نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

أيضا التراجع واستقدام النجدات وحتى الفرار خارج ساحة الوغى : «فلما بلغ ذلك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة» (١). وقد تمكن رجاله من سماع ضجيج خصومهم القادمين إليهم من هناك ، «بين بني سليم وسكة البريد» (٢). وقد استفدنا من سيف أن بني سليم أقاموا منذ البداية في الشمال الشرقي من المساحة المركزية ، إما بمفردهم إلى الحد الشرقي الأقصى لخطط الشمال الخمسة وإما في خطة كبرى مع بني ثقيف حيث تمركزوا بالأماكن الأكثر بعدا عن المسجد ، وهنا لا محالة علامة ذات أهمية. والأمر الأكثر صعوبة هو التعرف على الطريق الكبرى الرابطة بين مركّب المسجد والقصر وبين عاصمة الامبراطورية ، أي طريق البريد والرحلات الرسمية. كانت الطريق تمر عادة من النخيلة (٣) في اتجاه دمشق ، ولذلك فهي تنطلق من الكوفة من جهة شمال ـ شمال غربي ، دون عبور الفرات. لكن هناك طريقا أخرى تؤدي إلى دمشق ، وهي تعبر الجسر إلى الشمال الشرقي من الكوفة ، محاذية الفرات على ضفته اليسرى ثم تعبره من جديد في مكان آخر. وهذه كانت طريق السواد ولا نعلم هل قلّ استخدامها بالنسبة للطريق الأخرى (٤) ، على أن اسم «سكة البريد» ، الذي ذكره البلاذري (٥) قد يوحي بالغلط فضلا عن ذلك لشكنا في إمكانية نسبتها إلى بغداد أيضا. وفي هذه الحال ينزلق نصّ أبي مخنف في الخطأ الزمني ويكون نصّا ألّف أو حوّر في العصر العباسي. ويبقى إذن موقعها غامضا بالنسبة لذلك العصر ، لكن الثابت أن السبخة كانت قريبة من الشمال الشرقي. ولعلها وقعت في الشمال بعيدا عن سليم وانتشرت بذلك في مكان أوسع من المكان الذي حدده لها ماسينيون ؛ كما يجب الانتباه إلى عدم إبعادها عن الجسر ولا عن دار الرزق ، كما أكدت ذلك المصادر كافة ، ولا سيما عند رواية ثورة زيد (٦). والمؤكد أنه يمكن الوصول إلى مركز الكوفة مباشرة من السبخة ، عبر عدة طرقات أو سكك يبدو أن أهمها كانت سكة لحام جرير ، فوجب التحكم في «أفواهها» أي مداخلها. الواقع أنه بعد أن انهزم شبث بن ربعي في أثناء اصطدامه بالمختار في السبخة ، منعت جيوش الأمير المتحكمة في السكك ، جنود المختار من دخول الكوفة (٧). فلزم عليهم أن

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٢٢.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٤.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٦٢ ، وج ٥ ص ٧٣ و ٧٨ و ٧٩. لا يتوفر أي خبر دقيق عن بداية طريق دمشق. وستمر هذه الطريق على القطقطانة ، بداية من القرن الثالث : ابن خرداذبه ، ص ٩٩.

(٤) أخذها علي للذهاب إلى صفين : الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٦٥.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

(٦) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٥.

(٧) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٨.

٢٤١

يجانبوا المدينة من الخارج للوصول إلى المركز واستهداف القصر ؛ إنه فعلا تحول حقيقي من الشرق (كما أراده ماسينيون طبق مخططه) أو من الشمال الشرقي إلى الغرب أو إلى الجنوب الغربي ، من السبخة إلى الكناسة ، كأن هاتين البقعتين الواسعتين الخاليتين المحيطتين كانتا تتواجهان وتشكلان في كل حال المعابر الأصلية للدخول إلى المركز ، الذي منه ينطلق محوران أساسيان. أحاط المختار بالكوفة وكذلك ابراهيم ، على حد أقصى دور المدينة ومر بالشمال. فتوجه حشد من حشود الوالي إلى طريق همدان (سكة ثور) (١) لقطع الطريق من الشمال إلى الجنوب محاذيا المكان الذي سيبنى فيه لاحقا مصلى في العراء ـ بناه القسري (١٠٥ ـ ١٢٠) وكان يقع دون شك في خطة بجيلة. هناك اتفاق إذن مع المخطط الذي وضع بالاعتماد على ما قاله سيف لكن المشاكل تواجهنا قبل هذه المرحلة ومباشرة بعد معركة السبخة : لقد مر المختار فعلا بالجبانة (٢) التي سميت على هذا النحو وتعرت من كل صفة. والمرجح أنها عرفت بالثوية التي هي جبانة قريش وثقيف وأهل المدينة بصفة عامة. والظاهر أنها كانت تقع في أقصى شمالي الشمال الشرقي من الكوفة في طرف الخطط. وغير بعيد عن ذلك ، وإلى جوارها ، ها نحن قد بلغنا دور مزينة وأحمس وبارق (٣) وعنها يقول أبو مخنف : «وبيوتهم شاذة منفردة من بيوت أهل الكوفة» (٤). هذه جملة لا شك أنها تطرح علينا مشكلا. فهي في البداية تناقض تصور سيف في أكثر من نقطة إذ يمكن القطع بأن مزينة كانت تقيم في اتجاه الشمال قليلا (٥) لكنهم بقوا في الشرق ، تفصل خطط سليم وثقيف وهمدان بينهم وبين بجيلة وإليها تنتسب عشيرة أحمس. وما عسانا نقول في بارق وهم من الأزد؟ من هنا ينبغي تحديد مقامهم اعتمادا على سيف أيضا في الجنوب أو الجنوب الشرقي كما هو مرجح (٦). لكنّ الثابت أن اليعقوبي أكد قائلا (٧) : «انتقلت عامة أحمس عن جرير بن عبد الله إلى الجبانة». ومع أن خبره اندمج في رواية خاطئة من بعض الوجوه فلا يبدو أنها مستمدة من تأويل لرواية أبي مخنف ، علما أن مشكل بارق يبقى قائما ، ولا شيء يؤكد أنهم انفصلوا عن بقية الأزد ، كما

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٩. هذه إشارة فريدة تجيز لنا التأكيد أنه اتجه إلى الشمال.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٨.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٨. كانت بارق عشيرة مهمة من الأزد. لماذا كانت موجودة في أقصى الشمال الشرقي؟ الحق أن بارقا كانت أيضا عشيرة صغرى حميرية اندمجت في همدان باسم ذي بارق : الطبقات ، ج ٦ ص ٢٤٧ ؛ وقد وصفها خبر ورد في أنساب الأشراف ، قسم ٤ ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، فقال إنها مجرد «مكان على طريق الكوفة» ، أي أنه طرفي وغير ملحق بعشيرة.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٨.

(٥) هذا ما فعله ماسينيون على خريطته حيث وضعهم إلى الشمال تماما.

(٦) أو إلى غربي الشمال الغربي لأن الازد أقاموا في خطة بجلة ـ بجالة ، كما سيأتي ذكره.

(٧) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

٢٤٢

وقع لأحمس بالنسبة لبجيلة. وقد ورد ذكرهم في أثناء ثورة زيد (١) غير بعيد عن عناصر من قيس هم رؤاس. والغريب أن نجدهم في الشمال دائما ، على حدود الكوفة. وعلى كلّ فإن نصّنا ناصع الوضوح وهو يفيد أن مزينة وأحمس وبارق وهي عشائر تنتسب إلى قبائل مختلفة ، تجمعت خارج المدينة أو كادت ، حول الجبانة وبعيدا عن الخطط المعهودة على الرغم من كونها عشائر شاركت في وقعة القادسية. فماذا يعني هذا الانتقال الذي تم عن طيب خاطر كما هو مرجح؟ هل وقع لأنهم التحقوا بالمهاجرين المتأخرين من عشائرهم حيث لم يجدوا مكانا في الخطط الأولى؟ هل أن إرادة الابتعاد والتهميش جعلتهم يتجمعون ويشيدون مسجدا مشتركا؟ لقد استقبلوا المختار مرحبين ، وقدموا إليه الماء (٢). ولا يبدو أنهم كانوا مهتمين بالاضطراب الذي اجتاح المدينة في ذلك الوقت. والملاحظ بهذه المناسبة وخلف الطوبوغرافيا الصرف ، أن هناك اتجاها في الكوفة في أوقات مختلفة يروم الانسياب إلى الخارج لأن المحيط يجذب القبائل والعشائر وأقسام القبائل ، واليعقوبي نفسه يقول في ذلك (٣) : «جاءت تميم وبكر وأسد فنزلوا الأطراف». وسنرى أن بكرا وعبد القيس اتصفت بعدم الاستقرار بصورة واضحة وهذا يطرح مشكل الجدلية بين المدينة والقبيلة.

لذا ، ينبغي علينا قبول التشتت النسبي ، والمقام المتكرر أو المثلث لبعض القبائل ، بصورة ملموسة وضمن الهيئة القبلية التي كانت للكوفة ، ارتباطا بالطوبوغرافيا وعلم أسماء المكان.

المرحلة الثانية : ثورة الأشراف

لم تكن رواية ثورة الأشراف غنية بمحتواها الاجتماعي وحسب ، بل إنها تساعدنا على التقدم في تصورنا لمدينة الكوفة والعوالم القبلية التي كانت تقيم فيها. ويتّضح مرة أخرى دور الجبّانات كما دور الكناسة والسبخة. فقد اجتمعت مضر بالكناسة برئاسة شبث بن ربعي ، أي تميم وعبس وضبّة (٤). كانوا يقومون بأحد الدورين الرئيسيين مع اليمنية وهو دور أهمّ بكثير من دور قيس ـ والملاحظ أنهم تميّزوا عنهم ـ كما أنه يتجاوز كثيرا دور ربيعة ، لكن لم تكن لهم جبانة. وبمطالعة المصادر وإمعان النظر فيها ، خاصة المصادر المرتبطة بهذه

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٥.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٨ : يبدو أن أحمس أبدت مودتها للمختار.

(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١١. لكن متى كان ذلك؟ هل كان في العصر الأموي أم بعده ، لما دحرتهم حملة التشيع التي اجتاحت المدينة؟

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥ ؛ وأنساب الأشراف ، قسم ٥ ، ص ٢٣٢. من الغريب أن الدينوري وضع ربيعة وتميم في جبانة «الحشاشين» التي لم يرد ذكرها في أي مصدر : الأخبار الطوال ، ص ٣٠٠.

٢٤٣

الفترة ، نستدل جيدا على أن هناك استقطابا شديدا للقبائل ، وإحياء للروح القبلية وما يتصل بها من روابط عميقة بين السكن ومكان التجمع (١) ، خلافا لما وقع خلال ثورة المختار نفسه. ففي هذه الصورة الأخيرة ، توزّعت الحشود بترتيب من الحكم الذي ما انفك قائما موجودا ، أما في الصورة الأولى ، فقد صدرت المبادرة عن القبائل. ولذا فهناك احتمالات قوية أنه كان لمضر مواقع يمكن تحديدها الآن في غرب الكوفة ، غير بعيد عن الكناسة ، وأن تميما انتقلوا فعلا من الشرق إلى الغرب. كما أكد ذلك ماسينيون وكما عرفناه من المصادر اللاحقة. لا شك أن هذا الانتقال لم يكن تاما شاملا ، ولا سيما بالنسبة لتميم ، حيث أن مواليهم من الحمراء بقوا في الشرق (٢) ، كما يتأكد ذلك (٣) من وجود عشائر تميمية في منطقة ينبغي تحديدها إلى الشرق دون أي شك ممكن. وهنا أيضا تنبغي العودة إلى فكرة تفريق الجموع القبلية حيث بقيت فلول منها بالموقع الأصلي في حين رحل أكثر أفراد القبيلة.

كانت الأمور أكثر بساطة بالنسبة لليمن خاصة همدان وكندة ومذحج ، إذ بدت مستقرة من البداية. والملاحظ أن خثعم كانت حاضرة بصورة مهمة وقد حطت بجبانة بشر. واعتقادنا أن الأزد استقروا في مكانين أو ثلاثة ، ثم أنه لم يكن لبجيلة ، وهم من الأوائل المقيمين ، جبّانة على ملكهم فكانوا ينزعون إلى الانضمام لخثعم عندما تفرض الظروف ذلك عليهم. ولنمعن النظر في المصدر الموجود بين أيدينا (٤). لقد أقام عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني بجبّانة السبيع ، وأقام زحر بن قيس الجعفي (عشيرة من مذحج) وإسحاق بن محمد بن الأشعث في جبانة كندة ، وكعب بن أبي الخثعمي في جبانة بشر حيث لحقت به بجيلة ، وأقام عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف «عن الأزد». ثم تجمع كل اليمنية ، ما عدا أغلب مذحج المقيمين في جبانة مراد ، في جبانة السبيع ـ جبانة همدان ـ حيث تقرر مصير الصراع الذي تواجه فيه الاشراف والمختار. فكان هذا التجمع مكتسبا صبغة استراتيجية واسعة جدا أبرزت أهمية هذه الجبانة ، وقد تفوقت فيها همدان ضمن المجموعة اليمنية.

وكانت قيس تمثل القوة الثالثة ، ولها أهمية ثانوية ، وكانت برئاسة شمر بن ذي الجوشن المعروف في تاريخ الكوفة. وفي تلك الحقبة من تاريخ العرب الأولى كانوا متميزين عن مضر حيث أن المفهومين اكتسبا دلالة محدودة آنذاك ولم يتطابقا. تجمع قيس فروع

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥ : همدان في جبّانة السبيع ، مذحج وكندة في جبانة كندة ، خثعم في جبانة بشر ، الأزد في جبانة مخنف ، قيس في جبانة السلول ، مضر في الكناسة ، ربيعة بين المركز والسبخة.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ : بنو حرب وبنو العنبر.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥.

٢٤٤

هوازن وهو الإسم الذي اندمجت بواسطته قيس في إحدى قائمتي الاسباع (١) اللتين وصلتا إلينا ، أما سيف فلم يذكر سوى بني عامر بن صعصعة محددا مقامهم إلى الشرق (٢). ولا شك أن قيسا تجمعوا حول نواة بني عامر أي جشم وسلول وبنو البكاء وكلاب بالخصوص (٣). وقد كان اسم جبانتهم سلولا. ولا نعلم هل يجب تحديد مقامهم في الشرق تماما كما فعل ماسينيون أو أن نضعهم في خطة تقع شرق ـ شمال شرقي وتكون امتدادا لخطة بني عامر الأولى ، أو أن نهبط بهم إلى جنوب ـ جنوب شرقي. أما ربيعة فقد أقاموا في مكان غير بعيد منهم ، بين سوق تجار التمور والسبخة وما زالت الغموضات تسود موقع هذه السبخة ، الذي به يرتبط في كل حال كل توضيح لمخطط الكوفة : هل كان إلى الشمال الشرقي أم إلى الشرق تماما ، أم إلى الجنوب الشرقي؟ وإذا تمكنا من جهة أخرى من أن نقرر بصورة معقولة مقام قيس في مكان ما يقع إلى الشرق لأنهم كانوا يملكون جبانة خاصة بهم ، ولأن بني عامر أقاموا فيه في بداية الأمر ، فليس لدينا أية قاعدة توثيقية ولا أية علامة دالة تسمح بالقول إنه كان لربيعة أيضا خطة بالرقعة الشرقية. الحقيقة إذا أقامت ربيعة بين التمّارين والسبخة ، ونظرا لقبولنا الترابط القائم بين السكن والاستراتيجية ، فنحن ملزمون بالتصديق بوجود دورهم بهذا المكان. وقد ذكر أبو مخنف أنهم تفرقوا سريعا وأمروا بالعودة إلى دورهم. ولذا نجد هذا الاحتمال يؤيد وجود جوار معين. وهناك مؤشر إضافي آخر مفاده أنه خلال ثورة زيد بن علي ، كانت محطته الأخيرة عند تغلب قرب «مسجد بني هلال بن عامر» حيث تلقى البيعة (٤) ثم أعلن عن ثورته في جبانة السلول (٥) وذلك بعد سلسلة من التنقلات السرية بين القبائل. ويحتمل أن ماسينيون كان محقا في تحديد موقع بكر على مخططه ضمن الزاوية التي تقع إلى الجنوب الشرقي من الكوفة (٦) ، لكن بكرا أقل أهمية في هذا الموضوع من عجل التي ظهرت بمظهر النواة المتراصة لربيعة ، إلى جانب عبد القيس وأكثر منها (٧). ولعلهم جذبوا إلى مجالهم تغلبا وتيم اللات والنّمر فضلا عن بكر. لكن ينبغي اعتماد فكرة الهجرة الداخلية لهذه العناصر من شمال ـ شمال غربي إلى جنوبي ـ جنوب شرقي

__________________

(١) في السّبع الرابع إلى جانب تميم والرباب : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٨.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٥.

(٣) الجمهرة ، ص ٢٧٢ وما بعدها.

(٤) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٧٢ ؛ لا نجد أية إشارة مفصلة في هذا الموضوع في أنساب الأشراف تحقيق محمد باقر المحمودي ، بيروت ١٩٧٧ ، قسم ٣ ، ص ٢٤٠ وما بعدها.

(٥) المرجع نفسه ، ص ١٧٢ و ١٨١ و ١٨٢.

(٦) Massignon ,ouvr.cit., ، انظر الخارطة.

(٧) تظهر نسبة العجلي دائما أكثر من النسب الربيعية الأخرى ، عند ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، والطبري ، ج ٥ وج ٦ وج ٧ في عدّة مواضع ، وأخبار الدولة العباسية ، ص ٢٦٠.

٢٤٥

لأنهم استقروا في بادىء الأمر بقطيعة تقع في الشمال الغربي إلى جوار بجيلة (١). ثم أين نحدد مقام عبد القيس الذين ورد ذكرهم في الكوفة سنة ٤٣ ه‍ (٢) ، خلافا لما أكده ماسينيون (٣)؟ وأين يوجد موقع أهل هجر أبناء عمومتهم ، الذين كانوا آخر من استقروا في الكوفة بين الروادف بمقتضى رواية المقريزي الذي اعتمد دون شك مصدرا قديما؟ (٤). نحن في حيرة من المؤلفين المحدثين الذين ينسبون إلى عبد القيس مسجد السهلة (٥) بالكوفة وهو ما زال قائما (٦) في حين أنه موجود بأقصى الشمال الغربي من المدينة (٧). فضلا عن أنه ورد بالرواية نفسها في نص أبي مخنف ، ذكر مسجد عبد القيس بحيث لم يبعد كثيرا عن جبانة السبيع ، وأنه أقيم قطعا في المنطقة ذاتها (٨). لذلك تتسلّط علينا الفكرة المتعلقة بثنائية قطائع ربيعة حيث يكون احتل عبد القيس موقعا خارج المركز ، من جهة الشمال الغربي ، واحتل غيرهم موضعا إلى الجنوب الشرقي اندمج اندماجا متفاوتا في قطائع قيس (٩).

ويكشف تحليل الأخبار المروية عن ثورة الأشراف ، عن وجود تحوير طرأ على خريطة القبائل في هذه الفترة الزمنية التي دامت خمسين سنة والتي فصلت بين المقام الأول (١٧ ه‍) وثورة الأشراف (أواخر سنة ٦٦ ه‍) فلا شك في ذلك قط. على أن هذا التحوير لم يجر

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ : راجع أنساب الأشراف ، باريس ، دار الكتب الوطنية ، ورقة ٥٧٩ ، بخصوص خطة بكر.

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ١٨٤ و ١٨٥ و ١٨٦ في روايته لثورة المستورد بن علفة الخارجي. إن المراجع كثيرة في هذا الموضوع : انظر لاحقا. هذا فضلا عن وجود صحراء عبد القيس ، الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢ ، ومسجد بالإسم نفسه : المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٤٩.

(٣) Massignon ,Art.cit.,p.٧٤ ، دون أن يعتمد أي مرجع وقد ذهب به القول إلى أن «اقطاعهم» قد ألحق بهمدان.

(٤) الخطط ، ج ١ ، ص ٩٣ : اعتمد تاريخ الطبري.

(٥) ذكره الطبري باقتضاب عند روايته أحداث سنة ٢٨١ : ج ١٠ ، ص ٣٦ ، لا عام ٢٨٦ كما قال ماسينيون الذي عرّفه بأنه مسجد عبد القيس :.Art.cit.,p.٣٥ وقد انفرد بذلك الأمر.

(٦) كان بين المؤلفين القدامى الذين صنفوا مسجد السهلة بقائمة المساجد المباركة ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، ص ١٧٩. واعتمد البراقي خبرا للشيعة مقتبسا خاصة عن المجلسي والحر العاملي ، معرفا إياه بأنه مسجد بني ظفر : تاريخ الكوفة ، ص ٤٤ ـ ٤٥. ولم يرد ذكر عبد القيس في المصدرين. أما بنو ظفر فقد رتبهم ابن دريد ضمن العشائر مجهولة الاسم لبني سليم : كتاب الاشتقاق ، بغداد ، ١٩٧٩ ، ص ٣٠٧. والمرجح أنه ينبغي إسناد هذه التسمية إلى عشيرة بني ظفر التي كانت قبيلة عراقية ظهرت في فترة متأخرة بالاقليم واشتهرت بالغزو والحرب : كحّالة ، معجم قبائل العرب ، بيروت ، ج ٤ ، ص ٣٤٥. لكن لا ننس أيضا أنّ بني ظفر عشيرة من عشائر الخزرج كثيرا ما ورد ذكرهم في سيرة ابن اسحاق : مثلا ص ٣٥٩.

(٧) تبعد كيلومترين عن المسجد : الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ٨٩ ـ ٩٣ ، زرناه سنة ١٩٧٩.

(٨) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٩.

(٩) راجع الرواية الخاصة بملاحقة حجر بن عدي سنة ٥١ ه‍ : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢.

٢٤٦

عشوائيا بل بمقتضى مبدأ جاذبية صلة القربى ، حيث يتم الانتقال إلى قبيلة الأشقاء. فمثلا إذا تجمّعت قيس في اتجاه الشرق ، فالمرجّح أن ذلك تمّ لأن بني عامر كانوا مقيمين بالمكان ، قبل ذلك (١). وأن رحيل أكثر تميم إلى الغرب عمل بالتأكيد على تيسير تمدد خطة بني عامر ؛ وكذلك إذا وجدنا عبد القيس إلى الشمال الغربي فلأنه تقرر ـ في بداية الأمر ـ إنشاء خطة لتغلب وتيم اللات ، لعلها كانت واسعة بالنسبة إليهم ، لكنها اتسعت في كل حال إلى الشمال والغرب واستقبلت مهاجري عبد القيس الذين انضموا إلى علي. الحقيقة أننا لا نفهم كيف أمكن لجموع أخرى من ربيعة أن يقيموا في اتجاه الشرق : لعلهم احتلوا الزاوية التي تركها خالية التخطيط القائم على أساس الجهات الأربع. أما عن تميم وضبّة ، فقد خول لهم الرحيل إلى الغرب الحصول على مجال حيوي أكبر ، قابل للامتداد إلى ما لا نهاية. ولا بد أنهم استفادوا من وجود خطة اسندت إلى بجالة وبجلة المتفرعتين عن ضبة ، والذين لا شك أنهم لم يكونوا كثيرين (٢). ولعله يجب اعتبار هذه الخطة مخصصة لضبة (٣) جميعها ، وقد انضمت تميم إليهم في وقت لا يمكن تحديده بدقة مع أن ماسينيون تمسك بتاريخ سنة ٣٧ ه‍ دون حجج ، وقد ذكرنا ذلك. يبقى صحيحا في كل حال أن مجيء علي إلى الكوفة خلخل وجود المصر في الأعماق ولم يلبث أن انعكس بصورة ملموسة على هياكل عالم القبائل. وترتب عن مجيئه قدوم أكثرية عجل من البصرة إلى الكوفة (٤) ، وجموع كثيرة من عبد القيس.

أما عن طيء التي تحدثت عنها الروايات قليلا ، والتي كانت في كل حال حاضرة بالكوفة ، فاعتقادي أنه ينبغي تحديد مكانها في خطة تحمل اسم جديلة. لماذا؟ لأن جديلة اسم لطيء. وحجتنا على ذلك نستمدها من كتاب الجمهرة (٥) ومن الاشتقاق لابن دريد (٦) ، ومن شاهد شعري (٧) حاسم بخصوص الكوفة. لم تكن جديلة الكوفة من قيس كما زعم سيف ، ولا من أسد ابن ربيعة ، بل من طيء. هذا وقد أكد اليعقوبي أنهم اختطوا

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ : اعتبارا لمخطط سيف.

(٢) هذا ما أكده ابن دريد وهو من رجالات الكوفة : كتاب الاشتقاق ، ص ١٩٣. لكن ابن الكلبي حدد موضع الأزد في خطة بجالة كما رأينا ذلك والملاحظ أن الأزد كانوا في غربي الشمال الغربي فيما يظهر ، بينما ينبغي تحديد مقام ضبة وتميم غربي الجنوب الغربي. الحقيقة أنه يمكن إزاحة خطة بجلة بجالة إلى أسفل الخريطة ، وهو مشكل مستعص على النظر.

(٣) ضمن الافتراض المعروض أعلاه فقط.

(٤) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢١٥.

(٥) ابن حزم ، مرجع مذكور ، ص ٣٩٩.

(٦) كتاب الاشتقاق ، ص ٣٨٠.

(٧) لعبد الله بن خليفة الطائي الذي ثار على زياد سنة ٥١ ه‍ : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٥.

٢٤٧

قرب جبانة بشر التي كانت لخثعم (١).

هناك قضية تطرح فعلا بخصوص خثعم ، لو رمنا أخذ خريطة سيف مأخذ الجد. كانت خثعم قبيلة يمنية مرموقة ولم تذكر على هذه الخارطة ، لكنها شاركت في حرب القادسية ، ويحتمل أن عدد أفرادها كان قليلا ، إذ لم يذكر أي رقم بشأنهم. وقد قاموا بدور كبير في أثناء انتفاضة حجر بن عدي (٢) ، وقدموا الدعم للمختار ووقفوا ضده. كانت لهم جبانة شهيرة معروفة بجبانة بشر وهو إسم لأحد أبطال القادسية (٣) ، وقد تأكد أن الجبانة كانت أحد الأماكن الكبرى لتجمع اليمنية ، مثل جبانة كندة ومراد. كانت بجيلة تلحق بهم فيها (٤) ، بصفتهم من أقدم الإخوان لهم ، منذ عصر الجاهلية (٥). فهل أفسحوا لهم مكانا في خطتهم الكبيرة التي زادت اتساعا بعد رحيل أحمس؟ لا يبدو أن الأمر كما ذكر ، لأن قول أبي مخنف «ساروا إليهم» (٦) ، يفرض مسبقا وصراحة تمييزا في السكن ، كما أن السياق يوحي بالجوار واستمرار علائق القربى السابقة. وعلى هذا ، ينبغي تحديد مقام خثعم بمكان تغلب ، والأمر الأرجح كثيرا أن يكون ذلك في خطة جديدة كبيرة حددت أثر التخطيط الأول دائما في الركن الشمالي الغربي ، وربما في خطة طيء كما أوحى اليعقوبي بذلك؟ وبصورة عامة ، إذا قطعنا بخط وهمي الكوفة قطعتين ، أي الكوفة شمالا والكوفة جنوبا ، يظهر القسم الشمالي أكثر كثافة سكانية ، وأشد هيكلة ، بقطائعه المتراصة وشوارعه الضيقة. وهذا ما يتجلى من شهادة أحد رؤساء قيس ، نعني شمر بن ذي الجوشن الذي أقام شرقا ودعي لنجدة اليمنية في جبّانة السبيع. فرفض نجدتهم معللا رفضه بأنه يتعذر عليه القتال في السكك الضيقة (٧). وكأن الأمر قد تعلق في هذا الباب بخاصية تميزت بها منطقة الكوفة الشمالية ـ ونحن ندرك ذلك من قوله علما بأنه كانت هناك من البداية ، خمس طرق كبرى ارتبطت بخمس خطط ، تقابلها أربع طرق في الجنوب وثلاث في الشرق والغرب فقط (٨). لا شك أن هذه المساحة المسماة بظهر الكوفة في جهتها الغربية ، كانت لها جاذبية ارتبطت ببعض

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦١.

(٣) بشر بن ربيعة : فتوح البلدان ، ص ٢٨١ ؛ والجمهرة ، ص ٣٩١.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥.

(٥) كتاب الاشتقاق ، ص ٥١٥. ينحدر كلاهما من الأنمار وهي مجموعة قريبة من نزار ، لكنها كانت تقع بموقع ربيعة : ومضر بالذات ثم اعتبروا من اليمنية. راجع كذلك البكري ، معجم ما استعجم ، ج ١ ، ص ٢٩٨ ؛ ابن الكلبي ، ورقة ٥٣.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥.

(٧) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٦ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٣٢.

(٨) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

٢٤٨

العوامل الواضحة منها ارتفاع التربة ومتانتها وجفافها. لكن أيضا قربها من النهر ـ منبع الماء والحياة والاتصال بالسواد. ولم يكن الأمر كذلك في المنطقة الغربية وحتى الجنوبية اللتين كانتا مرتفعتين قطعا ، لكنهما امتدتا في اتجاه البادية ، على مسافة كبيرة (١). وتطرح كثافة العمران في الشمال مشكلا هو مصير تراتبية تلك الطرق التي تجلت لنا في خصوص العصر البدائي فهل أن كلمة سكة تنطبق على الطرق الكبرى التي كانت مسالك أو على الشوارع الأقل عرضا التي «تحاذي هذه ثم تلاقيها» أم على الاثنين معا؟ (٢). وإلى أي حد بلغ محو نسق الطرق وما هو الصنف الذي طاوله هذا المحو؟ استمرت قطعا الطرق قائمة بصورة أو بأخرى على الأقل من حيث انفتاحها على المساحة المركزية ، لأن أبا مخنف ما انفك يكرر قوله مع رواة آخرين بخصوص «أفواه السكك» (أي مدخل الشوارع ومخارجها ابرازا لأهميتها الاستراتيجية) (٣). فمن تحكم في هذه «الأفواه» تحكم في المدخل إلى قلب المدينة : الأمر صريح بخصوص الشمال وأيضا بالنسبة للشرق قليل الضيق وواضح التخطيط ، ويبدو أن هناك طريقا كبرى للعبور كانت تقع بين الكناسة والقصر ، بالنسبة للغرب أو الجنوب الغربي ، وكان الأمر كذلك في البصرة بين المربد والمركز (٤).

ويخص السؤال الأخير تحديد موقع الجبّانات دائما بالاعتماد على هذا النص. لا يبدو أنها كانت تقع في أطراف الخطط بل في مركزها ، في منتصف المسافة حيث فتحة الخطة على المركز ومنتهاها في الخارج حيث تمحي (٥). ولذا لم تكن الجبانات محيطة فيما يظهر ، بل مركزية. وما يدفعنا إلى اعتقاد ذلك طريقة الهجوم التي سار عليها جنود المختار نحو جبانة السبيع ، حيث قدم ابن الكامل وابن شميط من الجنوب ، وهجمت شبام بغتة من الشمال ، انطلاقا من قطيعتها العشائرية (٦). فتمت محاصرة الجموع التي تحصنت بالجبانة وجرى القضاء عليها. ولا شك أن الجبانة كانت تحديدا موقعا استراتيجيا من جهة أخرى ، ولا شك أنها لاصقت الطريق الرئيسة ، ويرجح أن السكك الثانوية كانت تصب فيها (٧). ولا بدّ أنها كانت مفرقا للطرق ، فجسمت في آن مدخلا سدّا يتحكم في فوضى الخطط. ويمكن

__________________

(١) صالح العلي ، «منطقة الحيرة ...» ، مقال مذكور ، انظر الخارطة.

(٢) المرجّح أنها تنطبق على المناهج كما على السكك ذات العشرين ذراعا.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧ و ٢٨.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٣٠ : امتنع على المختار دخول الكوفة من الشرق والشمال ، فأحاط بها. ورد ذكر البصرة بوضوح في أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢١٢.

(٥) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٨.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٤٨.

٢٤٩

تخيلها مربعة الشكل أو مستطيلة ، وأنها غطت عرض الخطة كله أو كادت تغطيه ، بعرضها (٨٠ مترا لبني همدان ، وهي خطة ضيقة لكنها تمددت وقد تجاوزت في الخطط الأخرى هذا الرقم). وامتدت على الطول بالمقدار نفسه أو يزيد : كانت الجبانة مجالا خاليا ، غير مبني وغير مسيج بعد (١) ، وهي تحتل ما يقرب من هكتار على الأقل ، وتحد امتداد البناءات في الخطة القبلية ، فأتاحت بذلك تجمع عدة آلاف من الخلائق.

حصار مصعب للكوفة ونهاية المختار (٦٧ ه‍ / ٦٨٧)

إن هذه الحلقة الأخيرة من المأساة تسمح فعلا بمزيد من التطلع ، لا لوظيفة التجميع التي تقوم بها الجبّانات الرئيسة ، بل لدورها هذه المرة في الإحاطة وكعقدة لمرور البشر والمؤن ، وصلة أساسية بين المركز والعالم الخارجي. فمن تحكم فيها تحكم في الكناسة والسبخة ويمكنه خنق القصر والمسجد. وهذا ما فعله جيش مصعب بن الزبير الذي جاء من البصرة لإنهاء مغامرة المختار ، بعد أن هزم جيشه في المذار.

ولنوضح بعض الأمور حول السياق السياسي إفادة للقارىء. في سنة ٦٧ ه‍ كان الأمويون قد حلوا قضية الخلافة داخل الأسرة ، واستردوا الشام ومصر (٢). وكان ابن الزبير يسيطر على الحجاز والعراق (٣) ، باستثناء الكوفة تحديدا التي انتزع منها المختار الولاء. لقد حرض المختار الكوفيين على الانتفاض بإسم الأخذ بثأر الحسين كما بينا ، فاستولى على الحكم في الكوفة. واعتمد على الموالي مغضبا الأشراف (٤) ، الذين ثاروا عليه لكن أجهضت ثورتهم. وعند ذلك ، توخى المختار سياسة التطرف. وطارد دون هوادة أعداءه وأمر بقتل أسراه كافة. فطارد «قتلة» الحسين ومنهم عدد من الأشراف الذين فرت عندئذ جماعات منهم واتجهوا إلى مصعب في البصرة وطلبوا منه النجدة والتعويض عما لحقهم من ضرر (٥). ووجه المختار جيشا إلى الجزيرة لقتال عبيد الله بن زياد مدبر مقتلة كربلاء ووفق في القضاء عليه.

وترتب عن عمله هذا تأخير فتح العراق من قبل الأمويين ، فتدخل مصعب الذي كان يريد توحيد العراق تحت راية ابن الزبير فضلا عن أنه كان مدفوعا إلى ذلك بشدة من طرف الأشراف المهاجرين من الكوفة. واتجه إلى الكوفة بعد انتصاره في المذار (٦) ، على رأس

__________________

(١) انظر لا حقا.

(٢) أنساب الأشراف ، قسم ٥ ، ص ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٥١ ـ ٦٦ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٣٦ ـ ٢٤١ ، ٢٥١.

(٥) في معركة خازر سنة ٦٧ ه‍ : الطبري ج ٦ ، ص ٨٦ ـ ٩٢ ؛ أنساب الأشراف ، قسم ٥ ، ص ٢٤٧ ـ ٢٥٨.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٣ ـ ٩٧ ؛ أنساب الأشراف ، قسم ٥ ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٥.

٢٥٠

جيش قوي برا ونهرا في آن (١). وحاول المختار المستحيل مع من تبقى من الرجال ـ وكانوا بضعة آلاف ـ لقطع طريق الكوفة على مصعب ، فتحصن في السيلحين (٢) (هل كانت تقع في الجنوب الغربي أم في الجنوب الشرقي؟) «وسكر الفرات على مجتمع الأنهار فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار وبقيت سفن البصرة في الطين» (٣). فتأخر وقت الزحف : ثمّ بدأ القتال في حروراء (٤) وكان مركزا متقدما للكوفة على طريق البصرة ، حيث أقام الخوارج الأوائل بالذات. وكانت محاولة أخيرة. لكن جيش المهلب بن أبي صفرة القوي حمل على جيش المختار فدحره استمر المختار يدافع عن مدخل الكوفة بحفنة أخيرة من أصحابه دفاعا مستميتا ، عند رأس سكة شبث (٥) ، ثم تحصن في «قصره» أي قصر الإمارة ، واتخذ كل الاحتياطات لمجابهة الحصار. هذه الأحداث يرويها الطبري عن أبي مخنف ويرويها البلاذري عن عدّة مصادر أهمها أبو مخنف ، وهي مفيدة لأكثر من سبب. وهذه اللحظة بالذات من ثورة المختار تعلمنا عن المحيط المباشر للكوفة وتطرح مشكلة الماء ومشكلة اتصال الكوفة بالعالم الخارجي وكيف يتم ولوج المدينة في اتجاه المركز بتقدم بطيء.

قضية الماء :

الواقع أنه ينبغي التساؤل عما هناك من علاقات بين الكوفة والماء. لقد فرّ العرب الأوائل من عالم المياه ، إن أمكن القول ، من عالم المدائن المائي ، وأنشأوا مدينتهم على اليابسة ، على الأرض الصحراوية تقريبا. كان ذلك على ضفة الفرات ، لكن قبل عبوره ثم يبدأ بعد ذلك عالم الريف ، وهو السواد الذي كانت تخطّه قنوات الري التي تربط بين الفرات ودجلة. يذكرنا التصور الشائع المترتب عن كلمات مثل الكوفة والحيرة والكناسة والبادية القريبة جدا ، بالغبار ورائحة الصحراء. هذه حقيقة لأن الصحراء جاثمة عند الباب أمام كل عين بصيرة. وهي موجودة بالداخل أيضا لأن السكان ـ يا لها من سخرية قصوى ـ هيأوا داخل الكوفة صحارى صغرى. إنّما كانت هذه الصورة حقيقية إلى حد ما فقط لأن الكوفة فعلا نقطة اتصال بين عالمين ، وقد أثبت الماء وجوده في البداية بفضل الفرات ، وبكل ما يتبع الفرات كالسبخة التي أشرنا إليها مرارا ، والقصب الذي أضفى على الكوفة

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٩٥ ؛ صالح العلي حدد موقعها في الجنوب الغربي قرب طريق القادسية وحدده ماسينيون إلى الجنوب الشرقي قرب الفرات. ويؤيد السياق وجود الموقع إلى الجنوب الشرقي.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٩٩. استعملت كلمات مثل سكر وسكر وهي مصطلحات مائية مشتقة من اللغة الأكاديّة.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٥٨.

(٥) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠١.

٢٥١

وجهها الأول ، وبالمقابلة بين اللسان (١) والملطاط (٢) ، وبإكثار المصادر من استعمال كلمة «الظهر» (٣) (اليابسة التي ترتفع فوق السطح أو التجويف وتقابله ، كما يتقابل الظهر والبطن).

وتتكلم المصادر بخصوص الكوفة عن المسنّاة (سد) مع أنه كانت توجد مسناة اسمها مسناة جابر (٤) بالحيرة على الرغم من الاعتقاد السائد بأن الحيرة كانت غائصة في الصحراء.

وتكمن أهمية نصوصنا سواء لدى الطبري (٥) ، أو لدى البلاذري (٦) ، في التدليل على وجود شبكة من القنوات في جنوب الكوفة وفي المنطقة التي كانت تقع قبل الفرات. وهذه القنوات معروفة بنهر الحيرة ، ونهر السيلحين ونهر القادسية ونهر يوسف (٧) (يرجح أن يوسف بن عمر هو الذي أمر بحفره ، ويكون إذن خطأ تاريخي ورد بالرواية). فما هي هذه القنوات؟ أين كانت توجد؟ ما هي وظيفتها؟ هل كانت قنوات قديمة مهملة فتح فعلا المختار اتصالها بالفرات بعد أن كانت مقفلة ، وبذلك جف أسفل الفرات؟ علما أن الأخبار الخاصة بمعركة القادسية (٨) تحدثت عن قناة اسمها العتيق ويبدو أنها كانت مهملة ولعلها كانت مسدودة ، وقد أشار إليها المسعودي أيضا واصفا إياها بأنها مجرى قديم للفرات كان يصب في بحر قديم قام مكان بحيرة النجف (٩). من المؤكد أن الحيرة لم تكن تقدر أن تحافظ على وجودها المزدهر في الماضي كواحة من دون الري. وقد تغذت الضفة العربية للفرات بالماء بواسطة الأنهار ـ القنوات. ويحتمل أنها تعطلت أو تقهقرت في أواخر العصر الساساني وعادت إلى سالف نشاطها في العصر العربي. ومن المعلوم أن خالد القسري أمر بعد ذلك بحفر النهر الجامع ونهر خالد والمبارك وباجوّه وبارمانه ولوبه فمثل كل ذلك شبكة حقيقية (١٠). ولعل الجامع وحده كان موجودا بمنطقة الكوفة (١١). فهل إليه تلمّح المصادر رغم

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٩ وج ٤ ، ص ٤٢.

(٢) عرّفه البلاذري بأنه يفصل بين الكوفة والحيرة : فتوح البلدان ، ص ٢٧٧. الواقع أن الملطاط كان محطّا لفيضان النهر.

(٣) الظهر هو «طريق البادية» : تاج العروس ، ج ٣ ، ص ٣٧١.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢٢ وج ٧ ص ١٨٥ ، ورد ذكر مسنّاة جابر في فتوح البلدان ، ص ٢٨٠.

(٥) التاريخ ، ج ٦ ، ص ٩٩.

(٦) أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٥٨.

(٧) أو بورسوف؟

(٨) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٦ ـ ٥٥٧ ؛ مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١١٧.

(٩) مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١١٨.

(١٠) فتوح البلدان ، ص ٢٨٩ ؛ أنساب الأشراف ، مخطوطة باريس ـ السليمانية ، وجه ورقة ١٨٨.

(١١) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

٢٥٢

أن ذلك خطأ تحقيبي؟ وهل كان قناة مخندقة تحيط بالكوفة ومنها تتفرع الأنهار الأخرى كما تصور ذلك ماسينيون ، مشيرا ضمنيا إلى خندق المنصور؟ (١) وتكون تضمنت المصادر خطأ تحقيبيا آخر في هذه الصورة أيضا.

إن هذه المصادر قليلة الوضوح وقد تضمنت الهفوات والتراكيب العتيقة وهي تريد أن تثبت أن المختار أمر بغلق الفرات لصده عن السيل إلى الأسفل. ولهذا سال الفرات بأكمله في «مجتمع الأنهار» حيث تتجمع القنوات وتنطلق جميعها من الفرات (٢). هذا المكان هو السيلحين الذي لا يمكن تحديده بالجنوب الغربي على حاشية الصحراء بالحيرة وما خلفها كما فعل صالح أحمد العلي (٣) ، بل إنه يحدد في مكان ما بالجنوب الشرقي على الفرات. فهل يعني ذلك شبكة من القنوات الخالية المهملة المهجورة التي لم يتبق منها سوى أثر مجوف على الأرض وقد أعادتها إلى سالف نشاطها ظروف عسكرية استثنائية أو أنها كانت قنوات مستعملة ، ملأها فجأة هذا التفريع أو قد كانت تروي جنوب الكوفة عادة؟ لا ننس أن الحيرة كانت ما زالت قائمة بكل معنى الكلمة في القرن الأول وما تلاه. فكيف أمكنها البقاء دون ماء؟ من المعلوم أن هناك قطائع زراعية تابعة لجنوب الكوفة ، قبل بلوغ الفرات ، منها طيزناباذ (٤). ثم لماذا كانت الكوفة ذاتها تتغذى بالماء بصفة سيئة في ذلك العصر لعدم وجود فرع من فروع الفرات يسد حاجتها من الشرب على الأقل؟ (٥) لا تناقص في هذا الأمر حسب رأينا ، بل إنه مجرد إهمال. كانت هذه القنوات موجودة أساسا لسد حاجات الزراعة ، وكانت الكوفة تقع على حافة الفرات فكانت تحصل مباشرة على الماء ، فضلا عن قلة التنظيم ، فلم يتوفر لها سوى السقائين وبعض الآبار في القصر وفي بعض الجبانات (٦) ولم يوجد شيء آخر. وبذلك اصطبغ حصار المختار بصبغة فظيعة سنة ٦٧ ه‍ ، فكان حصار العطش القاتل. على أنه يجب التأكيد في كل حال على تدخل عالم المياه وحضوره وتأثيره في هذه النقطة القصية من الصحراء ، فكانت الكوفة تعيش تبعا لذلك وضعا شديد التناقض ، وهو تناقض عمّ كل شيء دون ريب.

لقد سمحت الحفريات الأثرية الخاصة بالقصر بإبراز سواق شيدت لإيصال الماء (٧)

__________________

(١) انظر : Massignon ,op.cit.,p.٦٤ والخارطة.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩.

(٣) «منطقة الحيرة ...» ، مقال مذكور ، ص ٢٧.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤ ؛ العلي ، مقال مذكور ، ص ٢٥.

(٥) وقد شيدت قنوات بعد ذلك : البراقي ، ص ٦٩.

(٦) كانت بئر المبارك بمقبرة جعفي : فتوح البلدان ، ص ٢٨٣.

(٧) M.A.Mustafa ,Art.cit.,p.٨٤.

٢٥٣

والمرجح أن ذلك قد تم انطلاقا من الفرات. ولا شك أن السواقي أقيمت في عصر متأخر خلال حكم الأمويين ، وهو تأخير له مغزاه أيضا ويطفح بالغفلة وقلة الوعي. وقد تحدثت عن مثل هذا المصادر بخصوص العصر الأول في بغداد. لقد وجب تذكير المنصور بضرورة إمداد المدينة بالماء بصورة منتظمة (١). ولعل كثرة الماء المستساغ هنا وهناك ، في الكوفة كما في بغداد ، قد أغنى عن التفكير في الأمر ، خلافا للوضع الذي ساد البصرة (٢). الواقع لا محالة أن الهدف الرئيسي للحصار الذي ضربه مصعب على المختار ، يتمثل في القضاء على كل مقاومة تصدر عن المختار ، فعمل على تعطيشه.

هناك شهادات ملموسة عجيبة في قوتها وتلونها ؛ لقد وزّع مصعب رجاله على النقط الاستراتيجية في الكوفة لقطع «الماء والغذاء» عن المحاصرين في القصر. إنه حصار مدينة عزلاء بلا أسوار ، وقد تم في بادىء الأمر حصار القصر عن بعد ، أي في السبخة وجبانة السبيع أو الصائديين حسب المصادر ، وفي الكناسة وفي جبانة كندة (٣) : «ولربما رأيت خيل عبيد الله (ابن الحر) قد أخذت السقاء والسقائين فيضربون ، وإنما كانوا يأتونهم بالماء إنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينارين لما أصابهم من الجهد ، وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالا ضعيفا ، ولا نكاية لهم ، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس ، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء ، قد التحفت عليه ، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة ، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها ، فإذا دنت من القصر فتح لها فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه ، وإن ذلك بلغ لمصعب وأصحابه ، فقال له المهلب وكان مجربا : اجعل عليهم دروبا حتى تمنع من يأتيهم من أهليتهم وأبنائهم ، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه» (٤). وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه ليغيّر طعمه فيشربوا منه ، فكان ذلك أيضا مما يروي أكثرهم (٥).

إنه نص من نوع المنتخبات الأدبية يتضمن عالما قائما بذاته تلتقطه أبصارنا ، عالم المرأة الاجتماعي والبشري. وهو لا يختلف كثيرا عن العصور القريبة منا. كانت النسوة مقنعات

__________________

(١) الخطيب في كتاب Lassner ، ص ٥٨.

(٢) Massignon,» Explication du plan de Basra «, Opera Minora, III, p. ٢٦ ـ ٤٦. ؛ كذلك أشار شارل بيلا إلى مشكلة الماء في أطروحته :.Ch.Pellat ,art.» Basra «,E.I. / ٢

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٤) وقال البلاذري أن الأمر وقع : أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٦١.

(٥) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

٢٥٤

وكن يخرجن من بيوتهن بحجة زيارة الأقارب. لقد تشكلت واتضحت المظاهر البارزة للحضارة الإسلامية في خمسين سنة. لكنه يصور الصرامة الكامنة في قضية الماء على الصعيد المدني الصرف. ولنقل مرة أخرى إن ما جدّ في عملية مصعب يسمح عموما بإثراء رؤيتنا للكوفة من عدة وجوه. وها نحن نتعرض لمسألة أو مسألتين أخريين.

من جديد نقاط الدخول : السبخة والجبانة والكناسة.

كان على مصعب أن يقطع على المحاصرين في القصر كل خطوط التموين أي على ما يقرب من ٦٠٠٠ شخص. كيف سيتم هذا العمل الصّارم؟ عسكر مصعب نفسه بالسبخة ونصب قادته بالكناسة وفي جبانة السبيع ، وجبانة كندة ، وجبانة مراد ، وجبانة الصائديين (١). والمعتقد أن هذا المواقع كانت تمنع كل اتصال بالخارج فهي تمثل لذلك المخارج والمداخل الرئيسة وهي تراقب البقية أيضا ، وتراقب طرق الخروج. تقدمت هذه الحشود بحذر في مرحلة ثانية ، كل حشد من الموقع المحدد له ، وجهتها المساحة المركزية لتطويق القصر (٢). وليتم التعرف على هذه النقط الأساسية كان واجبا الربط بين المرحلتين واعتماد هذه الحركة الزاحفة.

ـ استهدف احتلال السبخة القضاء على كل اتصال عبر الفرات من أسفل ومن أعلى. فالسبخة تفصل الكوفة عن الفرات إذ إن أعلى نقطة في الشمال هي جسر المراكب ، الجسر الذي عينّ ماسينيون موقعه جيدا (٣). لكن السبخة تتجه أيضا إلى الجنوب ، ولا بدّ أنها تتسع عندما تلحق بمشارف بطائح الكوفة (٤) وفي اتجاه البصرة.

كانت جبّانة كندة ومراد والكناسة أيضا ، على حاشية الحزام الواقع جنوبي الجنوب الغربي. وكانت لها الوظائف نفسها تقريبا ، أي الاتصال بالطريق الكبرى للحج التي تمتد حتى بلاد العرب (٥) ، مع اعتبار أن هذه الطريق بالذات ، طريق الظهر ، تنحرف إلى البصرة كما إلى الحيرة (٦).

ـ تقفل جبانة السبيع المدخل في الشمال ، بداية في وجه النجدات القادمة من عشائر

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥ وأنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٣) op.cit., ، انظر الخارطة.

(٤) هذا ما يمكن استنتاجه من تقدم مصعب : الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٤.

(٥) كتاب البلدان ص ٣١١ ؛ صالح العلي ، مقال مذكور ، ص ٢٥ وما بعدها.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩.

٢٥٥

همدان المختلفة ، مساعدة لإخوانهم الذين كان أكثرهم من همدان ، وكانوا تحت الحصار. لكنها تمنع أيضا الاتصال بالطريق الرابطة بين النخلة ودمشق ـ التي تراقبها الكناسة كذلك لأن موقعها كان يقع خارج المركز ، وهي تشرف على الغرب والجنوب وتقع بينهما. وانطلاقا من خطة همدان ، يمكن فضلا عن ذلك اللحاق بالنهر (١) واللحاق عموما بالمنطقة الريفية في الشمال ، منطقة البهقباذ الأوسط (٢). لا مراء في أن مثل هذا الوضع العاجل يعني تعطيل الصلة بالخارج وإيقاف المبادلات مع نقط العمران المجاورة فقط ، أي القادسية والحيرة وممتلكات الأشراف في محيط المدينة ، وقرى الأنباط ومختلف البوادي التي يقيم بها بدو المناطق المجاورة (٣) والسواد أيضا الذي كانت علاقته بالكوفة رخوة في ذلك الوقت ، إذ كان يرتبط بها عبر الجسر لا غير.

ـ يبقى الحديث عما اكتنف جبانة الصائديين من غموض ، وكانت من أقدم جبانات الكوفة ، وقد جزم البلاذري بأنها كانت ملكا لهمدان (٤). الواقع أن بني الصائد شكلوا بهمدان عشيرة معروفة (٥) ، فلم هذا الاشتباه بجبانة السبيع في هذا المقام كما في استراتيجية التطويق؟ ليس هناك ما يوضح هذا الأمر في تاريخ الطبري (٦) ، فقد احتل عبيد الله هذه الجبانة ، فورد عليه أمر بالتقدم إلى القصر والوقوف قريبا من دار بلال (٧) ، (والمرجح أنها كانت لابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري). ذلك أنّ أحفاد أبي موسى أقطعوا نصف الآري في قلب المركز في جهته الجنوبية الشرقية (٨). وكان رأي ماسينيون أن جبانة الصائديين كانت تقع إلى الجنوب الشرقي ، غير بعيدة عن جبانة سالم (٩) ، اعتمادا لتنوع الروايات الخاصة بالثورات ، وما تضمنت من منطق داخلي. ويبدو أن مسيرة جيش عبيد الله بن الحر أكدت هذا الأمر. لكن ما سبب وجود عشيرة من عشائر همدان بهذا المكان؟ وهل يجب إسناد هذه الجبانة إلى عشيرة من أسد هي بنو الصيداء (١٠) ، مما يفسر في

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٨.

(٢) صالح العلي ، «منطقة الكوفة» ، مقال مذكور ، ص ٢٣٧ ـ ٢٤١.

(٣) صالح العلي ، «منطقة الحيرة» ، مقال مذكور ، انظر الخارطة.

(٤) أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٦٠.

(٥) كتاب الاشتقاق ، ص ٤٢٩ ؛ الجمهرة ، ص ٣٩٥.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

(٧) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

(٨) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٩) ,op.cit., انظر الخارطة.

(١٠) كتاب الاشتقاق ، ص ١٨٠.

٢٥٦

كل حال سبب تسميتها بجبانة الصيداويين في مصادر كثيرة (١)؟ ولكن خطة أسد كانت تقع في الجنوب الغربي بصورة مبدئية اعتمادا للتقسيم الأولي فتبقى القضية قائمة بذاتها.

تسليط الأضواء على المركز

سبق لنا أن رأينا أن مصعبا أمر بوضع الدروب لقطع كل اتصال بين المركز والخطط. ولربما تمّ الاحتفاظ بها لأن المصادر اللاحقة تحدثت عنها (٢). تعني كلمة درب (دروب في الجمع) أوّلا «سكة قليلة العرض» تمتد من ٨ إلى ٩ أمتار تقريبا (٣). فتجاوز عرضها عرض الزقاق ، وكان دون عرض السكة وأضيفت فيما بعد أبواب بأطراف الدروب (٤) فاتسعت دلالة هذه الكلمة وأصبحت تدل على الأبواب الكبرى التي تقفل السكك (٥). والمعتقد أنه وقع تجهيز بعض السكك أو كلها ، التي تفتح على المركز بأبواب ، وذلك بداية من عصر مصعب. كان الأمر كذلك في العصر التالي بالنسبة لأسواق الكوفة بعد أن بنيت وهيئت (٦) ، وشملت العملية بغداد وغيرها من المدن ، فأصبحت الأبواب تغلق عند الطلب ، ولا سيما عند المغرب ، واتجه التطوّر نحو استحواذ الخواص على هذه السكك. هنا كانت محاولة لفرض رقابة تامة سلّطتها الدولة على الاتصالات بين المركز العمومي والحزام السكني ، وربما تكلل مسعاها بالنجاح أو أنها لم توفق في ذلك. لقد جسّمت المدينة المستديرة هذه الإرادة التعسفية تجسيما قاسيا كاد أن يكون مرضيا لأن المرور لم يجر أبدا إلا عبر مركّبات الأبواب (٧) وكلما تمادت المدينة الإسلامية في البناء ، تحصنت وانغلقت ، وكبتت الطاقة البشرية في بروج داخلية. ومن العجيب أن الروح الثورة بالكوفة ـ التي يمكن مقارنتها بما كان عليه الوضع في باريس خلال القرن التاسع عشر ـ كانت مصدرا لمثل هذه الاختيارات.

ونستمد فوائد أخرى من عصر مصعب ؛ يقول أبو مخنف (٨) : «ثم أن مصعبا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر. فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة.

__________________

(١) كتاب الأغاني ، ج ١٦ ، ص ٥.

(٢) الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٦١ وما بعدها. ليس مؤكدا أنها كانت موجودة خلال العصر الأموي ، راجع في كل حال : أنساب الأشراف ، ج ٣ ، ص ٢٤٣.

(٣) كان لدروب بغداد عرض يساوي ١٦ ذراعا : كتاب البلدان ، ص ٢٤٢.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٤٢.

(٥) لسان العرب ، مادة «درب».

(٦) أغلقت دروب الأسواق خلال ثورة زيد : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢.

(٧) الخطيب في كتاب Lassner ، ص ٤٩ وما بعدها. انظر لا حقا أيضا.

(٨) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

٢٥٧

وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم» (١) الذي كان على رمية سهم من القصر (٢). ورد اسم بني مخزوم في هذه العبارة ، ولم يكونوا من قريش ، بل كانوا عشيرة صغيرة من عبس انتمى إليها حذيفة بن اليمان من صحابة الرسول (٣) ، وقد تضافرت المصادر على ذكر حضور بني عبس قرب المسجد (٤) في المركز وهذا أمر شاذ. الواقع أن العشيرة المقصودة هي عشيرة عبس التي شاركت حذيفة في النصف الثاني من الآري (٥) في قلب المركز ، وهو يقع في الركن الجنوبي الغربي ، وكان إقطاعا شبيها بإقطاع أبي موسى (٦) الموجود بالركن المقابل. ومبرر ذلك في كل حال أن بني عبس بقوا بحامية المدائن عند تخطيط الكوفة (٧) ، إلا أن سعدا هيأ أماكن للغائبين الذين عرفوا بأهل الثغور (٨). فعلينا التخلي عن فكرة سادت تقول بوجود حزام رقيق داخل المركز ، خصص للقرشيين والأنصار ، وأحاط به من كل جانب بما يشبه الخطة المستديرة التي كانت لأهل الراية بالفسطاط (٩) ، ولكن كان المركز وما جاوره مباشرة يتضمن بعض الدور الخاصة بالأشراف من كبار الصحابة (١٠). ولا شك أن أقرب القطائع من المركز داخل الخطط بالذات ، أسندت لأهل العالية وشمل هذا الأمر جهينة وهي تطرح علينا مشكلا ، فلقد حصلت على خطة كاملة منذ البداية ، كانت تقع بأقصى الجنوب من جهة الغرب (١١). كانت خطة مهمة في كل حال تساوي خطة كندة وقد ورد ذكرها كثيرا في مختلف المصادر (١٢). ورأينا في هذا الخصوص أنها كانت تقع بمقدمة كندة ، وتجاوزتها في اتجاه المركز ، وكانت ممرا إجباريا له (١٣). كان المفروض أن يأتي مثلا الشعبي من كندة فقيل إنه كان عليه المرور بجهينة حيث عليه أن يقطع كل يوم مسافة طويلة تؤدي به إلى الجبانة (١٤).

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ١٠٥.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٠٦.

(٣) كتاب الاشتقاق ، ص ٢٧٨.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ و ٣١١ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٥) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٦) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٣.

(٨) المرجع نفسه ، ص ٤٥.

(٩) المقريزي ، الخطط ، ج ١ ، ص ٢٩٦ وما بعدها.

(١٠) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(١١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(١٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٩.

(١٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

(١٤) وكيع ، أخبار القضاة ، ج ٢ ، ص ٤٢٤.

٢٥٨

باستثناء ذلك ، يوحي لنا عصر مصعب ببعض العناصر الطوبوغرافية المهمة المتمثلة في وجود دار السقاية (١) التي كانت بناية عمومية للتموين بالماء ، وفي وجود موضع للحدادين «حيث تكرى الدواب» (٢) أي غير بعيد عن الكناسة ، وينبغي تحديده بمكان يقع بين جبانة مراد والكناسة ذاتها وعلى الحدود الغربية إلى الجنوب الغربي من المركز. وهنا اسم مكان آخر هو زقاق أو شارع صغير عرف بزقاق البصريين ولعل اسمه مستمد من أن أهل البصرة أقاموا فيه إقامة دائمة ، سواء كان ذلك بعد هذا العصر أم لا ، وكان بمنتهى سكة جذيمة من أسد (٣). وفيه كمن أحد قادة مصعب في اللحظة الأخيرة التي تم خلالها تطويق القصر (٤). هذا خبر ثمين لأنه يعني أن فكرة السكة استمر تطبيقها على طرق العشائر وليس على الطرق القبلية الكبرى وحسب ، وكانت الأزقة تقطعها قطعا متعامدا أو مائلا (٥). وبصورة أعم ، سواء فحصنا هذه الرواية أو غيرها ـ رواية هجوم شبيب على الكوفة مثلا (٦) ثم ثورة زيد بن علي (٧) ـ فإن ما يبرز للنظر هو صورة الكوفة التي خطتها السكك من كل جانب ، السكك التي كانت الممرات الوحيدة بين المركز والخارج. ذكر أبو مخنف باستمرار عبارة التحكم في «أفواه» السكك في نصه (٨). وتدل التطورات التى مرت بها ثورة المختار على أن هذا يمثّل عائقا يحول دون الدخول إلى المدينة. وتتواجه «الأفواه» الخارجية مع «الأفواه» الداخلية التي تنفتح مباشرة على المركز وهو منطلقها (٩). كانت تلك حال سكة جذيمة (١٠). لكن هل حافظت السكك على العرض نفسه على طول امتدادها ، أم أنها ضاقت بحيث أن فتحاتها في المدخل والمخرج شكلت وحدها العرض السابق؟ ألم يمح بعضها فلم تحتفظ سوى «بأفواهها»؟ ألم يبرز غيرها بعد تصميم سعد الأول ، ضمن تخطيط آخر ، كما وقع في سكة البريد وسكة لحام جرير؟ (١١) لا بد أن طريقة طمس الطرق غير متقدمة بما يكفي في عصر

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٠٦.

(٣) المرجع نفسه ، ص ١٠٦.

(٤) حوشب بن يزيد : الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٦.

(٥) انظر ما سبق.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٧٦.

(٧) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ١٨٠ ـ ١٩٠. لم يذكر شيء عن شبيب في الكامل للمبرد ، ج ٣ ، ص ٢٦٨ ـ ٣٣٧ ، وقد تبسط في الحديث عن خوارج البصرة.

(٨) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٠ و ٢٥ و ٢٧ ...

(٩) المرجع نفسه ، ص ٢٢ : تمركز كعب بن أبي كعب بالميدان أي بالرحبة ومنع شاكر من الدخول إليه إذ استولى على «أفواه سككهم وطرقهم» من جهة المركز.

(١٠) انظر ما سبق.

(١١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥.

٢٥٩

المختار وحتى في عصر لاحق حيث جمع أبو مخنف أخباره من أناس كانوا شهود عيان لم يعيشوا بعد سنة ١٠٠ إلى ١١٠ ه‍ ، ولا يكون هذا التطوّر حتمية دون شك ولا حتى تطورا متوقعا ممكنا طيلة العصر الأموي. فقد بقيت الكوفة مصرا عسكريا فكان لازما تجنيد الرجال وتوجيههم إلى القتال بسرعة. والمؤكد أن نسق السكك المشع من المركز إلى الخارج دام فترة طويلة.

وهكذا يتضح أن الفترة التي اندلعت خلالها ثورة المختار بمراحلها الثلاث كانت غنية بالأخبار المتعلقة بشخصية الكوفة المادية. علما أننا نتعرف بواسطتها على علامات كثيرة ذات دلالة تمكننا من تحديد موقعها. وإذا ما افتقدنا تلك العلامات ، فلا مناص لنا من مواجهة حيرتنا بشأنها ، وهي كبيرة.

لقد اطلعنا على الرواية المتعلقة بالمختار على مستويين : مستوى ساذج ومستوى متعمق. وقد جارينا القصّاص في الحالة الأولى ـ لأنّه قصّاص حقا ـ واكتشفنا الكوفة عبر الأحداث التي خلخلتها والتي رويت مشحونة بحركة البشر واضطرابهم. واعتبر المستوى الثاني معرفتنا للثورات الأخرى وقدرتنا على القيام بمقارنة نقدية بين العلامات الدالة أمرا مفروغا منه. إنما نستهدف من وراء ذلك التعرف على الأماكن قطعا واستعراض تخطيط المدينة بصفة عادية. لكن أيضا ومجاراة لأبي مخنف فإنّنا نبعث للوجود مرة أخرى هذه المدينة بصورة من الصور ، ونعيد تعميرها وإحياءها ، إذ تلك هي الوسيلة الوحيدة لارتياد هيكلها. لم يكن أبو مخنف يريد إخبارنا عن الكوفة بل عن الأشخاص الذين قاموا بدور ما وعن الوقائع التي جرت على مسرحها. صارت الكوفة منمقا (ديكورا) تتجدد فيه القصة نفسها مما جعل الغموض يسود فنعود بصفة شبه مستمرة إلى النقاط الساخنة نفسها في رواياته. هل أراد رسم أشخاصه في إطار غير مميز ، بتدقيقات كافية لتغذية الخيال؟ إنه مشكل كبير مطروح في هذا المجال. لقد اجتهد في تعريف بعض الناس جيّدا ، فاهتم بهم أكثر مما اهتم بالأماكن ، فكان يسمي ويعرّف أقل شخص منهم ، فتبلور لديه ولدى الإخباريين الآخرين عالم البشر ، وعالم العمل والسياسة وعالم الصراع ، أكثر من عالم الأشياء الجامد ، أي عالم الآجر والماء والرمل. لكن هذا العالم كان قائما بذاته وهو يستمد حياته في جوهرها من حياة رجال التاريخ الذين وضعهم أبو مخنف في حد أدنى من الشروط الملموسة كما يفعل كل قصّاص يحترم نفسه. وإذا كان أبو مخنف قصّاصا متفنّنا إلا أنه بقي مؤرخا. فكان علينا المراهنة على جزء صغير من الدقة الطوبوغرافية حتى نتمكن من مزيد من الاحاطة بالموضوع ، والاستمرار في هذه القراءة ومقابلتها بمصادر أخرى. إن أبا مخنف لم يخترع الجبانات أو السكك أو الصحارى أو السبخة ، فقد ورد ذكرها في كتب أخرى. ولسنا

٢٦٠