روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر.

(وَمَتاعاً) أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة ، وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله : وألفى قولها كذبا ومينا. والأول أولى (إِلى حِينٍ) إلى انقضاء حاجاتكم منه ، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه ؛ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت ، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من غير صنع منكم (ظِلالاً) أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام ، وعن الزجاج وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر ، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل ، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى ، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها ، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد ، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا.

وقال بعضهم : من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ثم قيل : وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.

واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية ، وقال الزجاج : خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد ، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية ، وقال في الكشف : هو الوجه ، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية ، وما قيل : من أولوية الأول لقوله تعالى : (مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) فليس بشيء لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه (مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) كيف وهو في مقام الاستيعاب اه ، وصاحب القيل هو ابن المنير ، وقد اعترض أيضا على قوله : إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر.

(وَسَرابِيلَ) من الجواشن والدروع (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن ، وقال بعضهم : أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب ، والكلام على حذف مضاف أي أذى بأسكم ، وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في المستقبل ، ومن هنا قيل :

كما أحسن الله فيما مضى

كذلك يحسن فيما بقي

أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم ، وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جناب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس «تتم» بتاء مفتوحة و «نعمته» الرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع ، وعنه أيضا رضي الله تعالى عنه «نعمه» بصيغة الجمع (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ

٤٤١

عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان ، ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عزوجل ، وأيّا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكنى به عنه.

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «تسلمون» بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك ، وقيل : تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل ، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد ، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.

هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة : اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) اللهم هذا فلا فنزلت (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب ، وقال ابن عطية : تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان ، وجوز أن يكون (تَوَلَّوْا) مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه : إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين ، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من الله تعالى (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.

وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : إنكارهم إياها قولهم : ورثناها من آبائنا ، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال : إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لو لا فلان أصابني كذا وكذا ولو لا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب. وقيل : قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى ، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء ، وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا ، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هو نبي. ومعنى (ثُمَ) الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها ، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر ، والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل ، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن ، وقيل : المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا ، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.

٤٤٢

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) جماعة من الناس (شَهِيداً) يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان ، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار كما قال سبحانه : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٤ ، ٣٥] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم ، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر. وقال أبو مسلم : المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد :

في سماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ما ذي مشار

وقيل : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا ، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عند ما يقال لهم. اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم‌السلام فهي للتراخي الرتبي (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون ، وقول الزمخشري : أي لا يقال لهم : ارضوا ربكم تفسير باللازم ، وقيل : المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبى وهي الرضا وأيّا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به ، وقيل : وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق ، وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) أي الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم ، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة ، وقيل : المراد به جهنم نفسها مجازا ، ويراد بضميره في قوله تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل : مستأنفة ، وقيل : جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء ، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في (إِذا) ثم قال : وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في (إِذا) الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) وقوله سبحانه : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.

وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) [الأنبياء : ٤٠] الآية ، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والإنظار يدل على إثقاله ومباغته كما صرح به في الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت الذي هو الإثقال وزيادة ورتب عليه «فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون» ومثل هذه الفاء فصيحة عنده فافهم ، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وفيه نظر.

٤٤٣

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عزوجل ؛ والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جبل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ ، وقيل : أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم. والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم ، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى ، وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد ، وقيل : شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم ، وقيل : شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه (قالُوا) أي بألسنتهم وقيل : ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها ، وقال أبو مسلم : مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا.

وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة ، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا.

وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم : «ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا» إلى غير ذلك مما لهم على ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل : القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال ، وقيل : قالوا ذلك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى : «من دونك» وفيه تأمل. نعم قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا) أي شركاؤهم (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل : إنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة ، وقيل : إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم‌السلام : «بل كانوا يعبدون الجن» يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن ، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] فكأنهم قالوا : ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم ، وقيل : يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٢٢] وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف ، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم ، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك ، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم ؛ وكان الظاهر ـ فقالوا لهم إنكم لكاذبون ـ إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره ، وفيه من الإشعار بالحرص على

٤٤٤

تكذيبهم ما فيه ، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد ، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون (وَأَلْقَوْا) أي الذين أشركوا ، وقيل : هم وشركاؤهم جميعا ، والأكثرون على الأول (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم» بإسكان اللام ، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام (وَضَلَّ عَنْهُمْ) ضاع وبطل (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعمة بالغفلة عن منعمها (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين ، والإشارة في قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس :

ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت

لعادت إليه الروح وانتعش الجسم

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قيل أي نحل الأرواح (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ) أي جبال أنوار الذات (بُيُوتاً) مقار لتسكنين فيها (وَمِنَ الشَّجَرِ) أي ومن أشجار أنوار الصفات (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أنوار عروش الأفعال (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه (ذُلُلاً) منقادة لما أمرت به (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) باختلاف الثمرات (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق ، وقيل : الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد ، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في مولانا ابن الفارض قدس‌سره حين سئل عنه : نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ ، الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين ، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء ، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.

وقال أبو بكر الوراق : النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عزوجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه

٤٤٥

اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات ، وفي الحديث «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم على الله تعالى لأبره» وعن يعسوب المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) قيل الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات ، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك ، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا ، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه : إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عزوجل وعلل النهي بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا) وذلك من النعم الباطنة (وَجَهْراً) وذلك من النعم الظاهرة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره ، والعدل على ما قيل : ظل الوحدة في عالم الكثيرة (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل : إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك أمر الساعة (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) الآية ، قال في أسرار القرآن : أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فالبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.

وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر ، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل ، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب ، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر ، ونور الله تعالى المشار إليه

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى ، وله أيضا كلام

٤٤٦

في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر ، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة ، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه : إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح (ما يُمْسِكُهُنَ) من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل (إِلَّا اللهُ) عزوجل (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان (١) وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له ، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم ، وقيل : الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان ، وقد يؤول قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية ، قال ابن عطاء : تمام النعمة السكون إلى المنعم ، وقال حمدون : تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية ، وقال أبو محمد الحريري : تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) لشهادة فطرهم بحقيقته (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) قيل : هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وقيل : المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً

__________________

(١) قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه «جوعان».

٤٤٧

تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً

٤٤٨

طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

(الَّذِينَ كَفَرُوا) في أنفسهم (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفر فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل : والظاهر الأول ، والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) خبره ، وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل (يَفْتَرُونَ) ويكون (زِدْناهُمْ) مستأنفا ، وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا و (زِدْناهُمْ) بحاله ، وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور ، فقد أخرج ابن مردويه. والخطيب (١) عن البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال : «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم» وروى نحوه الحاكم وصدمه. والبيهقي. وغيره عن ابن مسعود.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهن البخاتي فتضربهم فذلك الزيادة ، وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها ، وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) متعلق ـ بزدناهم ـ أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب

__________________

(١) في تالي التلخيص اه منه.

٤٤٩

استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل ، وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد ، والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين ، ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا ، ومن هنا قالوا : الإصرار على الصغيرة كبيرة ، وقيل : إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما هي لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ) وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا ، ومعنى كونه (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنه منهم ، وذلك ليكون أقطع للمعذرة ، ولا يرد لوط عليه‌السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا ، وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة ، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم ، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا عليهم ولا بد أن لا يكون جائزا الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل ، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم ، ثم قال : وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى ، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة ، قال الطبرسي في مجمع البيان : ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف ، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله.

وقال الأصم : المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان ، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم.

وتعقبه القاضي وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم. وأيضا قوله تعالى : (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة ؛ وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يبعد ما ذكر كما لا يخفى ، والمراد بهؤلاء أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أكثر المفسرين ، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته.

فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض على أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم» بل جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى ، فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور» وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا» وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة «وألهمهم أن يعملوا بطاعتك».

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال : «إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساءون» فكان أبو الدرداء يقول عنه ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى ، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض

٤٥٠

لذلك لا نفيا ولا إثباتا ، فإن قيل : إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته خلوهم عنه نبي آخر ، وإن قيل : إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق ، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه حديث «ليذادن عن الحوض أقوام» الخبر ، وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه ، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل ، وقيل : المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم‌السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتخلو عن التكرار. ورد بأن المراد بشهادته عليهم الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام حسبما علموه من كتابهم وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث ، وقد ذكره غير واحد في تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] و (عَلى) لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك. نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة ، ولعل الأمر في ذلك سهل. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) تكرير لما سبق تثنية للتهديد ، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم ، وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى. وتعقب بأن حمل (هؤُلاءِ) على ما ذكر خلاف الظاهر ، وجوز أن يكون إيثار المجيء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم‌السلام على أممهم.

والظرف معمول لمحذوف كما مر ، والمراد به يوم القيامة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس ، وهذا ـ على ما في البحر ـ استئناف أخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين.

وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد ، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ) إلخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه : (نَبْعَثُ) و (شَهِيداً) حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه ، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله ، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا ، ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبنى على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن قوله سبحانه : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى ، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده ، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كما نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى ، وفيه نظر.

وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب ، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف ؛ والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين. والمبرد عن البصريين ، قال سلامة الأنباري في شرح المقامات : كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء ، وقال ابن عطية : هو اسم وليس بمصدر ، وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة ، فعن ابن مالك أنه قال في نظم الفرائد : جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به

٤٥١

الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبراك لموضعين ، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال ، واقتصر أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات على أقل من ذلك فقال : ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلف فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وافصح انتهى ، والمعروف أن (تِبْياناً) مصدر وليس باسم وإن قيل : إن قول أكثر النحويين ، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن ، والمراد من كل شيء على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم من أنبيائهم عليهم‌السلام ، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام ، فانتظام الآية بما قبلها ظاهر ، والدليل على تقدير الوصف المخصص للشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين ، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل فيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وحثا على الإجماع في قوله سبحانه : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع ، وقد رضي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال عليه الصلاة والسلام. «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ». وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب ، وقال بعض : كل للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥] إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام. ورد الثاني بما سمعت آنفا ؛ والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] إنه من قولك : فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ، ومنه قوله سبحانه : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧ ، آل عمران : ١٩٢ ، المائدة : ٧٢] وقال بعضهم : لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء كل على حقيقتها في الجملة ، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء (شَيْءٍ) على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول. نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد.

وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب : إنه يدل على الجواز قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن ، وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة. فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى» فقالت له امرأة في ذلك فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» قالت : بلى. قال : فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه. وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن كل

٤٥٢

للتكثير فقال : ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى البصائر ، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الأبصار ، وقيل : معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه ، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر ، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية ، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس‌سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم ، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا : إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم.

وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله خلافا استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول : لو ضاع لي عقال بعد لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه ، وقيل : لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك ، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزوله ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير ، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى» مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية ، وقد قالوا : إن القرآن العظيم تبيان لها ، وهذا يرد عليهم لو لا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال ، وقال بعضهم : إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم‌السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة ، وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك ، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا : إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة إلخ ، واختار بعض المتأخرين إن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا ، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا ، ولو

٤٥٣

حمل التبيان على ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر ، ونصب (تِبْياناً) على الحال كما قال أبو حيان.

وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان (وَهُدىً وَرَحْمَةً) للجميع بقرينة قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) خاصة ، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصولة والرحمة الرحمة التامة.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء ، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار (بِالْعَدْلِ) أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجهبذة والبلادة ، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود ، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن. فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية ، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير العدل على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم ، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر. ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين الباطلة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان. ومن الحكم الخلقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير. وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي : صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين ، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسيره أولى (وَالْإِحْسانِ) أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق ، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما رواه البخاري من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص ، وجوز أن يراد بالإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال : أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم ، فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال : مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال : فيم أنتم؟ فقالوا : نتذاكر المروءة فقال : أو ما كفاكم الله عزوجل ذاك في كتابه إذ يقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا ، وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعد ما فسر العدل بالتوحيد فسر الإحسان بأداء الفرائض ، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه ، وقيل : العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف ؛ وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر ، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه ، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب ، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صلتهم على الأصح ، وقيل : ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم ،

٤٥٤

وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرادون في قوله سبحانه : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا ، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به ، ولعله تمثيل لا تخصيص (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية ، وعن ابن عباس. ومقاتل تفسيره بالشرك ، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار ، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية ، وقيل : ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.

وقال الزمخشري : ما تنكره العقول. وتعقبه ابن المنير فقال : إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال : المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل ، وقال في الكشف بعد قوله : ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة ، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير ، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال : لاشتماله على المعاصي والرذائل ، وعلى (١) أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى (وَالْبَغْيِ) الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية ، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان ، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاثة مما ذهب إليه غير واحد.

واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه ، وقال بعضهم : المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا ، وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك ، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش ، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام ، وقيل : المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط ، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى ويفسر بما فسر ويكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الآمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال : والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية ، ويدخل في تفسيره العظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر ، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال : تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية

__________________

(١) محل هذا البياض كلمة مقطوعة في نسخة المؤلف وهو من كلام المؤلف وليس من كلام أبي حيان ولعلها ما فسر به.

٤٥٥

الشيطانية والعقلية الملكية ، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم‌السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها ، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش ـ ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة ـ أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرئاسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس ، ثم قال : ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية ، والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا ، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا ، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف (إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) على ما قبله.

وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر ، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك ، وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) إلخ قالوا : ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا. وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه ، وقال غير واحد : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله جالسا إذ شخص بصره فقال : أتاني. جبريل عليه‌السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر إلخ.

واستدل بها على أن صيغة تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.

(يَعِظُكُمْ) أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه ، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) قال قتادة. ومجاهد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من أسلم بايع على

٤٥٦

الإسلام. وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا ، فالمراد بعهد الله تلك البيعة كما نص عليه غير واحد. واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الذي يقتضيه كلام ميمون بن مهران ، وسبب النزول ليس من المخصصات ، ولذا قالوا : الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل : إن (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالآية ، وفيه نظر ، وقال الأصم : المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى : (إِذا عاهَدْتُمْ) وقيل : المراد به النذر ، وقيل : اليمين : وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى.

(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك ، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الإفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة ، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان.

وفي الحواشي السعدية أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام : «ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر الله تعالى لا بذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي : إن قوله سبحانه : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك. ثم إذا حمل الإيمان على مطلقها فهو ـ كما قال الإمام ـ عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها. وتعقب بأن فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب. وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الإيمان الانعقاد ولو محظوره فلا ينافي لزوم موجبها ، وجوز أن يقال : إن ذلك للإقدام على الحلف بالله تعالى في غير محله فليتأمل ، والتوكيد التوثيق ، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره ، من النحاة ، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحسن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان.

(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم.

والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لما فعلوا ذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهد قاله الخفاجي ثم قال : ولو أبقي الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وإنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغا جدا فتدبر. والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل (تَنْقُضُوا) وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي من النقض فيجازيكم على ذلك في وضع التعليل للنهي السابق ، وقال الخفاجي : إنه كالتفسير لما قبله (وَلا تَكُونُوا) فيما تصنعون من النقض (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها ، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي ، والنقض ضد الإبراء ، وهو في الجرم فك أجزائه بعضها من بعض ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال و ـ

٤٥٧

من ـ زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.

(أَنْكاثاً) جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على إنه حال مؤكدة من (غَزْلَها) وقيل : على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل ، وجوز الزجاج كون النصب المصدرية لأن (نَقَضَتْ) بمعنى نكثت فهو ملاق لعامله في المعنى.

وقال في الكشف : إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا ، وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك ، وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال : أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا ، وفي قوله : أنحت ـ على ما قال القطب ـ إشارة إلى أن (نَقَضَتْ) مجاز عن أرادت النقض على حد قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة» وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن ، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكلف وكأنه لهذا قيل : إن اعتبار القصد لأن المتبادر من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد إنحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرا منه وإن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء ، وقيل : المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة ، قال ابن الأنباري : كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء ، وقال الكلبي. ومقاتل : هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكه عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) وروى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام «إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة» فاختارت الصبر والجنة ، وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها ، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف ، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من الضمير في (لا تَكُونُوا) أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر.

وجوز أن يكون خبر تكونوا و (كَالَّتِي) نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر ، وقال الإمام : الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أن أتتخذون ، والدخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كني به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل ، وفسره قتادة بالغدر والخيانة ، ونصبه على أنه مفعول ثان ، وقيل : على المفعولية من أجله ، وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) أي بأن تكون جماعة (هِيَ أَرْبى) أي أزيد عددا وأوفر مالا (مِنْ أُمَّةٍ) أي من جماعة أخرى ، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتهم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم ، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أنه قال : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعز بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز في «تكون» أن تكون تامة وناقصة وفي ـ هي ـ أن يكون

٤٥٨

مبتدأ وعمادا «فأربى» إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون (هِيَ) عماد التنكير (أُمَّةٌ). وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم ؛ ولعمري قد ضلوا سواء السبيل (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من (أَنْ تَكُونَ) أو على المصدر المنفهم من (أَرْبى) وهو الربو بمعنى الزيادة ، وقول ابن جبير. وابن السائب. ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم منه هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى ، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كما ترى ، وقيل : إنه لأربى لتأويله بالكثير ، وقيل للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى ـ وأوفوا ـ إلخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) أيها الناس (أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على الإسلام (وَلكِنْ) لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده له (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها (وَلَتُسْئَلُنَ) جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن الله تعالى ، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لا سلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف ، فإيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا ، والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الإيمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والقسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان ، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسألون عنه بقوله : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) اه ، وللعسكري نحوه ، وقد قدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا إنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعري ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن لله تعالى كما يقول المعتزلة وإن له اختيارا أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الاستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثرة والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وقال ابن المنير : إن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الاختياري والقسري وتقوم حجة الله تعالى على عباده اه وهذا هو المشهور من مذهب الأشعرية وهو كما ترى ، وسيأتي ان شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإبرام.

٤٥٩

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجة الحق (بَعْدَ ثُبُوتِها) عليها ورسوخها فيها بالإيمان ، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل : لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين.

وقال أبو حيان : لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه فليس إخبارا صرفا ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى : (فَتَزِلَ) إلخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل ، ونصب ـ تزل ـ بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه ، قال في البحر : وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر ، وتوحيد القدم وتنكيرها ـ كما قال الزمخشري ـ للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام ، وقال أبو حيان : إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١] فأفرد المتكأ لما لوحظ في (لَهُنَ) كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله :

فإني وجدت الضامرين متاعهم

يموت ويفنى فارضخي من وعائيا

أي كل ضامر ، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى ، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) مراعاة لهذا المعنى. ثم قال سبحانه (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد (قَدَمٌ) وجمع الضمير في (وَتَذُوقُوا). وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة ، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في (تَذُوقُوا) من الاستعارة (بِما صَدَدْتُمْ) بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل.

وجعل هذه بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كما ترى (وَلَكُمْ) في الآخرة (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يعلم عظمه إلا الله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) المراد به عند كثير بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى : (ثَمَناً قَلِيلاً) فإن الثمن مشتري به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا ، قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا ، وقال ابن عطية : هذا

٤٦٠