روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٨٧)

(وَقالَ اللهُ) عطفا على قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) وجوز أن يكون معطوفا على (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) وقيل : إنه معطوف على (ما خَلَقَ اللهُ) على أسلوب :

علفتها تبنا وماء باردا

أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه ، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان ، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم‌السلام : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) المشهور أن (اثْنَيْنِ) وصف لإلهين وكذا «واحد» في قوله سبحانه : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) صفة لإله ، وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة ، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله ، وفي الثاني اثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له ، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله :

فإن النار بالعودين تذكى

وإن الحرب أولها الكلام

٤٠١

وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف ، وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة ، فما قيل : إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي ، وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا ، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم : الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب ، ولم يذكر (اثْنَيْنِ) و (واحِدٌ) للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية ، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.

وقال العلامة الثاني : ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا ، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين (اثْنَيْنِ) و (واحِدٌ) للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره ، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق ، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول : مراد العلامة من قوله : ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر (اثْنَيْنِ) و (واحِدٌ) ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزأيهما فلا يكونان صفة ، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه غامض ، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال : وإما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.

ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] بدلا من (شُرَكاءَ) ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن. ثم قال : بل لا يبعد أن يقال : الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اه.

ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد ؛ وقيل : إن ذكر «اثنين» للدلالة على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.

وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.

٤٠٢

وزعم بعضهم أن (تَتَّخِذُوا) متعد إلى مفعولين وأن (اثْنَيْنِ) مفعوله الأول و (إِلهَيْنِ) مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين ، وقيل : الأول مفعول أول والثاني ثان ، وقيل (إِلهَيْنِ) مفعوله الأول. و (اثْنَيْنِ) باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين ، ولا يخفى ما في ذلك ، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا ، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه ، وإما قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا ، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.

والفاء في (فَإِيَّايَ) واقعة في جواب شرط مقدور و «إياي» مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه (فَارْهَبُونِ) أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا ، وقول ابن عطية : إن «إياي» منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية ، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله :

إليك حتى بلغت إياكا

وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة ، وقيل : لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر ، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فإنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف على قوله سبحانه : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى ، وتقدم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص ، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض وملكا (وَلَهُ) وحده (الدِّينُ) أي الطاعة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره (واصِباً) أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب ، وتفسير (واصِباً) بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد والضحاك. وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي :

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه

يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وقال ابن الأنباري : هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته ، وفاعل للنسب كما في قوله :

وأضحى فؤادي به فاتنا

أي ذا وصب وكلفة ، ومن هنا سمي الدين تكليفا ، وقال الربيع بن أنس : (واصِباً) خالصا ، ونقل ذلك أيضا عن الفراء ، وقيل : الدين الملك والواصب الدائم ، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت :

وله الدين واصبا له الم

لك وحمد له على كل حال

وقيل : الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي ، وأيا ما كان فنصب (واصِباً) على أنه حال من ضمير (الدِّينُ) المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من (الدِّينُ) والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية

٤٠٣

على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره ، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير ، وأولى الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها ، وقيل : يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى ـ فما ـ موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و (مِنْ نِعْمَةٍ) بيان للموصول و (بِكُمْ) صلته ، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون (ما) شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله :

فطلقها فلست لها بكفء

وإلا يعل مفرقك الحسام

وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله :

قالت بنات العم يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن

وقوله :

أينما الريح تميّلها تمل

وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذهبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول : إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس ، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا ، وقد وهم من قال : إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى ، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه ، ألا ترى إلى ما بني عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه : أما أعطيتك كذا أما وأما (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) مساسا يسيرا (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار والمجرور ، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة ، قال الأعشى يصف راهبا :

يداوم من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جؤارا

وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم ، وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة

٤٠٤

وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية (الضُّرُّ) بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد (ما) المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.

ولعل إيراد «إذا» دون ـ أن ـ للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود ، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل ، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) : وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل : يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله» بما قيله ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك ، واستدل بالآية على أن لله تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أي رفع ما مسكم من الضر (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه ، والخطاب في الآية إن كان عاما ـ فمن ـ للتبعيض والفريق الكفرة ، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف ـ فمن ـ للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل ، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون ؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون ـ من ـ تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر ، و (إِذا) الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة وبعدها جواب الشرط ، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، و (بِرَبِّهِمْ) متعلق ـ بيشركون ـ والتقديم لمراعاة رءوس الآي ، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران.

و (ثُمَ) قال في إرشاد العقل السليم : ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من مفاجئات الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.

وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ) وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها ، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة ، وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.

والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و (ثُمَ) في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء ، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده ، اه وهو كلام نفيس ، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه.

وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل ، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم ، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث

٤٠٥

بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فإنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلّال المبين ، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الكشف عنهم ، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة ، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه ، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام ، والمعنيان متقاربان (فَتَمَتَّعُوا) أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد ، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.

وقرأ أبو العالية «فيمتّعوا» بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معطوف يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك ، ويجوز أن يكون لام (لِيَكْفُرُوا) لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم ، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب بإسقاط النون ، ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب ، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضا «يعلمون» بالياء التحتية وروى ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا (وَيَجْعَلُونَ) قيل معطوف على (يُشْرِكُونَ) وليس بشيء ، وقيل : لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون ، مما قص عليك ويجعلون (لِما لا يَعْلَمُونَ) أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وإنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء إنها جماد على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة ، وضمير (يَعْلَمُونَ) عائد عليه ، ومفعول (يَعْلَمُونَ) مترك لقصد العموم ، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم ، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم ، ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلية لا صلة الجعل كما في الوجهين الأولين ، وصلته للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : عند القرب من الموت (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها ، وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها ، وقال الإمام : أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء ؛ ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.

ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد ، وقيل : أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغيار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين ، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة ، وهذا أولى مما ذكره الإمام ، وأما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.

(سُبْحانَهُ) تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قوله ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة ، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.

٤٠٦

(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني البنين و (ما) مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه ، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على (الْبَناتِ) كأنه قيل : ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا (١) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز ، فإذا عطف «ما» على (الْبَناتِ) أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو (يَجْعَلُونَ) إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال ـ لأنفسهم ـ وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون ، ومحصله ـ كما قال الخفاجي ـ المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥]. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية ، وقال الخفاجي : هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي أخبر بولادتها ، وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوؤهم حملت على مطلق الأخبار ، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها وقيل : إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر ، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه (ظَلَّ وَجْهُهُ) أي صار (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحياة من الناس ، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم ، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى ، قيل : إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا ، وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية ، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد ، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن (وَجْهُهُ) اسم ظل و (مُسْوَدًّا) خبره ، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع (مُسْوَدًّا) على أن (وَجْهُهُ) مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر (ظَلَ) صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال : أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه ، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.

__________________

(١) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل.

٤٠٧

وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة ، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت اثنى ولم تلد ذكرا ، ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء فهجرها زوجها فانشدت :

ما لأبي الذلفاء لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

يحرد أن لا نلد البنينا

وإنما نأخذ ما يعطينا

والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى ، والجملة في موضع الحال من الضمير في (ظَلَ) وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه ، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير (مُسْوَدًّا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) يستخفي من قومه (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) عرفا وهو الأنثى ، والتعبير عنهما ـ بما ـ لاسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء ، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه ، والجاران متعلقان ـ بيتوارى ـ و (مِنَ) الأولى ابتدائية ، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك ، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابنته أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع (أَيُمْسِكُهُ) أيتركه ويربيه (عَلى هُونٍ) أي ذل ، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه ، وقيل : حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا ، وجملة (أَيُمْسِكُهُ) معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالا من فاعل (يَتَوارى) أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه (أَمْ يَدُسُّهُ) يخفيه (فِي التُّرابِ) والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم ، وقيل : المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق. روي أن رجلا قال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» وكان بعضهم يغرقها ، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك ، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل : (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) وقيل : المراد اخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب ، وتذكير الضميرين للفظ (ما). وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قول سبحانه : (بِالْأُنْثى) أو على معنى (ما). وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني ، وقرأ الجحدري أيضا ، وعيسى «هوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو ، وقرئ «على هون» بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا ، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد ، وقرأ الأعمش «على سوء» وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون لمن تنزه عن الصحابة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين ، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه ، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢] ، وقال ابن عطية : هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل : ألا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا ، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور ، والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الفكرة ، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه : (وَإِذا بُشِّرَ) إلخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه ، ولعمري ما ندري أي خبر لرب جارية خير لأهلها من غلام ، وإنما أخبركم الله عزوجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب

٤٠٨

القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال : فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عزوجل. وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصحابة والولد عليه سبحانه أردفه عزوجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى ، ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية ، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية ، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لو لا سوء التعصب (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ممن ذكرت قبائحهم (مَثَلُ السَّوْءِ) صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم ، وإيثار الذكور للاستظهار ، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس (مَثَلُ السَّوْءِ) النار ، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه ، ومنه ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال : إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه ، وذلك أنهم قالوا : إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عزوجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم ، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه ، وهو أشبه عندي بالرطانة كما لا يخفى ؛ ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول (١) علوا كبيرا. وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة على لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: ١١]. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم ، وقيل : هو الذي لا يوجد له نظير (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) الظالمين مطلقا ، وقيل : بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر ، وقال ابن عطية : هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا (بِظُلْمِهِمْ) أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه ؛ وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح ، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى : (مِنْ دَابَّةٍ) بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة ، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ

__________________

(١) قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر «عما يقولون» إلخ.

٤٠٩

الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها من ظلم الظالم ، وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية ، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال : أي والله زمن غرق قوم نوح عليه‌السلام ، وقيل : المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الأنس ، وقيل : منهم ومن الجن ، وقيل : المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره ، وقالت فرقة منهم ابن عباس : المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥] وقال الجبائي : الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات ، والمراد بالناس الظالمون مطلقا ؛ ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل ، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام. فلا يقال : الأصل الحمل على الحقيقة.

واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وألا يفسد التقسيم ، وقد يقال : إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم‌السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات ، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا ـ وفي لفظ ـ بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا» نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم‌السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم : لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء ، ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل ، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضمار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أولا وكلا القسمين باطل ، أما الأول فللآية وذلك من وجهين.

الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة. الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم ، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى آية تحريم المضار ، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار ؛ وحينئذ يقال : إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غنى عن البنيان (وَلكِنْ) لا يؤاخذهم بذلك بل (يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) سماه سبحانه وعينه لأعمالهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) المسمى (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً) أقل مدة (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عليه ، وقد مر الكلام في نظيرها (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم (ما يَكْرَهُونَ) الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات ، والتعبير ـ بما ـ عند أبي حيان على إرادة النوع ، وهذا على ما

٤١٠

سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي العاقبة الحسنى عند الله عزوجل ولا يتعين إرادة الجنة.

وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا : إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه ، قيل : وهو المناسب لقوله تعالى الآتي : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة ، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث ، وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين : المراد ـ بما يكرهون ـ أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرئاسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم‌السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم‌السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا ، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار و (ما) تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير ، والمراد من (تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه ، ومثله قولهم : عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء ، وقول أبي العلاء المعري :

سرى برق المعرة بعد وهن

فبات برامة يصف الكلالا

وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك ، والظاهر أن (الْكَذِبَ) مفعول (تَصِفُ) و (أَنَّ لَهُمُ) بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه ، وعند الخليل هو في موضع جر ، وجوز أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى ، وجوز أبو البقاء كون (الْكَذِبَ) بدلا ـ مما يكرهون ـ وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف (أَلْسِنَتُهُمُ) بإسقاط التاء وهي لغة تميم ، واللسان يذكر ويؤنث قيل : ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل : جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس ، ورفعه على أنه صفة الألسنة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) حينئذ مفعول (تَصِفُ لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ لَهُمُ) مكان ما زعموه من الحسنى (النَّارَ) التي ليس وراء عذابها عذاب وهو علم في السوأى ، وكلمة (لا) رد لكلام و (جَرَمَ) بمعنى كسب و (أَنَّ لَهُمُ) في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم إن لهم ذلك.

وإلى هذا ذهب الزجاج ، وقال قطرب : (جَرَمَ) بمعنى ثبت ووجب وإن لهم في موضع رفع على الفاعلية له ، وقيل : (لا جَرَمَ) بمعنى حقا و (أَنَّ لَهُمُ) فاعل حق المحذوف ، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن. وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه (لا جَرَمَ) وكذا قرءا بالكسر في قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط ، وأنشدوا للقطامي :

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجل فرّاط لوراد

وقال مجاهد ، وابن جبير ، وابن أبي هند : أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته ، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ونافع. وأكثر أهل المدينة (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء اسم

٤١١

فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي مجاوز والحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر «مفرّطون» بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى ، وعنه أنه قرأ «مفرّطون» بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم‌السلام ، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي اغوائهم وصرفهم عن الحق (الْيَوْمَ) أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه ، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكان صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها ، وسمى مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الأخرى (عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب النار ، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول ، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذا لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار ، وجوز بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات ، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها ، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير (وَلِيُّهُمُ) المضاف إليه لقريش لا للأمم و (الْيَوْمَ) بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. وأن يكون الضمير للمتقدمين ، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم ، والمراد من الأمثال قريش.

وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه ، وقال الطيبي : إن الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى : (تَاللهِ) بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية فكأنه قيل : إن الأمم الخالية مع الرسالة السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم‌السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة على نعم الله تعالى المتظاهرة اه.

وقال في الكشف : لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه ، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل : إن لفظ (الْيَوْمَ) داع إليه في حيز المنع ، وقصارى ما يقال : وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم

٤١٢

وتعداد قبائحهم ، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر ، وهذا قريب المتناول ، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل : ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال : وقوله تعالى (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [النحل : ٣٩] ، ولقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.

وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد ، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم و (اخْتَلَفُوا) إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) عظيمين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان ـ قال أبو حيان : ـ في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب (أَنْزَلْنا) ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه ، ولما لم يتحد في (لِتُبَيِّنَ) لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.

وقال الزمخشري : هما معطوفان على محل (لِتُبَيِّنَ) وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه ، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.

وقال الحلبي : إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحال ؛ وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع ، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه في الوجود عليهما (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم الكلام في مثله ، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بما أنبت به فيها من أنواع النباتات (بَعْدَ مَوْتِها) بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس ، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله ، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة ، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد ، والآية دليل لمن قال : إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض ميتة (لَآيَةً) وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه ، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) قال المولى ابن الكمال : أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها ، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى : (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ٥٢] وربما قررناه تبين وجه

٤١٣

العدول عن ـ يبصرون ـ إلى (يَسْمَعُونَ) انتهى ، وقال الخفاجي : اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولو لا هذا لكان قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) كالأجنبي عما قبله وبعده ، وقوله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلخ تتميم لقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا) إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب (يَسْمَعُونَ) لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن ـ ليسمعون ـ بمعنى يقبلون مناسبة أيضا ، ثم قال : ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه : يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى ، وفي قوله عقبه : بأنه أرسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء كما لا يخفى ، ومتى كان تتميما لقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا) إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر ، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه : (يَسْمَعُونَ) أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع انصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه ـ بلقوم يبصرون ـ وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.

وفيه أيضا من التكلف ما فيه ، وأقول : لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى (يَسْمَعُونَ) للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم ، وأصل معنى العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر ، وقال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها ، والمشهور عمومه فاطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة (نُسْقِيكُمْ) استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل : نسقيكم (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه ، وضمير (بُطُونِهِ) للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه ، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.

ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه‌الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع ، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت ، ثم

٤١٤

قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بما فعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء ، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول : أتى للواحد فيضم الألف ، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وقال أبو الخطاب سمعت العرب تقول : هذا ثوب أكياس انتهى.

وقال رحمه‌الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى ، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ : على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر :

تركنا الخيل والنعم المفدى

وقلنا للنساء بها أقيمي

وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه : منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الأخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه ، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم ، وأيضا إن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله : والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة ، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك ، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض ، ومن ما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة ، وقوله : إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى ، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال : إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب : المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه حجاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه ؛ وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [المدثر : ٥٤ ، ٥٥](فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٨] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب. واعترض بأنه كيف جمع ـ نعم ـ وهي تخصيص بالإبل والإنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا. وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.

وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. أبو بكر. وأهل

٤١٥

المدينة (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أن مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقي

نميرا والقبائل من هلال

وقال بعض : يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه ، وقيل : سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له ، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رجا «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.

وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث ، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة انتهى ، ولم يبين وجه ضعفها ، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في (بُطُونِهِ) وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.

(مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً) الفرث على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي ، و (بَيْنِ) تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما ، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما.

وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله : ولقائل أن يقول : اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبه دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع ، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن ، لا يقال : إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد ، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم ، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الاخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته :

حكم حارت البرية فيها

وحقيق بأنها تحتار

وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم ، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من

٤١٦

بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي (١) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم ، و (مِنْ) الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت ، وهي متعلقة ـ بنسقيكم ـ و (مِنْ) الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة ـ بنسقيكم ـ فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و (لَبَناً) مفعول ثان ـ لنسقيكم ـ وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه ، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر ، وجوز أن يكون (مِنْ بَيْنِ) حالا من (لَبَناً) قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.

وجوز أن تكون (مِنْ) الأولى ابتدائية كالثانية فيكون (مِنْ بَيْنِ) بدل اشتمال مما تقدم (خالِصاً) مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين».

وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه ، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا. وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ؛ فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما ، وحذف لدلالة (نُسْقِيكُمْ) قبله عليه ، وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو ـ بتتخذون ـ و (مِنْهُ) من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته (تَتَّخِذُونَ) أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير (مِنْهُ) عائد إلى على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس ، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر ، و «السكر» الخمر قال الأخطل :

__________________

(١) أي أن صح اه منه.

٤١٧

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم

إذا جرى فيهم المزاء (١) والسكر

وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله :

وجاءونا بهم سكر علينا

فأجلى اليوم والسكران صاحي

وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك ، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه ، وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه ، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام ، وفيه أن (تَتَّخِذُونَ) لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ) ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق ، وأوثر الفعلية لمكان قربه من (نُسْقِيكُمْ) وقوله تعالى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) تم البيان عنده ثم أتي بفائدة زائدة ، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية أعني قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح ، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه ، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند (سَكَراً) محوج إلى جعل (رِزْقاً) معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده ، والظاهر أنه لا ينكره ، وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره الحوفي كصاحبه ، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق ، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز :

ما لك عندي غير سهم وحجر

وغير كبداء شديد الوتر

جادت بكفّي كان من أرمى البشر

أراد رجل نعم قال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه ، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم ، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر ، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله : لا وجع لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار ـ بنسقيكم ـ محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال : والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون : إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار ـ بتتخذون ـ ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد ، ونقل عنه أنه جعله متعلقا بما في الاسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.

__________________

(١) هو نوع من الأشربة اه عنه.

٤١٨

وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم ، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك ، وقيل : إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة (وَتَتَّخِذُونَ) بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر ـ في ـ بدل من وضمير (مِنْهُ) لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير (بُطُونِهِ) وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين ، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها ، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير ، وقيل : نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده :

جعلت اعراض الكرام سكرا

وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة ، وكأنه لهذا قال الزجاج : إن قول أبي عبيدة لا يصح ، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل : الغيبة فاكهة القراء ، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا : المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة ، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر (١) من كل شراب» أخرجه الدارقطني ، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي : وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال : إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة ، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة ، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.

وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال : وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة ، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة ، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل ، ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن ، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة ، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام ، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا ، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم

__________________

(١) بضم السين اه منه.

٤١٩

الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.

هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ) بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) باهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم ، قال أبو حيان : ولما كان مفتتح الكلام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ناسب الختم بقوله سبحانه : ـ يعقلون ـ لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول : إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال :

إذا دارها بالأكف السقاة

لخطابها أمهروها العقولا

فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ؛ وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها ، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول ، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير ، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها ، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها ، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا : ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ؛ ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة ، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم ، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه : (أَنِ اتَّخِذِي) وقرأ ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون اتباعا لحركة النون ، و (أَنِ) إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه ، وذلك كاف في جعلها تفسيرية : وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال : إن ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أوكارا ، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما سمعت : وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.

(وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض ، و (مِنَ) في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك ، وبعضهم قال : إن (مِنَ) للتبعيض بحسب الأفراد فقط ، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول (مِنَ) إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع ، وأيّا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من

٤٢٠