موسوعة عشائر العراق - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة عشائر العراق - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

وهذا يجري من القبائل الضعيفة تجاه القوية ... فتنال حقا بهذه الموافقة ...

وهناك أمر آخر وهو أن يكون البيت المنفرد قد جنى جناية ، أو ناله ما يكره من أقاربه فرحل عنهم مغاضبا ، ومال إلى قبيلة قريبة اليه او بعيدة فيكون نزيلها ... وهذا له حقوق كثيرة ، وليس عليه التكاليف التي تلتزمها القبيلة ، بل هو محترم ، مرعي الجانب ، عزيز المكانة ... والحشم يترتب عند اهانته من آخر ... وقد تتقاتل القبيلة فيما بينها من جراء ما يصيبه من ضيم او تعد ...

وهذه خصائص معروفة للعرب من قديم الزمان ، ولا تزال إلى اليوم ، والإسلام زادها قوة وتمكينا بحثه على مراعاة العهود ... إلا أنه وجهها للصلاح ...

٢٠ ـ البينة :

يقال في المثل (البينات يطردن الذمايم) ، ويقولون (الشاهد ماله حتن) أي مدة ، وتقبل الشهادة الخطية ، ويقبل الشاهد واليمين وهذا في الغالب لا يكون إلا في المسائل المدنية أو الشخصية ... وأما القتل وما ماثل فهذا له أحكام خاصة وذلك في حالة النسف وهو دفع الخصومة وتوجيهها إلى آخر وفي هذه الحالة لا يسمح الا شاهدان. وتقبل الشهادة من اثنين على شهادة الميت ؛ والمرأة لا تقبل مفردة.

٢١ ـ النسف :

وهذا أغرب من سابقه. نرى البدوي لا يوجه عليه إلا اليمين ، وإن المطالبة تتوجه عليه حتى يفصل النزاع بواسطة العارفة ... فإذا طلب القاتل الرجوع إلى العارفة وقال لا اريد إلا الحق ووافق الطرف المخاصم حينئذ وقبل توجيه اليمين قد ينسف المطالب بالدية. وذلك أنه يقول ان الضارب فلان وشهودي فلان و

فلان ...! فإذا قدم الشهود صرفت المقابلة عنه وتوجهت إلى من شهد الشهود عليه. وهذا لا يثبت عليه الحكم بمجرد هذه

٤٢١

الشهادة فهي لا تفيد أكثر من توجيه المطالبة إلى آخر ...! والبدوي في الغالب يأنف من هذا التوجيه ويدفعه بما أمكنه ، وقد يقدم على الحلف ولا يوجه المطالبة على غيره ..

هذا. وعند عدم القدرة على تقديم الشهود يصار إلى (البلعة) وهي المسماة (لقمة الزقوم) والآن في الغالب لا يصار اليها ... ومثلها (البشعة).

٢٢ ـ اليمين :

وهذا يسمى الدين وعندهم الشاهد واليمين وهو من الأحكام الشرعية ... والعاجز ليس له سوى تحليف صاحبه في الأمور المدنية ، وأما في القتل فلا يعتبر الشاهد إلا في النسف ... ومن توجهت عليه اليمين عين العارفة شكلها بالنظر للموضوع ومن الأيمان المعروفة غالبا :

١). «الدين ورب العالمين ، لا شكيت (١) جلد ، ولا يتمت ولد ، لا بخمسي ولا بخامس خمسي» ا ه. وفي هذه الحالة يحلف عنه وعن اقاربه بالواسطة.

٢). «العود ، ورب المعبود ، وسليمان بن داود. لا شكيت جلد الخ»

٣). «ومن خضر العود ويبس العود ، والرب المعبود لا شكيت جلد الخ»

٤). أو يقول عوض لا بخمسي .. «لا بيدي ، ولا بحديدي»

وعند التحليف تختط له خطة بسيف أو بعصى فيدخلها والسيف بيده ويحلف ... وفي الغالب لا يحلف إذا كان قاتلا. وهذه الأيمان في دعاوي القتل. فإذا حلف لا تتوجه عليه مطالبة ويبرأ من الدية ....

٢٣ ـ القضوة :

في المثل (عارفة الغزو أميرها) ، إلا إذا رخص الأمير. وإذا صار

__________________

(١) شققت.

٤٢٢

المتخاصمان إلى العارفة أخذ منهم أجرة على القضاء يقال لها (قضوة) و (رزقه) وفي الغالب تكون :

١ ـ عن الفرس ٨ دنانير تقريبا.

٢ ـ عن البعير ٤٠٠ فلس.

٣ ـ عن الدية (الودي) ١٠ دنانير

٤ ـ عن الحشم ستة من الابل.

والمقياس أن يأخذ العشر في الأكثر. وباقي القضايا تافهة. والربح له في قضايا قسمة الغنائم عند الاختلاف عليها كما تقدم ... والغالب في العوارف أن لا يقبلوا القضوة ، ولا يأخذوا أجرة على الفصل الذي يجري على يدهم فإنها تعدّ في نظرهم مكروهة ويتعففون من أخذها ، أو يترفعون ... والسبب في أخذ هذا المقدار من الابل عن الحشم لأنه في هذه لا يراعى المقدار وكثرته ، وإنما يعتبر فيه اماتة الشر وقطع الفتنة ...

٢٤ ـ خلاصة :

جل غرضنا تثبيت الجهات المشتركة بين القبائل في مخاصماتها ، ودعاويها ، ومن مجراها ظهر انها تتشابه في جميع احكام عرفها ، ولا تختلف إلا من حيث الكم ومقدار التعويض ... فإذا وحدنا الكل في مقدار معين صار قانونا عاما وصلح أن يكون نظاما ثابتا للكل ... والتفاوت طفيف ، يظهر من مقابلة عرف كل قبيلة بآخر ... وهذا لا يعني الغاءه ، وإنما يراد به توحيده ، ولا تتضرر منه قبيلة بل فيه قطع للتفاوت ، وتأييد العرف المشترك اذا كان الرأي مصروفا على الدوام عليه ... وفي هذا خطوة للتقدم إلى القانون العام ومراعاة أحكامه ... وأهم اصلاح يجب أن يراعى فيه هو أن لا يسأل غير الجارم ، ولا يعاقب إلا الفاعل فتلغى الوسكة والأخذ بالثار القبائلي الذي يسأل أفراد القبيلة ... فإذا كان قد ألغي الغزو بالقوة فيجب أن يكون المال محترما ، والنفس كذلك محترمة وفي ضمان الأمة

٤٢٣

وقوة الحكومة ، وأن لا يسأل غير القاتل ، وغير الناهب أو الغاصب وهكذا يجب أن يكون التضامن بين القبيلة مصروفا إلى المناصرة ، ومساعدة الضعيف ... وقد اعتاد القوم احكام الشرع في المواطن الأخرى من جزيرة العرب فيجب أن يراعى القانون في الكل فلا يفرق بين مدني وبدوي أو ريفي ... وفي هذا خطوة كبيرة لتقدمهم ، وقبولهم الحضارة ... وسلطة الحكومة تسوق الناس قسرا إلى الحق والعدل ...

والمهم من الاصلاح بصورة عاجلة في امر الخصومات أن توحد الدية ، وتمنع النهوة ، والوسكة ، والحشم مما يؤثر على الغير منها ، أو يؤدي إلى اتلاف الأموال في التطبير (التعقير) وأن يكتفي في قضايا الحشم بمراعاة طريق التحكيم ومراجعة العوارف على يد المحكمة وأن لا يتجاوز الجاني ، وأن تحدد القضايا في وقائع خاصة ...

هذا ولا يرى أثر للعقوبات الجزائية في العشائر كما هو معروف قديما في الجاهلية مثل (الصفد) ، و (الغل) ، و (التجريد) ، و (المد) ، و (السمل) وغير ذلك مما أبطله الإسلام ... فمن الأولى أن يزال أثر ما خالف الشرع ، وأن تحدد قضايا الفصل والتحكيم في الأمور العامة بين قبيلة وأخرى مما تستدعى الخوف من خطر ، وأن تودع القضايا للمحاكم وعلى كل نرى الأحكام ذات مساس كبير بالشريعة الإسلامية الغراء ، والمخالفات قليلة ويراعى في قسم منها العوائد ... وكلها تستدعي النظر وسنتعرض لما يرد الكلام عليه في القبائل الريفية وعلاقاتها بالأحكام الجاهلية وبالشرع الشريف ...

والمهم أن نقول هنا لم تؤثر الأمم المجاورة على تقاليد العرب تأثيرا كبيرا ولا أثرت الإسلامية إلا بعض التأثير ولكنه أكثر من تأثير المجاورين خصوصا في العبادات وبعض المعاملات وفي الأحوال الشخصية فإن تأثيرها مشهود ... ولكن هؤلاء لم يتمكن المسلمون من اجتثاث بعض عوائدهم المدخولة تماما ... وسبب ذلك أن الإسلام أجرى تأثيره على البدو فعادوا متحضرين ، وأن هؤلاء لم يتأثروا به بعد بحيث يتركون ما عندهم

٤٢٤

رحيل

٤٢٥

وينالون وضعا مدنيا ... فهؤلاء من بقايا البدو القدماء الذين لم ينالوا حظا كبيرا من التربية الإسلامية ليعودوا متمدنين وإنما حافظوا على وضعهم الاجتماعي نوعا ، ولم تدخل الشريعة في قلوبهم أو لم تنفذ فيهم تنفيذا صحيحا ... وليس من السهل تبديل ما عندهم ، وإنما يحتاج إلى رسوخ في العقيدة ، والى تدرج إلى الحضارة كالانتقال من البداوة إلى الريفية ، ومنها إلى المدن ... وعلى كل حال نرى الحالة البدوية الموجودة من ارقى الحالات البدوية وليست وحشية كما يتوهم وانما هي نتيجة تطورات وتكملات عديدة إلى ان وصلت اليها الإسلامية بحيث قبلت الزواج ، وراعت العقود ، والتزمت العهود وقامت بفضائل أخلاقية كانت من طبعها ؛ أو لاءمت غريزتها وحالاتها مدنية تقريبا بالنظر لوضعها الاجتماعي على قلة في المقياس ومراعاة مطالب لا ترضاها الشريعة ولا الحضارة ...

هذا ونلاحظ في قضايا الفصل ان البدو اليوم ليس لديهم قود في القتل ، وانما هناك ثأر ، وفتك من جانب المتضرر ، أو أقاربه عند الظفر بالقاتل والتمكن منه ... في حين اننا نعلم ان قد كان هناك قود. ومما قيل :

خليلي هل ليلى مؤدية دمي

اذا قتلتني أو أمير يقيدها

وكيف تقاد النفس بالنفس لم تقل

قتلت ولم يشهد عليها شهودها

والمعروف ان الرؤساء يأمرون بمراجعة العارفة ، ولا يتدخلون الا في الأمور العامة التي تهدد كيان القبيلة ، وتجعلها في خطر ...

وعلى كل حال لما كانت السلطة للحكومة ، ولم يكن للرؤساء الا الإدارة في امور محدودة ، فمن واجب الحكومة ان تحدد مطالب (قانون العشائر) ، وأن تجعل غالب القضايا المدنية ، والقضايا الشخصية مما لا مساس له بالسياسة العشائرية في حسمها تابعة إلى المحاكم ، ومثلها القضايا الفردية بين افراد قبيلة مما لا يهدد السلامة العامة ... والا توالى الخطر ، واشغلنا الدوائر الكثيرة ، ووسعنا التشكيلات التي نحن في غنى عنها ...

٤٢٦

ـ ٩ ـ

نظام دعاوى العشائر

من حين ظهر الإسلام أزال العرف القبائلي في القضايا العامة ، وعاد لا يعرف غير الشرع ، وصرح ان لا حكم إلا لله. وأن الحكم وفق العرف الجاهلي مخالف بصراحة آية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ،) وبقي الشرع الإسلامي معتبرا ، ومرعيا ، ولكن في بعض الأوقات ضعفت سلطة الحكومة أو زالت فمال كل واحد إلى ناحية التحكم أو الرضوخ ، وأحيوا بعض العوائد الضارة ، وتولد التكاتف على الحق والباطل معا ، وصار المجال واسعا للتحزبات والعصبية القبائلية أمثال هذه فصارت القبائل في أوضاعها تضارع من نواح عديدة الجاهلية في نهجها ، تذعن للشرع تارة ؛ والى قدرتها أخرى ، وتميل في الأكثر إلى ما يكفل كيانها ، ويؤدي إلى وحدتها ...

وفي العهد العثماني نرى الجرائم الشخصية تابعة للقانون العام إلا أن القضايا الكبرى بين القبائل كانت تتدخل الحكومة في أمرها إما بالاعتماد إلى قدرتها ، أو من طريق الصلح واحالة القضايا إلى محكمين ، وتنظر إلى ما هو الأولى في سياستها والأحق بالقبول وذلك بصورة ادارية دون ارتباط بقانون ...

وبعد احتلال البصرة ، من سنة ١٩١٥ م أخذ يطبق على العشائر (بيان العشائر) ، وألزم الحكام الانجليز بمراعاته ، وبعد الاستيلاء على بغداد وزاد شموله وظهر بوضع أوسع وشكل واضح من سابقه ، وذلك أنه صدر نظام دعاوي العشائر بتاريخ ٢٧ ـ ٧ ـ ١٩١٨ م ثم نشر قانون في تعديل هذا

٤٢٧

النظام في ٢٨ ـ ٨ ـ ١٩٢٤ ، ولم يحصل فيه إلا تعديل طفيف في ١ ـ ٦ ـ ١٩٣٣ واستمر العمل بموجبه إلى اليوم ، فكان غير مرضي في وضعه ، ومنفورا في كثير من أحكامه ... وأكثر ما يؤخذ عليه النظر في احكام المواد الشخصية (الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية) ، والحال ان هذه لم يدخلها العرف ، وليس فيها ما يخالف الشرع ، وقد اعتادت القبائل البدوية جمعاء ان تسير في المواد الشخصية وفق احكام الشرع ، ولم تخالف ذلك في زمن من الأزمان ، واعطاء السلطة في هذه إلى مجالس التحكيم يقصد منه تبعيد البدو عما اعتادوه من مراعاة النظام الشرعي ، وايجاد عرف جديد يبعدهم عما ألفوه من الأحكام الشرعية مع ان القصد تقريبهم تدريجيا إلى النظام والقانون والتدخل في أمرها ينافي المعتاد من زمن بعيد جدا هذا فيما سوى النهوة وما ماثلها كالتعدي على العفاف ... وفي الوقائع الفردية بين رجال القبيلة الواحدة ... أو ما يتعلق بأمور تافهة لا تشترك فيها القبيلة ، ولا تهدد سلامتها ، ولا يحتاج فيها إلى نظام العشائر.

هذا وكنت قد قلت كلمتي حول هذا النظام بما ملخصه :

«لا تزال قضايا العشائر من كافة نواحيها معضلة كبرى ، صعبة الحل ، معقدة الموضوع ... تتعلق بأكثرية ساحقة من مجموع نفوس العراق ، فلا يصح ان نتغافل عنها ، أو نهمل الالتفات اليها دون ان نلاحظ شؤونها ، ونتبصر في سائر احوالها سواء في اجتماعياتها ، او ادارتها وثقافتها ، وتأمين تهذيبها ، وملاحظة معايشها وراحتها ، واقامة العدل بين مجموعاتها وافرادها في كافة ربوعها ... مما يجب الاهتمام به ؛ واستطلاع آراء الخبراء من كل صوب في موضوعه حتى تستقر المعرفة ، ويتبين وجه الاصلاح وطريق حسن الإدارة ... الا اننا للآن لم نظفر ببغية ، ولا شاهدنا تقدما في الحالة ، فالقوم لا يزالون على ما كانوا عليه ..

وقضية حسم النزاع بين افراد القبائل موضوع صغير من تلك الأمور ولكنه له مكانته ، وأثره في النفوس ، لأن النزاع ظاهرة تلك المجتمعات ، وعنوان روحيتها ومطالب خلاف أفرادها وجماعاتها ... التفتنا إلى حل

٤٢٨

الخلاف ولم نبال باجتثاث اصله ، والتدابير المانعة من وقوعه.! والموضوع نظام دعاوي العشائر وهل قام بالحاجة فسد ثلمة؟

أبدى كثيرون منا آراءهم حوله ، ولا تزال تتكرر غالب هذه الملاحظات في الأندية والمجتمعات ونسمع التذمرات من كل صوب ... الا ان جل ما نسمعه كلمات مختصرة ، وانتقادات موجزة ، أو تعرض لوقائع جزئية ... ولم نشاهد من دوّن ملاحظاته في رسالة لتتوالى المباحث ، وتمحص الأقوال وينضح الموضوع فتظهر خوافيه ... ومن ثم تبرز آراء المتتبعين ، ويبين الصحيح المقبول ....

هذا النظام يحتاج إلى جمع آراء مختلفة فيه وتنسيقها وبيان القول الأخير فيها ... فهو غريب في وضعه ، جديد في موضوعه ، وشكله ، لا يأتلف وحالة الأمة التي تتطلب النظام وحسن الإدارة ، والسيرة الفاضلة في هذه الحياة ... أحيا في أصل وضعه سنة جاهلية ، وإدارة خاصة ، وتعاملا محليا ... فهو عودة إلى ما قبل حمورابي في العراق وقبل ظهور الإسلامية في جزيرة العرب ...

كان العرب قبل إسلاميتهم قبائل مشتتة ، وأصحاب عرف خاص ، وعوائد موقعية بالنظر لكل قبيلة ، أو إمارة ... ولما جاء الإسلام قضى على هذه التعاملات ، ومحا من البين العوائد المرذولة وقرر أحكاما عامة حازت قبولا شاملا ... وهذه دعت قطعا إلى تحضر العرب المسلمين وسائر من انضم اليهم من الأمم ، وانتزع الروح الجاهلي منهم ، والسيطرة الشخصية ، وساقهم إلى نظام عام ، واعلن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وآيات كثيرة ، وفي الحديث «القتلى بواء» أي لا تفاضل بينهم ...

والآيات والأحاديث كثيرة مما ماثل هذه ، وفيها امحاء للعرف الخاص الذي هو نتيجة اثرة ، وتحكم ، وقوة في جهة ، وضعف ، واستكانة ، ورضوخ في اخرى ... وكانت الفكرة شديدة في التمسك بأحكام الكتاب ، والكل مقتنع ان العادة محكمة فيما لم يرد به نص شرعي حاسم ، ولا

٤٢٩

مجال لأحد في مخالفة النصوص القاطعة ... ومن حين قبلوا هذا المبدأ ، وساروا بمقتضاه تحضروا ، ونزعوا الفكرة الجاهلية ، واستعاضوا عنها بالروحية الطيبة الصالحة ...

إن القانون العام فيه ما فيه من المحافظة على الوحدة ، ونزوع إلى التشريع العالمي ... ووحدة الأمة في ان تفكر في قانون واحد لا قوانين متعددة ، وحكم الأمة بقانون واحد مما أرشدت اليه التجارب بعد حين بمرارتها القاسية ذلك ما دعا إلى تيقن قيمة الشريعة الغراء ، راعت ذلك قبل ان تتنبه الأمم الكثيرة بل فاقتها بمراعاة إدارة الأمم بقانون واحد مما لا تزال إلى اليوم الحوائل والعوائق تعاكسه .. وكل الأمم في هذه الأيام سائرة إلى وحدة القوانين العالمية ، ومن ظواهرها قوانين العقوبات ، وبعض التشريع في قوانين التجارة وفي حقوق الدول الخاصة ، وتفاهم الأمم في نواحي تطبيق القوانين ...

ان تعدد قوانين الأمة ، واضطرابها عادة تدل على سخف في تلك الأمة ، ونقص كبير فيها لا يعوضه الا الرجوع إلى تلك الوحدة ... ولم نجد اليوم في امة متحضرة قوانين مقطعة الأوصال.

زال التعصب نوعا ، وهو سائر إلى الزوال في ناحية التشريع خاصة ، والآراء مصروفة إلى ما قام عليه البرهان الصحيح ، والسهولة والبساطة في القوانين ، وصرنا نتوقع ان يكون اساس التشريع قواعد عامة تمشي الأمم بمقتضاها. لا ما نراه من التوغل والتدخل حتى في حركات الأشخاص وسيرهم بحالة يكادون يكونون فيها تبعا لإدارة غيرهم وارادتهم بل اوامرهم العسكرية وايعازاتهم اليومية .. مما نشعر به في كل آن ...

والحاصل خزنوا ادمغتنا في مختلف الأيام بقوانين تافهة نحن اليوم في غنى عنها ، أو في حاجة عظمى إلى القضاء على الكثير منها ... وقد سمعنا التهديد الالهي ، والتحذير الشرعي في آية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وكأننا في غفلة فلا نزال نحمي العرف الخاص بين القبائل ، ونناصره ...

٤٣٠

ومهما كان السبب الحقيقي في وضع هذا النظام ـ قبل أن يكون نظاما ـ وبواعث العمل به ، فانه سبق ان طبق عينا أو ما هو قريب منه وضعا في انحاء مصر قبل العراق ، وتألموا منه كما تألمنا ... وقد قبلنا أحكامه ، ولاحظناها ظهرا لبطن فلم نتبين فوائده في حين انه تجلت لنا أضراره الكثيرة ...

أما أنه لو حدث أمر عظيم بين قبيلتين او قبائل فحينئذ يكون الحسم بالتفاهم ، أو بايقاف المتجاوز عند حده. وذلك مما يتعلق بالسياسة العشائرية وهي فوق هذا النظام الذي تتعلق قضاياه بأمور شخصية جزائية أو مدنية ... ولكن السياسة العشائرية المذكورة تتطلب المصلحة العامة اكثر مما تهمها قضية شخص ونزاعه على شاة او بعير ... وقد رأينا في وقائع تاريخية عديدة لزوم ادارة العشائر بحكمة في اوضاعها المختلفة سواء في العلاقات الداخلية وتقوية روابطها والخارجية وحسن تمشيتها مما يصلح ان يكون مثالا يحتذى بحيث تتوقف هذه الإدارة على صحة العمل وتعقل القائمين به ... وكم من قبيلة كبرى او امارة تحكمت في مقدرات العراق ، وفي الحكومات المجاورة حتى دعا ذلك إلى عقد معاهدات للتكاتف ضد صولة هؤلاء ، والقضاء على نفوذهم والاستقلال في إدارة المملكة ، وقد أوضحنا هذه الناحية بأمثلة كثيرة في (تاريخ العراق) ...

وكلمتي الأخيرة ، ان بقاءه عودة بقبائلنا إلى العصور الجاهلية الأولى ... وقد دلتنا التجارب إلى ان التمسك به جرّ إلى اختلاق عوائد ، أو تقرير تقاليد اما انها لا اصل لها فاوجدت بتأثير ، أو أنها مما لا يقرها عدل ، ولا يقبلها قانون ، أو أنها نتيجة اثرة وتحكم كما تقدم وبعضها فيها هدم للأحكام الشرعية فيما يتعلق بالمواد الشخصية المعتادة ... واذا كان لا بد من تطبيقه فيجب ان تحدد قضاياه من جهة ، وان يكون قانون العقوبات اساسا له ، وان تحسم قضايا العشائر على يد الحكام القضائيين لا بيد الإداريين.

ان وزارة المالية الجليلة رفعت عنها غائلة كبرى بوضع الاستهلاك

٤٣١

فقلت علاقتها مع العشائر ، فلو ادعت قضايا العشائر المدنية العادية ، والأحوال الشخصية إلى المحاكم ، ووعي في حسم قضاياهم الجزائية مادة (٤١) من قانون العقوبات بايداعها إلى المحاكم قلت تدخلات الإدارة وزالت عن الإدارة غائلة اكبر ، وتكون الأمور قد اودعت إلى اهلها ، وانقذ العشائر من اذى المراجعات الطويلة أشهرا ، وسنين ... وزالت الاعتراضات الموجهة ... وحينئذ تنصرف الإدارة إلى الأمور الاصلاحية العامة وهي كثيرة وأولى بالتقدم على غيرها ...» ا ه. (١)

نشرت هذا المقال في ٢١ ربيع الثاني سنة ١٣٥٤ و ٢٢ تموز سنة ١٩٣٥ كمقدمة لكتاب (تعليقات على نظام دعاوي العشائر) ... والملحوظ أن الادارة في دعاوى العشائر كانت ولا تزال تراعي أكثريا وسائل الاثبات ، والتقارير الطبية فيما يجب مراعاته ، وفي هذا تقريب من القانون العام ، ولكن تقدير الأدلة في المحاكم أقوى ، وأكثر عناية نظرا للاختصاص الموجود ... ولا تخلو اوضاع من اعتبار تقرير مجالس التحكيم كأساس للأحكام التي تصدرها الإدارة وان انعدمت الأدلة ، أو قررت الإدانة بلا دليل ...

والأصل الذي يدور حوله الاصرار على قبول نظام العشائر ان المسؤولية الجزائية ، أو التعويض المالي لم يكن شخصيا ، وإنما ذلك عاما شاملا لجميع أفراد القبيلة ، أو لقسم كبير منها ... وهذا أمر ظاهري ، وإنما كان يقصد بمراعاته أيام الاحتلال ... ان يزيد الاتصال الدائم بالعشائر من جهة ، واعتبارهم أصحاب وضع ممتاز من أخرى ، او بالتعبير الأصح الفصل بينهم وبين أهل المدن ...! لتسهل ادارة كل صنف على حدة ، وينعزل الواحد عن الآخر لتبعيد بعضهم من بعض ... ومؤاخذة القبيلة ، أو قسم منها بجريرة الجاني ، واعتبارها مدانة بالدية او ما ماثل مما تاباه

__________________

(١) كلمة للمؤلف كمقدمة لكتاب ـ تعليقات على نظام دعاوي العشائر ـ للفاضل السيد مكي آل جميل طبع ببغداد سنة ١٣٥٤ ه‍ ـ ١٩٣٥ م.

٤٣٢

الأخلاق الفاضلة ، وينفره السلوك الصحيح ، وان تطبيق نظام أو قانون كهذا وصمة على الأمة ... في المسؤولية العامة لا على الجاني وحده ...

ومن اهم الاصلاح المنشود ان يكون تشريعنا تابعا للتقدم العلمي والأدبي ، لا أن يكون رجوعا إلى الوراء وعودة إلى الجاهلية الأولى ...!!

هذا ولعل في هذا البيان ما يبصر نفس القوم في ادراك ضرره ، ودرجة اجحافه بالحقوق فيطلبوا الغاءه ، ويعجلوا في امر اهماله بل نبذه نبذا تاما ...!!

٤٣٣

ـ ١٠ ـ

آخر القول في العوائد

اذا كانت الأمم المتحضرة تقوي آدابها بطرق مختلفة ، وتتخذ الوسائل الكثيرة لتمكينها سواء من ناحية التعليم ، او الجرائد ، والدواوين الشعرية ، والمجامع العلمية ؛ والمطبوعات المختلفة والنشريات المتوالية ... فالبدوي يلقن عوائده وآدابه ، ويحببها بوسائل شبيهة بتلك أو قريبة منها ، ومن أهمها ، الأفراح ، وأيام الأعياد ، والدواوين وهي المجالس والمجتمعات وسائر الحفلات والاجتماعات ابان الحروب ، وفي السباق نسمع حداءهم ، وطواحهم ، أو هجينهم ، أو قصيدهم ، وحكاياتهم ، والهجاء والمدح ...

تقدمت أمثلة بعض ذلك ، ومن أهم ما يراعيه البدوي لهذا التثبيت التكرار ، وأكثر أوقات البدوي فراغ وراحة ، فلا يخلو من تذكر الوقائع ، وتكرار مباحثها ، وتخطر الحوادث أو قصصها ... وأحرص ما يكون عليه ان يقص حوادث نفسه ، أو الوقائع الكبرى لاسلافه يفتخر بها ، ويعد المآثر ، وبيان ما أصابهم من مصيبة ، ثم الانتصار على العدو أو شرح طريق النجاة ... وفي الآداب ما يعين صفحة مهمة لتقوية العوائد ، فترسخ ، ولا يرى البدوي خلافها ، ولا يقبل المناقشة فيها ... وللتلقين أثره في القوم ...

وكتب الأدب ودواوين الشعراء طافحة بما عند القبائل من عوائد قديمة ، وفيها شرح نفسيات لا تختلف في الأكثر عن عوائد هذه الأيام ... وكلها تكاد تكون متماثلة في أوضاعها العامة ، والمجتمع لا يرضى باهانة ، ولا ينام على ضيم ، ويكرم ضيفه ، ويعزّ جاره ، ويحتفظ بعهده. ولكنه لا

٤٣٤

يخلو في وقت من مراعاة بعض الحالات الداعية للتفاؤل أو التشاؤم كما مرّ في الخيل ، وفي حالات أخرى كالتطير من (العرضة) وهي أن يعترضه آخر ويسأل عما هو ذاهب إليه أو ينهاه من الذهاب ، أو يسمع صوت طاير ، أو يمر به حيوان فيستاء أو يستبشر ... مما لا يستقصي تعداده ... وأهل المدن لا يخلون من أمثالها وللثقافة وتعميم التعليم أثرهما في ازالتها ...

وعلى كل حال ضاق المجال فلا يسع أكثر من هذا ...!!

٤٣٥

ـ ١١ ـ

إصلاح العشائر البدوية

مضت حكومات ، وعاشت أمم ، وزالت أخرى ، والبدو لا يزالون على حالاتهم ، محافظين على أوضاعهم ، لم تغيرهم العصور ، ولم تبدلهم الدهور إلا انه كل ما حدث خلل في الأرياف مال قسم منهم وحل مكانه ... وهم مادة نفوس الأرياف ، ولا يميلون إلى المدن إلا آحادا ...

ومن تجارب عديدة ، ومناهج كثيرة ظهر جليا أن إدارة العشائر البدوية ليست من الأمور السهلة ، ولا نزال نرى الاهتمام بها كبيرا ، والنتائج المرضية قليلة ... ولا يهمنا سرد كل ما جرى ، والموضوع أعضل أمره ، والتنديد بما ارتآه كثيرون ، أو ذاقوا مرارته ... ليس من شأننا كما أن المطالب الخاصة لكل قبيلة مما لا نتعرض له ، وبحثنا يدور حول القبائل البدوية بصورة عامة ... والموضوع لا يزال يقبل الأخذ والرد ، ومراعاة التجارب العديدة ...

والاصلاح المنشود لا يقف عند قطع المنازعات باصدار القرار الحاسم الذي مبناه التساهل في الحق مما يؤدي إلى قطع الخصومة في الظاهر ولا ما ماثل ذلك وإنما نريد أن نوجه الأنظار إلى بعض نقاط الاصلاح الأساسية ، والمجموع القبائلي كبير يقدر بنحو ثلثمائة الف نفس من البدو خاصة فلا يهمل هؤلاء.

ومن أهم ما نتناوله :

١ ـ المراعي. هنا ناحية مهمة ولدتها الأوضاع الجديدة ، وهي (منع

٤٣٦

الغزو) ، وفي هذا من الصعوبة ما لا يوصف ، يريد أن يعيش ، فمنع من حياة اعتادها ، فمن الضروري اتخاذ التسهيلات له في لوازم الحياة وما تقوم به من تربية مواشيه ، والاحتفاظ بثروته وتكثيرها من طريق التعب الحلال ... فلا ندعه يترك بداوته رأسا ، أو يهرب منها إلى حياة قد لا يعيش فيها ولا تلائم طبعه ... وإنما نريد أن يكون آلة صالحة للانتاج وهو في بداوته فإذا علم إنه قد استفاد من الانتاج ، وربح الشيء الكثير ، رغب فيما يولد فائدة أكبر ، أو أنه يؤسس ريفا في المواطن القاحلة ... وأعظم خطر يعرض له المحل بأن تجدب السنة ، ولا يجد ما يكفي لقوام ابله ومواشيه ... وفي هذه الحالة إذا لاحظنا التدبير له رفعنا عنه خطرا عظيما ... وللبدو مواطن خاصة يتجولون بها ، وآبار معينة ، وفي الغالب نرى «المورد العذب كثير الزحام» ، فإذا حصلت أمطار في جهة ، وأربعت الأرض في ناحية دون النواحي الأخرى ففي هذه الحالة يلاحظ الخطر من التقرب والاختلاط خصوصا اذا كان الموطن غير واف بالحاجة ... وهذا من لوازمه وقوع منازعات ، ومن ثم يجب تحديد المناطق ، وحسن ادارة الوضع ليستفيد الكل ، وان يراعى المقدار ودرجة الزحام عليه ، وتدبير هذه الأوضاع بعقل وحكمة ...

ولا تقف التدابير عند هذا ، وإنما يجب أن يوزع البدو إلى مواطن أخرى خصبة ، ويعترضنا طريق سير القبيلة ، وما تمر به من قبائل وتسهيل هذا التنقل أما بأخذ رأي الرؤساء ، وأن تدفن الضغائن ، ولا تولد وقائع جديدة ، أو مراعاة المصلحة بصورة عامة لئلا تحدث عراقيل أكبر ووقائع مؤلمة ... ذلك كله نفعله إلى أن تتوسع المشاريع الزراعية ، أو تحفر الآبار الارتوازية وما ماثل ...

وهذا لا يبنى على قاعدة وإنما تراعى فيه الحالة بكل دقة واهتمام وحكمة ... ولا يغب عن أذهاننا أن الحكومات في كافة عهودها كانت ولا تزال إلى ما يقرب منا تماشي العشائر في سيرتها ، وتقدر الحساب لها ، وتسترضيها ، وتراعي جانبها إلى آخر ما هنالك ... ولكن هذه لم تولد نتائج صالحة ومفيدة ، وغاية ما فيها تسكين الحالة مؤقتا. فلو عرفت العشائر أن

٤٣٧

الحق سيف قاطع ؛ وانه لا يصح أن يتهاون به وقفت عند حد معين ولا تطمع في نوايا أخرى ... وإدراك الضرورات التي لا محيص عن ركوبها من أعظم الوجائب في إدارة هذه المجموعات ..

٢ ـ الإسكان. وهو ميل البدو إلى الأرياف ، وقد يعدّ غير ضروري ولكنه لازم لتقدمهم نحو الحضارة ، وترفيه عيشتهم من الكسب الحلال وكد اليمين ... وتحول دون تحقيق هذا الغرض عقبات منها ما يتعلق بنفسية البدو وذلك أن القبائل البدوية لا تنتقل بسهولة بل ترجح ان تعيش بشظف على ان تسلب حريتها ، وان تحرم هوائها الطلق كأن تحدد أوضاعها في مناطق خاصة ، لا تخلو من عفونة ، ومنها أن يكون الفلاح تابعا في حياته الريفية لأوامر عديدة وأعمال ميكانيكية ولا يستطيع البدوي القيام بها كالفلاح الريفي فإنها من الصعوبة بمكانة ، وليس له من الصبر ما يقدر به على الدوام ، وهكذا يقال عن الحياة الريفية المطردة ، والنظام فالبدوي يتقلب مع الزمن ، ويراقب الأوضاع بكل دقة ، وقد يثيرها ويوجد حالات غير مألوفة ، ومن ثم لا يتقيد بهذه القيود التي يلتزمها الفلاح ، وقد بينت طريقة انتقال قبائل زوبع من البداوة إلى الريفية ، وتدرجها إليها ؛ فهو مثال محسوس ..!

ومن الضروري في مثل هذه الحالة تحديد أراضي كل قبيلة من قبائل البدو ، وتعيين مواطن رعيها ، وان لا تتجاوزه ، ثم تتقدم رويدا رويدا لأدنى خلل يقع في أهل الريف ، أو ينالوا نصيبا من المشاريع ليكونوا بألفة تامة ، واتصال مع بعضهم ، وعدم نفرة مما هم فيه ... وفي مثل هذه الحالة قد يكون السابق ممن قبل الحياة الريفية كأساس لمن يحاول الدخول فيها ..

ويهمنا في تقريب البدو إلى الأرياف أن نخطو بأهل الأرياف إلى الحضارة ، فإذا تم الكثير من هذا استفدنا من الإنتاج لتكثير النفوس في المدن ... وكم من صعوبة هناك ، والباعث الأصلي الطبيعي فيه الظروف والأوضاع الخاصة ، وتقوية المعارف في الأرياف ...

هذا ويجب أن لا نكتفي بملاحظة البادية وأهليها ، والتألم

٤٣٨

لأوضاعهم ، وما هم فيه وإنما الملحوظ أن نخطو خطوة صالحة فيهم ، ولا نتأخر عند التمكن من تقريبهم ولو شبرا واحدا ، ثم نفكر في الآخر ... وتقديمهم للزراعة ربح كبير في جعلهم من أهل الأرياف باتخاذ مقاييس زراعية ، أو مراعي خصبة ليكونوا بمأمن من العوادي ، وينالوا ثمن أتعابهم ...

وعلى كل حال رفاه حال الأرياف وتحسين أحوالهم وتقدمهم إلى المدن يؤدي إلى الرغبة في ان نخطو من البداوة إلى الريفية ، وأن لا نهمل تحسين حالة البدو ... هذا وقد بينا رأينا فيما يجب في كل موضوع سلف من وسائل الإصلاح فلا نرى حاجة للتكرار وإعادة القول هنا ...

٣ ـ العدل. وهذا سهل على اللسان ، وقد نلوكه وننطق به دائما ولكننا نجد الصعوبة في التطبيق ، ويحتاج إلى رفع الحوائل مما سبق الكلام عليه وعلى غيره ، وطريقته واضحة إلا أننا أحجمنا في مواطن عديدة عن القيام بأمره وليس الموضوع هنا القضايا الجزئية. وإنما أريد طرق الحل الإدارية في السياسة القبائلية العامة كأن يحمل الحّل إلا أنه يراد به التفرقة ، وتقوية الخصومة ... ونتمنى أن لا تعود هكذا ذكريات أساسها الخور في العزيمة ، والخوف من توقع الأخطار ، وملاحظة قوة القبيلة ، وتحكم الرؤساء من جهة وضعف المقابل ، أو لزوم مناصرة الرئيس ... ولا محل لتعداد كل ما هنالك ، ويجب أن يكون الحق صارما لا يقبل تساهلا ، ولا أي أمر آخر يمنع من وصول الحق إلى أهله ...

هذا. وأما قضية التعليم فقد أفردنا لها المقال التالي.

٤٣٩

ـ ١٢ ـ

تعليم البدو

قضية من أمهات القضايا الاصلاحية ، ومطلب من أعز المطالب ... عشائرنا أمية ، وكدنا نقطع أن لا أمل في إصلاحها ... وللآن لم نتخذ تدبيرا فعليا ، بل لا نزال في دور المذاكرة ، أو المباحثة ، وفي حيز الافتكار وأمل تعيين وجهة ...

الآراء متضاربة سواء في الأندية والمجالس ، أو المباحثات والمحاورات ، نسمع أن العشائر ما زالوا على وضعهم ، فلا أمل في تهذيبهم ، والمحافظة على الحالة من أسباب بقائهم على الجهل والأمية ، وكأن القوم في استقرار على وضع لا يستطيعون الخروج منه ، أو أنهم قوم لا يقبلون التعليم وجماعة لا يفيد معها التهذيب ، و (من التعذيب تعليم الذيب) ، فلا أمل من مزاولة تهذيبهم ... وآخرون يرون لزوم الانتقال بهم من حالة البداوة إلى الحياة الريفية ، وهؤلاء يريدون مطالب يرجون تحقيقها ... ثم مراعاة تثقيفهم ... ولعل هذا من نوع التعليق بالمحال ، لأن الانتقال تابع لأحوال ، وأوضاع طبيعية أو مشاريع قطعية ... ولم يكونوا في حالة يمكن إفراغها بالشكل الذي نبتغيه متى شئنا ... وإبقاء القوم في جهل يؤدي إلى قبول نتائجه الوخيمة والكثيرة طول هذه المدة ... وأرى أن هذا الرأي مدخول ، لا يوزن بميزان صحيح ... ويكوّن عجزا عن إيجاد طريقة لتعليم العشائر وهكذا يرى آخرون لزوم تعليق هذا الأمر إلى ان يوجد مدرسون حائزون لأوصاف تلائم البادية ، ورجال دينون مهذبون وان تتوازن القدرة

٤٤٠