موسوعة عشائر العراق - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة عشائر العراق - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

ولا مجال لحصر المقبول من فضائلهم ، والأخلاق المعتبرة فيهم ... وتتجلى اكثرها في حالاتهم الشاذة ، وخصوماتهم ، ومنازعاتهم .. ولو استثنينا الغزو والوسكة وما ماثل لقلنا هناك الانسانية الكاملة ... ولكن للضرورات ، وللمحيط حكمهما ، وطبعهما ... والتربية الصحيحة تعدل في الأوضاع المدخولة ، وتؤدي إلى الاصلاح الكبير وللتعديل القليل حكمه وأثره في الحياة الفردية والاجتماعية ...

هذا ولا تفيد التعديلات المادية ، وإنما الأثر النافع للمبادئ القومية ، والتربية الفاضلة ، والعوامل النفسية ، فهي شديدة الأثر ، وكبيرة الفائدة ... والأخلاق تحتاج إلى حسن ادارة وخبرة تامة ، وعلاقة قوية بالعقيدة ..!!

٤٠١

ـ ٧ ـ

العقائد والعبادات عند البدو

العقيدة عند البدو قليلة الكلفة ، بسيطة ، وأساسها قبول ما كان قريبا من أذهانهم ، وأحق بالأخذ ... ومن حين دخلهم الإسلام زالت منهم عبادة الأشخاص والأصنام ، وحل التوحيد ، فلا يميلون إلى الرسوم ، والأوضاع الزائدة ...

ومما يحكى عن الشيخ صفوك انه كان في مجلس ببغداد ، فرأى ان قد جاء شيخ ، ونال احتراما من أهل المجلس فقالوا له هذا الشيخ فلان! قال هو شيخ أي قبيلة فأجيب بأنه شيخ الطريقة النقشبندية ، وهي طريقة دينية ... فكان جوابه ان الدين ليس له نقوش ...!!

ومن المعلوم ان الإسلام أعلن عقائده بأوجز عبارة ، وهي ايمان وعمل صالح ، او استقامة ... مع قبول الارشاد لتعيين هذا المطلب ، والبدوي لا يريد أن يعرف غير ذلك ولا يشغل ذهنه بأكثر ...

وفي هذه الحالة يجب ان لا نخرج به في تهذيبه الديني عن هذا ، وبعض الايضاح المتعلق به والا كان نصيبنا الخذلان في نهجنا ... ومن طبع البدوي ان لا يميل إلى زيارة المراقد ، ولا يهتمون بها ، وهم أقرب إلى التوحيد الخالص ، وتراهم في نفرة من مراقد الصلحاء .. وغالبهم على مذهب السلف بسبب المجاورة لنجد ، أو هم قريبون منهم ...

رأيت فرحان بن مشهور حين وروده العراق في ديوان المرحوم السيد

٤٠٢

محمود الكيلاني النقيب السابق ، وكنت حاضر المباحثة معه في بعض اوضاعنا الدينية ، وكان ابن مشهور ينقدها ، ويورد الآيات وبعض الأحاديث تقوية لحجته ، وان سماحة النقيب يوضح له ، ويوجه أغراض اهل بغداد ، ويعتذر له من أخرى ويقول : هؤلاء صلحاء لا أكثر ، ولا نعتقد فيهم غير ذلك! اما ابن مشهور فانه استمر في بيان تلك الأوضاع حتى قال : ما هذه اذن؟ (واشار إلى قبة الشيخ عبد القادر الكيلاني) ألم تكن طاغوتا ألم يقدم لها الاحترام!!

وهكذا نسمع الشمري يقول وكان قد رأى ما يخالف عقيدته :

يا عون من طالعك برزان

ونام بشناكك هني

ويا عون من فاركك البرغوث

وفراك عبادة علي

وبرزان قصر ابن رشيد في نجد ، وأراد بعبادة علي الشيعة في حين انهم لا يعبدون الامام عليا «رض» وانما يعتقدون فيه الامامة ، وهؤلاء البدو لا يفرقون ، ويرون مجرد الانقياد إلى الشخص عبادة ...

ومن حاول اصلاح هؤلاء وجب عليه ان يلقنهم العقيدة من ناحية تفكيرهم دون أن يدخل فيها ما لا تقبله افهامهم ... بأن تلخص له أساسات العقيدة بلا توغل في تفرعات زائدة ، وان لا يعرف بالمذاهب الا انهم علماء معروفون لا اكثر ... وأرى أن يكثر له من تدريس القرآن الكريم ، وأن لا يعدل عنه ، وان يسترشد بأحكامه ... وفي هذا اصلاح لأخلاقه وعقيدته معا ، وفيه أبعاد عن كل نعرة طائفية ، واستهواءات حزبية ... فيكون مصروفا إلى ادلته الحقة ، وأن نقربها لفهمه .. وهم في الغالب مالكية ، أو حنابلة ويجب أن يلقنوا العبادات على مذاهبهم بما لا تصح بدونها ، وان يلاحظ تقليل التكليفات قدر الامكان ، والدين يسر ...

وعلى كل حال رغبة الاصلاح تستدعي التفكير الطويل ، واستطلاع الآراء حتى تظهر الفكرة القوية الصالحة ... وأرى من الضروري تدريسهم مجمل التاريخ الإسلامي ، وذكر الغزوات والملاحم الإسلامية بحيث يتجلى

٤٠٣

لهم النشاط ، وصفاء الأخلاق ، والتفادي في سبيل هذا المبدأ الجليل ، وان لا تنسى العلاقة ، وان يحتل هذا التاريخ محل القصص الخرافية ، والحكايات التي لا يؤمل منها نفع تهذيبي ...

٤٠٤

ـ ٨ ـ

الخصومات ـ الدعاوى

يقولون :

المرجله ما بين حيل وحيله

والحك يبري للي سيوفه كواطع

أو :

ما ينفعك زاد كليته ليافات

«ولا ينفع المفلوج عوج الطلايب»

١ ـ العرف القبائلي :

ان القدرة ، والشجاعة من اكبر الوسائل لحفظ الحقوق ، وأعظم الحواجز دون انتهاك الحرمات ، ويردد البدو «الحك بالسيف والعاجز يريد شهود» وفي هذا لا يقصد غالبا الا حماية الحق ؛ والبدو من خير مزاياهم ان لا يكذبوا ، ولا يتخذوا الوسائل لإبطال الحقوق وقد قالوا «ولا ينفع المفلوج عوج الطلايب» ، ولا يخلو المرء من لدود وخصام ، وهم اصحاب حجة ، ومنطق عذب ، وفكرة قويمة في الغالب والنزاع في الأكثر بين المتكافئين ، والحكم بينهم يجب ان يكون ذا قدرة على حل القضايا والا فلا يتنافرون اليه ، وإنما يميلون إلى صاحب مواهب كافية لإدراك ماهية هذه الخصومات والوقوف على جهات التلاعب في ادلاء الحجج ... وهؤلاء لم يكونوا ملائكة ، وانما هناك بواعث مهمة تثير الخلاف وغالبها يقع على المنهوبات (الغنائم) ، أو على (حقوق النساء) ، أو على (البيوعات) و (الامانات) وهكذا مما لا حد له لتعيين قضاياهم وهذه لا تخرج عن مادة

٤٠٥

الفقه. وأصل مواضيعه ... وتسمى في مصطلح اليوم ب (العرف القبائلي) من دون سائر العوائد ...

ولا نريد في عجالة كهذه ان نتوسع في حقوق القبائل البدوية (عرفها) ، وفصل خصوماتها ، وطريق حلها ... وكفانا أن ندوّن بعض القضايا الواقعية ، ونشرح بعض الأمثلة ، ونراعي صور الحسم من محادثات مع بعض العوارف ، ومناقشات في خصوماتهم ، ومباحثة معهم ومعارضة لأفكارهم بقصد أن نتبين حقيقتها ، ونعلم ماهيتها ... واقتصرنا على ما يكفي للمعرفة والألمام وإلّا طال الأمر ، وصعب كثيرا ، وتشعبت أطرافه .. وعلى كل حال النظر يقتصر على ما يدعو للخصام ومراجعة العارفة ... هذا وأحكام عرفهم متقاربة ، وليس فيها تفاوت كبير والتغلب والاثرة أبقيا أثرا محسوسا فيها من مخالفات وأوضاع تعاملية منها ما لا يأتلف والشريعة الغراء ..

٢ ـ العارفة والعوارف :

لا يقصد البدوي من الالتجاء إلى العارفة سوى حلّ قضيته حلا مرضيا يقطع النزاع ، والا فالتحكم ، والاجبار على صورة حل ترضي جانبا وتغضب الآخر وتضطره أن يقبل بقوة وقسر مما لا يميت الحقوق ، وليس الغرض مجرد الحسم ... ويصدق على مثل هذا قول (حكمت ولا أبالي) ... ولعل التجارب العديدة بصرت بمراعاة (فصل الخصومات) من طريق (العوارف) ... والملحوظ أن الناس كانوا يلجأون إلى الأقوى لحسم النزاع دون ان تلاحظ الصحة استنادا إلى هذه القوة أو أن يميل القوم إلى الطاعن في السن ويطلب حله ... ثم قطع البدو مراحل حتى وصلوا إلى طريق القضاء بواسطة من أهّب نفسه ، وأعدها لفصل الخصومات وكانت له بصيرة. وقديما يقال له (الحكم) ... ويقول أمراء شمر نحن الذين نصبنا عوارفنا واخترناهم من جهة اننا نظرا لمشغولياتنا لا نقدر أن نرى الخصومات بأنفسنا ، فأودعناها إلى من اعتمدناه ، وبمرور الأيام صارت موروثة فيهم ، ولا يعتبر عارفة الا من كان ابوه عارفة ...

٤٠٦

وهذه الفكرة اقرب للصواب في تعليل موضوع العوارف ، ولكنها قديمة جدا ، وحكام العرب في الجاهلية لم ينالوا منصب القضاء ، ولم يشتهروا الا لما فيهم من المواهب ، وان كان هناك آخرون لم يلجأ اليهم أحد ، والعارفة القدير يميل الناس اليه ولا يعدلون عنه كما انهم لا يجبرون على احد بعينه ...

٣ ـ محادثة مع عارفة :

قد جرت بيني وبين حسن بن عامود من شمر المحادثة التالية :

ـ هل تقرأ وتكتب؟

ـ لا!

ـ كيف تقضي بين الناس؟

كان آبائي وأجدادي عوارف ... وكنت أشاهد قضاياهم ، وأسمع ما حكموا به ، وتناقلوه ... وأنا أنظر في القضية ، وعندي قلب واع ... فماذا تريد وراء هذا؟

وكأنه يقول عرفت تاريخ الخصومات والعرف ممن سبقني ، وأدقق المسألة الموضوعة البحث ، ولي بصيرة وإدراك ... وهذه من وسائل معرفة المحق من المبطل ، وهي من دواعي الحكم ... هذا مع العلم بأن هذا العارفة ليس هو من أكبر العوارف وأعظمهم. (لم يكن منهى).

ولا أظن الحقوقي يحتاج إلى اكثر من معرفة تاريخ الحقوق ، والنظر في الموضوع ، واستعمال عقله فيه ... وبحق قال الزمخشري (العربان غربان) ... ولم يراع هؤلاء أصول مرافعات ، ولا قانونا يرجع اليه سوى المعهود من تعاملاتهم إلا أن القضايا السابقة التي كان قد حلها عارفة آخر قبلا تعتبر أساسا وليس للمتأخر أن يتعداها ، أو يتجاوزها في حكمه .. وكأن هذه المعلومية تكسبها قوة ويمهل المتضرر أن يأتي بدليل على هذا الحكم السابق. وهي بمثابة رجوع إلى فتاوى ، أو إلى مقررات محكمة التمييز ...

٤٠٧

والآن في حكومة ابن سعود يسمون العوارف ب (الطواغيت). لأن حكمهم لم يبن على أحكام الشرع وإنما هو على تعامل قديم ، ووقائع سابقة ولا يرجع فيها إلى الأحكام الشرعية وهذه قد تكون موافقة ، أو مخالفة ، ولكن الشرع وموافقته غير مقصودين ...

٤ ـ المنهى : (محكمة تمييز البدو)

وهناك من لا يرضى بحكم العارفة ولا يقبل بطريقة حسمه ، وحينئذ له أن يعارض حكمه ويطلب ان يرجع إلى (المنهى) وهو آخر محكمة بل آخر حاكم يلجأ اليه في نظر البدوي فيأذن له. وهؤلاء المناهي قليلون ، لا يختلفون عن العوارف إلا في القدرة المسلمة لهم لا بانتخاب رئيس ولكن بحكم الشيوع والشهرة ... وقد يعارض الحكم بما قضى به من سبقه ، ويشترط أن يقدم شهادة من عارفة آخر كان قد حكم بما خالفه ...

وعلى كل حال سواء العارفة ، أو المنهن لا يجوز مخالفة أحكامهم ، أو مراجعة غيرهم وإلا أدى أن يطالب العارفة بالحشم ، ويعد تحقيرا له إذا راجع أحد غيره كما أن غيره إذا عرف لا يقضي ولكن يجري ذلك تحت تحوطات خاصة ، فإذا أودعت قضية إلى عارفة فليس لآخر التعرض لها ، أو التدخل فيها فإن فعل أخذ منه الحشم. وعند قبيلة حرب إذا عرض قضية إلى عارفة وكان قد عرضها لآخر قبله أخذ منه الحشم.

ومن هذا يعرف ان حكم العارفة قطعي ، وحسمه لا يقبل النظر مرة اخرى إلا بالتحوطات المارة أو ما ماثلها ولذا نجد العربي القديم يفتخر بقوله :

أنا الذي لا يعاب لي قول ، ولا يرد لي قضاء.

أو كما قيل :

ومنهم حكم يقضي

فلا ينقض ما يقضي

والمشهور ان القدماء من العرب وضعوا قاعدة (البينة على من ادعى

٤٠٨

واليمين على من انكر) ومثله قولهم في الخنثى (اتبعه مباله) وبعضهم حكم فقبل الإسلام قضاءه ... مما لا حد لاستقصائه ..

وللتحري عن حكم معارض كان قد سبق أن حكم به يمهل في أيام القيظ ثلاث ليال وفي الشتاء سبع ليال للتحري عن نص الحكم. ويقال له : «ردك الله للسوالف انها قبل ماضية ...»

٥ ـ امرأتان تتنازعان ابنا :

يحكى أن رجلا تزوج امرأتين فولدتا في يوم واحد ، وكانت القابلة أم أحدهما ، أولدتها فاعطت بنتها ابن الأخرى وهذه اخذت بنتها دون ان تعلم ... مضت بضعة أيام ، والأخرى تميل إلى الابن ولا رغبة لها بالبنت ، وأخيرا قالت ان الابن هو ولدي فحصل نزاع ادى أن تثور الفتنة بين القبيلة ...

تحاكموا إلى العارفة فكانت نتيجة تدقيقاته ان وزن حليب ام البنت ، وحليب ام الولد كما أنه أخذ الحليب من حيوانات أخرى فوزن حليب الذكر وحليب الأنثى فوجد حليب الابن اثقل فحكم بان المدعية لها الحق في المطالبة بابنها

٦ ـ لو بطني فرّ فرّيت :

كانت الجموع من شمر متقابلة ، والحرب مشتعلة بين الفريقين فكان أحد رجال شمر وهو مذود الزعيلي قد هوى على عدوه وهو من الفرمن العامود بضربة سيف فسقط قتيلا ، وذلك بمشاهدة هذه الجموع. أما القاتل فقد هرب إلى عنزة وبقي مدة حتى مرض وأراد أن يموت بين أقاربه وقومه وأن لا تتوجه المطالبة عليهم مع أنه لم يكن القاتل في الحقيقة ... فعاد ودخل على رئيس شمر وطلب منه الحق فيما وجه اليه من قتل الرجل من ال (فر) ، فقام المجلس في وجهه وقالوا له قتلته بمرأى من الجموع والآن تطلب الحق فأجابهم :

٤٠٩

ـ «لو ببطني فر فريت»! يريد أنه لم يقتل أحدا من فر ولو كان قتله لفر منهم وهرب فصارت مثلا!! فتحاكموا إلى العارفة بأمر من الرئيس فكان العارفة قد سمع بينه مذود المذكور وهو المهتم بالقتل في انه كان قد هوى على الفري بالسيف الا أن قطعة الرمح من آخر هي التي أزالت أم رأسه وقتلته. ومن ثم توجهت الخصومة على من شهد عليه الشهود.

٧ ـ البدوي لا يورد عليه شاهد :

من أغرب ما اعتاده البدو انهم لا يبرهنون على دعاويهم الجزائية ببينة أو شاهد ... وإنما يطلبون اليمين رأسا وهذا عام فيهم وذلك فيما عدا توجيه المطالبة فانها تسمع فيها الشهود ... وقد رأيت بعضهم لم يحلف لأنه كان قاتلا واعترف وآخر طلب أن لا تسمع بينة عليه فلم يلتفت الحاكم وانتهره قائلا هل انتم أولياء ولا يقبل شاهد عليكم؟ فكان جوابه اننا كلنا خصوم ، جمعان تقاتلنا فلا يصح أن يشهد بعض أعداءنا علينا.

فلم يجد منه إذنا صاغية! فطلب ان يحيل القضية إلى العارفة ومن ثم يرى رأيه فيما يطلب ...! فوافق ، وكان العرافة لم يطلب سوى اليمين.

ومن الأدلة على ان البدوي لا يورد عليه شاهد قصة (لو ببطني فر فريت) المارة. ورأيت مبرد بن سوكي رئيس الربيعيين من شمر قد عين السبب في ان الدعاوي بأوضاعها تجعل كل واحد يتحرى عن الشهود ، وتسوق إلى الكذب ، وأساسا لا يلزم القاتل وحده فلا يحلف كذبا قطعا فلا محل للركون إلى الشهادة ...!

٨ ـ الفصل :

طريقة حسم النزاع كما في الأمثلة المارة يقال لها الفصل. وهذه الطريقة يجبر عليها البدوي من جانب الرئيس ، أو يلجأ إليها أحيانا دون الاستعانة بقوته خشية الفتنة ، والخوف من وقوع حوادث قد تجر إلى ما لا تحمد عقباه بين القبائل أو بين القبيلة الواحدة ... على ما قيل :

٤١٠

وجرم جره سفهاء قوم

فحل بغير جارمه العقاب

وهذا لا يسير على قاعدة معينة ؛ وإنما يختلف بالنظر لعرف كل قبيلة والقبائل المجاورة لها ... والعارفة لا يمضي على قانون أو قاعدة مطردة ، وإنما يجب أن يكون ملما بما هنالك من سنن ومن خلاف بين عرف كل ...

إننا نرى وحده في ماهية الوقائع. وتقاربا في صور الحل ، ولا يكون مشتركا من كل وجه ، وإنما فيه خلاف ، والملحوظ أن هذا الخلاف إما أن تكون ولدته القوة ، والضعف وتحكم المجاورين ، أو تباعد العرف بسبب أن كل قبيلة عاشت في موطن غير موطن الأخرى ... وهناك جهات مشتركة هي التي نتناول موضوعها ولكننا سوف لا نهمل خصوصيات بعض القبائل ، وما يجري بينها من قواعد الحل ... إلا أننا هنا نشير إلى معتاد القبائل بصورة عامة كما ذكرنا ذلك سابقا ... وغالب ما يعد جريرة في قبيلة فهو جريرة في أخرى وإن تفاوتت العقوبة أو اختلف مقتدار الضمان ...

٩ ـ الحوادث التي تستدعي الفصل :

الجرائر أو الجرائم معتبرة نوعا عند الكل ، ولا يفرق بين قبيلة وأخرى إلا في بعض الأحوال وهذه أشهر الحوادث التي تستدعي الفصل :

١) القتل.

٢) السرقة والنطل.

٣) الجروح والشجاج.

٤) الحشم.

٥) العقود.

٦) النهوة.

٧) الوسكة إلى آخر ما هنالك.

وهذه في غير الغزو ، وفي الغزو يستحكم العداء وذلك أن الأرض

٤١١

وإن كانت مباحة إلا أن كل قبيلة لها مواطن رعي وكلأ ، وحمى ... وكل هذه لا يجتازها كل واحد ولا يمر منه بل دون ذلك خرط القتاد ... إلا أن يتدخل المصلحون ، ويجري على يد الرؤساء والعوارف في صور الحل بعد الاتفاق على الاساس ... وفي المثل (هفا من وفى). وأما قسمة الغنائم فقد اشير اليها فيما سبق وهذه تستدعي الرجوع إلى العارفة ويحدث من جرائها اختلافات كبيرة. لأن الغانمين بعد أن يستولوا على المال تتعلق به حقوق هي في الحقيقة أشبه بالمحرزات من صيد وغيره وتتنازعها أيدي الغانمين في بعض الأحوال. وأما في الشريعة الغراء فالغزو المعروف غير مقبول بوجه بل هو نهب صريح وغارة ... على اموال الغير ... والحكم به مما ينافي الشرع الذي يحث على حفظ الحقوق وإيصالها إلى اهلها ومراعاة العدل في حسم القضايا المتعلقة بها وامحاء الاجحاف والغصب وتعويض ما يصيبه التلف من الأموال ... ذلك ما دعا ان يندد الشارع بالعرف من هذا القبيل في آية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

والفصل يكون في المطالب الآتية :

١) الدية ، أو الودي.

٢) التعويضات والحقوق.

وقد يقال الفصل للحكم بالدية عن القتل تغليبا من جهة انه من أوضحها ... والقوي لا يعتدي أحد عليه ، وإذا حصل اعتداء فمن الممكن أخذ الحيف ، واستيفاء الحق ...

١٠ ـ القتل ـ الدية :

القاتل لا يقبل منه غير القتل وقاعدة (القتل انفى للقتل) جاهلية ، والقاتل مهدد دائما وكثيرا ما رأينا في شمر من لم يقبل الفصل وأبى أن يدخل في الصلح وإنما قال : أقتل ثم ادخل الفصل وامتنع بصورة باتة من قبول الدية وأن يأخذ بدلا عن قتيله ... ولكن القربى ، والجوار وتوسط

٤١٢

المصلحين قد يؤدي إلى مراجعة العارفة وحل القضية صلحا. والدية معروفة قديما ، وأول من سن الدية مائة من الابل أبو سيارة العدواني ، ويقال ان عبد المطلب اول من سنها فأخذ بها قريش والعرب وأقرها الإسلام ... وهو أول من قطع في السرقة في الجاهلية ... (١)

والحالات الاجتماعية ، والأوضاع الخاصة تستدعي لزوم الحل صلحا ، وحسم النزاع خشية أن يتطاير شرره ... وحق التأثر للقبيلة كلها ويعد المقتول ابنها ولا تقتصر المطالبة على الأب أو على أقرب المقتول الأدنين ... وبعد تسليم الدية وقبول الصلح تدفن الضغائن ، ويزول الحقد والحنق واذا اثيرت الغضاضة فهذا معيب جدا ... ولكن وقع أن أصرت الحكومة والرؤساء على بعض عشائر شمر في قبول الصلح ومراعاة الفصل فلم يوافقوا مدعين ان الحق في جانب واحد وهو الذي يحق له المطالبة واذا كان لا يرغب في الصلح فلا يجبر عليه ، ولا يتدخل في فصل ...! وهذا غير قبول الصلح ثم انتهاك حرمته ...

١١ ـ مقدار الدية وتوزيعها :

وهذا مختلف جدا بين القبائل ، ويتفاوت مقداره بين افراد القبيلة والقبائل المجاورة ... وإذا كانت القتلى من كل جهة كثيرين تراعى قاعدة (هفا من وفى) أي يتساقط القتلى ويودى ما يبقى ... وهو المعروف عندنا بقولهم (دمدوم ، وجرف مهدوم) ويريدون به دفن المطالبات ...

ومقدار الدية يختلف بين ان يكون المتقاتلان من قبيلة واحدة ، او من فخذ واحد ، او من قبائل اجنبية ... وفي حالة كون القاتل من الأقارب لحد خمسة أظهر فانه يسقط من ديته مقدار ما يصيبه لو كان القاتل أجنبيا ، والباقي يوديه ... والدية بين هؤلاء الذين هم من قبيلة واحدة ٥٠ بعيرا ، وفرس واحدة ، والاسلم بينهم خاصة ٢٥ بعيرا ، وكذا عبدة واما الصبحي

__________________

(١) الاعلاق النفيسة ص ١٩١.

٤١٣

والاخرصة فيما بينهم ٥٠ بعيرا وهو الغالب في سائر البدو ، والجار مثل القريب ، وبينهم وبين الأجانب وهم الريفيون ٧ من الابل.

وهنا يختلف التوزيع بين القبائل الريفية والبدوية وذلك ان الثلثين وفرس الكبل تعطى لأهل المقتول (ورثته) والباقي يوزع بين الأقارب إلى الظهر الخامس ، ولا يأخذ الظهر الخامس اكثر من بعير واحد ثم يتضاعف للتالين في الدرجة. وهكذا يقال في الأخذ منهم وان فرس الكبل تؤخذ من القاتل خاصة ... وهذا عند زوبع وعبدة وسائر شمر ...

وعلى كل حال المسؤولية القبائلية محدودة بدرجة القربى فلا تتجاوز الخمسة الا ان يكون المقتول لم يعرف قاتله فتسأل القبيلة حينئذ. وفي هذه الحالة يكون الوضع كالقسامة في الشريعة الغراء ...

والدية في القبائل الأخرى لا تتفاوت كثيرا ... ففي صليب بينهم الدية ٧٥ دينارا ، وللمرأة نصف دية ، ومثلها تعطيل عضو. وتسلم نصفها نقودا والباقي سوام ... وبين الأقارب ١٥٠ دينار والمرأة نصفها وكذا تعطيل العضو.

وعند القبائل في الغالب تعطى للوارثين ، وعند بعضهم لا تعطى للزوجة ولا للبنات وعند حرب تعطى لأهل المقتول ، وعندهم ان الابناء يشتركون فيها الا ان الابن الاكبر يعطى حصة يقال لها (الكبرة) وهي نصيب زائد يستحقه ...

والملحوظ ان البدو ليس لهم حق عام الا ان هناك ما هو شبيه به وهو التكاتف والتضامن ، والالصق هم المطالبون (بكسر اللام) والمطالبون (بفتح اللام) وفي هذه الحالة لو لم يطالب القريب ، أو كان غير قادر على المطالبة فان أهل القبيلة يطالبون فالمقتول عندهم ابن القبيلة ... ومما يجب ملاحظته ان التفاوت في الدية غير صحيح ، وكان حكم الرسول (صلى الله عليه وسلم) (القتلى بواء) ، وفي القرآن الكريم (النفس بالنفس) والدية عوض فيجب ان يكون متساويا في الكل ليتجلى العدل ...

٤١٤

١٢ ـ السرقة والنطل :

في هذه تظهر أحكام الوسكة ، ويلاحظ فيها اعادة المسروق والتعويض المرتب على هذه السرقة اذا كان المسروق منه من الأقارب ، أو من النزيل ... ويضاف المسروق في مراعاة أربعة أضعافه اذا كان من الحيوانات على عدد قوائمه ، أو يراعى فيها ذلك بالقياس عليها ..

ومن حكم العوارف في هذا الباب ما فيه غرابة ودقة وذلك أن رجلا أكل زاد مضيفه ؛ ثم سرق منه فكان الواجب عليه أن يحكم بما شاء حتى يعفو عنه وإلا ترفع عليه الجناة (عصى معروفة) في العربان ويشهر حاله ، وحينئذ يهدر ماله لكل أحد ... ولكنه قضى بخلاف ذلك من جراء أن الموجهة عليه التهمة بيّن أنه نهب الفرس من سارقها الذي كانت بيده ولم يعلم أنها تعود لمضيفه ، وعلى هذا لم يحكم عليه ... هذا ما حكاه لي المرحوم السيد محيي الدين الكيلاني. والظاهر من مجرى الوقعة أنه لم يتبين دليل على السرقة ، وغاية ما هنالك حيازة لا غير والمعاقبة عليها غير معروفة في وقعة مسموعة وذلك أن النهب والغارة مباحة لهم ، ولم تتحقق السرقة في هذه الحادثة ...

١٣ ـ الوسكة : (الوسقة)

ويراد بها الطريقة للوصول إلى المال المغصوب او المسروق ، ولكن لا من الطريق القانوني ، وليس البدوي كالحضري يراجع المحاكم ، ويستعين بقوة الحكومة ، خصوصا إذا كان الناهب أو السارق من قبيلة أخرى في منعة وقوة لا يستطيع أن يصل إليها دون مخاطرة كبرى وهكذا ... فيتوصل صاحب الحق أن يغرم أقارب الناهب ، أو ما يسمى ب (لزمته) ... وهذا لا يقبله الشرع بوجه ، واعلن بأن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ،) وإنما يراعى الأولى والأقرب لاستيفاء الحق ، وإن العقل والشرع لا يقبلان أن يلزم غير المعتدي ، وأن يؤاخذ غير الجارم.

ولكن القبيلة أو الفخذ ، أو الأقارب لم يكونوا بمعزل عن قربهم ،

٤١٥

وإنما هم بمنزلة اسرة واحدة بينهم تكاتف ، وإذا لم يشتركوا في هذه الجريرة فهم متضامنون في السراء والضراء ، يلبون عند الدعوة ، ويجيبون النداء.

يغضبون لغضب قريبهم دون أن يعلموا السبب .. وفي الأمور المالية يلاحظ هذا بدرجة محدودة عند البدو وإن قالوا (حلاهم دناهم) أي أحلى ما يتوصل به إلى الحق هو الأقرب تناولا أو كما يقال (أقرب شاة للذبح) ويقال (الوسكة قربة للحق) ... وذلك أن الوسقة يطالب بها لحد خمسة أظهر ويعللون ذلك بأن السيف إنما يقبض عليه بالأصابع الخمسة فإذا سقطت سقط السيف ، ولا يبقى محل آنئذ للمؤاخذة ولذا يقولون (احلال بخمسة) ... فلا يؤاخذ من هو أعلى من الخمسة أظهر .. وكأنه يقل التكاتف والتضامن إلى هذا الحد ...

وفي هذه الحالة اذا ظفر صاحب الحق بشيء ولم يتمكن من استخلاصه لضعف فيه ، أو لبعد أهله وعدم قدرته على الطلب ... أو ما ماثل ، فإنه يأخذ ما يصلح لاستيفاء الحق ممن تمكن سواء من السارق أو من غيره من أقاربه ويودعه حالا عند أحد أفراد قبيلته ممن هو فوق الخامس ، ويدعوه إلى ايصاله اليه ، وانه كفيل ، وحينئذ يكون ملزما بإيصاله بأي واسطة وحسب قدرته ، وأن لا يثلم وجهه بذلك ...! وفيها كما يقول مثلهم قربى للحق ، ودعوة للصلح ، وتحريض من الأقارب على الفصل ...

وهذه الحالة شاملة للمسؤليات الأخرى في القتل وفي غيره من سائر الضمانات القبائلية مما مرّ بيانه ...

١٤ ـ النهوة :

وهذه لا يرضاها الشرع بوجه وإنما يشترط الكفاءة ، وإذن الولي عند بعض المذاهب والتحجير على حرية الشخص وتقييدها أمر غير مرضي ، والتحوط ضروري ، ومن كانت له علاقة تربية ، وقربى قريبة يؤخذ رأيه ، وتراعى رغبته ... وغير هذه تعدّ من الأمور الممقوتة شرعا ... وامحاء

٤١٦

الاجحاف بالحقوق ، وصيانتها من الأمور الملتزمة ولكن هذه الاعتيادات قد يكون منشأوها ضعف الحالة ، وقلة النساء ، وما شابه ... ومع هذا نرى البدوية لا تزوج قسرا ، كما أنها لا تتزوج بدون رضا أوليائها ... والحالة مبناها الرعاية لحقوقها ، والعناية في الانتقاء والاختيار ... وملاحظة حقوق الأقارب في الترجيح ولكن تمكن هذا الحق وصار يسمى ب (التحجير) وإنذار الأقارب من طالب الزواج (نهوة). ومن تزوج بعد أن نهي أو أنذر عرض نفسه للخطر ، وفي هذه الحالة يرجع إلى العارفة فيقضي بما هو الأصلح إماتة للفتنة ، وقلعا للفساد المتوقع ...!

١٥ ـ الحشم ـ العقر :

إن المرء قد يتعدى عليه بالكلام ، أو تصيبه إهانة من قذف أو ما ماثل مما يدعو أن يكون ذليلا عند قومه ، أو أن يحقر دخيله ، أو نزيله ، أو ينال جسرة أو يرمى بسرقة أو أن يسرقه جاره أو أن يكون قد نهى عن امرأة يريد التزوج بها من أقاربه فلم يلتفت إلى نهيه ... وعلى هذا يطلب من خصمه حق هذا التعدي ، وأن يصير معه إلى العارفة ليتحاكم معه وهذا الحق هو الحشم المعروف ، وإذا ترتب على المعتدي وجب فصله والا عرض نفسه لخطر (العقر).

وهذا هو المعروف عندنا بدعوى (الشرف) ... فإذا لم يرضه المعتدي فله حق التعويض بنفسه ، وأن يركن إلى قوته ... وهنا لك العقر أو (التعجير).

أو التطبير وفي الغالب لا يجري إلا بقتل دواب لمعتدي ، واتلاف أمواله وهكذا ... في تاج العروس «أصل العقر ضرب قوائم البعير ، أو الشاة بالسيف ، أو هو صداق المرأة. وقال الجرهري هو مهر المرأة إن وطئت على شبهة ...»

ونرى اليوم معناه واضحا في انه اذا اعتدى أحد على عفاف امرأة أو أهين بما يستدعي الحشم أو قتل منه أحد أقاربه وكان في حالة (فورة الدم) فمن حقه أن يعقر ... وأهم خصيصة فيه أن تقتل الحيوانات قتلا ، أو تقطع

٤١٧

قوائمها ، كما تقطع قوائم البيت ، وهو تعويض عن انتهاك حرمة عفاف أو ما يتعلق به وفي الأخريات تبعا لا أصلا ...

والحشم لا ينتهي إلا بثلاث هويات أي ثلاث هجومات على أموال عدوه هذا على حين غرة أو يخرب بيته ... (وفي شمر طوقة له سبع هويات ، ثم يفصل بامرأة ...) فإذا تمت فليس له بعدها أن يتطاول على مال غيره وذلك إذا لم ينته الفصل بصورة الحل من طريق العارفة بصورة حاسمة ، وفي فورة الدم فيها العقر ، ويسوغ حتى القتل ، فإن العقر يراعى في ذلك. والحشم ورد ذكره في أمالي القالي (١). وجاء في القرآن الكريم (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ).

ويراد به كل ما يغضب المرء ولكنه اختص في الأمور المذكورة أعلاه وهو انتقام عن اهانة ... وتبريد غلة من تجاوز واقع ... والتعويض عنها ؛ وذلك يعدّ بمقام استعادة مكانته وحشمته ، أو إزالة ما دعا أن يغضب له بترضيته ... وحل مطالب مثل هذه يلاحظ فيه قطع النزاع وأن لا يتطاير الشرر ، ويزيد المكروه :

قد يبعث الأمر العظيم صغيره

حتى تظل له الدماء تصبب

وفي الآية الكريمة (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).

والعارفة يأخذ أحيانا ستة من الابل قضوة له ...

١٦ ـ الجروح والشجاج :

وهذه عليها عتبة أي أنه إذا ظفر به يأخذ منه حقه ، وأما إذا كانت الشجة مشوهة ، أو معطلة لعضو فيؤخذ نصف الدية فما دون ، وقد يؤخذ ، لكل خطوة نعجة حتى يعود الشج لا يشخص ... وفي بعض السقط الحاصل يكون التعويض تقديريا أو تابعا لدرجة تدخل المصلحين والارضاء ...

__________________

(١) أمالي القالي ج ١ ص ٦٤.

٤١٨

١٧ ـ الدخالة :

والقاتل قد لا ينجو في هربه ، وإنما يعقب من أقارب المقتول ، ويتبع فلا يعطى له مجال للهزيمة في غالب الأحيان. وإذا علم بأن سوف يدرك ولا يتمكن من النجاة مال إلى الرئيس أو من هو في قدرة على حمايته فيطلب منه المناصرة لدفع الطالبين فقط ، وأن يمنعهم عنه فإذا قال أنا دخيلك نجا إلى مدة ثلاثة أيام بلياليهن حتى يبلغ مأمنه وهذه يقال لها (استجارة) ووردت في القرآن الكريم وليس لأحد أن يتعرض بالمستجير إلى ان يتمكن من وصول محل منعته ... وهكذا يتحول من قبيلة إلى أخرى فاذا وصل الدغيرات من عبدة أمن وهذه تحميه وتقتل من يمسه بسوء ما دام نازلا عندها ...

وللقبائل موطن حماية يقال له المجلى على ما سيجيء ... وعند حرب خاصة إن القاتل يستطيع أن يدخل على الرئيس ويأخذ منه وجها إلى أن يصل إلى المجلى أو المحل الذي يرغب أن يستوطنه ؛ وإن إهانة الدخيل أو التجاوز عليه يخول حق الحشم والمطالبة به ولكن مدته عند حرب خاصة شهران وعشرة أيام ، وفي هذه الحالة تسوغ حرب قتل من ينتهك حرمة الحشم ...

١٨ ـ المجلى والجلاء :

فإذا وصل القاتل مأمنه عدّ ذلك المجلى ، والدغيرات من شمر المجلى الوحيد ، ثم صارت عبده كلها مجلى ، ولا يكفي أن يركن وحده ، وإنما أقربه إلى ثلاثة أظهر مطالبون بالدم ويضطرون أن يلجأوا إلى الدغيرات ، وأما الظهر الرابع والخامس فإنهما بوسعهما أن يخلصا أنفسهما بما يقدمونه فالخامس يعطي ناقة والرابع أربعا ، والأكثر على اعتبار ان الخامس يقدم ويسلم من المطالبة.

وولي المقتول وأقاربه الأدنون لا يتركون المطالبة ، فإذا ظفروا بالقاتل قتلوه وحينئذ يحق للدغيرات أو لعبدة مطاردته وقتله من يوم قتل أو ليلته

٤١٩

إلى وقت الظهر ، وفي هذه الحالة لو تمكنت منه وقبضت عليه قتلته وصار دمه هدرا. ولكنها ليس لها حق تعقيب أثره لأكثر من هذه المدة ، ولا يحق لها المطالبة بالحشم عن انتهاك حرمة مجلاها ، كما أن أقارب المجني عليه وأوليائه لو عقروا الابل ، أو الخيل ، أو الدواب الأخرى دون أن تتمكن القبيلة المجلى فيها من قتله أو الظفر به سقط حقها ، ولا يتوجه الفصل عليه ، ويهدر الدم من المطالبة به ... وقبل أن يتمكن المرء من الدخالة ، أو الوصول إلى المجلى يحق لأهل القاتل وأقاربه قتله ، أو عقر دوابه وإهانة أقاربه بما لا يتسر ... وهذه تسمى (فورة الدم) ولا يختلف فيها البدوي عن غيره ...

ويلاحظ هنا ان المرء قد يقتل جاره ، أو قريبه ويتدخل القوم في الصلح لقطع دابر الفتنة وحرب البسوس مشهورة ويتشائم القوم منها ومن حدوث وقائع أمثالها ... فلا يكفي الصلح لإزالة الأحقاد وتحريك الضغائن لأدنى سبب ، وتجارب عديدة برهنت على ان الغضاضة لا تنطفي ولا يزول أثرها إلى مدة ...

ومن ثم يختارون (الجلاء) على القاتل جزاء ما ارتكبه ليبعد عن النظر حتى تنسى الواقعة. وهذا تختلف مدته بالنظر لفظاعة الجريمة ، او لوجود القريبة لمن ارتكبت ضده ، ووجود من هم عصبة يخشى أن يبطشوا به وهكذا ... وكل هذا يلجأ اليه تسكينا لثائرة الغضب وتأمينا لنسيان الجريمة وتقليل شأنها بتقادم عهدها ...

١٩ ـ التحالف ـ الوجه :

قد يحتاج بعض القبائل ان يركن إلى أخرى ويعتز بها ، وتكون هي أيضا قوة وذلك لما يرون من غارات خارجية ، أو تهديد ، أو مجرد حذر ... ومن ثم يتحالفون على أمر. وهذا معتبر دائما إلا أن ينقضه أحد الطرفين ... وقد يكون الحلف للهجوم على عدو ومفاجأته بقوة على حين غرة ...

أو تطلب بعض القبائل الوجه للاجتياز ، أو للمرعى ، أو ما مثل ...

٤٢٠