روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي مستقرون في ذلك خالدون فيه ، والمراد بهم ـ على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهي عنه ، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الخير أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال : وهذا هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا ، ولهذا قالوا : ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وعقيب قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر ، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو كانوا من أهل المعصية ، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه. وقد يقال : لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب.

وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر ، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى ، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون ، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) [محمد : ١٥] الآية ، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر ، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته ، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد ، وضم العين من (عُيُونٍ) هو الأصل وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء. (ادْخُلُوها) أمر لهم بالدخول من قبله تعالى ، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها ، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال

٣٠١

لهم ادخلوها ، وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما ، وقيل : يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا ، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره ، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل. وقرأ الحسن «أدخلوها» على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع ، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه ، وعنه «أدخلوها» بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها ، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول ، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها (بِسَلامٍ) أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال ، ويراد بالأمن في وقوله سبحانه : (آمِنِينَ) الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي حقد ، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها ، وقيل : قيل للحقد غل أخذا له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه ، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل ، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما ، وهذا النزع قيل في الدنيا ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النواة قال : قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم (١) (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت : وأي غل هو؟ قال : غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية ، ويشعر بذلك على ما قيل ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة : إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى : (وَنَزَعْنا) الآية فقال رجل من همذان : إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر ، وقال : فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك؟ وقيل : إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السرر نزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال : ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ القيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل ، وقيل : فيها قبل الدخول ، فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحيس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل».

وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين ، وقيل : معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب ، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم

__________________

(١) رأيت في بعض النسخ زيادة وعثمان رضي الله تعالى عنه وآخر الخبر لا يقتضيها فتأمل اه منه.

٣٠٢

قبل النزع فتأمل.

(إِخْواناً) حال من الضمير (فِي جَنَّاتٍ) وهي حال مترادفة إن جعل (ادْخُلُوها) حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل (ادْخُلُوها) وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير (آمِنِينَ) أو الضمير المضاف إليه في (صُدُورِهِمْ) وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا ، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ويجوز أن يكونا صفتين ـ لإخوانا ـ أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى المشتق أي متصافيين ، ويجوز أن يكون (مُتَقابِلِينَ) حالا من المستتر في (عَلى سُرُرٍ) سواء كان حالا أو صفة ، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو كجزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب ، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك. ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش وجماعة وافقوه فيه ، واختار كون (إِخْواناً) منصوبا على المدح ؛ والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة ، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عزوجل وخلاصه من سجنه المشار إليه بما جاء في بعض الآثار «الدنيا سجن المؤمن». وكلب وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل ، ويجمع أيضا على أسرة ، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر ، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية. وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة.

وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر ، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع. وقيل : هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون ، وقيل : معنى (مُتَقابِلِينَ) متساوين في التواصل والتزاور.

وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان (لا يَمَسُّهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (نَصَبٌ) تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا ، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم. وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا ؛ والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في (فِي جَنَّاتٍ) أو من الضمير في (إِخْواناً) أو من الضمير في (مُتَقابِلِينَ) أو من الضمير في (عَلى سُرُرٍ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي هم خالدون فيها. فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود ، وهذا متكرر مع (آمِنِينَ) إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها ، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر ، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة ، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت : إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه (نَبِّئْ عِبادِي) قيل : مطلقا ، وقيل : الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له ، و (أَنَا) إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل ، وهو إما مبتدأ أو فصل ، وأن وما بعدها ـ قال أبو حيان : ـ ساد مسد مفعولي (نَبِّئْ) إن قلنا : إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين ، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع ،

٣٠٣

وقيل : إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم ، وله وجه ، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه : وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب ، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة ، ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة ، وكذا ما أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال : ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية ، وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك ، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.

ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب ، فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) إلخ ، وقيل : إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل ، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم‌السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه‌السلام ، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه‌السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه ، وكان لقصره عليه‌السلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد ، ولذا كان يكنى أبا الضيفان ، واختلف في عددهم كما تقدم ، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي اصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره ، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه‌السلام بل إلى قوم لوط عليه‌السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.

وقرأ أبو حيوة «ونبيهم» بإبدال الهمزة ياء (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على (نَبِّئْ) أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف ـ لضيف ـ بناء على أنه مصدر في الأصل ، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره ، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى (ضَيْفِ) أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه (فَقالُوا) عند ذلك : (سَلاماً) مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية ، وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه ، وقوله عليه‌السلام هذا كان ـ عند غير واحد ـ بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه ، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير ، وقيل : كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله ، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به

٣٠٤

ولم يكن عليه‌السلام ليقرب إليهم الطعام ، وأيضا قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود : ٧٠] ظاهر فيما تقدم ؛ ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس.

وقيل : يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به ، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه‌السلام السلام عليهم لذلك ، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكره. (قالُوا لا تَوْجَلْ) لا تخف وقرأ الحسن «لا توجل» بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال ، وقرئ «لا تواجل» من واجله بمعنى أوجله و «لا تأجل» بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا.

(بِغُلامٍ) هو إسحاق عليه‌السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر ، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة ، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه‌السلام ، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود ، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر (عَلِيمٍ) ذي علم كثير ، قيل : أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) [الصافات : ١١٢](قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بذلك (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) وأثر في والاستفهام للتعجب ، و (عَلى) بمعنى مع مثلها في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] على أحد القولين في الضمير ، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه‌السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك ، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار و (عَلى) على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأول جعل (عَلى) بمعنى في مثلها في قوله تعالى : (وَدَخَلَ (١) الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) [القصص : ١٥] وقوله سبحانه : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة ، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان ثم إنه عليه‌السلام زاد في ذلك فقال : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء ، وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.

وقرأ الأعرج «بشرتمون» بغير همزة الاستفهام ، وابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء. وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء. وقرأ نافع بكسر النون مخففة ، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه ، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل : حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة ، ورجح الأول بقلة المئونة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نون الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.

وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرءون بفتح النون وهو نون الرفع.

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق ، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإيجاده من شيخ وعجوز (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي الآيين

٣٠٥

من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم‌السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة ، وكأن مقصده عليه‌السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جلّ وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله ، فإنه عليه‌السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك ، وينبئ عنه قول الملائكة عليهم‌السلام : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا : من الممترين ونحوه (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) استفهام إنكاري أي لا يقنط (مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى ، وهذا كقول ولده يعقوب : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ومراده عليه‌السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.

وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «القنطين» والنحويان والأعمش «يقنط» بكسر النون ، وباقي السبعة بفتحها ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب بضمها ، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير «الضالين» بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو ـ كما قال الراغب : ـ اليأس من الخير كفر ، والمسألة خلافية ، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر

«للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى» وقال الكمال بن أبي شريف : العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم ، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لعله عليه‌السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا ، وتوسيط (قالَ) بين كلاميه عليه‌السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوي ذكره ، وخطابه لهم عليهم‌السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء أن علمه عليه‌السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما‌السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل : إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد ؛ ألا يرى أن جبريل عليه‌السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه ، وأيضا يرد على قوله : ولذلك اكتفى إلخ أن زكريا عليه‌السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩] وأما مريم عليها‌السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] وقوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١ ، التحريم : ١٢] وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات ، وأيضا يخدش قوله : ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها ما في قصة مريم عليها‌السلام قالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٨ ، ١٩].

فيجوز أن يكون قولهم : (لا تَوْجَلْ) تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها‌السلام

٣٠٦

لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدئ بالبشارة بخلاف ما نحن فيه ، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه‌السلام في ذلك وإن قيل : المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه‌السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين ، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط (قالَ) والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه ، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام ، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟ ، وأما الثالث فلجواز أن يقال : إنه عليه‌السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم ، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال : إنه لا يحسن أيضا عند قوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) على تقدير أن يكون علم عليه‌السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) هم قوم لوط عليه‌السلام ، وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) قال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين ، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام ، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر ، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في (مُجْرِمِينَ) فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له ، وقوله تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) خبر الأبناء على ما سمعت سابقا ، وعن الرضي أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ) [يونس : ٩٨] وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال ، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول : لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة ، وأيضا معنى لكن الاستدراك ، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى ، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال : إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة ، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه ، وفيه غفلة عن كونه مبنيا على ما نقل عن سيبويه ، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع ، وقيل : قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى ، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا

٣٠٧

هؤلاء ، وجملة (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) على هذا مستأنفة استئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه‌السلام قال لهم حين قالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ) فما حال آل لوط ، فقالوا : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) إلخ ؛ وقوله سبحانه : إِلَّا امْرَأَتَهُ) على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال : لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقوله المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما ، وهاهنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) تعلق ـ بمنجوهم ـ فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى.

وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثناءين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وهاهنا قد تخلل (لَمُنَجُّوهُمْ) ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك ؛ وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه ، وفي الكشف المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى ، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح ، وفيه أيضا ، فإن قلت : لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت : لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة ، وبعض جملة سابقة ، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى ، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف ، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب. الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) [النور : ٦] الآية فإن (إِلَّا الَّذِينَ) فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معالا إلى الجلد للدليل ، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللأخيرة فقط نحو أكرم العلماء واحبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم. الثالث إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب ، الرابع أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان. الخامس إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذي ، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا ، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لو جعل الاستثناء من (آلَ لُوطٍ) لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من (آلَ لُوطٍ) إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوما عليها بالإهلاك أو الإجرام. ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضي فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال : لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب ، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه غير موجب والمستثنى منه مذكور ، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا ، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال : إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له ، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك ، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع ، وكما

٣٠٨

وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون (إِلَّا آلَ لُوطٍ) مستثنى من (قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) على أنه منقطع قال : وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث إن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول ، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لو لا الاستثناء ، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى. ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساءوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين ، قال في همع الهوامع : ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال : جاء قوم إلا رجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة ، فإن أفاد جاز نحو (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) [العنكبوت : ١٤] وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا ، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون ، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز ، مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك. نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في الهمع.

وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعا ، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة ، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال ابن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها ، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة ، وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الاطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه ، ومن هنا قال الشهاب : أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب (١) ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل ، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضي أنه إذا اجتمع شيئان فصاعدا يصلحان لأن يستثنى منهما فهناك تفصيل فإما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار ، فإن لم يمكن الاشتراك نحو فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحو ما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولا نحو ما فدى وصي نبيا إلا عليا كرم الله تعالى وجهه ، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما ، وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن ، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل ، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل ، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه ، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى.

وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيئان مثلا يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه ، وقال القاضي البيضاوي : إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل (إِلَّا امْرَأَتَهُ) مستثنى

__________________

(١) وكلا الأمرين مذكور في حواشيه على البيضاوي فارجع إليها إن أردت ذلك اه منه.

٣٠٩

من (آلَ لُوطٍ) أو من ضمير (لَمُنَجُّوهُمْ) وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) معترضة انتهى ، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشري مطلقا ، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري ، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال : المراد بالحكمين المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين اتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن و (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) خبرا له ثابتا كالإخراج منه فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه ، كالإخراج منه وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا : إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من (آلَ لُوطٍ) ولذا جوز الرضي أن يقال : أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا ، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت ، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي الحواشي الشهابية أنه الحق دراية ورواية. أما الأول فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارئ من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري ، وأما الثاني فلما ذكر في التسهيل من أنه إذا تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول ، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت : لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك : ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة ، ثم إن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وإن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضي فتدبر انتهى ، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وقرأ الاخوان «لمنجوهم» بالتخفيف.

(قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في عذاب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقين مع الكفرة لتهلك معهم ، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتخفيف ، وكسرت همزة «أن» لتعليق الفعل بوجود لام الابتداء التي لها صدر الكلام ، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب ـ قال الزمخشري ـ لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم ، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح ، وقيل : التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري ، ثم قال : وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتى يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين. نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدر مراد ، وقال القاضي : جاز أن يقال : أجري مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا انتهى ، وإنما أنكره لأنه اعتزال تأباه الظواهر ، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم : بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها.

والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم‌السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من

٣١٠

الزلفى والاختصاص ، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة ، وقيل : ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل قيل : وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك ، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه‌السلام بقوله تعالى (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إنما قاله عليه‌السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم‌السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠] حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه‌السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله سبحانه (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه ، قد قشروا العصا وبينوا له عليه‌السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول. وجعل (بَلْ) إضرابا عما حسبه عليه‌السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به.

وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه‌السلام : بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك ، ولم يقولوا ـ بعذابهم ـ مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه‌السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم منهم من التكذيب. قيل : وقد كنى عليه‌السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه‌السلام بكناية أحسن وأحسن. ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا ، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة ـ كما قال ـ للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه‌السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آل عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه‌السلام بهما ، وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك اجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم ، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر ، ونسبة المجيب بالعذاب إليه عليه‌السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاءوه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية ، وجوز أن تكون للملابسة ، وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه : (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم ، عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الامتراء عنه ، وجوز أن يراد (بِالْحَقِ) الإخبار بمجيء العذاب المذكور.

وقوله تعالى : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر (١) الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه ، وعلى الأول تأكيدا إثر تأكيد ، ومن الناس من جوز

__________________

(١) ويجوز وصف الخبر بالحق وإن كان الأكثر وصفه بالصدق اه منه.

٣١١

كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول ، ولا يخفى حاله.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) شروع في ترتيب مبادئ النجاة أي اذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهو سير الليل. وقال الليث : يقال : أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره ، وروى صاحب الإقليد «فسر» من سار وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني وهو عام ، وقيل : إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى.

(بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بطائفة منه أو من آخره ، ومن ذلك قوله :

افتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

وقيل : هو بعد ما مضى منه شيء صالح ، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل ، وعلى قراءة «سر» لا شيء من ذلك ، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت «بقطع» بفتح الطاء.

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) وكن على اثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر ، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) أي منك ومنهم (أَحَدٌ) فيرى ما وراء من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره ، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده ، وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بم خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض فيصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال :

تلفت نحو الحي حتى وجدتني

وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا

أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه. قال المدقق : وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل في الحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقي وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه ، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى ، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلا مرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قيل : أي إلى حيث يأمركم الله تعالى المضي إليه وهو الشام على ما روي عن ابن عباس والسدي ، وقيل : مصر وقيل : الأردن وقيل : موضع نجاة غير معين فعدى (امْضُوا) إلى (حَيْثُ) وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع.

٣١٢

واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه وأما تعدية (امْضُوا) إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا ، وأجيب بأن تعلق (حَيْثُ) بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة ، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه ، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله :

للفتى عقل يعيش به

حيث تهدي ساقه قدمه

أراد حين تهدي ، ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله :

كان منا بحيث يعكي الإزار

وبإلى في قوله :

إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وبفي في قوله :

فأصبح في حيث التقينا شريدهم

طليق ومكتوف اليدين ومرعف

وقال ابن مالك : تصرفها نادر ، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله :

إن حيث استقر من أنت راعيه

حمى فيه عزة وأمان

فحيث اسم إن ، وقال أبو حيان : إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت ـ حمى ـ و ـ حيث ـ الخبر لأنه ظرف ، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ اه ، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي ، وخرج عليه قوله تعالى : «الله أعلم حيث يجعل رسالته» وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسما لأن خلافا لابن مالك ، وزعم الزجاج أنها اسم موصول ، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها ، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف ، قال نجم الأئمة : اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال : يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت : يوم قدوم زيد فيه اه ، و «حيث» على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو :

بيض المواضي حيث ليّ العمائم

وحيث سهيل طالعا ، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي ، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله :

إذا ريدة من حيث ما نفحت له

أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في «يؤمرون» عائدا عليها ، وقد نص بعضهم على أن (حَيْثُ) لا يصح عود الضمير عليها والذي في البحر أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها (امْضُوا) بنفسه كما تقول : قعدت حيث قعد زيد ، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما.

٣١٣

ونقل عن بعضهم القول بأن (حَيْثُ) هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم ، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون (تُؤْمَرُونَ) مع أن فيه استعمال (حَيْثُ) في أقل معنييها ورودا من غير موجب ، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة ، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين. (وَقَضَيْنا) أي أوحينا (إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته ، وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) على أنه بدل منه كما قال الأخفش ، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بدلا ، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر إلخ ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى : (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم ، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد ، وقرأ زيد بن علي ، والأعمش رحمهم‌الله تعالى «إن» بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل : ما ذلك الأمر؟ فقيل في جوابه : إن دابر إلخ أو على البدلية بناء على أن في الوحي معنى القول ، قيل : ويؤيده قراءة عبد الله «وقلنا إن دابر» إلخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف ، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد (مُصْبِحِينَ) أي داخلين في الصباح فإن الافعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد. وهو من أصبح التامة حال من (هؤُلاءِ) وجاز بناء على أن المضاف بعضه ، وقد قيل : بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك ، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم. وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها ، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم ، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها ، واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في (مَقْطُوعٌ) الراجع إلى (دابِرَ) وجاز ذلك مع الاختلاف افرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية.

وقدر الفراء وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول : أنت راكبا أحسن منك ماشيا. وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال ، وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه‌السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم ، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأبى عنه الطبع السليم ، والمراد بالمدينة سذوم (١) وبأهلها أولئك القوم المجرمون ، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم ، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة إلى ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاءوا منزل لوط عليه

__________________

(١) بفتح السين على وزن فعول بفتح الفاء وذاله معجمة وروي إهماله ، وقيل : إنه خطأ ، وفي الصحاح والدال غير معجمة ، وهو معرب ولذا قيل إنه بالإعجام بعد التعريب والإهمال قبله ، وسميت هذه المدينة باسم ملك من بقايا اليونان وكان ظلوما غشوما وكان بمدينة سرمين من أرض قنسرين قاله الطبري اه منه.

٣١٤

السلام (يَسْتَبْشِرُونَ) مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم : إن عنده عليه‌السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا ـ لهؤلاء ـ ، وإطلاقه على الملائكة عليهم‌السلام بحسب اعتقاده عليه‌السلام لكونهم في زي الضيف ، وقيل : بحسب اعتقادهم لذلك ، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليهم‌السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء ، ولذلك قال : (فَلا تَفْضَحُونِ) أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه ، يقال : فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، ويقال : فضح الصبح إذا تبين للناس (وَاتَّقُوا اللهَ) في مباشرتكم لما يسوءني (وَلا تُخْزُونِ) أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل والهوان ، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله : (فَلا تَفْضَحُونِ) أكثر تأثيرا في جانبه عليه‌السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار ، عبر عليه‌السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك ، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني أستحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء ، واستظهر بعضهم الأول ، وإنما لم يصرح عليه‌السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل : لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك ، وقيل : رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعما منه ، وقال بعض الأجلة : المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة. وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه‌السلام. وكذلك قوله تعالى : (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم ، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه‌السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فكأنهم قالوا : ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لو لا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك ، ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) يعني نساء القوم أو بناته حقيقة. وقد تقدم الكلام في ذلك ، واسم الإشارة مبتدأ و (بَناتِي) خبره ، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن ، وجوز أن يكون (بَناتِي) بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى ، وأن يكون (هؤُلاءِ) في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي ، والمتبادر الأول. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) شك في قبولهم لقوله فكأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون ، وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله تعالى دون ما حرم ، والوجه الأول كما في الكشف أوجه. وفي الحواشي الشهابية أنه أنسب بالشك ، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل ، وعلى الوجهين المفعول مقدر ، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم ، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك (لَعَمْرُكَ) قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما عليه جمهور المفسرين.

وأخرج البيهقي في الدلائل وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى : (لَعَمْرُكَ) إلخ ، وقيل : هو قسم من الملائكة عليهم‌السلام بعمر لوط عليه‌السلام ، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم‌السلام : (لَعَمْرُكَ) إلخ ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه ، فلا يرد ما قاله صاحب الفرائد من أنه تقدير من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن

٣١٥

معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص ، وأيّا ما كان ـ فعمرك ـ مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك ، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم ، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح ، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول ، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلا ، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم ، ونقل ذلك عن الجوهري ، وقال ابن يعيش : لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذا «عملي» وعدوه من القلب ، وقال أبو الهيثم : معنى (لَعَمْرُكَ) لدينك الذي تعمر ويفسر بالعبادة ، وأنشد :

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال ـ على ما نقل عن ابن الأعرابي ـ عمرت ربي أي عبدته ، وفلان عامر لربه أي عابد ، وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وهو غريب. وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه : الأصل عمرتك الله تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول ، ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني ـ أعني الاسم الجليل ـ فهو على هذا منصوب ، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك الله سبحانه تعميرا ، وجوز الرضي أن يكون ـ عمرك ـ فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين ، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لأفعلن ، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له ، ولا بأس بإضافة ـ عمر ـ إليه تعالى ، وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر :

إذا رضيت علىّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى :

ولعمر من جعل الشهور علامة

منها تبين نقصها وكمالها

وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال : لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلي أبدي ، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك ، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم ، قال النابغة لعمري وما عمري عليّ بهين.

وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم ، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في (لَعَمْرُكَ) خطابا لشخص حلفا بحياة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله.

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و «عمرك» بدون لام (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم (يَعْمَهُونَ) يتحيرون فكيف يسمعون النصح ، وأصل العمه عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك ، والضمائر لأهل المدينة ، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية ، وقيل : ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش ، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق ، ومن هنا قيل : الجملة اعتراض وجملة (يَعْمَهُونَ) حال من الضمير في الجار والمجرور ، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في (سَكْرَتِهِمْ) والعامل السكرة أو معنى الإضافة ، ولا يخفاك حاله ، وقرأ الأشهب «سكرتهم» بضم السين ، وابن أبي عبلة «سكراتهم» بالجمع ، والأعمش «سكرهم» بغير تاء ، وأبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم» بفتح الهمزة ، قال أبو البقاء : وذلك على

٣١٦

تقدير زيادة اللام ، ومثله قراءة سعيد بن جبير «ألا إنهم ليأكلون الطعام (١)» بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني صيحة هائلة ، والتعريف للجنس ، وقيل : صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد ؛ وقال الإمام : ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية : الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس ، قال المدقق : والجمع بين ـ مصبحين ومشرقين ـ باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق ؛ وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم ، ومنه الأخيذ الأسير ، ولك أن تقول : (مَقْطُوعٌ) بمعنى يقطع عما قريب انتهى ، وقيل : (مُشْرِقِينَ) حال مقدرة (فَجَعَلْنا عالِيَها) أي المدينة كما هو الظاهر. وجوز رجوعه إلى القرى وإن لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل و (سافِلَها) الثاني له ، وقد تقدم الكلام في ذلك (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) في تضاعيف ذلك (حِجارَةً) كائنة (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل ، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه «سجين» بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل :

ضربا تواصى به الأبطال سجينا

وهو كما ترى. وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال : لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث ـ سخينا ـ بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا ، وقيل : هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به ، وقد مر الكلام في ذلك أيضا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من القصة (لَآياتٍ) لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال ابن عباس : للناظرين ، وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما : للمتفرسين ، وقال مجاهد : للمعتبرين ، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة. وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب ، وقال ثعلب : التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف ، قال الشاعر:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسم

وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره ، ويقال: توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه ، قال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إني توسمت فيك الخير أعرفه

والله يعلم أني ثابت البصر

والجار والمجرور في موضع الصفة (لَآياتٍ) أو متعلق به ، وهذه الآية ـ على ما قال الجلال السيوطي ـ أصل في الفراسة ، فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية (وَإِنَّها) أي المدينة المهلكة وقيل القرى (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل : الضمير للآيات ، وقيل : للحجارة ، وقيل : للصيحة أي وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٣] و (مُقِيمٍ) قيل معلوم ، وقيل : معتد دائم السلوك (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٢٠.

٣١٧

الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها (لَآيَةً) عظيمة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم الذين يعرفون أن سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع ، وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية ، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف ، وقيل : للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) هم قوم شعيب عليه‌السلام ؛ والأيكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الأيك ، قال الشاعر :

تجلو بقادمتي حمامة أيكة

بردا أسف لثاته بالإثمد

والمراد بها غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم ـ وقيل السدر ـ فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى ، وقيل : بلدة كانوا يسكنونها ، وإطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علما ، وأيد القول بالعلمية أنه قرئ في [الشعراء : ١٧٦ ، وص : ١٣] «ليكة» ممنوع الصرف ، و (إِنْ) عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة ، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى إلا ، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) جازيناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب ؛ والضمير لأصحاب الأيكة.

وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك. روى غير واحد عن قتادة قال : ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة (وَإِنَّهُما) أي محلي قوم لوط وقوم شعيب عليهما‌السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لإرسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلها. فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه‌السلام» ولا يخلو عن بعد بل قيل : إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه‌السلام بأنها (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي لبطريق واضح يتكرر مع الاخبار عنها آنفا ، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين ، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم : الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما‌السلام أي وإنهما لبطريق من الحق واضح.

وقال الجبائي : الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب ، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ.

وقال مؤرج الإمام : الكتاب في لغة حمير ، والاخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) يعني ثمود (الْمُرْسَلِينَ) حين كذبوا رسولهم صالحا عليه‌السلام ، فإن من كذب واحدا من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار ، وقيل : المراد بالمرسلين صالح عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل : الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه ، وقال الشاعر :

قدني من نصر الخبيبين قدي

٣١٨

والقول بأنه أنزل كل من الناقة وسقبها منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه‌السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له أصلا فيما أرى.

والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا يسكنونه ، قال الراغب : يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود ، وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.

وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) من الناقة وسقبها وشربها ودرها.

وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة. ودنو نتاجها عند خروجها. وعظمها حتى لم تشبهها ناقة. وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا ، وقيل : كانت لنبيهم عليه‌السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل ، وهو على الإجمال ليس بشيء ، وقيل : المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبثوثة في الأنفس والآفاق وفيه بعد ، وقيل : آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه‌السلام.

وأورد عليه أنه عليه‌السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال : الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفي كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه ، وقد يقال : بتكرار النزول حقيقة ولا يخفى قوة الإيراد ، وقيل : يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم‌السلام ، ومتى صح أن يقال : إن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال : إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر ، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) غير مقبلين على العمل بما تقتضيه ، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رءوس الآي.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من نزول العذاب بهم ، وقيل : من الموت لاغترارهم بطول الأعمار ، وقيل : من الانعدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها ، وقال ابن عطية : أصح ما يظهر لي في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن ، وتفريع قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أظهر في تأييد الأول ؛ ووقع في سورة [الأعراف : ٧٨ ، ٩١ ، ١٥٥](فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ووفق بينهما بأن الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها ، واستشكل التقييد ـ بمصبحين ـ مع ما روي في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه‌السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم ، فإن هذا يقتضي أن أخذ الصيحة إياهم بعد الضحوة لا مصبحين. وأجيب بأنه إن صحت الرواية يحمل (مُصْبِحِينَ) على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل : يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا ، وفيه تأمل فتأمل.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ولم يدفع عنهم ما نزل بهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى ـ فما ـ الأولى نافية وتحتمل الاستفهام و (ما) الثانية يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه.

٣١٩

وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر ، وفي الآية من التهم بهم ما لا يخفى.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء ، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي ، وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه إهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة ، وفي التفسير الكبير في وجه النظم أنه تعالى لما ذكر إهلاك الكفار فكأنه قيل : كيف يليق ذلك بالرحيم؟ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض.

وتعقبه المفسر بأنه إنما يستقيم على قول المعتزلة ، ثم ذكر وجها آخر لذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم‌السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه ، ثم إنه تعالى لما بين إنزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الساعة لآتية وإن الله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجاريك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ، وإلى جواز تفسير الحق بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال ، وذكر أنه ينبئ عن ذلك الجملة الثانية ؛ ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى.

واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما ، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق ، وهو كلام خال عن التحقيق (فَاصْفَحِ) أي أعرض عن الكفرة المكذبين (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وهو ما خلا عن عتاب على ما روى غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب (الصَّفْحَ) نفسه بترك التثريب وذكر أنه أبلغ من العفو وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل : أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم ، وحاصل ذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم ، وعلى هذا فالآية غير منسوخة ، وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أنها منسوخة بآية السيف ، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم ، وآثر هذا الأخير العلامة الطيبي قال : ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداراة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي : (وَلَقَدْ) إلى آخره ففيه حديث الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية ، ثم قال : ومنه يظهر أن الآية عطف على (وَما خَلَقْنَا) إلخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أن أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يتشفى به عن

٣٢٠