيء وأريد به الاعتراف بقول : (بَلى) وقد يسمى العهد من الطرفين ميثاقا لتوثيقه بين المتعاهدين ؛ وفسر الإمام عهد الله تعالى بما ألزمه عباده بواسطة الدلائل العقلية لأن ذلك أوكد كل عهد وكل أيمان إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها ، ثم قال : والمراد من نقضها أن لا ينظر المرء فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أو بأن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعلمه أو بأن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق ، والمراد بقوله سبحانه (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد أن أوثق إليه تلك الأدلة وأحكامها لأنه لا شيء أقوى مما دل الله تعالى على وجوبه في أنه ينفع فعله ويضر تركه.

وأورد أنه إذا كان العهد لا يكون إلا بالميثاق فما فائدة (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)؟ وأجاب بأنه لا يمتنع أن يكون المراد مفارقة من تمكن من معرفته بالحلف لمن لم يتمكن أو لا يمتنع أن يكون المراد الأدلة المؤكدة لأنه يقال : قد تؤكد إليك بدلائل أخرى سواء كانت عقلية أو سمعية اه ولا يخفى أنه إذا أريد بالعهد ذلك القول وبالميثاق الاعتراف به لم يحتج إلى القيل والقال ، وحمل بعضهم العهد هنا على سائر ما وصى الله تعالى به عباده كالعهد فيما سبق والميثاق على الإقرار والقبول. والآية كما روي عن مقاتل نزلت في أهل الكتاب (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم‌السلام المجتمعين على الحق حيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن حقوق الأرحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك ، وإنما لم يتعرض ـ كما قال بعض المحققين ـ لنفي الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك. وأما عدم التعرض لنفي الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه في ضمن الحسنات المعهودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين لا سيما بعد تقييده بكونه ابتغاء وجهه تعالى ، كما لا وجه لنفي الصلاة والإنفاق بناء على أن المراد منه إعطاء الزكاة ممن لا يحوم حول الإيمان بالله تعالى فضلا عن فروح الشرائع ، وإن أريد بالإنفاق ما يشمل ذلك وغيره فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر الله تعالى بوصله بل قد يقال باندراج نفي الصلاة أيضا تحت ذلك ، وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فإن من يجازي إحسانه عزوجل بنقض عهده سبحانه ومخالفة الأمر ويباشر الفساد حسبما يحكيه قوله عزوجل : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم لأنفسهم وغيرهم وتهييج الفتن بمخالفة دعوة الحق وإثارة الحرب على المسلمين كيف يتصور منه الدرء المذكور ، على أنه قيل : إن ذلك يشعر بأن له دخلا في الإفضاء إلى العقوبة التي ينبئ عنها قوله سبحانه : (أُولئِكَ) إلخ أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح (لَهُمُ) بسبب ذلك (اللَّعْنَةُ) أي الإبعاد من رحمة الله تعالى (وَلَهُمْ) مع ذلك (سُوءُ الدَّارِ) أي سوء عاقبة الدار ، والمراد بها الدنيا وسوء عاقبتها عذاب جهنم أو جهنم نفسها ، ولم يقل : سوء عاقبة الدار تفاديا أن يجعلها عاقبة حيث جعل العاقبة المطلقة هي الجنة ، وجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ، والأول أوجه لرعاية التقابل ولأن المبادر إلى الفهم من الدار الدنيا بقرينة السابق ولأنها الحاضرة في أذهانهم ولما ذكر من النكتة السرية وذلك لأن ترتيب الحكم على الموصول يشعر بعلية الصلة له ، ولا يخفى أنه لا دخل له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها ، ودفع الكلام السيئ بالحسن وكذا الإعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة ؛ وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الإخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتباره من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم كالكفر ببعض الأنبياء عليهم‌السلام وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة ، وقيد بالأكثر لأنه على الكثير مما ذكرناه في تفسيره المدخلية ظاهرة ، وقيل : إنه سلك في وصف الكفرة وذمهم وذكر ما لهم في مآلهم ما لم يسلك في

١٣٩

وصف المؤمنين ومدحهم وشرح ما أعد لهم وما ينتهي إليه أمرهم فأتى في أحدهما بموصولات متعددة وصلات متنوعة إلى غير ذلك ولم يؤت بنحو ذلك في الآخر تنبيها على مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين قولا وفعلا وعدم الاعتناء بشأن أضدادهم فإنهم أنجاس يتمضمض من ذكرهم هذا ، مع الجزم بأن مقتضى الحال هو هذا ، وقيل : إن المسلكين من آثار الرحمة الواسعة فتأمل ، وتكرير (لَهُمُ) للتأكيد والإيذان باختلافهما واستقلال كل منهما في الثبوت (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَقْدِرُ) أي يضيق ، وقيل : يعطي بقدر الكفاية ، والمراد بالرزق الدنيوي لا ما يعم الاخروي لأنه على ما قيل غير مناسب للسياق ، وقال صاحب الكشف : إنه شامل للرزقين الحسي والمعنوي الدنيوي والأخروي وذكر في بيان ربط الآية على ذلك ما ذكر ، وهي كما روي عن ابن عباس نزلت في أهل مكة ثم إنها وإن كانت كذلك عامة وكأنها دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ما هم عليه من الضلال في سعة من الرزق فبين سبحانه أن سعة رزقهم ليس تكريما لهم كما أن تضييق رزق بعض المؤمنين ليس لإهانة لهم وإنما كل من الأمرين صادر منه تعالى لحكم إلهية يعلمها سبحانه وربما وسع على الكافر إملاء واستدراجا له وضيق على المؤمن زيادة لأجره.

وتقديم المسند إليه في مثل هذه الآية للتقوى فقط عند السكاكي ، والزمخشري يرى أنه لا مانع من أن يكون للتقوى والتخصيص ولذا قال : أي الله وحده يبسط ويقدر دون غيره سبحانه ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ويقدر» بضم الدال حيث وقع (وَفَرِحُوا) استئناف ناع قبح أفعالهم ما وسعه عليه.

والضمير قبل لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم واختاره جماعة ، وقال أبو حيان : للذين ينقضون ، وزعم بعضهم أن الجملة معطوفة على صلة (الَّذِينَ) وفي الآية تقديم وتأخير ومحل هذا بعد (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ولا يخفى بعده للاختلاف عموما وخصوصا واستقبالا ومضيا أي فرحوا فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل الله تعالى. (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي بما بسط فيها من النعيم لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح إليها مجازية أو هناك تقدير أي ببسط الحياة أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أي كائنة في جنب نعيمها. فالجار والمجرور في موضع الحال وليس متعلقا بالحياة ولا بالدنيا كما قال أبو البقاء لأنهما ليسا فيها.

و (فِي) هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام كما يقال : ذنوب العبد في رحمة الله تعالى كقطرة في بحر وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأن ما يقاس بشيء يوضع بجنبه ، وإسناد (مَتاعٌ) في قوله تعالى : (إِلَّا مَتاعٌ) إلى الحياة الدنيا يحتمل أن يكون مجازيا ويحتمل أن يكون حقيقيا ، والمراد أنها ليست إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو نحو ذلك ، والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاد ، أخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : «نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يا رسول الله لو اتخذنا لك فقال : ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ، وقيل : معنى الآية كالخبر «الدنيا مزرعة الآخرة» يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه وينفقه في مقاصده لا أن يفرحوا بها ويعدوها مقاصد بالذات والأول أولى وأنسب.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أهل مكة عبد الله بن أبي أمية وأصحابه ، وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بناء على أن ضمير «فرحوا» لهم لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه الصلاة والسلام

١٤٠