روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال : إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضا وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقا وهو المروي عن أبي يوسف.

وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختيارا وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب. وفي شرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم : العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم : أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم إن ما ذكر إنما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وإن سمي عند الفقهاء حلفا ويمينا لكنه لا يسمى قسما فإن القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين ، ومنه الحرام يلزمني وعلي الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف إن فعلت كذا فهي طالق فيجب امضاؤه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره. قال الحلبي : وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل : علي الطلاق أجيء اليوم إن جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون. وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط ؛ وكيف يسوغ لعاقل فضلا عن فاضل أن يقول إن قام زيد أقم على معنى إن قام زيد لم أقم ، على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى إن لم أجئ اليوم فأنت طالق ، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره ، وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى : رفع إلى سؤال صورته رجل اغتاظ من ولد زوجته فقال : علي الطلاق بالثلاث أني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا؟ الجواب (١) إذا ترك شكايته ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيث لم يؤكد ثم قال : فأجبت أنا بعد الحمد لله تعالى ما أفتى به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبئ عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جوابا للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه ولنعم ما قال ولله تعالى در القائل :

من الدين كشف الستر عن كل كاذب

وعن كل بدعي أتى بالعجائب

فلولا رجال مؤمنون لهدمت

صوامع دين الله من كل جانب

«وفتئ» هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها : فتأ كضرب وأفتأ كأكرم ، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد ـ للا تفتأ ـ بلا تفتر عن حبه ، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه بمعناه فإن الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه ، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف. وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السرقسطي ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير ، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتاب سماه ـ ما اختلف إعجامه واتفق إفهامه ـ ونقله عنه صاحب القاموس. واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن ، وقيل : إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر

__________________

(١) المجيب عبد المنعم البنتيني اه منه.

٤١

فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعا عليه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك ، وقيل : الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا ، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء ، وجاء أحرضني كما في قوله :

إني امرؤ لج بي حب فأحرضني

حتى بليت وحتى شفني السقم

ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير ، وقال ابن إسحاق : الحرض الفاسد الذي لا عقل له. وقرئ «حرضا» بفتح الحاء وكسر الراء.

وقرأ الحسن البصري «حرضا» بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب (١)(أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي الميتين ، و (أَوْ) قيل : يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى ، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] أو لأنه أكثر وقوعا (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه ، فهو مصدر بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية. وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه ، وأيّا ما كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء فقال في جوابهم : إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو غمي (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا في دفعه لدى بابه فإنه القادر على ذلك. وفي الخبر عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر» وقرأ الحسن وعيسى «حزني» بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) أي من لطفه ورحمته (ما لا تَعْلَمُونَ) فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي ، فالكلام على حذف مضاف و (مِنَ) بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة. وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم وحيا أو إلهاما أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه‌السلام.

قيل : إنه عليه‌السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم ، وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سندا والمروي عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال : بلغني أن يعقوب عليه‌السلام مكث أربعة وعشرين عاما لا يدري أيوسف عليه‌السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه‌السلام فقال له : من أنت؟ قال : أنا ملك الموت فقال : أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف؟ قال : لا فعند ذلك قال عليه‌السلام : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) أي فتعرفوا ، وهو تفعل من الحس وهو في الأصل الإدراك بالحاسة ، وكذا أصل التحسس طلب الإحساس ، واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه ، وقريب منه التجسس بالجيم ، وقيل : إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه ، قرئ هنا «فتجسسوا» بالجيم أيضا ، وقال الراغب : أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فإنه تعرف ما يدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي من خبرهما ، ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها ، وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك ، والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل

__________________

(١) في الصحاح هو غريب وغرب أيضا بضم الغين والراء اه منه.

٤٢

عن ابن الأنباري أنه لا يقال : تحسست من فلان ، وإنما يقال : تحسست عنه ، وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه.

(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه ، وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال : أراح الإنسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل : له تنفيس من النفس.

وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة «روح» بالضم ، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمة سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى الله تعالى لأنها منه سبحانه ، وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن كل من بقيت روحه يرجى ، ومن هذا قوله :

وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع. وقول عبيد بن الأبرص :

وكل ذي غيبة يئوب

وغائب الموت لا يئوب

وقرأ أبي «من رحمة الله» وعبد الله «من فضل الله» وكلاهما عند أبي حيان تفسير لا قراءة. وقرئ «تأيسوا».

وقرأ الأعرج «تيأسوا» بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٦٢] ثم إنه عليه‌السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله : (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال أو تأكيدا لما يعلمونه من ذلك ، قال ابن عباس : إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.

وذكر الإمام أن اليأس لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم ، واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا ، واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن اليأس من رحمة الله تعالى كفر ، وادعى أنها ظاهرة في ذلك.

وقال الشهاب : ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر ، وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفاد الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافرا بارتكابه ، وكونه لا يحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الإمام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمة الله تعالى إياه مع إيمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلا واعتقاده عدم أهليته لرحمة الله تعالى من غير أن يخطر له أدنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لا يستدعي أكثر من اقتضائه سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفرا كذا قيل ، وقيل : الأولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الإيمان وإن القول بأنه لا يحصل إلا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين.

نعم كونه كبيرة مما لا شك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أكبر الكبائر ، وكذا القنوط وسوء الظن ، وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له ، والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع ، وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار. وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال : إن اليأس كفر ومن قال : إنه كبيرة لفظيا فقال : قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر الله تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة الله تعالى كفر

٤٣

فيحتاج إلى التوفيق. والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب ، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر ، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها ، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال : والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدار قطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف عليه‌السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم ، وإنما لم يذكر إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاءوا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث إنه كان يحبه كثيرا فقال : ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيئوا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه‌السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر ، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا؟ لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة ، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الهزال من شدة الجوع ، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا ، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب ، وأنشدوا لحاتم :

ليبك على ملحان ضيف مدفع

وأرملة تزجي مع الليل أرملا

وكني بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمي ويطرح ، قيل : كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا ، وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء (١) وروي ذلك عن أبي صالح ، وزيد بن أسلم ، وقيل : سويق المقل والإقط ، وقيل : قديد وحش ، وقيل : حبالا واعدالا وأحقابا ، وقيل : كانت دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير ، وعلى كل ـ فمزجاة ـ صفة حقيقية للبضاعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم : فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل ، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به ، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل :

درج الأيام تندرج

وبيوت الهم لا تلج

وما ذكر أولا هو الأولى ، وعن الكلبي أن «مزجاة» من لغة العجم ، وقيل : من لغة القبط. وتعقب ذلك ابن الأنباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة.

وقرأ حمزة والكسائي «مزجية» بالإمالة لأن أصلها الياء ، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها ، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.

__________________

(١) معروفة وليست الفستق كما ظنه أبو حيان اه منه.

٤٤

وقال الضحاك ، وابن جريج : إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه ، قيل : وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة ، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل ، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا ، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول : اللهم تصدق على أن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل : اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته» وأجيب عنه مجازا ومشاكلة ، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى ، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم‌السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض ، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة ، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها ، والظاهر كما قال الزمخشري : أنهم تمسكنوا له عليه‌السلام بقولهم : (مَسَّنا) إلخ وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم بقولهم : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان.

قال النقاش : وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض ، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروي مثله عن الضحاك ، ووجه عدم بدئهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملئوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم ، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال : على أن قولهم (وَتَصَدَّقْ) إلخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه‌السلام حمله على طلب الرد ولذلك (قالَ) مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه‌السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما ، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة ، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي هل علمتم قبح (١) ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم ، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الاخوتين أيضا والتلطف في أسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف ، قيل : ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه‌السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين ، بل يجوز أن يقف عليه‌السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه‌السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال ، والظاهر أنه عليه‌السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.

__________________

(١) قيل الكلام على حذف مضاف وقيل هو كناية عما ذكر فافهم اه منه.

٤٥

روي عن ابن إسحاق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه أرفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم ، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت ، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر ، وقيل : إنهم أدوا إليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء ، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه ، فلما قرأ يوسف عليه‌السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا ، وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر ، وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين ، وقيل : المراد جاهلون بما يؤول إليه الأمر ، وعن ابن عباس والحسن (جاهِلُونَ) صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة ، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) فالظاهر عدم صحة الإسناد ، وزعم في التحرير أن قول الجمهور : إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه‌السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال : هل تدري من عصيت؟ وقيل : هل بمعنى قد كما في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١] والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم. ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه‌السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال : (هَلْ عَلِمْتُمْ) إلخ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي ، ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا ، وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن «إنك» بغير همزة استفهام ، قال في البحر : والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون وهو الظاهر ، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد ، وأنت في القراءتين مبتدأ و (يُوسُفُ) خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم ـ إن ـ لحيلولة اللام ، وقرأ أبي «أإنك أو أنت يوسف» وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف ، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أإنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال : وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق ، قال في الكشف : وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجري على قانون الاستفهام ، ولعل الأنسب أن يقدر أإنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أإنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف ، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا ، وفيه قلة الإضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين.

فإن قيل : ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو ، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن

٤٦

الاستفهام غير جاء على الحقيقة ، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه‌السلام فقيل : عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل ، وقيل : كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه ، وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه ، وقيل : إنه عليه‌السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك ، وينضم إلى كل ذلك ، علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ (١) إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر ، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه (قالَ أَنَا يُوسُفُ) والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليهم قوله : (وَهذا أَخِي) أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه ، قال بعض المدققين : إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا ، ولهذا لم يقل عليه‌السلام : بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم (وَهذا أَخِي) بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي ولي من ذاك في شيء كما لا يخفى. وفي إرشاد العقل السليم إن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) حسبما يفيده (قَدْ مَنَ) إلخ فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة. ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه. وجملة (قَدْ مَنَ) إلخ عند أبي البقاء مستأنفة ، وقيل : حال من (يُوسُفُ) و (أَخِي) وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ ، ولا يصح أن يكون (هذا) لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعا (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَتَّقِ) أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه (وَيَصْبِرْ) على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٢) أي أجرهم ، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان ، والجملة في موضع العلة للمن. واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر ، وقال مجاهد : المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن ، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة ، وقيل : من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس ، وقال الزمخشري : المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال : من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهي عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن ، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل : من يتق ويثبت على التقوى انتهى.

__________________

(١) أي أصل اه منه.

(٢) جوز أبو حيان كون المحسنين عاما يندرج فيه من تقدم فتأمل اه منه.

٤٧

والوجه الأول ميل لما ذكره أبو حيان. وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض بإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عزوجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر. وقرأ قنبل من «يتق» بإثبات الياء ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع ؛ وقيل : جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة ، وقيل : هو مرفوع و (مَنَ) موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن (مَنَ) شرطية و (يَتَّقِ) مجزوم ، وقيل : إن (يَصْبِرْ) مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في (يَأْمُرُكُمْ) و (يُشْعِرُكُمْ) ونحوهما أو للوقف وأجري الوصل مجرى الوقف ، والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وإن كانت قليلة ، وقول أبي علي : إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجيء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر ، وقيل : بالملك ، وقيل : بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس ، وقيل : بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي ، وقال صاحب الغنيان : بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى.

(وَإِنْ) أي والحال أن الشأن (كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا ، فالواو حالية و (إِنْ) مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة و «خاطئين» من خطئ إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له ، وفي قولهم : هذا من الاستنزال لإحسانه عليه‌السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك (قالَ لا تَثْرِيبَ) أي لا تأنيب ولا لوم (عَلَيْكُمُ) وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش ، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع ، واستعير للوم الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم (لا) و (عَلَيْكُمُ) متعلق بمقدر وقع خبرا ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ) متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم ، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه‌السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى. وقال المرتضى : إن (الْيَوْمَ) موضوع موضع الزمان كله كقوله :

اليوم يرحمنا من كان يغبطنا

واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

كأنه أريد بعد اليوم ، وجوز الزمخشري تعلقه ـ بتثريب ـ وتعقبه أبو حيان قائلا : لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله ـ بعليكم ـ وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن معمول المصدر من تمامه ، وأيضا لو كان متعلقا به لم يجز بناؤه لأنه حينئذ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معربا منونا ، ولو قيل : الخبر محذوف و (عَلَيْكُمُ) متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في (الْيَوْمَ) والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجها قويا لأن خبر (لا) إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم ، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضا ، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلا ووقع في الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه ، وفي التصريح نقلا عن المغني أن

٤٨

نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين ، وأجاز البغداديون لا طالع جبلا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج الحديث «لا مانع» إلخ.

فيمكن أن يكون مبنى ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين ، والحديث المذكور لا يتعين ـ كما قال الدنوشري أخذا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس ـ حمله على ما ذكر لجواز كون اسم (لا) فيه مفردا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده. وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن (الْيَوْمَ) في الآية معمول (عَلَيْكُمُ) ويجوز العكس ، واعترض أيضا حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه ، وقيل : (عَلَيْكُمُ) بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف و (الْيَوْمَ) خبر.

وجوز أيضا كون الخبر ذاك و (الْيَوْمَ) متعلقا بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر : قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك ، وقال ابن المنير : لو كان متعلقا به لقطعوا بالمغفرة بأخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [يوسف : ٩٧] وتعقب بأنه لا طائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله ، على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا فرق بين الدعاء والاخبار هنا انتهى.

وقد يقال أيضا : إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك ، على أنه يجوز أن يقال : إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضا وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم ، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضا إلى كونه خبرا. والحكم بذلك مع أنه غيب قيل : لأنه عليه‌السلام صفح عن جريمتهم حينئذ وهم قد اعترفوا بها أيضا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه‌السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد ، وقيل : لأنه عليه‌السلام قد أوحي إليه بذلك ، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على (الْيَوْمَ) وهو ظاهر في عدم تعلقه ـ بيغفر ـ وهو اختيار الطبري وابن إسحاق. وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم ، وقيل : لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول ، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا.

ومن كرم يوسف عليه‌السلام ما روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه‌السلام : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث عليم الناس أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه‌السلام ، والظاهر أنه عليه‌السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه‌السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والأخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن.

وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال الملك يوما

٤٩

ليوسف عليه‌السلام إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه‌السلام ، فقال : أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علما. وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه‌السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال : لا يشق عليكم إن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعا لفرعون وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) هو القميص الذي كان عليه حينئذ كما هو الظاهر ؛ وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا ابرأها بإذن الله تعالى. وضعف هذا بأن قوله : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) يدل على أنه عليه‌السلام كان لابسا له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى ، وقيل : هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده ، وأيّا ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي يصر بصيرا ويشهد له (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا.

وحاصل الوجهين ـ كما قال بعض المدققين ـ أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلا في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفاديا عن أمر الأخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره ، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور ، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقا بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر ، وفيه أن صيرورته بصيرا أمر مفروغ عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل ، وفيه دلالة على أنه عليه‌السلام قد ذهب بصره ، وعلم يوسف عليه‌السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي ، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر. وقال الإمام : يمكن أن يقال : لعل يوسف عليه‌السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك ، قال الكلبي : وكان أولئك الأهل نحوا من سبعين إنسانا (١) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده ، وقيل : ثمانون ، وقيل : تسعون وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون. وقيل : ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه‌السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل.

__________________

(١) وفي التوراة أن من دخل مصر من بني إسرائيل سبعون اه منه.

٥٠

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه‌السلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه ، يقال : فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس «ولما انفصل العير» (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب عليه‌السلام لمن عنده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه‌السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا ، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال ، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه‌السلام فأذن الله تعالى لها ، وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه‌السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال ، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد (١) كما في قوله :

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال : فند الرجل إذا نسبه إلى الفند ، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرا لقلة فهمه كما قيل :

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فكن حجرا من يابس الصخر جلمد

ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل ؛ قال الشاعر :

يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي

فليس ما قلت من أمر بمردود

وجاء أفند الدهر فلانا أفسده ، قال ابن مقبل :

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه

إذا كلف الافناد بالناس أفندا

ويقال : شيخ مفند إذا فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة ، وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره ، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل ، وجواب (لَوْ لا) محذوف أي لو لا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت : إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك ، والمخاطب قيل : من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير ، وقيل : ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور (قالُوا) أي أولئك المخاطبون (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب ، وقال مقاتل : هو الشقاء والعناء ، وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه‌السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.

__________________

(١) وجاء بمعنى الكذب كما في الصحاح وغيره اه منه.

٥١

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) قال مجاهد : هو يهوذا. روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه. وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم ، و «أن» صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما. وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير «وجاء البشير من بين يدي العير» (أَلْقاهُ) أي ألقى البشير القميص (عَلى وَجْهِهِ) أي وجه يعقوب عليه‌السلام ، وقيل : فاعل «ألقى» ضمير يعقوب عليه‌السلام أيضا والأول أوفق بقوله : (فَأَلْقُوهُ) على وجه أبي وهو يبعد كون البشير مالكا كما لا يخفى ، والثاني قيل : هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال : إنه عليه‌السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره (فَارْتَدَّ بَصِيراً) والظاهر أنه أريد بالوجه كله ، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه ، وقيل : عبر بالوجه عن

٥٢

العينين لأنهما فيه ، وقيل : عبر بالكل عن البعض «وارتد» عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار ـ فبصيرا ـ خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها ـ فبصيرا ـ حال ، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر.

وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى. وتعقب بأن فعيلا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما «بصير» هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا لأن فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع ، وأيّا ما كان فالظاهر أن عوده عليه‌السلام بصيرا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعا في هذه القصة ، وقيل : إن ذاك لما أنه عليه‌السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر ، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال :

وإني لأستشفى بكل غمامة

يهب بها من نحو أرضك ريح

وقال آخر :

ألا يا نسيم الصبح ما لك كلما

تقربت منا فاح نشرك طيبا

كأن سليمى نبئت بسقامنا

فأعطتك رياها فجئت طبيبا

إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفا عن الإمام هذا ، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه‌السلام سأل البشير كيف يوسف؟ قال : ملك مصر فقال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال : على الإسلام قال : الآن تمت النعمة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : لما جاء البشير إليه عليه‌السلام قال : ما وجدت عندنا شيئا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت ، وجاء في رواية أنه قال له : ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يحتمل أن يكون خطابا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف ، ويحتمل أن يكون خطابا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم لا تيأسوا من رحمة الله وهو الأنسب بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه‌السلام من جهة الله سبحانه ، والجملة على الاحتمالين مستأنفة على الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم : حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى أني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه‌السلام ، واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) طلبوا منه عليه‌السلام الاستغفار ، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم : (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له ، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار ، وقيل : حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لو لا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) روي عن ابن عباس مرفوعا أنه عليه‌السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب ، وروي عنه أيضا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة(١) وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه ، وقيل : سوفهم إلى قيام الليل ، وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها

__________________

(١) وفي رواية إلى سحرها اه منه.

٥٣

يستجاب ، وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف عليه‌السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم ، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوي بينهما ، وقال بعض المحققين : هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلا ومضي ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف ، وقيل : أراد عليه‌السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه‌السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم. أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض : لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم‌السلام أرحم البرية فقال : ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟ قالا بلى قالوا فإن عفو كما لا يغني عنا شيئا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا : نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه‌السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما‌السلام فقال : إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة ، قيل : وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم ، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال : ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه‌السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا» فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم ، وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله. وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه‌السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل.

واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن (أَسْتَغْفِرُ) متعد إلى مفعولين يقال : استغفرت الله الذنب ، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من (اسْتَغْفِرْ لَنا) أولهما ، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ) ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضا تسجيلا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطإ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح ، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى ، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة ، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلوما من الأول مع قرب العهد بذكره اه ، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) روي أنه عليه‌السلام جهز

٥٤

إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وفي التوراة أنه عليه‌السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلاثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة برا وطعاما.

وجاء في بعض الأخبار أنه عليه‌السلام خرج هو والملك (١) في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه‌السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال : لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له : إنك قادم فتلقاك بما ترى ، فلما لقيه ذهب يوسف عليه‌السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على الله تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال : السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان عني ، وجاء أنه عليه‌السلام قال لأبيه : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.

وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه‌السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضمهما إليه واعتنقهما ، والمراد بهما أبوه وخالته ليا ، وقيل : راحيل وليس بذاك ، والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب ، ومن ذلك قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] وقيل : إنه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه‌السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أما وإن لم تكن خالة ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال بعضهم : المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي ، وقال الحسن وابن إسحاق : إن أمه عليه‌السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين ، وعن الحسن وابن إسحاق القول بذلك أيضا إلا أنهما قالا : إن الله تعالى أحياها له ليصدق رؤياه ، والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر ، وفي مصحف عبد الله «آوى إليه أبويه وإخوته» (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ) وكأنه عليه‌السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما إليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان : أحدهما دخول عليه خارج البلدة ، والثاني دخول في البلدة ، وقيل : إنهم إنما دخلوا عليه عليه‌السلام في مصر وأراد بقوله: (ادْخُلُوا مِصْرَ) تمكنوا منها واستقروا فيها (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي من القحط وسائر المكاره ، والاستثناء على ما في التيسير داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لا في الأمر. وفي الكشاف أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل : أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه ، وكأنه أشار بقوله : فكأنه قيل إلخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي ، وقال في الكشف : إن فيه إشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت : ادخل ساجدا كنت آمرا بهما وليس فيه إشارة إلى أن في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك ، والحق مع العلامة كما لا يخفى ، وزعم صاحب الفرائد أن التقديم ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين ، فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف وحينئذ لا يفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة ، وتعقب بأنه لا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشر وفيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضا فافهم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) عند نزولهم بمصر (عَلَى

__________________

(١) قيل : يقتضي أنه عليه‌السلام لم يكن ملكا وإنما كان على خزائنه كالعزيز والرواية مختلفة فيه فإنه قيل : إنه تسلطن وهو المشهور اه منه.

٥٥

الْعَرْشِ) على السرير كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تكرم لهما فوق ما فعله بالإخوة (وَخَرُّوا لَهُ) أي أبواه وإخوته ، وقيل : الضمير للإخوة فقط وليس بذاك فإن الرؤيا تقتضي أن يكون الأبوان والإخوة خروا له (سُجَّداً) أي على الجباه كما هو الظاهر ، وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزا عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير ، قال قتادة : كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم ، وقيل : ما كان ذلك إلا إيماء بالرأس ، وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض ، وقيل : المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) [الفرقان : ٧٣] فقد قيل : المراد لم يمروا عليها كذلك ، وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط ، وقيل : ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجدا لله شكرا على ما أوزعهم من النعمة ، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى :

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) إذ فيها (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، ودفع بأن القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما ، وقيل : اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة ، قال حسان :

ما كنت أعرف أن الدهر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

وأعرف الناس بالأشياء والسنن

وذكر الإمام أن القول بأن السجود كان لله تعالى لا ليوسف عليه‌السلام حسن ، والدليل عليه أن قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه‌السلام كان قبل الصعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر لله تعالى ، ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر ، ودفع ما يرد عليه مما علمت بما علمت ، ثم قال : وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه‌السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة. وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكري لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به. ذكر كونه تعبير الرؤيا وما يتصل به ، وبأنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو وكان يوسف عليه‌السلام عالما بالأمر فلم يسعه إلا السكوت والتسليم ، وكأن في قوله : (يا أَبَتِ) [يوسف : ٤] إلخ إشارة إلى ذلك كأنه يقول : يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب الذبح في اليقظة. ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه‌السلام لما رأى سجود أبويه وإخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه ، ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب عليه‌السلام كأنه قيل له : أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فإذا وجدته فاسجد له. ويحتمل أيضا أنه عليه‌السلام إنما فعله مع عظم قدره لتتبعه الاخوة فيه لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ثوران الأحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه‌السلام. ولا يخفى أن الجواب عن الأول لا يفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر. والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضا الإمام وهي كما ترى ، وأحسنها احتمال أن الله تعالى قد أمره بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو. ومن الناس من ذهب إلى أن ذلك السجود لم يكن إلا من الاخوة فرارا من نسبته إلى يعقوب عليه‌السلام لما علمت ، وقد رد بما أشرنا إليه أولا من أن الرؤيا تستدعي العموم ، وقد أجاب عن ذلك الإمام بأن تعبير الرؤيا

٥٦

لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه‌السلام ، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه ، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق ـ برؤياي ـ وجوز تعلقها بتأويل ـ لأنها أولت بهذا قبل وقوعها ، وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من (رُءْيايَ) وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي صدقا ، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا ، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير ، وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و «حقا» في معنى تحقيق ، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) الأصل كما في البحر أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧] وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة : ٨٣ ، الأنعام : ١٥١ ، الإسراء : ٢٣] وكقول كثير عزة :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

وحمله بعضهم على تضمين (أَحْسَنَ) معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف إلا أن بعضهم أنكر تعدية ـ لطف ـ بالباء وزعم أنه لا يتعدى إلا باللام فيقال : لطف الله تعالى له أي أوصل إليه مراده بلطف وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعول ، وقيل : الباء بمعنى إلى ، وقيل : المفعول محذوف أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف ، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين ، وقوله : (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) منصوب ـ بأحسن ـ أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج من السجن بعد أن ابتلي به وما عطف عليه وإذا كانت ظرفية فهو غيرهما ، ولم يصرح عليه‌السلام بقصة الجب حذرا من تثريب اخوته وتناسيا لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا ولأن الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي البادية ، وأصله (١) البسيط من الأرض وإنما سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه ثم أطلق على البرية مطلقا ، وكان منزلهم على ما قيل : بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب إبل وغنم ، وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع. وزعم بعضهم أن يعقوب عليه‌السلام إنما تحول إلى البادية بعد النبوة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من البادية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كان يعقوب عليه‌السلام قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها : قال ابن الأنباري : إن بدا اسم موضع معروف يقال : هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل (٢) بقوله :

وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا

إلي وأوطاني بلاد سواهما

__________________

(١) وأصل البدو مصدر بدا يبدو مصدر بدوا ثم سمي به اه منه.

(٢) وقيل كثير عزة اه منه.

٥٧

فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال : أغاروا إذا أتوا الغور ، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون (١) كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي أفسد وحرش ، وأصله من نزغ الرابض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته وإلقائه ، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا ، وذكره تعظيما لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا. واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد ، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها ، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه ، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال : اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد ، فاللام متعلقة ـ بلطيف ـ لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد ، وقال بعضهم : إن المعنى لأجل ما يشاء ، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا ما في ذلك (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجوه المصالح (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره. روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما‌السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط مني إليه فسأله قال جبريل عليه‌السلام : الله تعالى أمرني بذلك لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] قال : فهلا خفتني وهذا عذر واضح ليوسف عليه‌السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته. وقد صرح غير واحد بأنه عليه‌السلام أوحي إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه‌السلام كان من أكابر الأنبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه‌السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا إلى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره؟.

وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة ، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل : ثماني عشرة سنة ، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة ، وعن حذيفة أنها سبعون سنة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة ، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين ، قال ابن شداد : وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي بعضا عظيما منه ـ فمن ـ للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام ، وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء ، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن (الْمُلْكِ) ما يعم مصر وغيرها ، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْض

__________________

(١) وفي الحديث من يرد الله تعالى به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة اه منه.

٥٨

يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) [يوسف : ٥٦] لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه وفيه تأمل ، وقيل : أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته ، وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي بعضا من ذلك كذلك ، والمراد بتأويل الأحاديث إما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء ، وعلى التقديرين لم يؤت عليه‌السلام جميع ذلك ، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل (١). وقرأ عبد الله وابن ذر «آتيتن وعلمتن» بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة ، وحكى ابن عطية عن الأخير «آتيتني» بغير «قد» (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما ، ونصبه على أنه نعت ـ لرب ـ أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادى ثان ، ووصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله : (أَنْتَ وَلِيِّي) متولي أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فالوالي إما من الولاية أو الموالاة ، وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطى لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة (تَوَفَّنِي) أقبضني (مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي على ما روي عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل ، واعترض بأن يوسف عليه‌السلام من كبار الأنبياء عليهم‌السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه‌السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم‌السلام ، وقال الإمام : هاهنا وهاهنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء ، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى. وهو كما ترى ، والحق أن يقال : إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه‌السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح ، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه. بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه‌السلام تمني للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمني لذلك ، قال الإمام : ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه ، وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته ، وكذا الإمارة والرئاسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك ، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه ، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرئاسة والكل في نفسه خسيس معيب ، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق

__________________

(١) إشارة الى ما قيل : إنه لا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع هاهنا فمجرد التأخير في الذكر والعطف بالواو لا يستدعي ذلك الترتيب في الوجود فافهم اه منه.

٥٩

المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه ؛ ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج ، وقد قال العقلاء : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، والجماع نهاية ما يقال فيه : إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ، وفيه أيضا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك ، والرئاسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفا وجلا من ذلك لكفاها عيبا ، وقد يقال أيضا : إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات ، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب ، ولله تعالى قول من قال :

ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد

وقال :

تعب كلها الحياة فما اعجب إلا من راغب في ازدياد

إن حزنا في ساعة الفوت أضعا

ف سرور في ساعة الميلاد

وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حبا للقاء الله تعالى مما لا بأس به ، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه» الحديث نعم تمني الموت عند نزول البلاء منهي عنه ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، وقال قوم : إنه عليه‌السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين.

والحاصل أنه عليه‌السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة ، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم‌السلام لا يموتون إلا مسلمين إما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته (١) والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه‌السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول : إنه عليه‌السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه‌السلام أقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة وقيل : أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه‌السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل : من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك ، وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة وسبع سنين ، وقد ولد له من امرأة العزيز أفرائيم وهو جد يوشع عليه‌السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه‌السلام ، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم‌السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه‌السلام فكان ما كان.

__________________

(١) والآية دليل لأهل السنة في أن الإيمان من الله تعالى كما قرره الامام فليراجع اه منه.

٦٠