نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

بصدد السباحة في الخيال بل أن هناك أرضية من الواقع نقف عليها. لكنه يجول بنا على هواه ، ويتحول بنا من اليمين إلى الشمال ، ثم يدور بنا نصف دورة ، ويتركنا متعطشين للتعرف على الأماكن. لقد قال الكثير عنها ولم يقل ما به يشفي غلتنا. والمفارقة هي أنه يحثنا على النزوع إلى الاستماتة في البحث الطوبوغرافي لكونه يقول الكثير ولا يقول ما يغني. هذا ميل مشروع ضروري وغير مجد في آن. أليس الأساس أن نفهم حقيقة بنية المدينة وسير أجهزتها؟ وألا يكون مما لا طائل من ورائه للتعمق في المعرفة أن نتأكد أن السبخة كانت تقع في الشمال الشرقي لا في الشمال الغربي؟ هذا صحيح دون شك ضمن مشروع شامل للفهم الوظيفي. وليس بصحيح ، إذا اعتمدنا منظور إدراك الملموس حيث يريد المرء معرفة طريقه لا أن يعطيه ظهره. وهناك حقيقة أصلية للأماكن تجعلها حيث هي لا في موضع آخر. وما نستفيده من التمعن في هذه الروايات أنها تتيح بعض الفرص لإدراك هذه الحقيقة ـ ولعلنا نتيه ـ وتفتح لنا آفاق شاسعة لروح الأماكن ، وترسم لنا دون شعور منها الرسم الجانبي للشخصية الجسدية للكوفة في حياتها الملموسة أكثر ما تكون نصاعة : نحن لا نتحرك في المجردات بل نحافظ على حد أدنى للاتجاه ، مثلنا مثل مسافر متعجل نزل بمدينة يجهلها ، وقام بجولة فيها ، بحيث يمكن لنا التعمق في التخطيط والاجتهاد في معرفة سكة معينة ، أو التشبع بجو المدينة دون النظر لأي تخطيط ، أو الانتقال من النظر إلى التخطيط إلى تأمل المحيط. إن مصادرنا تمدّنا بالاختيار نفسه. وشعورنا بصحبة أبي مخنف شعور مزدوج مرير : شعور بتقدمنا الكبير وشعور بتعثرنا التام. وما قدمه بخصوص جولته عبر المدينة يسمح لنا برؤية كل شيء مع أننا لن نقدر على الرجوع إلى الفندق لو كان علينا الذهاب إليه بمفردنا.

٢٦١

ـ ١٨ ـ

شبيب (٧٦ ـ ٧٧ ه‍ / ٦٩٥ ـ ٦٩٧) :

استطلاع ثان

حدث ثورة شبيب له أهمية قصوى وهو معبر في أكثر من نقطة ، ومن خلاله تتضح جغرافيا تاريخية كاملة بفضل جولاته السريعة الخاطفة عبر فضاء واسع يغطي منطقة نفوذ الكوفة ، في أذربيجان وبلاد الموصل وأرض جوخي والسواد ، والكوفة ذاتها ، وما حواليها في باديتها الواسعة. يبرز كل ذلك بصفة غير مباشرة أمام أبصارنا بحيث أصبح يشدنا إليه : أسماء المكان ، الطرق والمسالك ، وضع الريف ـ عالم من القرى والأديرة والسدود والقنوات ـ مستقرات البدو في الجزيرة والسواد والجبال ، أو المترامية في سباسب الكوفة. وفي الإمكان أن نستمد منها الكثير على الصعيد السياسي والاجتماعي والبشري ، لكننا لسنا بصدد النظر في ذلك لأن الكوفة التي اتجه إليها شبيب بعنف تبقى الشخصية الرئيسة. وتتسع دائرة الاكتشاف قليلا بوجود شبيب ، فترفع الكوفة شيئا من الغموض الذي يلفّ هيكلها ومحيطها.

نحن ملزمون بالرجوع إلى عموميات الطوبوغرافيا ، واللهث دوما وراء حقائق مستحيلة إلى أن نحصل على بعض التدقيقات. نبدأ بلحمة الأحداث كما رواها أبو مخنف الذي اعتمد عدة شهود وأسانيد (١) فانتاب التردد الرواية ونعتمد آخرين منهم عمر بن شبه (٢). يظهر أن شبيبا كان يرمي إلى بث البلبلة في جهاز السلطة بالعراق وتحديها ، وإشاعة الاضطراب في مواردها. والدخول حتى مركز الكوفة ، وكان ذلك هو الهدف الرمزي الأسمى فوفق ولو مرة واحدة على الأقل في ذلك ، دون أن يمدد إقامته. لكنّه أصرّ على الإحاطة بالمدينة المدافعة عن حياضها ، الخائفة ، فكان لا يكل في البحث عن ثلمة ينفذ منها فأصبح الجسر والسبخة ودار الرزق وكذلك أفواه السكك والقصر والجامع وخطة بني

__________________

(١) ولا سيما فروة بن لقيط الذي حضر الأحداث : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٧.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ٢٧٢ ـ ٢٧٦.

٢٦٢

شيبان ـ قرابته (١) ـ نقطا حساسة ازدادت وضوحا لدينا.

أ) جاء شبيب مسرعا من المدائن في مرحلة أولى ، فامتنع عليه دخول الكوفة ، وحال دونه ودون ذلك جيش مؤلف من ٢٠٠٠ رجل وهو بقيادة سويد بن عبد الرحمن السعدي. وقد عسكر هذا الجيش في السبخة ثم عبر الفرات وسيطر على مدخل الجسر (٢) ، جسر المراكب الذي يجب وصفه وتعريفه بدقة ، ما أمكن ذلك. فراوغه شبيب وعبر النهر على مرأى من سويد الذي كان يلاحقه ، وبلغ دار الرزق التي ورد ذكرها لأول مرة في مثل هذه الروايات (٣) التي أهملت ذكرها بخصوص المختار مثلا. وعلم شبيب بوجود حشد آخر بقيادة عثمان بن قطن نزل بالسبخة ، ولذا ينبغي تحديدها في مكان آخر غير دار الرزق وحتى الجسر ، إلى أسفل النهر وفي الشرق تماما ، فدار حول الكوفة كلها ، واستمر سويد يلاحقه فحال بينه وبين دور الكوفة (٤). وعند ذلك ، اتجه شبيب إلى الحيرة ، ثم ابتعد نحو أسفل الفرات (على بعد ٢٤ فرسخا) ، وعاد أدراجه إلى البادية ، باثا الرعب في بني شيبان ، وعاد أخيرا إلى الشمال مارا بالأنبار ، فبلغ أذربيجان (٥) ، بعيدا كل البعد.

ب) وبذلك كانت هذه المحاولة الأولى فاشلة. ونجحت المحاولة الثانية في السنة نفسها. اكتسح شبيب الكوفة بسرعة حيرت السلطة وهياكل الدفاع عن المدينة. لكن الحجاج علم بالأمر وهو في البصرة (٦) ، فسبقه إلى الكوفة ، ولم يكن له متسع من الوقت سوى بضع ساعات لتنظيم جهاز دفاعي ، لكنه لم يفعل شيئا. فعسكر شبيب هذه المرة بالسبخة ذاتها ، ودخل الكوفة راكبا مع رفاقه عند المغرب (٧). علينا الاعتقاد إذن أن السيطرة على السبخة كانت تعني السيطرة على مفاتيح المدينة وأنّ المسافة التي تفصلها عن المركز كانت قصيرة وأن الجانب الشرقي يوفر تسهيلات للدخول ، ويمثل إلى حد ما الموقع الرخو للمدينة ، إلا إذا تقرر غلق السكك ، ولم يكن الأمر كذلك هذه المرة. دخل شبيب السوق ، وروي ما يلي : «فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده ... ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة» (٨) (كانت المصطبة منصة لإقامة الاحتفالات

__________________

(١) من تميم بن شيبان ، كان شبيب بن أحمد من الأولين وابن أمة بيزنطية أحبت سيدها ، وقد تعلق بها شبيب كثيرا : راجع مثلا الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥٥ ؛ نشأ في بادية بكر بالجنوب الغربي من الكوفة : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٣٦.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٣٦.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٣٩.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٤٠.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٤٠.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٢٤٠.

(٨) المرجع نفسه ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢٦٣

العسكرية حسب ماسينيون (١) ... وتمثلت المرحلة التالية في دخول الخوارج الجامع الذي كان «كبيرا لا يفارقه قوم يصلون فيه». قتل بعض الناس وتراجع القوم مرورا بخطة شيبان. وحطوا أمام دار حوشب ـ صاحب الشرطة ـ ومسجد بني ذهل (بن معاوية وهم من كندة قطعا) : وقتل رجلان ووقع التشنيع بأحد القتيلين (٢). ولا بد أن هذه الأمور كلها جرت في فترة وجيزة جدا ، وكانت خطة شيبان مجالا لحقد غريب جدا وكثير الدلالة ، كان شبيب يكنّه لقبيلته ذاتها ، فهل في الإمكان تحديد موقعها على الأقل؟ كانت تقع على الأرجح في الزاوية الجنوبية الشرقية على الرغم من أن مسجد بني ذهل الذي ورد ذكره في ثورة حجر بن عدي لا علاقة له ببكر وإنما هو مسجد لإحدى عشائر كندة (٣). لكن المهمّ أن شبيبا ترك المكان واتجه رأسا إلى المردمة (٤). وكان دون شك مكانا يدل على مرتفع من الأرض أو سد على الفرات أو إحدى قنواته. ويدل جذر (ر د م) على فكرة السد ، وغلق الثغرة بتكديس المواد (٥) فضلا عن أن هناك من يتولّى جمع العشور (٦) (المقصود هنا مكوس المرور والجمارك ، والمكوس التجارية) (٧) ، وأخيرا ، لأنا نجد شبيبا بمنطقة الفرات أسفل الكوفة (أسفل الفرات) فورا بعد مروره بالمردمة حيث اصطدم بأحد أعوان الحجاج الذي جاء بصحبته من البصرة وتأخر في الطريق. وهناك مؤشر أخير هو أن صاحب الكوفة جرحت كبرياؤه وأهين فاستيقظ من سباته ووجه بسرعة جيشا لمطاردة شبيب والتقى قادته فعلا «بأسفل الفرات» (٨). إن كل القرائن تدل على أن خطة بكر ممن أقاموا بالكوفة اتحدت مع خطة عجل وتغلب وكانت تقع في العصر الأموي بالجنوب الشرقي من الحزام السكني وداخله : بين قيس وبقايا تميم (بنو العنبر) من جهة ، وكندة من جهة أخرى ، لكننا نجهل هل استقروا بالمكان الذي كان خاليا في بداية الأمر ، على المخطط المتعامد وهل دخلوا الخطة الأولى التي كانت للأزد. وما زالت (٩)؟. أما قضية بكر الخارجين عن الكوفة

__________________

(١).op.cit.,p.١٥ كانت تقع بالميدان الذي يعني رحبة في اللغة الفارسية.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤١.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ ؛ بخصوص وجود عشيرة بني ذهل بن معاوية من كندة ومسجدها بالكوفة راجع : مخطوطة الكلبي ، كتاب النسب ، ورقة ٢٤.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤١.

(٥) لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٢٣٦ وما بعدها ؛ تاج العروس ، ج ٨ ، ص ٣٠٩.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

(٧) أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٨) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤٣. هناك ترادف بين أسفل الفرات والسيلحين ، ولعل الكلمة الأولى تعني منطقة البهقباذ الأسفل وليس النهر بصفته تلك.

(٩) بقيت على الأقل بارق في خطة الأزد الأولى والأرجح أن غالبية الأزد كانوا بالشمال الغربي.

٢٦٤

والموجودين بأسفل الفرات كما بعيدا جدا إلى الغرب في قلب البادية فقد اتضح وضعهم إلى حد ما بفضل هذا النّص.

ج) جرت محاولة ثالثة لدخول الكوفة سنة ٧٧ ه‍. كانت أكثر اتصافا بالمظهر الدرامي من المحاولات الأخرى ، لأنها كانت معركة حقيقية ومنظّمة خسرها شبيب. فقد ضخم أبو مخنف الأحداث أكثر مما فعل عمر بن شبة الذي ورد ذكره أيضا في تاريخ الطبري ، فلوّن المحاولة ووتّرها إلى أقصى حد. والثابت أنه لا شبيب ولا زوجته غزالة تمكنا من دخول الكوفة ، خلافا لأسطورة شاعت وتواترت (١).

ولنستعرض مجرى الأحداث : لقد سبق لشبيب أن هزم جيوش الحجاج «بأسفل الفرات» (٢) ، ثم حاصر بعد أشهر المدائن وقد قيل إنها كانت أحد أهدافه الرئيسة (٣) فضلا عن الكوفة. ثم هجم على الكوفة انطلاقا من المدائن ، فمر بالطريق المعهود التي تعبر الصراة وسورا وحمام أعين ، وبلغ الجسر فاصطدم بجيش لجب من الكوفيين ، لكن هذا الجيش لم يقدر على صدّه فتفرقت ريحه (٤). ولا فائدة من التعليق على السر الموجود في قوة الخوارج وضراوتها ، وعلى قلة الروح القتالية عند أهل الكوفة ، فليس ذلك موضعنا. يقول أبو مخنف إن الحجاج استنجد بأهل الشام الذين قدموا ودحروا شبيبا في الكوفة بالذات فأنقذوا الموقف. وروى عمر بن شبة أن أهل الشام لم يتدخلوا وأن قتيبة بن مسلم هو الذي تكفل بالدفاع عن الكوفة فتكللت جهوده بالنصر. اختلفت الروايتان وكانتا غنيتين بالمعلومات الطوبوغرافية. وأفاض أبو مخنف في القول ، واتسمت رواية ابن شبة بالإيجاز والكثافة ، وكانت مقتضبة شحيحة التفاصيل (٥) ، وقد برزت في كلتيهما أهمية موقع الشمال الشرقي خارج المدينة ذاتها ، فكان مكانا مفضلا بصفته مسرحا للعمليات.

وروى أبو مخنف أن شبيبا عبر الجسر وأقام قريبا منه نحو الكوفة ، أي قبل جسر المراكب. وقال إنه عسكر ثلاثة أيام دون ذكر اسم الموقع بالضبط ، لكنه قال إن شبيبا أمر في اليوم الأول ببناء مسجد بطرف السبخة من جهة المكان حيث يقيم (أو سيقيم؟) تجّار القّت (وهو نبات للدواب) ، حيث يوجد الايوان. وأضاف أن المسجد «قائم حتى الساعة» (٦).

__________________

(١) واعتمدت خبرا ضعيفا : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٣.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤٤ ـ ٢٤٧.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٤٩ وما بعدها ، وص ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٤) كان على رأسه عتاب بن ورقاء : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٦.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٢٦٥

ويشدّ اليوم الثاني انتباهنا لأن الحجاج أمر مواليه المسلّحين بالتحصّن في مدخل السكك. وكذلك فعل أهل الكوفة الذين «وقفوا على أفواه السّكك» (١) ، فكأنما وجدت سكك عمومية أسندت لحرس الوالي وحدهم ولرجاله (المقصودة بالذات سكة البريد التي سيأتي الحديث عنها) ، وسكك للخطط ينبغي للسكان أن يدافعوا عنها : هذا مجرد افتراض جدير بالاعتبار. ثم رتب الحجاج الأمر في اليوم الثالث ، وهو يوم القتال الحقيقي ، بحيث تمركز قادة جيش الكوفة ، لا أهل الشام ، في «أفواه السكك» (٢). ولم ينج الحجاج نفسه من حركة تطويق قام بها شبيب إلا بالاستماتة في الدفاع عن سكة لحام جرير (٣) إما بمساعدة السكان وإما بمساعدة رجاله ، ولا علم لنا بذلك بصفة دقيقة.

اشتد القتال في اليوم الثالث (٤) وقد دار رحاه خارج الكوفة ذاتها ، حيث كانت السكك مسدودة ، فدار في مكان خال يبدأ بالسبخة وينتهي بالجسر. ونحن ندرك حدوده نوعا ما بالمقارنة بين هذه العملية وبين ثورة المختار التي رويت بصورة أقل دقة ، إذ أحاطت به علامات كثيرة : القصر بداية ومنه انطلق الحجاج ثم سكة البريد التي مر بها وأخيرا «أعلى السبخة» حيث انتهى به المطاف (٥). وبعد أن تمّ صد الحملات العنيفة التي قام بها شبيب من قبل جيش الشام الذي كان حصنا منيعا قام بالدفاع المستميت فلم تمكن زحزحته عن موقعه ، فضلا عن أن خطب الحجاج بعثت فيه الحماس (٦) ، أمر شبيب جانبا من جيشه باقتحام سكة لحّام جرير ليقطع خط الرجعة على الحجاج (٧) ، لكن ردّ الهجوم. والملاحظ من الآن أن سكة لحام جرير تقع حيث يمكن الوصول إلى سكة البريد بعد المرور بها ، وذلك بالاعتماد على هذه العملية وأيضا من الوجهة الطوبوغرافية ، وحيث يمكن الأخذ بسكة البريد حتى الخروج منها في أعلى السبخة حيث كان الحجاج في بدء القتال. ورأيي أنه ينبغي تعريفها كإحدى السكك المتجهة من الغرب إلى الشرق والمنطلقة من المركز ، وهي تعبر السوق وتقسم الخطط الشرقية وصولا إلى وسط السبخة. إن هذا التفسير تفرضه إعادة قراءة الرواية الخاصة بالمختار إذ ورد فيها ذكر تلك السكة ، كما جاء فيها أن يزيد بن الحارث بن

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٦٩.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٥) المرجع نفسه ، ٢٦٩.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ كان الحجاج قائدا كبيرا للرجال وقائدا حربيا حقيقيا ، في مثل هذا الموقف المأسوي.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.

٢٦٦

رؤيم (من ربيعة) (١) تمركز فيها ، وقد وضعه أبو مخنف «على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة» (٢). لكن ينبغي تسجيل قدرة الجيش الذي وجهه شبيب على اختراق خطوط الحجاج ، وأن هذه الخطوط لم تقدر على منع الدخول إلى السبخة ، وسنستعرض فيما بعد النتائج الطوبوغرافية الأخرى المترتبة عن هذا النص.

في المرحلة الأخيرة من المعركة ، أعاد الشاميون الهجوم بعد أن صمدوا دون حراك وعلى الركب ، وكأنهم جدار من الرماح ، أمام الهجمات المتكررة لخيل شبيب (٣). فردّوه تدريجيا على أعقابه وقد كان يستميت في القتال. وبلغ شبيب أخيرا بستان زائدة الثقفي (٤).

أما الحجاج ، فقد تقدم واستولى على مسجد شبيب (٥). ونستنتج من السياق أن المسافة الفاصلة بين هذا المسجد حيث عيّن الحجاج نشابين ، وبين بستان زائدة لا يستهان بها ، لكنهما كانا يقعان بالمنطقة ذاتها (٦). وما لبث القوم أن نهبوا معسكر شبيب ، ويظهر أنه كان يقع قرب الجسر (٧) ، وهكذا تحدد المكان في ثلاثة مواضع مختلفة علما بأن أبا مخنف أكد عند حديثه عن المختار أنه «نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة» (٨) ، والمفروض أن زائدة كان من ثقيف (٩) فكان بستانه يقع إما في طرف هذه الخطة وإما في مكان خارج عنها لكنه موجود في امتدادها. وقد عمرت هذه المنطقة الشمالية الشرقية المحاذية للفرات بالبساتين (١٠) في أيامنا هذه لكن لا شك أن بستان زائدة كان يوجد بعيدا قليلا عن النهر على الحد الشمالي الغربي من السبخة.

فهل تسمح رواية عمر بن شبّة (١١) برؤية أدق لهذه النقاط الدالة؟ حقّا كان ابن شبة

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٧.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٦٩.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.

(٦) المرجع نفسه ، ٢٧١.

(٧) المرجع نفسه ، والصفحة عينها : بينما كان القتال دائرا على أشده أمام مسجد شبيب أمر عتاب بن ورقاء من طرف الحجاج بقطع خط الرجعة على الخوارج في معسكرهم. فوفق في ذلك وقتل غزالة.

(٨) المرجع نفسه ، ص ٢٢. انظر ما سبق.

(٩) زائدة بن قدامة أحد أشراف ثقيف تحالف مع المختار : البلاذري ، أنساب الأشراف ، قسم ٥ ، ص ٢١٥ و ٢١٩ و ٢٤٣ و ٣٤٠ ؛ وكتاب الاشتقاق ، ص ٣٠٤. وقد ثأر له بضربة رمح وجهها لمصعب خلال معركة مسكن ، ولكن ماسينيون حدد موقع بستانه في «الحارات المنجسة من مدينة الكوفة المقدسة» : Massignon ,.op.cit.,p.٤٥ فكانت مبادرة منه أو أنه اعتمد الطبرسي النوري وهو من الشيعة المحدثين.

(١٠) الجنابي ، مرجع مذكور ، خارطة رقم ١١.

(١١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٥.

٢٦٧

من البصرة في حين أن أبا مخنف كان من أبناء الكوفة بامتياز. وكان يفصلهما قرن أو يزيد ، لكن عمر بن شبة كان من المعمّرين وهو يعتبر أول المؤرخين للعصر العباسي ومن أجودهم دون شك ، فقد اهتم بالمدن وألف بالخصوص كتابين عن الكوفة (١) استمد منهما الطبري هذا القول على الأرجح. كان بعيدا عن الأحداث قياسا لأبي مخنف ، وأقل دراية منه أيضا ـ في نسق المعاش ـ بأسرار الكوفة القديمة في العصر الأموي لكن لا يمنع ذلك من أنه مصدر جدير بالثقة والمراجعة والنظر والمقابلة بمصدرنا الرئيس.

يضمّ تأليف عمر بن شبة بصفة تراكمية عدة أخبار حاول الطبري تقديمها ضمن رواية مسترسلة متفاوتة التماسك. وقد أورد في عدّة أماكن العناصر الطوبوغرافية البارزة المتمثلة في دار الرزق والسبخة والجسر. فورد خبر أول مقتضب (٢) يصف الخطوط الكبرى لمسيرة الحجاج وقتيبة : باب الفيل ـ وطريق دار السقاية ـ السبخة ، «وبها عسكر شبيب». ولم يذكر سكة البريد أو السكك الأخرى ، أو أنه ذكر القليل عنها لكنه أوحى بوجود طريق كبرى تنطلق من مركّب المسجد والقصر ، وتنفتح على السبخة ، وقد كانت محاذية لدار السقاية التي مر ذكرها (٣). ثم يتوسع مؤلفنا في القول ويدقق ويزداد وضوحا. فقد ذكر أن شبيبا وهو لا يزال على ضفة النهر الثانية وجه أحد ضباطه ليفتش عن مكان يعسكر فيه «على شاطىء الفرات في دار الرزق» (٤) ومنع الرجل من ذلك مرة أولى ، من طرف جنود تمركزوا بأفواه السكك. فوفق في هزمهم. ويبدو أن التحكم في المخارج ـ مخارج الشمال دون شك ـ كان حاجزا للوصول إلى هذه الدار. «ومضى البطين إلى دار الرزق ، وعسكر على شاطىء الفرات وأقبل شبيب فنزل دون الجسر» (٥). المهم في هذه الجملة تحديد موقع دار الرزق على ضفة النهر اليمنى. والأهم من ذلك أن عبارة «شاطىء الفرات» فيما يظهر ، تنطبق خاصة على قسم معين من النهر يقع في شمال الكوفة مباشرة بأعلاها (٦) وهو ما يطابق بنية معينة لسطح النهر تختلف دون أي شك في السبخة. هذا وإن مكان دار الرزق بالنسبة للجسر

__________________

(١) الفهرست ، تحقيق رضا تجدد ، طهران ١٩٧١ ، ص ١٢ ؛ وص ١١٢ ـ ١١٣ من طبعة فلوجل Flu ? gel ، بيروت. ونحن نستغرب نوعا ما أن فؤاد سزكين رتبه ضمن مؤرخي الأقاليم بعنوان «وسط بلاد العرب وجنوبها» مغفلا تماما كتابيه المؤلفين عن الكوفة وتأليفه كتاب التاريخ. انظر : Geschichte des arabischen Schrift ـ. tums, Leyde ٠٦٩١ نقل إلى العربية بعنوان تاريخ التراث العربي ، القاهرة ١٩٧٧ ، ج ١ ، ص ٥٥٥.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٣) انظر ما سبق.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٤. لم يقل أبو مخنف شيئا عن هذه المرحلة الثالثة من نشاط شبيب.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٧٤.

(٦) كثيرا ما تكررت هذه الكلمة لما روى سيف معركة الجسر : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٥٥ ـ ٤٥٧. وأيضا بالنسبة لمعركة البويب ، المرجع نفسه ، ص ٤٧٠.

٢٦٨

بقي غير دقيق باستمرار ، لكن يبدو أن هناك تجاورا شبه مباشر. وبما أن الحجاج لم يتحرك ، فقد تحول شبيب إلى السبخة ليعسكر هناك «بين الكوفة والفرات» (١). فلم يبق أدنى شك عند هذا المؤلف بخصوص تحديد الموقع ، خلافا للغموض الذي ساد رواية أبي مخنف ، أي في الشرق تماما ، فتميّزت بوضوح عن دار الرزق والجسر والشاطىء كما أكد ذلك بعد قليل سير الأحداث ، ولا سيما تراجع شبيب (٢).

ولم يشر أبو مخنف في أي مكان من كتابه وضمن هذه المحاولة الثالثة ، إلى دار الرزق ، في حين جعل ابن شبة منها محور محيط المعارك هذه ، وعنصرا مركزيا في كل حال. إنما ينبغي التذكير أن أبا مخنف قدم هذه البناية خلال المرحلة الأولى بأنها المكان الذي اختاره شبيب بالذات ليعسكر فيه ، في حين أنه لم يعبر النهر على الجسر (٣). ولعل الدار قريبة من الجسر أو موجودة في الشمال ـ أي أنها كانت أبعد بناية في الكوفة. ومن الواضح أنها كانت موجودة خارج السبخة ، حتى عند أبي مخنف.

عودة إلى سيف بخصوص دار الرزق

صمتت المصادر حتى ذلك الوقت عن هذه العلامة الأساسية ، على الرغم من كون دار الرزق تقع بمنطقة ساخنة وصاخبة ومشحونة بالتاريخ بصفة خاصة. كانت منطقة تربط الكوفة بالسواد ـ المكان الشديد الحيوية بالنسبة إليها ـ والرئة التي منها يتنفس المصر ، لأن اهراء القمح هذا (٤) لم ينشأ صدفة ، حيث كانت الكوفة تستمد قوتها منه ، والأرجح أن دار الرزق أنشئت منذ ولاية زياد (٥). على أن سيفا روى معركة البويب (سنة ١٣ ه‍ حسب تحقيبه) وأشار إليها صراحة عدة مرات في خبر امتاز بوضوحه ، سواء بالنسبة لدار الرزق أو الكوفة كلها (٦). لقد سبق أن قلنا إن المعركة دارت على موقع الكوفة ذاته : «المشركون بموضع دار الرزق ، والمسلمون بموضع السكون» (٧). ثم دقّق سيف مقاله مرّتين بأن أضاف

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٦.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٧٦.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٣٦ قال : «وعسكر في دار الرزق».

(٤) انظر بخصوص وظيفتها : Massignon ,op.cit.,p.٨٤ ، وكذلك لا حقا.

(٥) كانت بالفسطاط دار منذ أن تولى عمرو بن العاص : فتوح البلدان ، ص ٢١٦. وقد روى سيف أن دار الرزق بالبصرة موجودة في ٣٦ ه‍ فيما يظهر : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦ وما بعدها. والمرجح أن تحديدها إسقاط ، فقد روى المدائني ، جازما ، أن زيادا هو الذي بنى دار الرزق في البصرة : أنساب الأشراف ، قسم ٤ ، ج ١ ، ص ٢١٤. ولا شك أن الأمر حدث كما ذكر بالنسبة للكوفة.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٣ وما بعدها.

(٧) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٤٦٣.

٢٦٩

أن الفرس عبروا نهر باسوسيا وبلغوا شوميا التي تحدد موقعها بموقع دار الرزق المقبلة (١). لعل هذا المكان مطابق لمركز إقامة بشرية ظهرت في الماضي أو في ذلك العصر ، خصوصا وأن اسم المكان هذا (شوميا) له مظهر سرياني أو آرامي محلي خاص بوادي الرافدين ، والشيء نفسه بالنسبة لباسوسيا في المرحلة السابقة كرأس جسر ؛ على أن كل هذه المعلومات لا تفيدنا كثيرا.

وخلافا لذلك ، فما هو موح ومشحون بالإشارات وذكريات الماضي البعيد وأيضا بالاسقاطات الخاصة بالعصر العباسي الأول أي عصر سيف ، إنما هو موجود في جملة المعطيات الخام المتنوعة التي يقدمها سيف والطبري. وهي عبارة عن خليط من الأخبار المدونة في كل حال بصفة متماسكة كانت عناصرها أصلية فضلا عن الطابع الماضوي المقصود في الطوبوغرافيا المشار إليها. إن «السكون اليوم» (٢) هو حي كندة ، أو قسم منه ، مما يعيد إلى الأذهان أن هذه العشيرة سبق لها أن اشتهرت بمسجدها وبحضورها (٣) في قلب جنوب الكوفة. وإذا كان الفرس وقفوا حيث نشأت دار الرزق فيما بعد فلأن هذا المكان كان يقع في الاتجاه المعاكس تماما أي في قلب الشمال. هما نقطتان قصيتان. وسواء صح الأمر أم كان خاطئا ، فهي علامة دالة تريد أن تكون ناطقة مبسطة ؛ وبعد إمعان النظر في التفاصيل نجد أن «المشركين» قتلوا «فيما بين السكون اليوم وشاطىء الفرات ، ضفة البويب الشرقية» (٤). ولذا يظهر أن «شاطىء» الفرات ودار الرزق مترادفان عمليا ثم ما لبثت التدقيقات أن تراكمت ، فوصف البويب بأنه كان قناة لتصريف الفرات في العصر الساساني ، عند مد البحر ، ومغيض النهر الذي يصب في الجوف (٥). ولعل المعركة دارت على الشاطىء الشرقي من نهر البويب «بين السكون ومرهبة وبني سليم». هذه ثلاث علامات (٦). ولعل موقع الكوفة عبرته قناة في اتجاه شمال ـ شرق ـ جنوب (إن بني سليم كانوا حقا علامة يشار إليها باستمرار) مع انحراف طفيف في اتجاه همدان (مرهبة) (٧). وقد انسدّت القناة أو أنها كانت في طريق الانسداد فهل كان هذا النهر بالذات ، أم أنه نهر آخر ذاك الذي سمي «نهر بني سليم اليوم»؟ (٨) كان هذا الخبر استطرادا تخلل الرواية. فحين

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٥.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٦٨.

(٣) انظر لا حقا.

(٤) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٨.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٣ و ٤٧٠.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٤٧٠.

(٧) الهمداني ، كتاب الاكليل ، ج ١٠ ، ص ١٣٤ ـ ١٥٨ ؛ كحالة ، مرجع مذكور ، ص ١٠٧٧.

(٨) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٥.

٢٧٠

كان سيف منكبا على تأليف أخباره كانت هناك قطائع بقيت من الخطط القديمة وخلفت آثارها في أسماء المكان منها سليم ومرهبة وكلاهما موضع حقيقي قائم بذاته ، وكانت هناك شظايا ذكريات عن حضور قديم جدا : مثلا البويب ذاته. لكن تنتابنا في كل حال الحيرة بخصوص دار الرزق التي ورد ذكرها في أخبار جانبية اعتمدها الطبري (١) وقد طفت أيضا قصائد في رواية سيف (٢) ، وهي تتحدث عن النخيلة «إذ بالنخيلة قتلى جند مهران». ذلك أن هذه الشهادات الأولية استندت دون شك إلى علامة موجودة في ذلك الوقت ، لا إلى علامات مقبلة ، وتشكل النخيلة محطة أولى على الطريق الداخلية للجزيرة ودمشق وكانت تقع إلى شمالي الشمال الغربي من الكوفة ؛ على أنه يصعب تحديد موقعها تحديدا قطعيا ، ولم يتوفر لنا أي خبر عن بعدها (٣). وبما أنها كانت مرحلة ونقطة توقف (٤) فإنه ينبغي التمسك بفكرة المسافة الدنيا ـ ربما فرسخ. فإما أن هناك خبرين منفصلين انفصالا جذريا وهو الأمر الأكثر رجحانا ، وإما أن هناك تربة مشتركة بينهما. في هذه الحال تكون دار الرزق والنخيلة اختلطتا في فكر شهود لا ينزعون إلى التدقيق إلا قليلا ، ويكون الذي أثر على هذه النظرة هو شعور غامض ببعد دار الرزق عن الكوفة بحيث أن النخيلة والدار وضعتا معا على صعيد ذهني خيالي وبصري واحد. ويتبين من هذا النقاش بالخصوص ، وبالاستناد إلى رواية سيف إجمالا ، وجود شعور مفاده أن دار الرزق تشغل موقعا قصيا في اتجاه الشمال الشرقي ، أعلى بكثير من الجسر ، مع بقائها داخل نطاق الكوفة بالذات وفي محيطها.

حصيلة تصورنا

رأينا أن اقتفاء أثر شبيب أفادنا في التقدم للإحاطة بالتركيبة الطوبوغرافية للكوفة. لقد اندمج أكبر قسم من المشاكل المطروحة ، وما كان يؤمل من نتائج في ثنايا العرض ، نعني موقع قطائع بكر في حزام الخطط ، وتقارب موقع مزينة وسليم ، والأخبار المتوافرة عن تشتت بكر في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي في آن واحد أي أسفل الفرات والبادية ، وتعميق معرفتنا بمنطقة السبخة والجسر ، ودار الرزق ، وأخيرا ملحوظات عن السكك.

هناك بعض النقاط التي تستحق إعادة النظر ، والتثبيت والحسم. وبعبارة أخرى : ما

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٧٢ ، ولا سيما ما اقتبسه عن ابن اسحاق.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٧١.

(٣) صالح العلي ، «منطقة الكوفة» ، مقال مذكور ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٦٢ ، وج ٥ ، ص ٧٣ و ٧٨ و ٧٩ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ١٦٥ وج ٥ ، ص ٢٠٤ و ٢٠٧ و ٣١٠ ؛ الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١٥ و ١٦٥ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ، هذه المادة.

٢٧١

هي النتائج الدقيقة الجديرة بالتسجيل على خارطة للكوفة؟ وما هي الحقائق الجغرافية الطوبوغرافية الواجب وضعها؟

ولنوجز القول : توجد بكر في الجنوب الشرقي ، وتقع السبخة في الشرق تماما وتتقدم إلى الشمال ، ويوجد الجسر في الشمال الشرقي بموقع خارج المدينة ، وتقع دار الرزق أبعد من ذلك ؛ هذه أمور مفروغ منها أو تكاد. لكن لنتقدم في مجال النسقية والدقة.

١) يمكن التمييز بين الكوفة بالمعنى الدقيق ـ المركز والحزام السكني ـ وبين امتداداتها المباشرة التي كان من المفروض أن تكون خارج السور ، لو كان هناك حرم : السبخة والجسر ودار الرزق والإيوان ومسجد شبيب الجديد.

٢) يبدو هذا البلد بالذات كثيف العمران وتشكل الدور المتلاصقة جدارا لا يمكن تجاوزه بالنسبة للأطراف ، وذلك لتلاحمها وامتدادها دون انقطاع (١) ، فلا يمكن دخول الكوفة إلا عبر السكك. كان الأمر واضحا بخصوص مصعب ، وهو أكثر وضوحا بخصوص شبيب. والمفهوم من ذلك السكك التي شكلت خطا مستمرا للدخول ، فكانت إما بقايا للشبكة الأولى ، وإما سككا جديدة. لكن السكك الثانوية كانت تلعب أيضا دورا معينا.

٣) إن التحكم في أفواه السكك أصبح عنصرا أوليا فعالا دائما للدفاع. واعتقادنا أنه لم يكن يوجد أي جهاز تحصيني بهذه المداخل ، كالأبراج وغيرها ، فكان المدافعون يجثمون على سطوح الدور أو يكمنون بمداخل السكك (٢). وإذا كانت كلمة «أفواه» تعني من جهة أخرى وقبل كل شيء كل نقط الدخول للطرق الرئيسة ، فإنها تعني أيضا الطرق الثانوية التي تصب في الأولى. وإذا اقتحم المهاجمون طريقا كبرى لا يلبث أن يظهر المدافعون (٣) من «أفواه» أخرى وبذا كانت السكك تشق كل طريق ـ فهل كانت تقطعها قطعا تعامديا أم قطعا مائلا؟ إنه لأمر يؤثر على تخطيط المدينة كما هو متصور. إن التخطيط على شكل رقعة غير مرفوض بل بالعكس. لقد أصبح قابلا للتصور أكثر فأكثر ، كما أنه صار محل تصديق ، لكن لا يوجد أدنى يقين في هذا الموضوع. ومن المعلوم أن سيفا تحدث عن سكك ثانوية كانت محاذية للسكك الرئيسة ثم إنها «تلتقي» بها (٤). فكيف كان يتم هذا الاتصال؟ هل

__________________

(١) حاصر الشاميون زيد بن علي في دار الرزق. فأراد الاستناد إلى الحيطان» للقتال من جهة واحدة. ويميل السياق إلى تأكيد وقوع العملية قرب أقصى دور الكوفة ، لا بأحد حيطان دار الرزق : أنساب الأشراف ، ج ٣ ، ص ٢٤٩.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٠.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٠.

(٤) انظر ما سبق.

٢٧٢

كان يتحول إلى زاوية من ٩٠ درجة؟ أم أن تحوله نصف دائري؟ أو بواسطة نسق كامل من السكك المائلة تتسبب في تعقيد التخطيط تعقيدا عجيبا؟ أم بالخلط بين النمط التعامدي والنمط المائل ، هو الحال تقريبا في كل مدينة؟

هذه قضايا مستعصية على الحل. لكنّ تشابك الطرق ثابت ، بحيث أن تقاطعا ما ينقذ المدينة من الاختناق ويكفل الاتصالات المعقلنة. ولا مراء في أن فكرة انتظام تخطيط الكوفة تفرض علينا وجودها مجدّدا وبقوة.

٤) إذا وجب اعتبار سكة لحام جرير كأحد الشوارع التي تقطع الجانب الشرقي من المدينة لا كشارع يتجه إلى الشمال الشرقي وينفتح على الجسر كما تصوره ماسينيون (١) فإن وضع سكة البريد يبقى في غموض دائم على الرغم من التوضيح الحاسم الذي قدمته النصوص التي روت قضية شبيب. يبقى غامضا لما ينطوي عليه من مخاطر الاسقاطات الزمنية ، التي قد تنجم عن التسمية كما عن الأمر ذاته. وإذا ما صدقنا البلاذري فإن سكة لحام جرير خطأ تاريخي ، وهو الذي جزم بأن تسمية بعض الأماكن بأسماء فارسية حصل بعد مجيء جند خراسان (أي بعد سنة ١٣٢ ه‍) (٢). لكن لعلها كانت موجودة حتى قبل ذلك خلال ولاية الحجاج باسم جرير اللحام وحتى بدون إسم بالمرة. أما بخصوص سكة البريد ، فالشك ما زال قائما ، وقد أشرنا إلى تخميننا ذاك ، وهو يتمثل في وجود سكة البريد في العصر العباسي في اتجاه بغداد. ألم تكن طريق النخيلة أكثر استخداما للذهاب إلى دمشق؟

لماذا تضارب أبو مخنف والمصادر الأخرى بصفة عامة ، فقيل لنا إن الطريق كانت تمر بأرحب وشاكر (٣) من جهة وإنها كانت تشكل خطا مستقيما يربط بين القصر وشمالي السبخة والجسر كما هو محتمل من جهة أخرى (٤)؟ ألم تتطابق الذكريات بخصوص طريقتين متواليتين

__________________

(١) Massignon ,op.cit.,p.٢٤.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٨١. لم يذكر البلاذري بالمرة سكة لحام جرير بل أشار إلى هذه الظاهرة عند حديثه عن حجام عنترة وأماكن أخرى بالكوفة ، ويمكن أن يشمل ذلك اسم المكان الذي نحن بصدد النظر فيه وقام ماسينيون بذلك : op.cit.,p.٥٤ ، واستنتج لنا أن أبا مخنف كتب روايته بعد سنة ١٣٢ ه‍ مصححا أسماء المكان». والأمر المحير أن أبا مخنف يذكّر بما جد من تحويرات بطول المدة ، وذلك ما يفعله سيف ولكنه لا يستمر في الأمر.

(٣) انفرد أبو مخنف بهذا الخبر عندما وصف ثورة زيد (١٢٢ ه‍) : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٦ ولعل الأمر يعني أن دور همدان تقدمت إلى المركز في عصر متأخر.

(٤) حدد ماسينيون مسلكها بين الجسر والقصر والكناسة لكنه وضع الكناسة بالغرب تماما وجعل طريق دمشق تنطلق منها : op.cit.,p.٥٤. ، وهو لم يذكر مصادره لكنه قال إنه اعتمد الأحداث التي جرت سنة ٦٦ ه‍. والملاحظ أن زيادا وجه نحو دمشق أصحاب حجر بن عدي الذين مروا بجبانة عرزم. الواقعة في خطة عبس قرب الكناسة فعلا : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٧٠.

٢٧٣

إحداهما من العصر الأموي والثانية من العصر العباسي؟ وفي هذه الصورة لعل الحجاج لم يعبر سكة البريد الموجودة في عصره ، بل عبر ما سمي بهذا الإسم ، ولعلها سكة وجدت على أساس أنها الطريق المؤدية إلى السواد والمدائن ، علما أنه يمكن التفكير في طريق البريد الرسمية التي ربما اتخذت في العصر الأموي مسلكا آخر مخالفا للمسلك المتوخى داخل البادية ، أي أنه مسلك آخر غير مسلك النخيلة ، واستخدمت الطريق والمحطات الساسانية. وبذلك لعل طريق البريد من الحيرة إلى المدائن ، ومن الكوفة إلى دمشق وإلى بغداد العتيدة ، تطابق جزءا من الطريق. هذا تعليل يقوم على افتراض صرف (١). وعلى كل حال ، لا يوجد أي شك بخصوص وجود سكة رئيسة في القرن الهجري الأول ، تتجه كخط القطر من القصر وتمر بالمسجد (ذكر عمر بن شبة باب الفيل كنقطة انطلق منها الحجاج ، ولم يذكر سكة البريد) ، وتنفتح على الجزء الشمالي من السبخة ، والمرجح أنها تصل إلى الجسر ، أما نحن فنميل إلى الاعتقاد بأن هذه التسمية لا تاريخية ، سابقة للأوان.

٥) وفيما يتعلق بالمحيط الذي يقع إلى شرقي الشمال الشرقي ، ويأتي بعد «أفواه» السكك ، أي مداخل المدينة دون أبواب ، تبقى المسافات الفاصلة بين المواقع المحددة مجهولة إطلاقا. ولا يعدو الأمر أن يكون إلّا ترابطا للمواقع التي تتشارك في التحديد.

فانطلاقا من السبخة ، وبالاتجاه شمالا ومحاذاة للفرات بصورة متفاوتة ، يمكن على التوالي استعراض النقط التالية : مسجد شبيب بطرفها ، إلى جانب الإيوان (لعله كان عباسيا؟) وبستان زائدة والجسر ودار الرزق ، ويمكن عكس النقطتين الأخيرتين (٢).

وأخيرا ، فإن الركن الشمالي الشرقي الذي تخترقه سكة البريد أو ما يقوم مقامها ، من طرف إلى آخر ، بقي نقطة ممتازة للدخول ، على الرغم من امتلاء الفراغ الأصلي بالبناءات ، إضافة إلى الجانب الشرقي والكناسة ، والركن الجنوبي الشرقي بصورة ثانوية.

تلك هي النتائج التي نستمدها من تحليلنا لعملية شبيب التي زادت من وضوح تصورنا للكوفة وقضت على كثير من الشك. من بين أربع ثورات هزت مدينة الكوفة في العصر الأموي ، كانت ثورة شبيب وثورة المختار هما الأكثر نطقا على صعيد البحث الطوبوغرافي.

__________________

(١) يرى البلاذري أن سكة البريد (العباسية) احتلت موقع الكنيسة التي بناها الوالي خالد القسري لأمه : فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

(٢) ورد ذكر دير هند بالنسبة للمختار : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢. وقد غاب هذا الأمر على الشابشتي فلم يذكر إلا دير هند بالحيرة : الديارات ، ص ٢٤٤.

٢٧٤

الباب السادس

التطور والاستكمال

٨٠ ـ ١٥٥ ه‍ / ٧٠٠ ـ ٧٧٢

٢٧٥

ـ ١٩ ـ

أجيال جديدة ، عصور أخرى

إنها فترة طويلة دامت ثلاثة أرباع القرن ، يمكن في الوقت نفسه اعتبارها عصرا ثانيا للوجود الأموي والمرحلة الثالثة لعصر تاريخي يشتمل على ثلاث درجات. إن النظرة العادية للحكم الأموي تميّز العصر السفياني (٤١ ـ ٦٤) ، والعصر المرواني الأول (٦٥ ـ ٩٥ أو ٦٥ ـ ١٠٥) ، وأخيرا عصر المروانيين الأواخر وهو حقبة أفول الدولة ، وقد تخللته النزاعات الداخلية (١). إن مثل هذا التقسيم إلى عصور ، صالح من عدة وجوده ، إلا أنه لا يأخذ بعين الاعتبار ثراء الأحداث الكبير بالنسبة للعراق والحجاز تلك الأحداث التي أحاطت بحكم ابن الزبير ودامت عشر سنوات. وبخصوص الكوفة قد يتأكد الشعور أن كوفة المختار تنتسب إلى الجو نفسه الذي عاشت فيه كوفة شبيب لأن شبيبا مدّد بحركته اللحظة السابقة. وعلى الصعيد المدني فإنّا نجد الأجهزة نفسها تقريبا وقد احتفظت المدينة بالقسمات نفسها بعد أن استتمت بناء مظهرها الرئيس. لكن إن كانت التغييرات الطوبوغرافية قليلة في الثمانينات من التاريخ الهجري ، فقد طرأت تحويرات مهمة على نظام المدينة ، وفي مظهرها الاجتماعي الداخلي ، وعلائقها بالخارج. إن هذه اللحظة تشكل انفصاما تراكم على فترات الحكم (مثل ذلك بقاء الحجاج على رأس الولاية) ، وقام على تحول طرأ على الهياكل العميقة. وإذا ما سبرنا الأمور ، أمكننا طرح القطيعة التي سادت الامبراطورية العربية كافة ، قطيعة بين عصر أول امتد على أربعين سنة وتعلق بالعصر الأولى التكويني والتأسيسي ، وبين عصر ثان مجذوب نحو المستقبل ، عصر حفاظ وعصر هروب إلى الأمام. ففي سنة ٨٠ ، لم يبق على قيد الحياة أي شخص من أولئك الذين عايشوا فترة الرسالة والفتح. وحتى زهرة بن الحويّة بطل القادسية فقد قتله شبيب ، وقد عرفه الحجاج شاهدا

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٢٣١ ـ ٣٢٩ ؛ Wellhausen ,Arabische Reich ، الترجمة العربية ، ص ٣٠٢ ـ ٣٧٩ ؛ Shaban ,Islamic History ,I ,pp.٣٥١ ـ ٤٦١.

٢٧٦

وقورا على عالم بطولي ، ومعمّرا كاد يبلغ المائة (١). الأجيال غير الأجيال والعصور غير العصور.

منعرج الثمانينات

بصورة محسوسة أكثر ، كانت ثورة ابن الأشعث (٨٢ ـ ٨٣) منطلقا لإنشاء عاصمة إدارية وعسكرية أموية صرف في العراق ، نعني واسط. وفقد المقاتلة في الكوفة والبصرة استقلاليتهم بعد أن احتل جيش الشام العراق بصفة دائمة. وبالتالي ، صارت الأمصار منزوعة السلاح فعلا (٢). واستمر العمل بالنسق الجبائي السابق ـ الذي أنبنت عليه الأمور كافة ـ (الخراج والعطاء والرزق) ، لكن داخله الاضطراب. لقد قدرت مداخيل الكوفة في ولاية زياد ب ٤٠ مليونا من الدراهم ، في حين كانت مداخيل البصرة ٦٠ مليونا (٣). وكانت ٦٠% منها تحول إلى عطاء الرجال المسجلين بالديوان ، وتنفق ٢٧% على عطاء الذرية وتوجه حوالى ٣ ملايين درهم إلى الخليفة وينفق الباقي محليا مع إبقاء جزء منه «للبوائق والنوائب» (٤). وبذلك بلغ خراج المدينتين ١٠٠ مليون درهم ، وهو المقدار المساوي لما كان يجمع في خلافة عمر (٥). ثم انخفض في ولاية الحجاج إلى ٢٤ مليونا (٦) ، وقد حصل أن ارتفع إلى ٤٠ وحتى ٨٠ مليونا (٧) ، لكن الانهيار أمر واقع. وينبغي ربطه بالإرث الذي خلفته فترة طويلة من الاضطرابات السابقة ، فضلا عن التشويش الذي أدخله شبيب على النسق الجبائي (كسر الخراج). كان اضطرابا مقصودا متعمدا إذ ألقيت وبعثرت أكياس ملأى بالدراهم (٨). وأخيرا فقد اندلعت ثورة ابن الأشعث (٨٢ ـ ٨٣) ، وهي ثورة «المصرين» دون أن يكون لها محتوى إيديولوجي ، حيث أن توجهها تمثل تماما في إرادة القضاء على الحضور الأموي في العراق.

كانت النتائج متنوعة مهمة ، تمثلت في الانفصام النفساني بين أهل العراق والنظام كما

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥٩ و ٢٦٥.

(٢) Shaban ,op.cit.,pp.٣١١ ـ ٦١١.

(٣) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٤) المرجع نفسه.

(٥) أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٢٦ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٧٠.

(٦) ابن خرداذبه ، ص ١٤ ، جعله ينخفض إلى ١٨ مليونا.

(٧) ورد في فتوح البلدان ، ص ٢٧٠ ، ٤٠ مليونا. أما الماوردي ، فقد ذكر ٨٠ مليونا : الأحكام السلطانية ، ص ١٧٦.

(٨) الطبري ، ج ٧ ، ص ٢٦٧ : ملحوظة مهمّة عن جباية الخراج.

٢٧٧

في الاتجاهات الجديدة للسياسة الأموية في عدة ميادين. وباستثناء هذا الحدث الأكبر شحن العصر بالتحولات : كانت تحولات قادمة من الماضي وبلغت حد النضج ، وتحولات مقبلة في حالة نشوء. روي أن الحجاج طرد شر طردة الأنباط من أهل الريف الذين هجروا الأرض وتوجهوا إلى المدينة (١) لمشاركتهم في ثورة ابن الأشعث. كانت مشاركة ضخمة فعلا. لكن على مستوى التخطيط والقيادة لم يوجد إلا القليل من الموالي المتعربين والمتأسلمين من الذين اندمجوا اندماجا تاما في الحياة العربية (٢). ولم يبد الحجاج عداء للموالي المتعربين في أول الأمر ، بل أنه استفاد من كفاءاتهم استفادة واسعة (٣). وقد شمل قراره المهم الاعلاج الفارين من الأرض فقط ، على ما يظهر.

لقد كانوا جسدا غريبا تمام الغربة ، ولا بد أن هجرتهم إلى المصر بدت في نظره ظاهرة جماعية تسيء إلى التوازن. والحق أنه من الصعب أن نطالب شخصا مثل الحجاج كما أن نطالب روح ذلك العصر بحل شامل لمشكل العلاقة بين الأمة صاحبة السيادة والشعوب المولى عليها ، لكن نرى المشكل يطرح نفسه بكل الخطورة وأكثر بكثير مما كان عليه زمن المختار ، وهو المشكل الذي سيلقي بكل وزنه على أفق نصف القرن القادم. واختار الحجاج العودة إلى الفتوحات كأفضل علاج يوجه للتكدّر العام المسيطر على العراق. كان ذلك أيضا أنجع وسيلة لتبرير الإبقاء على العطاء وعلى وضعية المقاتلة بالنسبة لأهل البصرة والكوفة. فهؤلاء صاروا خاضعين لرقابة أهل الشام في عقر دارهم وقد انتزع منهم السلاح إن صح القول ، لكنهم يقومون بأعباء وظيفتهم القتالية في الأراضي البعيدة ، بخراسان وسجستان والسند ، وآسيا الوسطى بعد مدة وجيزة. واستمر وتفاقم توجيه البعوث النظامية بصفة منتظمة وبالمداورة (٤).

لا نزاع في أن التسعينات شكلت لحظة قوية جدا للتوسع العربي. وقد ترتب عن ذلك اتساع هائل لمساحة الامبراطورية أنجز وتوبع بإصرار ، فكانت نتائجه دائمة. من فرغانة إلى الأندلس. وفي هذه الربوع النائية سيترسّخ ويتنظم الحضور العربي ، وبعد سنة ١٠٠ للهجرة سيأخذ طابع الدوام وينفصل انفصالا واضحا متزايدا عن قواعده العراقية. وهكذا

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٣٨١.

(٢) حضرت كتيبة من القراء : الطبري ، ج ٦ ، ص ٣٥٠ ، لكن أكثرهم كانوا من العرب ، والحقيقة أن فيروز حصين الذي كان له وزن ، قد ساند ابن الأشعث : المرجع نفسه ، ص ٣٨٠ ، وأيضا سعيد بن جبير. كانت جموع الموالي مؤلفة من أتباع مسلحين : المرجع نفسه ، ص ٣٤٧. راجع المحبّر ، ص ٣٤٠ وما بعدها ، عن أعيان موالي الكوفة.

(٣) مثلا أعين أو يزيد بن أبي مسلم والي افريقية.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٣٨٣ : «ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان».

٢٧٨

انتقلت عصبية أهل البصرة بكل عنفها إلى خراسان نتيجة استبقاء الوظيفة الحربية بهذه المواجهة (١). وكان لأهل الشام أيضا مواجهتهم بشمال سورية وبأرمينية وبعد قليل بالجزيرة : مدرسة حربية ، عصب للقوة الضاربة ولكن أيضا وللسبب نفسه بؤرة أساسية للاضطراب ، هكذا كان دور المواجهات. فلا عجب إن وجدت الثورة العباسية موقع اختيارها بخراسان ، كما أنه من المتوقع بعد هذا أن تجري المعركة الحاسمة بين مقاتلة خراسان الثائرين وبين جيش الشام الذي تحوّل مع مروان بن محمد إلى جيش الجزيرة.

كيف يمكن لمثل هذا التحوّل المتجذر بقوة في منعرج الثمانينات أن يتجسّم في مصير مدينة كالكوفة؟ بتزايد الصفة المدنية أي بمظهر مدني (خلافا للعسكري) يتأكد أكثر فأكثر ويصاحب الهدوء الصبور الذي خيّم على الكوفة بعد إعراضها عن الصراعات السياسية باستثناء فورات لا طائل من ورائها تجدّ كل عقدين. فكانت بالبصرة ثورة ابن المهلّب وهي إعادة لثورة ابن الأشعث ، ونشبت بالكوفة ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه‍) ، وهي بمثابة الصورة المجددة لحركة مسلم بن عقيل وحركة المختار.

ساد جوّ من السلم الداخلي على الأوضاع اذن ، وعاد النشاط الاقتصادي إلى سالف عهده ، بل هو شهد توسعا ملحوظا في السواد وبالكوفة ذاتها أيام ولاية خالد القسري (١٠٥ ـ ١٢٠) (٢). وعادت إلى النشاط المسالك التجارية القديمة بعد عاصفة الفتح ، وظهرت مسالك جديدة (في اتجاه بلاد العرب خاصة). وبصورة عامة ، فقد اتسع حجم المبادلات في كافة المستويات. وبدأت الامبراطورية الإسلامية قاطبة ، تستفيد من توحيد المساحات الذي حققته ، ومن اتساع فضاءاتها واختلافها (٣). لقد رقّ الاستهلاك وتنوّع وتزايد.

أما على الصعيد الطوبوغرافي ، فقد تمخض عن هذه الأمور كافة بناء الأسواق في الكوفة خلال ولاية القسري ، ولعبت دار الرزق دورا تجاريا جديدا ، واتسعت المبادلات بحيث شملت الكناسة.

وبقي أن نضيف نقطتين إلى هذه الصورة الأولية : إحداهما ترجع للديموغرافيا ، والثانية تستهدف الإشارة إلى أن الكوفة استردت دورها المركزي ضمن جهاز الامبراطورية وزاد التحامها بمحيطها.

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، في عدة صفحات Shaban ,Abbasid Revolution ,pp.٤١١ ff ;

(٢) أنساب الأشراف ، مخطوطة باريس ـ السليمانية ، ورقة ١٨٧ و ١٨٨ و ١٨٩ و ١٩٠.

(٣) صالح العلي ، مرجع مذكور ، ص ٢٢٣ ـ ٢٣٤ ؛ الزبيدي ، مرجع مذكور ، ص ١٥٧ ـ ١٦١ خاصة.

٢٧٩

التطوّر الديموغرافي

صممت الكوفة في بداية الأمر لإسكان ٧٠٠٠ إلى ٠٠٠ ، ٣٠ شخص (١) ، هذا هو الحجم الذي ذكرته المصادر التي أوردت أيضا رقم ٠٠٠ ، ١٠ مقاتل (٢) (لا ساكن) ، ورقم ٠٠٠ ، ٤٠ (٣). وينبغي اعتماد رقم يتراوح بين ٠٠٠ ، ٢٠ و ٠٠٠ ، ٣٠ من المقاتلة. ومن المعلوم أن جموع المهاجرين المتأخرين وفدوا في رادفة أولى وثانية وثالثة ورابعة أثناء خلافة عمر ، وطيلة خلافة عثمان التي دامت ثلاث عشرة سنة. وقد شارك من الكوفة مع علي ٠٠٠ ، ١٢ مقاتل في وقعة الجمل (٤) ، والثابت أنه لم يخرج معه إلا جزء من أهل الكوفة. وقد ذكر أبو مخنف بعد وقعة صفين ، أن عدد المقاتلة من الرجال يبلغ ٠٠٠ ، ٤٠ ، وأن عدد الفتيان يكون ٠٠٠ ، ١٧ ، ويبلغ عدد الموالي ٨٠٠٠ ، فيكونون ٦٥٠٠٠ في الجملة (٥). إلا أنه أورد الرقم نفسه تقريبا بالنسبة لعصر شبيب ، بعد أربعين سنة من ذلك (٦).

لدينا أرقام دقيقة في عصر زياد (٤٥ ـ ٥٣ في البصرة ، ٥٠ ـ ٥٣ في الكوفة) تستند إلى رواية متينة ذكرتها عدة مصادر (٧). أحصى ٠٠٠ ، ٨٠ مقاتل في البصرة بالديوان ، معهم ٠٠٠ ، ١٢٠ من النساء والأطفال ، أي ٠٠٠ ، ٢٠٠ في الجملة. وكان في الكوفة على التوالي ٠٠٠ ، ٦٠ و ٠٠٠ ، ٨٠ أي ٠٠٠ ، ١٤٠ في الجملة. والفائدة التي نستمدها من هذا الخبر تتمثل في وجود إشارة شاملة ، مع أن النسبة بين الرجال من جهة ، والنساء والأطفال من أخرى ، من شأنها أن تدعو العالم الديموغرافي إلى التفكير. وينبغي أن نضيف إليهم الموالي والرقيق رجالا ونساء وأطفالا ، حيث تأكد حضورهم القوي خلال ثورة المختار (لا سيما رد الفعل الشديد الصادر عن الاشراف) (٨). وبالاقتصار على الرقم الذي ذكره أبو مخنف ، نجد أن نسبتهم هي الثمن ، وبذلك فعددهم في عصر زياد يكون يتراوح بين ٠٠٠ ، ١١

__________________

(١) قال ابن اسحاق بوجود ٧٠٠٠ مقاتل في القادسية. ورأى سيف أنهم ٣٠٠٠٠ : انظر ما سبق.

(٢) كتاب البلدان : ١٠٠٠٠ خطّط لهم ، ص ٣١١.

(٣) ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١ ، ذكر أنهم ٤٠٠٠٠.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٠٠ : كان ثلثهم من ربيعة.

(٥) الطبري ، ج ٥ ، ص ٧٩ ـ ٨٠ : وأحصى بالبصرة ٦٠٠٠٠ مقاتل في السنة نفسها (٣٧) «سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم» : المصدر نفسه ، الصفحة نفسها.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٦٢ : ٥٠٠٠٠ مقاتل عربي.

(٧) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥ : أنساب الأشراف ج ٤ (١) ، ص ٢٢٠ ؛ ومعجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١ ـ ٤٩٢ حيث ذكر رقم ٦٠٠٠٠ مقاتل في ولاية زياد و ٢٠٠٠٠ فقط في العصر الأول ، رواية عن الشعبي.

(٨) ذكر الدينوري ٢٠٠٠٠ من الموالي ، واعتبرهم من الحمراء ، ص ٢٨٨.

٢٨٠