موسوعة عشائر العراق - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة عشائر العراق - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

لهم أمه وكانت بادية الأنياب مهولة المنظر فقال ان ابي التمس مثل هذه لتلد مثلي.

ومما يحكى عنه ان أمه كانت تخشى بطشه فتحذره. من ذلك انه سألها يوما أي أشجع ، هو أو أبوه؟ فلم تجبه فلما ألحّ عليها قالت له كل منكما شجاع وبعد الالحاح الزائد ذكرت ان أباه أشجع فضربها ضربة كادت تطير بأم رأسها. وكان قد تحارب أبوه مطلك مع إحدى القبائل فقتل له ولدان فحملهما على بعير ومع هذا لم يبال واتصل بأمهما في ذلك اليوم فولدت مسلطا هذا فصار من تلك العلقة وشاعت أخباره ...

وهو مشهور بالكرم. أجرى السمن سواقي وصار يأكله الضيوف مع التمر وقد شاهد كرمه الأعداء والأقارب ... توفي قبل أبيه كما أشير إلى ذلك فيما مر.

ويحكى عنه أنه حينما قوي أمر ابن سعود وأمر بجز الشعاف وتأدية الزكاة امتنع أن يتكلم مع أحد وصار يراقب على رجم (تل) يبقى فيه طول النهار وقسما من الليل فحسبوا أنه عاشق أو مختل العقل فأرسل إليه أبوه أن يأتيه ويطيع أوامر ابن سعود فأبى وضرب عبد ابن سعود. فأدمى جبينه.

وحينئذ غضب الأب وتناول سيفه وتقدم إليه قاصدا قتله فقال مسلط :

نطيت راسي مشمخرات العراجيب

الرحم الطويل النايف المجلح الزي

ونيت ونه ما تهجع بها الذيب

وأوجس ضلوعي من ضميري تنز

اشجي لاخو جوزة (١) ستر الرعابيب

الحر عند دار المذلة (٢) ينز

ليصار ماناتي سواة الجلاليب (٣)

وكلايع بايماننا نبزي (٤)

__________________

(١) هو مطلق.

(٢) المملة.

(٣) الجواليب.

(٤) نطعن ، نفرح ، نتنومس بها.

١٤١

يريد اعتليت عراقيب عالية وهناك ترى انيني لا يهجع له ذئب ويكاد قلبي يلتهب لها ... أشكو لابي صيانه عرضي ، والحر لا يرضى بدار الذل والاهانة ... ولو منعنا من الغزو ، فلا نستطيع ان تكون غنائمنا في تصرفنا .. فما حياتنا حينئذ وما عيشتنا ...!

وحينئذ أدرك الأب مرامي ولده فاجابه :

اصبر تصبرّ واجمع الخبث للطيب

وهذي حياة كل ابوها تلز (١)

أخاف من كوم روسها جاليعابيب

وسيف على غير المفاصل يحز

يقول لابنه ناصحا له اصبر وتأن في الأمور ، واجمع خبثك إلى طيبك ، والحياة هذا شأنها ، والسياسة ضرورية. وإنما أنا خائف من هؤلاء القوم فيها ، وأخشى أن تحز سيوفهم غير المفاص ...!!

والمغزى ظاهر ، والنصح بيّن ولكن ابنه أبى أن يقيم في دار زعمها دار هو ان له ولم يفكر بابعد من هذا ..

فكانت هذه الوقعة على ما يحكى ـ منشأ الحروب فيما بينهم وبين الأمير ابن السعود ...

وقد قيل بعض الشعر في ابن السعود في بعض الأزمات مما حفظه قصاد شمر وكثير من أفرادهم ...

إلا أن هذه كانت أوقات نزاع وحرب وفي مثلها تظهر الخصومات في الشعر والكلام فضلا عن الأفعال وامتشاق السيف وهز الرماح .. ولكنها لا تلبث أن تزول ، فلا تقلل من فضل آل سعود وخدماتهم الجلى لتوحيد القبائل العربية وجمع شمل البدو واتفاق الكلمة مما دعا إلى تمكنها في جزيرة العرب واخلاصها العظيم في حماية العقيدة.

قتل مسلط سنة ١٢٠٥ ه‍ ـ ١٧٩١ م كما ذكر اعلاه ..

__________________

(١) تسايس في الحل ، تبصر.

١٤٢

١١ ـ عمرو بن الحميدي :

واليه تنسب الفرقة المعروفة ب (آل عمرو) ولا تزال قائمة برأسها.

١٢ ـ شلاش بن عمرو :

وهذا معلوم عنه الكرم. ويقال له (تل اللحم) اشارة إلى ما يقدمه إلى الضيوف. قتل قرب هور عقرقوف ، في محل يقال له (ابو ثوب) وقبره هناك.

١٣ ـ فارس آل محمد :

جاء هذا ومطلق وسائر اقاربهم وأهليهم إلى أرياف العراق ، فرحبت الحكومة بهم. ووقائع شمر في العراق تبتدىء في الحقيقة من فارس هذا. وفي زمنه استقرت قدم شمر ونال فارس شهرة فائقة. وكان النفوذ في بغداد لآل الشاوي وقبيلة العبيد التزمت الحكومة فاعتزت بها ...

والمحفوظ عن بعضهم ان ابراهيم بك (١) ابن عبد الجليل بك هو الذي جاء بفارس إلى العراق لمصلحة عداء ابن سعود ، ولسحق العشائر وما ماثل. والصحيح ما قدمنا ، وان ابراهيم بك ينتسب إلى شمر من (الجعفر) الذين منهم آل الرشيد.

وبسبب هذا الرئيس اعني فارسا خضدت شوكة قبيلة العبيد نوعا بل كادت تمحى لو لا أن يتوالى نبوغ رجال مشاهير من آل شاوي يساعدون قبيلتهم العبيد في حين ان هؤلاء البدو لا ناصر لهم غير قوة ساعدهم وتمرّنهم على الحروب والذكاء الفطري في معرفة الوضع السياسي للحكومة فاستغلوا الحالة عن معرفة وخبرة فنالوا مكانتهم الممتازة لدى ولاة بغداد. وكانت الحكومة ترغب في إمالة قبيلة عظيمة مثل هذه اليها واستخدامها على العبيد والقبائل الأخرى وكانت تخشى بطشهم وترهب سطوتهم .. وهي أيضا في حاجة لمعرفة ما يجري في جزيرة العرب وهذا ما كانت تنويه في

__________________

(١) وذرية ابراهيم بك هذا لم تزل في الحلة ويقال لهم آل عبد الجليل ابن سلطان ويسمون الآن «آل محمد نوري باشا».

١٤٣

بادئ الأمر ثم التفتت إلى الأوضاع الأخرى في حينها ... أو أنها نظرت للأمرين معا.

وكل آمالها مصروفة إلى محو البعض بالبعض تأمينا لحاكميتها وتأييدا لسلطتها وقهرها للأهلين. ولذا قامت بعد ذلك بوقائع تؤكد نواياها وتبين وضعها وسائر مطالبها وأغراضها نحو الأهلين. (١)

وأول ما رأته الحكومة من الشيخ فارس الجربا ـ عدا ما ذكر ـ وهو ما حدث سنة ١٢١٣ ه‍ ـ ١٧٩٨ م زمن الوالي سليمان باشا الكبير فانها أرادت الوقيعة بابن سعود فجمعت كل ما استطاعته من قوة عشائرية وعسكرية فكان فارس الجربا بعشائره وكذا شيخ المنتفق بمن معه من قبائل ومحمد بك الشاوي وجماعات كثيرة جعلهم الوزير تحت قيادة علي باشا الكتخدا. إلا ان هذا لم يكن عارفا بالأمور الحربية ولم يسمع نصائح اكابر رجاله من رؤساء القبائل المتمرنين على حرب أمثال هذه خصوصا الجربا. وفي هذه الوقعة لم يسجل التاريخ سوى غارة على قبيلة السّبيع (٢) فغنم منهم ابلا وشاء. وفي هذه الغارة كان فارس وابن أخيه بنيّة بن قرينس غنموا ما غنموا وقتلوا من قتلوا من قبيلة السبيع وعادوا ولكن الكتخدا خذل في هذه الحروب وخسرت الحكومة خسائر فادحة لا تقدر ولو لا العشائر معه لدمّر شر تدمير. فانتهت بالصلح الظاهر والمغلوبية الحقيقية التامة ... (٣) وقد أوضحت هذه في موطنها من تاريخ العراق.

__________________

(١) راجع ما كتبته عن آل الشاوي في لغة العرب.

(٢) هذه القبيلة قحطانية في نجد والزعم بأنها مضرية غير صحيح ... وتتفرع إلى فروع عديدة. وجاء عنها في كتاب عشائر العرب للبسام ما نصه : «طائفة طافت أخبارها ، ورويت آثارها ، ملكت مقاليد المجد ، وأدركته بالهزل والجد ، يحمدهم الطارق ، ويحذرهم السارق ، أعلوا منار الفضل وشادوه ، وأنصفوا الضعيف على القوي حتى أسادوه ، أخلاقهم حميدة ، وآراءهم سديدة ...». ص ٣٧ وفروعها مذكورة في قلب جزيرة العرب.

(٣) مطالع السعود ص ١١٩.

١٤٤

وفي عام ١٢١٦ ه‍ ـ ١٨٠١ م أغارت سرايا من أهل نجد على العراق فأرسل الكتخدا علي باشا لمقاتلتهم محمد بك الشاوي وفارس الجربا ومعهما عسكر الوزير فوجدوا القوم قد تحصنوا بالرواحل وشمروا عن ساق الحرب بالبنادق والمناصل فأحجم من أرسله الكتخدا ورأوا ذلك أحمد فرجعوا إلى شفاثى (عين التمر) كارهين النزال فأنّبهم ابن سند في تاريخه بقوله :

رأوا البيض مصلتات فظنوا

أنها أنؤر بليل تشب

فانثنوا يهرعون عنها فهلا

وردوها وبالشياظم خبوا

انكوصا عن أن تراق نفوس

بسيوف على الرؤوس تصب

هذا ولم يعلم ابن سند ان المخاطرة بلا أمل نصرة شطط وكان الجيش منهوك القوى فصادف على حين غرة أناسا مستريحين وقد عقلوا ابلهم وصاروا ينتظرون الحرب بهدوء وراحة فكف الجيش عن قتالهم ومال إلى جانبهم للأسباب المذكورة ولأحوال حربية ... والظاهر أنهم أرادوا أن يسحبوا عدوّهم بحيلة حربية فيعقبوا أثرهم فلم يحصل مطلوبهم ولم يفلحوا. فانقضت الوقعة بسلام ...

ولم يقف الشيخ فارس الجربا وقومه عند هذا الحد بل ازداد نفوذهم فإنهم أزاحوا العبيد وغيرهم وتمكنوا في مواطنهم ، جاءوا بين النهرين ـ الجزيرة ـ في بادىء الأمر بقصد أن يردوا المواطن وبعد ذلك جاءهم فارس بقوم كثيرين فوقعت بعض الحروب المؤلمة ...

ومما تناقلته الألسن أنه حين ورود فارس الجزيرة دعا رؤساء القبائل المجاورة وقدم لهم منسفا كبيرا جدا (جفنة) فيه الطعام الكثير وفي أطرافه سكاكين مربوطة بأمراس لقطع اللحوم ، فاستعظموا ما رأوا وحسبوا الحساب لما وراءه وكان بين المدعوين رؤساء العبيد والجبور. وإن رئيس قبائل الجبور أبى أن يأكل بحجة أنه صائم لئلا يمنعه الملح والزاد من أن يوقع بهذا الرئيس أو يغدر به وشاور أصحابه فيما أضمر له في أن يقتلوه

١٤٥

فيأمنوا شره قبل أن يتوارد إليه قومه ويعظم أمرهم. فلم يوافقه سائر الرؤساء لأنه نزيل ولأنه لم يأت محاربا فاضطر إلى العدول عن رأيه ...

ومن ثم تواردت شمر حتى عظم أمرها ، واحتلت الجزيرة ، فدفعت هذه القبائل إلى أنحاء مختلفة ، فمالت قبيلة العبيد إلى الحويجة ، وأزاحت البيات إلى أماكنهم الحالية. وهكذا جرى على الجبور فتفرقوا ...

وفي هذه كان الايعاز من الحكومة فأغارت على هذه القبيلة ، وقد صور ابن سند مكانة فارس آنئذ فقال : «كانت لفارس وابن أخيه بنية أيام الوزير علي باشا أبهة عظيمة وصدارة» ا ه. (١)

فتقلص ظل العبيد وكاد يمحى فعبروا إلى الحويجة. ولا يزالون بها إلى الآن وان رؤساء القبيلتين يذكرون هذه الوقائع التي ولدتها السياسة واستغلت القدرة من احد الجانبين للوقيعة بالآخر. وما ذلك إلا نكاية بآل الشاوي.

ولكن الحكومة لم تر من شمر النتائج التي كانت تأملها فرأتهم أصعب مراسا ولم يكونوا تابعين لكل أمر ..

وكانت وقيعة الوالي علي باشا بمحمد وعبد العزيز آل الشاوي حدثت في أوائل حكومته ، كان قد ذهب بنفسه إلى سنجار. وبعد أن رحل غضب عليهما فخنقهما سنة ١٢١٨ ه‍ ـ ١٨٠٣ م وحينئذ قدم فارس الجربا وابن اخيه بنية المذكورين فمحا بيت الشاوي وناصر رؤساء (شمر). (٢)

ومن هؤلاء فرع لا يزال معروفا ب (آل فارس). ومنهم مجول بن محمد الفارس ...

١٤ ـ قرينص :

ويلفظ كرينص كما هو عادة تلفظ البدو والحضر. وقد ضبطه ابن سند

__________________

(١) المطالع ص ١٥٧ وعلي باشا هو المعروف بالكتخدا.

(٢) ص ١٢٢ من المطالع.

١٤٦

بضم القاف وفتح الراء فياء ساكنة فنون مكسورة فصاد ولم يذكر له من الوقائع شيئا مهما.

١٥ ـ بنية.

هذا هو ابن قرينص. ويقال له الأشمل أي أنه يزاول أعماله وحروبه بيده اليسرى (شماله) ويقال لفرسه (الجنيدية) نوع من الخيل معروفة وضبطه ابن سند بضم الموحدة وفتح النون وتشديد الياء ويليها هاء التأنيث. من فرسان العرب وكرمائهم كانت له كعمّه فارس أيام الوزير علي باشا أبهة عظيمة وصدارة. أما كرمه فهو الغيث بل البحر الخضم. وأما منع الجار ..

فهو منه في الذروة والناس إنما يحذون حذوه ..

وأما النسب فهو من بيوتات العرب :

تنميه للشرف العالي بنو ثعل (١)

أسد الشرى وسراة القادة الأول

النازلون من البيداء فوق ربا

والشائدون بيوت العز بالأسل

الناحرو جزر الأضياف نحرهم

أسد العرين بما سلوا من النصل

والمانعو الجار بالأسياف لامعة

بين الخميسين والعسالة الذبل

وبنيه هذا عبر من الجزيرة لغربي الفرات عند ما تولى وزارة بغداد سعيد باشا لما بين عمه فارس وآل العبيد من الضغائن لا سيما اميرهم قاسم ابن محمد الشاوي. وقد كان سعيد باشا ولي زمام اموره لقاسم فلما بين فارس وقاسم المذكور لم يستقر بنية في الجزيرة فنزل بعشيرته على خزاعة في سنة ١٢٣١ ه‍ ـ ١٨١٦ م ليكتال ومن ثم حدثت المعركة التالية وذلك : ان شيخ الرولة من عنزة المعروف بالدريعي أرسل إلى حمود بن ثامر شيخ المنتفق فاستنفره فنفر بفرسان عشيرته لمساعدة الدريعي لما بينهما من الائتلاف. وكذلك خرج عسكر الوزير سعيد باشا وهم عقيل وكبيرهم قاسم الشاوي فقامت الحرب على ساق وقائد شمر بنية وهذا ما كر على جناح أو

__________________

(١) بنو ثعل من قبائل طيىء.

١٤٧

قلب إلا هزمه حتى تحامته الفرسان فقدر الله عليه في بعض كراته أن أصابته رمية بندقية فخر من صهوة فرسه قتيلا. (١)

ثم قال صاحب المطالع أيضا :

ولما لبنية من المكارم والشجاعة وارتفاع الصيت وللمودة بيني وبينه رثيته ارتجالا ... (٢)

وذكر قصيدة طويلة مطلعها :

قضى فلدمعي في الخدود سفوح

هزبر عليه المشرفي ينوح

أغر كريم النسبتين من الأولى

فخارهم كالنيرين يلوح

وجاء في عنوان المجد في تاريخ نجد أنه كان لحقه فارسان فلما أحس بهم أو أنهم دعوه للمبارزة جذب عنان جواده جذبة منكرة ليجرفه عليهم فرفعت الفرس رأسها ويديها وسقطت على ظهرها إلى الأرض وهو فوقها فصار تحت السرج والفرس فوقه فأدرك وقتل (٣). وكان عمه فارس معه في هذه الوقعة.

وأما أثر قتلته هذه فكان كبيرا وله وقع في نفوسهم.

ومما قاله ابن عجاج في وقعة المنتفق هذه مقابل انتصارهم الأول على آل الشاوي يخاطب شيخ المنتفق ويذمه على افتخاره في قتلة بنية.

وكان هاربا من آل محمد ونزيلا عند المنتفق. ينقلون أنه قال :

خذلت شيخ دوم يخذلك

وعطيت له حبل الشرك وثم كفيت

تسعين راس من كومك غدت لك

وشعاد يا خصّاي الدياچ سويت

يرمي البدوي قبائل المنتفق في خصي الديكة وهذا ما يتهمهم به

__________________

(١) مطالع السعود ص ١٥٧ ـ ١٥٨ ، وعمر رمضان في حوادث سنة ١٢٣١ ه‍.

(٢) مطالع السعود ص ١٥٩.

(٣) عنوان المجد ج ١ ص ١٥٩.

١٤٨

ويعده أمرا معيبا ... ويقول خذلت شيخا كان يخذلك دوما وقد قتل تسعين من قومك فماذا فعلت ...؟!

وعلى كل حال كانت وقائعه مشهورة. ولكن نهضة آل الشاوي للمرة الثانية مما ضعفت من عزمه فتألب القوم عليه وحارب حتى قتل بمناصرة من الحكومة والمنتفق وعنزة .. وإن عمه كان ولا يزال حيا ومعه في هذه الوقعة ..

وقد مضت مدة حتى استعادوا مكانتهم أيام داود باشا وبهم استعانت الحكومة وبغيرهم من العشائر على حرب العجم في أيام الشيخ صفوق (صفوك) ابن فارس وهذه المغلوبية التي أصابت بنية لم تؤثر على قبائل شمر وإنما هي حرب مبارزة ولم تكن حربا حاسمة ...

١٦ ـ صفوك : (١)

وهذا أشهر من نار على علم وقد لقبته الحكومة بلقب (سلطان البر) سنة ١٢٤٩ ه‍ ـ (١٨٣٥ م) (٢) ، خلف بنيه ابن عمه في مكانته ونال حظوة لدى الحكومة أيام داود باشا الوزير.

هذا وتكاثرت المدونات في أيامه أو أن الذي وصلنا أكثر لقرب العهد. ويمتاز بالممارسة على الحروب أكثر ممن سبقه ، وتدابيره في سوق الجيش مهمة. ولا ينكر لأمثال هؤلاء أن ينبغوا في أمر الحروب وقد ذاقوا حلوها ومرّها ونالوا منها الامرّين واعتادوها. فالفطرة السليمة ، وعيشة البادية ، والرياسة ، والتمرن الزائد في أمر الحروب ، والذكاء المفرط ، مما يعوض نوعا عن التجارب الفنية خصوصا إذا كانت ترافقه رباطة جأش ، وصبر على المكاره ، وانتباه قد يحصل ببضع وقائع محفوظة مع الحالة العملية ، فيعوض عن دراسات عديدة ، وقضاياهم لا تحتاج إلى ما يحتاج اليه في الحروب المنظمة ...

__________________

(١) ظبطه ابن سند بفتح الصاد وهو في الأصل الممتنع من الجبال ، واللينة من القسي ، والصخرة الملساء المرتفعة ... فسمي به. (ص ٢٦٤ مطالع السعود).

(٢) عشائر سورية.

١٤٩

وإذا كان المرء مشبوعا بحب الحروب ومائلا إليها بكليته ، وبيئته مساعدة للقيام بأمرها دائما ، أو مراعاة ما يعوض عنها من مطاردة الصيد أيام السلم ، فهناك حدّث عن الشجاعة ، وعن الخطط الحربية ، والتدابير الصائبة ولا حرج. ولو دوّنت وقائعهم التي يقصونها ، والوسائل التي يتخذونها لتنفيذ خططهم لهال الامر أو لحصل الاذعان في الكفاءة لهم والمقدرة.

ومن المؤسف أن تصرف الهمم لأمثال هذه الأمور في غزو بعضهم البعض وكل واحد نراه ماهرا فيما زاوله. والخطر والصعوبة في أن ينال الواحد من الآخر حظه ...

ومترجمنا هذا يعد في طليعة شجعان العرب وأكابر قوادهم ولو وجد له تربة صالحة وبيئة مناسبة لظهر أعظم.

وقعته مع العجم :

وقد قال صاحب المطالع في حوادث سنة ١٢٣٨ ه‍ ـ ١٨٢٣ م عن وقعة العجم التي حدثت سنة ١٢٣٧ ه‍ ـ ١٨٢٢ م :

«أخبرني ثقات عدة أن صفوكا غزا ابن الشاه وعبر ديالى بفوارس من عشيرته إلى ان كان من عسكر ابن الشاه بمرأى فركب فرسان العسكر لما رأوه وكرّوا عليه فاستطردهم حتى عبروا ديالى وبعدوا عنها فعطف هو ومن معه من عشيرته ومن الروم عليهم فادبرت فرسان العجم وقفاهم فوارس شمر وقتلوا منهم من ادركوا وأتوا بخيلهم وسلبهم ... وأخبرني غير واحد أن هذه غير الأولى التي ذكرها المؤرخ التركي.» ا ه. (١)

والمحفوظ في هذه الوقعة انها كانت بالاشتراك مع قبيلة العزة وأنهم أبلوا فيها البلاء العظيم فتكاتفوا على عدوهم وعولوا على أنفسهم ولا ناصر

__________________

(١) ص ٢١٢.

١٥٠

الشيخ جلوب الطرفة من رؤساء شمر طوقه

١٥١

لهم من جيش الروم (الترك العثمانيين) واذا كان معهم من عقيل بعض افراد فلا تعطف لهم أهمية ...

وشمر هؤلاء في حروبهم يهارشون المقابل ويطمعونه في النصرة دون غلبة قطعية حتى يأتوا إلى مجال الطراد وموطن العطفة ـ كما عبر ابن سند ـ فيعودوا الكرة على عدوّهم. ولذا يسمون أهل (العادة) وهكذا فعل صفوك في ترتيب خطته ونجاحها وهم أكثر تعودا لها وأساسا من صغره يزاولها.

وتفصيل الوقعة في تاريخ العراق بين احتلالين.

وقد مدح ابن سند وقعته هذه مع العجم ومؤازرته للوزير وبيّن أنه كان قائد الجيش ومعه العشائر حتى قال :

«ولما نصر صفوك هذا الوزير ... أقطعه عانة وما يتبعها من القرى فنال منزلته عند الوزير فعادى أعداءه ووالى أوليائه ...

وأما كرم صفوك فمما سارت به الأمثال وأقرت به الأمثال ...» ا ه (١) ولصفوك هذا مع قبائل عنزة وقائع أشهرها :

١ ـ يوم بصّالة. وهو يوم انتصر فيه شمر على عنزة سنة ١٢٣٨ ه‍.

٢ ـ في السنة التالية انتصرت عنزة عليهم وهي عام ١٢٣٩ ه‍ ـ ١٨٢٤ م.

وفي هذه الوقعة الأخيرة انكسرت شمر فشد الوزير عضد كبيرهم صفوك ... كذا قال ابن سند.

وعلى كل حال ان كسرة شمر هذه المرة لم تكن القاضية وإنما هي على عادة العرب في قولهم (الحرب سجال). ولذا لم تتركهم الحكومة وإنما أخذت بيدهم فاستعادوا مكانتهم الأولى فقاموا بمهماتهم الحربية مع العشائر المناوئة.

__________________

(١) المطالع ص ٢٦٦.

١٥٢

وكان للحكومة من العشائر ما هم بمنزلة جيش متأهب للطوارئ وحاضر للكفاح والاستنفار ...

وحوادث صفوك الأخرى من هذا النوع. ومنها ما يتعلق بالقبائل الشمرية ولكن حادثة سنة ١٢٤٩ ه‍ ـ ١٨٣٣ م تدل على انه بقي على ولاء داود باشا الوزير وكره حكومة علي رضا باشا فلم يذعن له.

وذلك ان والي الموصل يحيى باشا كان أيضا على رأي الشيخ صفوك الفارس وكانت بينهما مراسلات. حث صفوكا على القيام فناوأ الحكومة وتمكن من قطع الطريق بين بغداد والموصل وصار يتجول بين النهرين فجمع قوة كبرى وجاء إلى قرب الامام موسى الكاظم فحارب علي رضا باشا الوالي وجيش الحكومة وأمله كبير في أن ينكل بالقوة التي أمامه ويستولي على بغداد فكان لهذا الحادث وقع عظيم في نفس الحكومة ...

وفي نتيجة هذه الحرب اضطر الشيخ صفوك على الانسحاب وترك الأثقال ... (١)

ولما اطلعت الحكومة على نوايا والي الموصل عزلته وعينت مكانه سعيد باشا الوالي السابق وكان في بغداد. (٢)

إن الحكومة بعد وقعة صفوك هذه مع علي رضا باشا قد احتالت فقبضت عليه وأبعدته إلى الأستانة ومعه ابنه فرحان باشا وكان صغيرا تعلم التركية خلال بقاء والده هناك. وكانت المدة التي قضاها ثلاث سنوات.

ومن غريب ما يحكى عنه أنه جاء إلى السلطان بتوسط الشريف عبد المطلب فدخل عليه وعندئذ صار ينظر يمينا وشمالا. وهذا ما دعا ان يغضب عليه السلطان مرة أخرى ويطرده من عنده ولم يدر السبب في حين انه كان يأمل أن يكرمه. ذلك لما رآه السلطان منه من سوء الأدب ... هكذا

__________________

(١) المفصل في تاريخ العراق.

(٢) تاريخ لطفي ج ٤ ص ١١٢.

١٥٣

كان يظن السلطان فيه ولم يدر انه بدوي ، وأمثاله لا يعرفون مراسم التشريفات .. والحكومة أساسا لا تعرف تقاليد العرب وعاداتها فلا يستغرب من السلطان ان يعتقد فيه ما اعتقد وهو بعيد عن البداوة ، ولم يتعود التجول ، ولا السياحات الوطنية على الأقل ... ولا بيده من كتب العشائر ما يبصره بأوضاعهم ... وقد رأينا من المغفور له الملك فيصل الأول ملك العراق صبرا عظيما من جفاء العشائر وخشونتها وهو يسمع جميع هوساتها ... ويتلقاها بكل سعة صدر وارتياح ، لانه عارف بهم وبضروب طباعهم وأحوالهم.

ثم انه توسط له الشريف مرة ثانية في الدخول فوافق السلطان. ولكنه حينما جاء إلى الصدر الاعظم صار يوصيه بمراعاة المراسم اللائقة وان لا يرفع بصره ولا يلتفت إلى جهاته ... فقال لا ادخل ، ولا فائدة لي من ذلك الدخول وحينئذ ارجح البقاء لأني سوف أذهب إلى قبائلي واحدثهم اني رأيت السلطان وشاهدت بلاطه وما فيه من كذا وكذا ... ولو قلت لهم اني خرجت كما دخلت فلم أنظر شيئا فحينئذ لا يصدقونني بل يكذبونني وقالوا لا نصدق انك دخلت ..

فاوصل خبر ذلك إلى السلطان فاستأنس بما قصه. وسمح له ان يدخل واذن السلطان له بمشاهدته وان يتفرج على الأماكن الأخرى والنظارات (الوزارات) وكل المباني البديعة ، والقصور الفخمة والآثار .. (١)

عفا عنه السلطان ، واختبر هو الوضع من جهة ، ومن أخرى ان قبيلته معتادة الغزو والنهب ولا يمكن تعيين أي السببين قد دعا لقيامه على الحكومة مرة أخرى زمن الوالي نجيب باشا (٢).

__________________

(١) هذه الآثار والممتلكات والنفائس في قصر الملك وفي غيره قد نشرت الآن للعموم وصار يراها كل احد وفيها من العجائب والغرائب الشيء العظيم ، شاهدتها سنة ١٣٥٣ ه‍ ـ ١٩٣٤ م في تموز وايلول منها وقد خلت الديار من مالكيها السابقين فلا نرى إلا آثارهم ...

(٢) مختصر عثمان بن سند ـ مخطوطة الآلوسي على الهامش.

١٥٤

ويقال في هذه المرة لم تعلن الحكومة مطاردته وانما اتخذت طريق المسالمة والحيلة للقبض عليه وأرسلت اليه رؤساء القبائل المشهورين لتقريبه من الصلح والانقياد والطاعة ، فجاءوا به كمطيع ، مسالم لها ومنقاد. فلما وصل إلى هور عقرقوف وقارب بغداد سلّ محمد بك سيفه عليه وضربه فقتله غدرا وعلى غفلة منه ...

وجاء في تاريخ لطفي : محمود بك والصحيح محمد بك ابن محمد بك. مات ابوه وهو في بطن أمه فسمي باسمه ، وانه من آل سيد بطال المشهور عند الترك وبيد ابنه حسين فرمان ينطق بذلك فقد كان اولا باشبوغ في أيام الهايتة ، وانه عين إلى العونية برتبة ميرالاي عند تأليف العساكر النظامية ، وان ختمه كان (بنده صمد السيد محمد). توفي حوالي سنة ١٣٠٦ ه‍ ـ ١٨٨٩ م ودفن في مقبرة الشيخ معروف وأولاده احمد توفي صغيرا ، وعلي توفي بلا عقب ، وحسين ولد سنة ١٢٩٨ ه‍ ـ ١٨٨١ م تقريبا ولا يزال حيا ومنه علمت بعض الايضاح عن والده بالوجه المذكور ...

وكان محمد بك شابا حين الوقيعة ومن ثم سمي ب (كنج أغا) لاكتسابه هذا المنصب شابا.

وكان الشيخ صفوك قد قضى أكثر ايامه بالحروب فهو متمرن عليها ، ولا يستريح بدونها. وقصصه أشبه بقصص الابطال القدماء وحروبهم ، ومجالس شمر لا تخلو في وقت من ذكريات بسالته ، والتغني بمآثره ومناقب شجاعته ..

واليوم بيت الرياسة العامة على شمر في (آل صفوك).

قيل كان قتل صفوك على يد الأتراك بالوجه المذكور سنة ١٨٤٠ ـ ١٨٤١ م كما جاء في كتاب عشائر سورية وفيه نظر. لأن وقائعه مع علي رضا باشا بعد هذا التاريخ ... كما رأيت ... ومن أولاده : فرحان ، وعبد الكريم ، وعبد الرزاق وفارس (والد مشعل باشا).

وممن رثاه ردهان بن عنكة قال :

ونيت وانا من غفيله

ونة عجوز وكفت بالمتاريس

١٥٥

لكت ولدها غادي مع حليله

وعكب الطرب بدلت بالهداريس

واويل كيل صفوك واطول ويله

ويل يموّس بسرة الكلب تمويس

من غبت عنا يا بناخي سبيله

غاب السعد عن نزلنا والنواميس

ونجفل جفيل الصيد ونرتع رتيعه

وصرنا مثل فرج المواعز بلا تيس

أنت وانا من غفيلة أنة عجوز وقفت بالمتاريس وقد وجدت ابنها قد ذهب وحليلته معه فابدلوا الطرب بالهلاك. ويلى على قالة صفوك ويا طول ويلي عليه ، فاجد سرة قلبي تتقطع تقطيعا حزنا عليه ، وألما لمصابه ... ولما غبت عنا يا ابن اخي سبيلة ذهب السعد عن ديارنا والذكريات المشرفة ، وصرنا نجفل جفلة الصيد ونرتع رتيعه خائفين وجلين ، ونحن كقطيع المعز لا رئيس لنا ...

ولم نتمكن من ايراد جميع ما قيل فيه من المدح في حياته. فان ذلك يحتاج إلى سعة زائدة والى طول اقامة في البادية. وقد كتبنا ما حضرنا من محفوظات البدو وغاية ما يقال فيه انه خلد صيتا مقرونا بالكرم والشجاعة والعز ، واعاد للعرب مجد شجعانهم الأقدمين وطيب اخبارهم.

١٧ ـ فرحان باشا :

هذا ابن صفوك. وكانت وجاهته عند الحكومة رفيعة. ولم يقع له من الحوادث ما يكدر صفو الأمن ولا عرفت منه معارضة للحكومة. وان الحكومة العثمانية انعمت عليه برتبة باشا وكان قد ذهب مع ابيه صفوك مبعدا إلى الأستانة كما ذكر. والمعروف عند البدو انه صاحب بخت (حظ). ويدعو البدو دائما ببخته فيقال (يا بخت فرحان).

وكانت مشيخته وعلاقته ببغداد. وله راتب منها وهو في خدمتها للأمور المدلهمة ...

نعم انه سالم الحكومة. ولذا راعت جانبه ورضيت عنه. وكان يساعد الحكومة اذا كان قريبا منها أو أخوه عبد الكريم اذا كان الحادث قريبا من ارفة ...

١٥٦

وقد ترك فرحان باشا اولادا كثيرين وقد بينّاهم عند ذكر سلسلة بيتهم.

١٨ ـ عبد الكريم (أبو خوذة):

وهذا ابن الشيخ صفوك الذي ولد في حدود عام ١٨٣٥ ونشأ في كنف المحترم مع باقي إخوته. اشتهر اسمه ونال مكانة معروفة وكانت مشيخته في ارفة وله راتب. وهو أخو فرحان باشا. ويعرف (بالشيخ) فالقبيلة تعرف هذا شيخها فسمي أولاده (بالشيوخ) وقد شنق سنة ١٨٦٨ م بعد ان احاق بالأتراك خطرا ... وقد اتخذت الحكومة التدابير للوقيعة به بعين ما قامت به في حادث صفوك او قريب منه ...

وهذا ترك محمدا ، وعبد المحسن ، وصفوكا ولهؤلاء أولاد.

ومما قيل في الشيخ عبد الكريم :

عبد الكريم اليارجب يعبوبه

ليجن رجله عند الكفا عايبه

جده من امه من موارث حاتم

وابوه شيال الحمول النوايبه

حامي الرمك معطي الرمك

له هدة تكثر بها الجنايبه

لو يكضب الياكوت ما عيابه

تلكى الندى بين الجحاجين رايبه

يقول : كأن عبد الكريم قد عيبت رجله حينما نراه راكبا جواده ، وجده لامه من ذرية حاتم وابوه القائم بالاعباء الثقيلة ، حامي الخيل ، ومعطي الصواهل ، وان هدّته (صولته) تكثر فيها الجنائب (الغنائم) ، ولو امسك على الياقوت لما حرص عليه ، وتجد الكرم معتاده ...

ومما قاله فجمان الفراوي من قبيلة المطير في الشيخ عبد الكريم :

نبي ناخذ على الهجن سجه

من بين ابو بندر وبين ابن سعود

ونبي ناخذ على الهجن هجه

لديار سمحين الوجيه الاكرام

ترى الكرم ما به عجه ولجه

ولا احد يغالطهم جنوب وشامي

مكابل الجربان فرض وحجه

هل السيوف اللي تكص العظام

١٥٧

قال نريد نأخذ شوطا على الهجن (الابل) بين ابي بندر وبين ابن سعود الامام ، ونبغي نمضي بهن غارة ملحاحة إلى ديار سمحي الوجوه الكرماء. اعلم ان ملاقاة الجربان (آل محمد) فرض وحجة ، وهم اصحاب السيوف التي تقطع العظم ..

وان ولده فارسا عاش أيضا مسالما للحكومة ومراعيا جانبها وهو شيخ شمر في انحاء سورية ، صاحب مقام رفيع هناك. وممن جمع صفات الرجولة والدهاء وحفظ الوقائع الماضية وعلاقة القبائل الأخرى بهم ولكنه دائما يود ان يظهر علو قبيلته على سائر القبائل ...

١٩ ـ فارس :

هو ابن صفوك (١) ووالد مشعل باشا. كان قد جاء عالي بك والي طربزون السابق ومدير الديون العمومية بسياحة رسمية إلى بغداد دوّنها في كتابه المسمى (سياحت زورنالي) (٢) المحرر باللغة التركية والمطبوع عام ١٣١٤ ه‍ ـ ١٨٩٧ م كان قد كتبه كرحلة عن سنة ١٣٠٠ ه‍ ـ ١٨٨٣ م إلى سنة ١٣٠٤ ه‍ ـ ١٨٨٧ م مبينا ما رآه في طريقه من الأستانة إلى بغداد فالهند. قال :

«قد ذهبت لمواجهة الشيخ فارس الجربا ـ بعد مروره من ماردين ـ فاستقبلنا ابنه محمد (ومحمد هذا ليس ابنه وانما هو ابن اخيه عبد الكريم) وادخلنا خيمته. وهي من شعر وطولها من ٦٠ إلى ٧٠ ذراعا وعرضها من ٢٥ إلى ٣٠ ولها عمد كثيرة وهي جسيمة جدا. (وقد وصف بيوتهم وطعامهم وقهوتهم (٣) ومجلسهم ولكنه لم يعرف العربية أو أن المجلس

__________________

(١) ورد سابقا ان فارس بن محمد سهوا. هو ابن صفوك.

(٢) وهذا من التواريخ المهمة كان قد قدمه تقريرا لحكومته عن سياحته وهو في الحقيقة من الآثار المهمة لمعرفة العراق في هذه الأيام التي كتب عنها.

(٣) قال : قدمت لي القهوة فصبوا فنجانا ثم آخر وهكذا فظننت اني سوف اضطر ان اشرب ما في الدلة فالتفت الى الشيخ فارس فأمره ان قد اكتفى ...!! ولم يعلم ان العرب يصبون لضيفهم القهوة حتى يقول «كفى» ...

١٥٨

كانت فيه الرسمية غالبة لم يتحدث القوم في مطالب لينبه عليها الا انه قال) : وفي مجلس الشيخ فارس نحو ٦٠ من الرؤساء وقال : لم يكن عند العرب هناك ما يدعو للتكريم والمراسم للقيام والقعود. فلا نشاهد قياما لديهم (والظاهر ان السياح الموما اليه لم يعلم ان الجالس معه لا يوجد اكبر منه ليقوم له. وطبعا تستولي الحشمة على مجلسه خصوصا انهم رأوا غريبا عند شيخهم او بالتعبير الصحيح اميرهم) وقال : كان بعضهم يتعاطى شرب النارجيلة ، والأصوات بينهم تعلو ويتكلمون جميعهم معا فيكثر اللغط في معاشرتهم (لم يعرف الحرية عند البدو ولا قدر سلطة الرؤساء وانها محدودة إلا بحق) ثم تغدى ووصف المنسف المقدّم له وان الشيخ كان يدعو جماعات بعد اخرى للأكل إلى ان بقي منه القليل فدعا الصبيان. وهؤلاء دخلوا نفس المنسف وأكلوا فيه لأن أيديهم لا تصله نظرا لعظمه. ولما رأى المنسف وعظمه وانه مملوء ارزا ولحما اخذته الحيرة وصار ينظر في وجه صاحبه كأنه يشير إلى عظمته. وقال : ان الشيخ فارسا كنا قد ألححنا عليه فأبى أن يأكل معنا وقال هكذا اعتدنا حتى انه مما دعا لحيرتهم انه بقي واقفا طول جلوسهم للأكل وبقي في خدمتهم بنفسه شأن العرب مع الضيف العزيز. ولكن لما رأى الاصرار الواقع منه دعا من يأكل معه من الحاضرين نحو ٧ أو ٨ قال أكلوا معنا بالخمس.!

ثم يقول وبعد ان ودعنا ومضينا راجعين من عنده لمسافة جاءنا ابنه (ابن اخيه) محمد وقدم لنا حصانا. وكنا قدمنا له بندقية ... ولما كنا اكرمناه البندقية قبلنا هديته هذه بشكر». ا ه ملخصا.

وهذا هو والد الشيخ مشعل باشا. ومن قول هذا السياح التركي وما رآه من الحاج الشيخ فارس وتقديم الطعام له واكرامه بفرس عربي ووصف مقامه تعرف مكانة سائر شيوخ شمر.

وللشيخ فارس هذا ـ عدا مشعل باشا ـ من الأولاد ملحم ، ومسلط والحميدي.

١٥٩

٢٠ ـ فيصل بن فرحان باشا :

قد شاهدته مرارا ولا يزال قويا بالرغم من أنه طاعن بالسن. وهذا لم اتمكن ان اعرف منه أكثر من حوادث الغزو. فاذا تجاوزت ذلك يقول لي اسأل عجيلا (الشيخ عجيل الياور ابن اخيه) وكانت حكاياته عن الغزو لاذة ومنعشة. وكان يقول شيخ الربيعين في العراق (مبرد بن سوكي) عن فيصل انه فوق ما يحدّث. وأغرب ما سمعته منه قصة الخنزير الذي اراد ان يقتل اخاه عبد العزيز (والد الشيخ عجيل) وكانا صغيرين فذهب لمعاونته وتخليصه ولكنه وقع معه في مأزق فلم يستطع الخلاص منه ولم يجرأ اخوه ان يساعده .. وذلك انه قبض على ذنبه من جانب فلم يستطع ان يفلته خوفا منه وصار يدور معه فلم يقدر على النجاة. ثم تمكن عبد العزيز من هذا الخنزير فضربه بطلقة بشتاوه (يقال لها عندنا فرد وهي من نوع بندقية البارود الا انه صغير (كالمسدس ولا يحوي الا طلقة واحدة في الأغلب. ويوضع في حزام المرء او في بيت خاص كبيت المسدس بلا فرق).

أما غزواته وأخباره في حروبه فهي كثيرة جدا. وأهم ما فيها ما ناله منها عناء وجروح وأسر أو هزيمة.

ولسان حاله ينشد :

فأبت إلى فهم ولم أك آيبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

ولا يسع المقام الإطالة في هذه. وإلا فإنها تشكل سمرا. وكل حكايات شجعان البدو من هذا القبيل ولا تخلو من غرابة ودقة ..

وللشيخ المشار اليه اولاد ملؤهم الذكاء والشجاعة والروح العالية منهم مشعان.

٢١ ـ الحميدي :

وهذا ابن فرحان باشا. كان قد درس في مدرسة العشائر في الأستانة. وهو اليوم يتجاوز الخمسين من عمره ، مشهور بالصلاح ، سلفي العقيدة ،

١٦٠