نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

بهذه الخلفية ، لفهم ما كان عليه الوضع في ذلك العصر ، وما حدث بعد ذلك.

تعددية الشرق ووحدته. إرث العصر الاول

يشتمل هذا الشرق المعتمد في وصف الحاضرة الاسلامية ، وعكسه ، على العصر المتقدم جدا ، مقر الديمومة الطويلة ، مؤسس النماذج ومنها أكملها تعبيرا ، أي بابل الآخرة ، ويشتمل أيضا على الفترة الأخيرة التي دشنها الغزو الفارسي. على أن ما يلاحظ على الصعيد الجغرافي هو ما اتصفت به مصر من خصوصية ونوع من انقسام داخل الشرق المركزي ، بين عالم الشام الأكثر جدة والذي يتقبل كل ما يرد عليه ، وعالم بلاد الرافدين العريق في القدم ، وهو مهد تهيأ فيه النموذج الشرقي.

لنتمعن في الشرق المركزي القديم ونقارنه بمصر. قيل إن مصر كانت تنعم بالراحلة وتوحي بالأنس ، وتحب الحياة إلى حد أنها تمد يدها في الموت. كان محيطها أقل شدة من محيط بلاد الرافدين ، فشيدت حواضر مفتوحة فاقدة للأحزمة المحصنة وفي عصر متأخر. وقبل أن تشرع مصر في بناء المدن ، كانت لا تتوقف عن تشييد المقابر التي كانت أعمق رمز للطموح المصري (١).

أما في بلاد الرافدين ، وهي عالم الآلهة المرعبة الكونية ، وأرض أنشأت المدن كمراكز للعظمة والحرب ، فقد كان أسلوب الحضارة المدنية متميّزا بالترتيب والقمع الشديد والنظام والتخطيط والمركزية. فما كان قانون حمورابي سوى تنظيم دقيق للعلاقة البشرية بكيفية تكاد تكون بوليسية؟ «كانت المدينة سجنا يضيّق الحراسة على سكانه» : هذا رأي لويس ممفورد Lewis Mumford (٢).

فمن المعقول بعد هذا ، أن نقبل بثنائية النماذج الأصلية. لقد أمكن للنموذج الفرعوني أن يؤثر في الحضارة المينويةminoenne ثم على أسلوب المدينة الاغريقية (٣) وتمادى

__________________

(١) L.Mumford ,pp.٥٠١ ـ ٢١١.

(٢).Ibid.,.p.١١١. كتب ممفورد صفحات جيدة حيث كانت توصف أرض الرافدين بأنها أم المدن في كل صفحة : op.cit.pp.٤٥ ـ ٣٧ ، وتعرض إلى صلات المدينة بالحرب في بداية نشوئها ، ومظهرها المرضي التقهقري الذي فرضه طوق التنظيم والارهاب ، طبق نموذج «خلية النحل». وقد استوحى رأيه من Hocart ولا سيما من.Henri Frankfort

(٣) يعترف هيرودوتس بالتأثير المصري في تكون الحضارة الاغريقية. فكان متقدما على المؤرخين الغربيين في القرن التاسع عشر ، وهم المتمسكون بالطابع الفريد للهلينية ، كإسقاط حقيقي للمركزية الأوروبية. وكان M.Jastrow أول من قال بفرضية تأثير سومر وبابل في الأسطورة والعلم اليونانيين : The Civilzation of Babylonia and Assyria, Philadelphia, ٥١٩١ ، وهو ما سمي بالنظرية البابلية الشمولية أو.Panbabylonisme

١٦١

النموذج الخاص ببلاد الرافدين في بغداد فضلا عن ذلك ، في عين المكان ، بغداد المزدحمة بالبشر والمحاطة بسورين مضاعفين ، والخاضعة لحراسة مشددة فرضها قهر الخليفة ثم السلطان. لكن ما يهمنا حقا هو إبراز نمطين مثاليين للمدينة ، انطلاقا من التجربة المصرية وتجربة بلاد الرافدين. الأولى كنمط المدينة المنفتحة الهندسية المتحررة في مظهرها ، البسيطة في تخطيطها ، والأخرى كنمط المدينة المغلقة المتشعبة الملتوية (١). لكن ألا تخفي هذه الرؤية التي تجسمت على هذا النحو في موقف مؤلفين من الغرب ، جانبا من «الثنائية» ، وتمجيدا للهلينية يعتمد المركزية العرقية بصورة مقنعة وبواسطة تمجيد الحضارة المصرية؟ على أن هذا لا يمنعنا من المقارنة الموحية بين الكوفة الهندسية الأولى الحرة المتفتحة ، وبين بغداد ربيبة الكوفة إلى حد بعيد ، وحتى الكوفة العباسية الحبيسة في أسوارها والتي تسلط عليها القمع والارهاب. وبذلك ينبغي الرجوع كثيرا إلى الوراء ، أي إلى أقدم طبقات التقليد المدني ، لا أن نقابل فقط بين الهلينية والاستشراق (المقصود هنا المبدأ الشرقي لا علم الاستشراق) ، كما يقع في أغلب الأحوال.

بابل

كانت بابل التجسيم الأعلى لنموذج بلاد الرافدين ، فقد أجملت مجمل المكاسب الحضارية للشرق المركزي في صفائه ، إن صح القول ، فبدت حلقة حاسمة للبحث عن التسلسلات. ينبغي استنطاق بابل في ذاتها وفي ما يدور في فلكها أيضا ، أي سبار ونبور وأرك ، وبعيدا كركوك ، وحتى المدن الأشورية مثل أشور وخرسباد (٢). على أن بابل الطبيعية ذاتها تبقى المحور المشع ضمن هذه الكوكبة. وفي العصر التاريخي الذي ظهر خلاله نبوخذ نصّر ، يتجه التفكير إليها عندما يدور الحديث عن الحاضرة الشرقية الأصلية. كانت مربعة الشكل ـ مثل الكوفة والبصرة على الأقرب ـ واسعة الشوارع المرتبة. وكانت تستخدم اللبن والآجر (٣) ، كانت أيضا المدينة ـ المعبد ، حيث يقوم سجيل بدور أساسي ، لها أراضيها الخاصة ومخازن حبوبها (لنذكر دار الرزق بالكوفة) ، وقاعدتها العقارية التي لم تكن بابل

__________________

(١) روج وولي Wooley لفكرة أن الحاضرة في الشرق الأوسط اليوم ، في نواتها التقليدية ، تعكس بنية المدينة القديمة في بلاد الرافدين. وقد شاعت عند غيره ، منهم اوبنهايم. ولم يعمل فيرث إلا على اقتباسها لافراغ المدينة العربية من كل أصالة خلاقة. وبالنسبة لإرنست بلوخ Ernst Bloch ، يمثل المعمار الفرعوني أصل ونمط البعد الهندسي في نقاوته الذي يصل إلى الكمال في الأهرام ، وهو ينعته ب «يوطبيا بلّور الموت» ويعارضه بال «يوطبيا الغوطية» التي تمثل شجرة الحياة :. Le Principe Espe ? rance, trad. fr., II, Paris, ٢٨٩١, pp. ٢٣٣ ـ ٥٣٣.

(٢) Pigulevskaja, pp. ١٣ ـ ٣٣, ٩٣ ـ ٧٤; Roztovtzeff, I, pp. ٨٧ ـ ٩٧.

(٣) Altheim, Weltgeschichte Asiens, I, p. ٣٥١; M Rutten, pp. ٤٣ ff.

١٦٢

لتعيش بدونها (١). وفي بابل ذاتها وفي المدينة من النمط البابلي عموما ، عناصر تشبه أحيانا ما نجده بالكوفة ، وتشبه أحيانا أخرى ما يوجد بالبصرة وببغداد ، وذلك على مستويين ، المستوى الطبوغرافي ومستوى الوظيفة المدنية ، حسب مراحل زمنية متوالية. لقد ثبت مثلا وجود البنية المثلثة ـ أي المدينة والربض والرصيف (٢) بالنسبة للبصرة خاصة ، حتى القرن الثالث / التاسع تقريبا. وخلافا لذلك ، فإن عرض الشوارع ، والتخطيط حسب الاتجاهات الأربعة ، واستقامته ، تظهر بوضوح أكبر ضمن المقارنة بالكوفة الأولية التي يمكن مقابلتها عند ذلك بالمرحلة الأولى من تطور الحاضرة البابلية (٣).

إن بابل التي وصفها هيرودوتس مندمجة فعلا بالامبراطورية الاخمينية ، لكن هذا لم يمنعها من الظهور بمظهر الوريثة للحضارة الشرقية القديمة ، قبل أن يقضي عليها أرتحششتا. Ataxerxe ? s ولا بد أنها حافظت على أهم الخاصيات التي كانت لها في عصر نبوخذ نصّر. ويتجه التفكير إليها حين نشير إلى نمط المدينة الشرقية بغية مقابلتها بنمط المدينة اليونانية الذي روجه الغزو المقدوني (٤). ويرجع إلى بابل أو المدن التابعة لها ـ سبار وارك لكي تتاح المقارنات الانطباعية بالمدينة الاسلامية المقبلة كالتواء السكك المعزو إلى عنف الشمس ومشكلة الأسواق ، لكن دون أن نعرف هل كان هذا تشابها أساسيا أم هو استعادة للعناصر الوظيفية نفسها. إن بابل مثلث في آخر أيام مجدها النقطة الأكثر هيكلة في الامبراطورية الاخمينية (٥) ، فضلا عن أنها تقمصت مع مصر أرقى شكل حضاري. وعلى الرغم من التغييرات الكثيرة التي جدت في عصر الفرس ـ مثلا في القانون الجنائي والمدني ـ فقد بقي الهيكل الاقتصادي الاجتماعي جيد التأطير ، وقام عليه الكهنة ورجال الدواوين والتجار والصيارفة. وقد أشرفوا على كتلة الفلاحين المستغلين الرازحين على أرض بابل بالذات. واستمرت التجارة الكبرى على ما هي عليه. لقد كان النموذج البابلي مشعا إلى حد بعيد على مدن بلاد الرافدين في الشمال وعلى الشام ، بفضل جاذبيته الحضارية ، وأساليبه المصرفية وحركيته التجارية ، فكان يضع سمته على بنية المنظر المدني ، كما حصل في كركوك مثلا (٦).

__________________

(١). Pigulevskaja, pp. ١٣ ـ ٣٣, ٩٣ ـ ٧٤; Cambridge Ancient History, VI, pp. ١٩٤ ـ ٢٩٤. يشك أوپنهايم فقط في صحة هذا التصور إلى حد ما : Mesopotamie ,p.٢٤١ ولا سيما في :.Middle Eastern Cities ,p.٦ : يبقى المعبد المركز الاقتصادي الكبير.

(٢) Oppenheim» Mesopotomia ,land of many cities «, في Lapidus ,op.cit.,p.٦. :

(٣) Oppenheim, Ouvr. cit., pp. ٩٤١ ـ ٠٥١; Mumford, p. ٠٠١; Albert Champdor; Babylone, Paris, ٧٥٩١, p. ٥٦.

(٤) Rostovtzeff ,I ,pp.٧٢٤ ,٥٣٤ ;II ,pp.٥٤٠١ ff.

(٥) Idem ,I ,pp.٨٧ ـ ١٨.

(٦) Pigulevskaja ,pp.٤٤ ff.Rostovtzeff ,I ,p.٩٧. ؛ ويرى أوپنهايم أنه من المناسب أن نعارض بين النموذج

١٦٣

إن هذا الانتشار الذي طرأ على كل مكان من الشرق المركزي لعناصر مقتبسة من بابل ، هو ظاهرة رئيسة تسمح بالبحث عن بقائها في المدينة الاسلامية كما في الحضارة التي أفرزتها.

ومن المعلوم أن العصر الهلنستي تسبب في تدهور بابل. فقد فقدت بابل دورها كعاصمة وحاضرة مركزية (١) عند نشوء سلوقية. ونهبها أنتيغون في ٣١٥ ـ ٣١٤ ق. م ، وكان النهب الثاني بعد قليل في حكم سلوقوس الأول (٢).

فأصبحت بابل مدينة مستضعفة مفككة ، وفقدت قوتها المالية والعقارية لكنها كانت من أندر الحواضر المهمة التي نجت من نظام المدينة اليونانية (Polis) ، فبقيت مدينة شرقية صرف. كانت سنة ٢٧٥ ق. م. هي السنة التي نقل خلالها سكان بابل بكليتهم إلى سلوقية ، فكان عاما حاسما في تاريخ مدن بلاد الرافدين (٣). فقدت بابل سكانها ، كما أنها فقدت قاعدتها الزراعية لأن ما أقطع لها من أراض وكذلك لبورسبا وكوثى إنتزع منها بأمر ملكي. عندئذ تصاعد النواح الأكبر لبابل. ذلك أن موتها الفيزيقي الذي ترتب عن هذا الأمر لم يكن موتا طبيعيا ، ولا تحطيما ذاتيا ، بل اغتيالا نفذه السلوقيون. هذا الاغتيال وقع في سبيل الحفاظ على الهيمنة الامبراطورية المستندة إلى الهلينية أكثر مما كان عملا تحقق باسم الهلينية ذاتها. وعادت إليها الحياة قليلا بعد ذلك ، في عصر أنطيوكوس ابيفانوس ، لكن بالخضوع المؤسساتي للنموذج اليوناني ، واستقرار جالية إغريقية مقدونية ، وتشييد مسرح ومقر لتعاطي الرياضة ، وتعيين وال (Strategos) على رأسها (٤). الواقع أن أبيفانوس كان يريد إدماج بابل في الهلينية ، درءا لتصاعد الروح الشرقية أو الإشراق على صعيد الامبراطورية كافة ، وقد بدأ يغمر العنصر الهليني. وكان لبابل من الحركية ما جعل الهيلينية تصبح مستوعبة سريعا جدا من طرفها بعد أن كانت مستوعبة في هذا المجال. فتلقب الإغريق بأسماء شرقية وتعودوا بعوائد بابلية واستعملوا أشكال العقود والمعاملات المصرفية البابلية ، بينما كانوا هم العنصر الديناميكي المتبوع في المواطن الأخرى ، أي في شبكة المدن الهلينية التي أقامها السلوقيون. وهكذا ، فإن بابل التي كانت في النزع الأخير ، وكادت أن

__________________

الآشوري لبلاد الرافدين العليا ونموذج السهل ، على الصعيد الطبوغرافي الصارم ، بمعنى أن نقابل آشور بأور :. Ouvr. cit., pp. ٢٤١ ـ ٣٤١. لكنه استثنى وضع بابل في العصر الكلداني.

(١) Pigulevskaja ,op.cit.,p.٣٣.

(٢) Ibid.,p.٤٣.

(٣).Ibid.,p.٦٣ يبدو أن Rostovtzeff لم يطلع بما يكفي على هذا الموضوع ، فاقتصر على إبراز دور حماية معابد جهة بابل ، الذي قام به السلوقيون :.Ouvr.cit.,I ,pp.٥٣٤ ـ ٦٣٤

(٤) The Cambridge Ancient History ,VII ,p.٨٨١.

١٦٤

تلفظ أنفاسها ، والتي غرّبها عن ذاتها نظامها الجديد ، حققت نصرا ثقافيا على الهلينية ، في انتظار أن تظهر من جديد القوى الإشراقية المدحورة في كل مكان ، من الشام إلى خوزستان ، حين صارت الامبراطورية في حالة تفكك.

هناك إذن في روح بابل شيء يشبه الاستماتة الفائقة ، وقدرة ممتازة على المقاومة. فماذا صارت هذه الروح حين مرت بها التغييرات التي خضع لها الشرق المركزي؟ أودع ميراث بابل الثقافي في بلاد بابل ذاتها ، وانتشر واستبطن في بلاد الرافدين كافة ، وتقدم حتى شمال الشام ، ولا بد أنه بقي بصفة خاصة في المركّب المدني الشامل لسلوقية والمدائن ، حيث أن سكانها نقلوا نقلا واسعا ، وحملوا معهم حضارتهم كلها. كانت سلوقية المؤسسة الهلينية الكبرى في بلاد الرافدين (١). وصارت حقا حاضرة للجزء الشرقي من الامبراطورية ، مفسحة صدرها لكل تيارات الشرق الكبرى. أما طيسفون (المدائن) ، فقد كانت إنشاء بارثيا ، ورمزا لنهضة العالم الإيراني ، لكنها ارتبطت لا محالة بسلوقية التي نقلت إليها بقوة الاتصال أوسع جزء من ارثها خصوصا حين مالت الكفة في العصر الساساني لصالح طيسفون التي أصبحت القطب التمديني ومركز القرار. فمن البديهي أن قابلية بابل للخلق استبقيت بالمدائن وفي المقام الأول ، تقاليدها في الهندسة المعمارية والتمصير ، لكن كل هذا بصفة متسترة عنيدة ، ولعل تشريق الفرس تشريقا عميقا ـ أو إعادة تشريقهم؟ ـ ينبغي البحث عنه عبر هذه الظاهرة ، وكذلك انتقال هذا الطابع إلى الفاتح العربي. كانت إقامة الجيش مدة عام بالمدائن (٢) بمثابة تجربة للحياة المدنية قطعا ، واتصال أول مديد بنمط المدينة ـ الحاضرة حيث كانت تتجاوز عناصر بابلية وهلينية وفارسية. لكنها كانت فترة قصيرة جدا ، وكانت المدينة مستوفاة إلى درجة قصوى لا تسهل استنباط التصور اللازم لإنشاء حاضرة جديدة : فتسربت المؤثرات البابلية بكيفية أكثر بطئا وغموضا في بناء الحضارة الاسلامية بالكوفة والبصرة وبغداد في وقت لاحق. ذلك أن المصادر تتحدث بوضوح عن ممصرين من الحيرة أو من الفرس (٣) في هذه المرحلة الأولى. لكن إذا قبلنا أن إرث بابل إندمج بالتقاليد الساسانية ، في طيسفون ذاتها ، فذلك علامة على اتجاه يمكن أن يظهر بوضوح أكبر في الرقعة الجغرافية التابعة لبابل القديمة ، بالكوفة والحيرة. فترتب عن هذا الأمر أصلا تلك البنية المربعة الشكل في مخطط الكوفة التي ليست بالمستطيلة كما في سلوقية بهرسير ، ولا بالمستديرة كما في طيسفون.

__________________

(١) Ibid., VII, p. ٧٨١; Rostovtzeff, II, p. ٧٢٤; Pigulevskaja, p. ٢٦.

(٢) أو ثمانية عشر شهرا حسب بعض الروايات : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) روذبة أو روذبه كان من همذان : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٨.

١٦٥

الحقيقة أن بابل ليست سوى الوجه الرمزي للشرق. وإن أتينا على ذكرها ، فإنما ذكرا للمدينة الشرقية بصفتها تصورا متماسكا للمجال ، وتقليدا ما زال حيا. وهناك نقطتان تسمحان بتثبيت آرائنا في هذا الموضوع ، هما قضية المركز وقضية السكك.

تحدث وولي Wooley عن مساحة مقدسةTemenos مخصصة للمعبد منذ أن ظهرت المدينة السومرية (١). لكن أوپنهايم Oppenheim ) زاد الأمر توضيحا في مثل هذا الميدان الذي بقي من أكثر الميادين غموضا وتضاربا ، فهو يرى أنه لم يوجد «مركز للمدينة بالمعنى المضبوط يتشكل من القصر والمعبد وساحة السوق» في السهل الغريني لبلاد الرافدين أي بلاد بابل بل إنه يوجد خلافا لذلك فاصل دال بين المعبد والقصر فتتركز حياة القصر بالأبواب (قارن بباب المدينة المستديرة حيث مقام الخليفة) (٣). لكن ينبغي استثناء بابل العصر الكلداني حيث تمت الصلة بين القصر والمعبد بتأثير آشوري. فاتضح أن هذه الصلة التي جعلت من ذينك العنصرين وحدة مدنية مركزية هي ظاهرة مصدرها أعلى بلاد الرافدين ، وأن مفهوم القلعة آشوري النشأة. هناك المعبد والقصر ملتحمان ماديا ويقعان في سياج محاط بسور وحيد (٤) ، طاردا الدور إلى الخارج ، ما عدا بعض المساكن التي كانت تسد الفجوات بالداخل ، والتي أتاحت لهذا المركز أن يعرف باسم المدينة ـ القلعة. وما يلفت النظر أن نبوخذنصر حاكى النموذج الآشوري المختلف كثيرا عن النموذج البابلي القديم ، لكنه فعل ذلك وصححه تصحيحا كبيرا تمثل في عدم ارتباط القصر بالمعبد ارتباطا مباشرا (٥).

توجد وجوه شبه تفرض نفسها على الذهن ، عند المقارنة بالكوفة ، لكن ينبغي الإحتياط في ذلك. نلحظ بالكوفة تمييزا بين المركز السياسي الديني والمحيط الصالح للسكن ، ووجود مركّب يشمل المسجد والقصر مشكّل لوحدة فريدة مترابطة ماديا وتكون إذن بحسب النمط الآشوري. لكنّ هذا المركز لم يشكل قلعة في العصر الأول حيث لم يشيد أي سور ، ولا حتى في العصر الأموي حيث حصل فعلا تحصين للمسجد والقصر ، إلا أنه كان لكل منهما سور خاص به. إن المساحة العمومية كما أوضحناها كانت تشمل الأسواق والرحبة والآري. وكان يحدها في بداية الأمر خندق ، لكنها لم تحظ بسور أبدا ، إذ لو كان لها هذا الحزام لاكتست طابع المدينة ـ القلعة ، مثلما كانت بغداد في عصر المنصور. وحين عزم

__________________

(١) في أور :.History of Mankind ,I ,p.١٢٤

(٢) Ouvr.cit.,pp.٢٤١ ـ ٦٤١.

(٣) «كان للأبواب ... وظيفة أخرى هي وظيفة «المركز» : M.Rutten ,pp.٨٣ ـ ٠٤ ;Oppenheim ,p.١٤١

(٤) لم تتم فقط إزاحة الفصل بينهما ، بل إنهما «شكلا وحدة مدنية تحتل موقعا مركزيا» :.Oppenheim ,p.١٤١. على أن القلعة في آشور ذاتها كانت جزءا من التحصينات.

(٥) كان القصر يقع على السور ، في حين أن معبد مردوك كان في المركز :.Oppenheim ,p.٦٤١.

١٦٦

١٦٧

هذا الخليفة على بناء سور بالكوفة في سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٦٢ ، أحاط هذا الحزام بالمركز وبجانب كبير من مساحة السكن ، فشكل بذلك «مدينة» من النمط الإسلامي ، بمعنى مدينة تامة لا تتميز إلا عن أرباضها. إن ما تبقّى بالكوفة من تقاليد آشورية (١) ، نقلتها بابل الجديدة ، يتمثل بالخصوص في تجاوز المعبد والقصر الملتحمين هنا في وحدة أو تكاد ، أكثر مما كان في بابل ، لكن المحتفظين معا بفردية خاصة بكل منهما. ومن جهة أخرى ، تحدد موقع هذه المساحة العمومية في المركز الهندسي دائما ، بالكوفة أولا ثم في كل مدينة إسلامية بعد ذلك. قد يقع أن القصر ينفصل عنها ، ويقام بالحوائط ويسمى بالقصبة أو القلعة (٢) ، لكن لم ينفصل أبدا لا الجامع ولا الأسواق. وأحسن من ذلك : إن الجوار العضوي للمسجد والأسواق المسقفة المتخصصة ، وموقعهما المركزي هو ما سيتبقى من مفهوم المساحة العمومية كالسمة الأكثر خصوصية للمدينة الاسلامية ، حين سيشتد عودها في العصر الكلاسيكي. بل إن هذه السوق المركزية المتضخمة ابتكار إسلامي ، إذ ثبت أن السوق في بلاد الرافدين كانت أهميتها محدودة باستمرار ، فضلا عن أنها كثيرا ما كانت مندمجة بالمعبد (٣).

النقطة الثانية الواجب توضيحها تتعلق بالسكك : يضع المؤلفون في أكثر الأحوال مقارنات بين المظهر الملتوي للمدينة الإسلامية المتأخرة ، وبين الأزقة ، والسكك المسدودة في مدن بلاد الرافدين (٤). لكن يبدو جليا وبعد إمعان النظر في واقع الأمور ، أن السكك الكبرى في المدينة الشرقية القديمة «كانت تنزع إلى اكتساب عرض منتظم والتلاقي على زاوية قائمة تقريبا» ، كما يقرّره أوپنهايم (٥) ، وذلك بالرغم من وجود الأزقة المسدودة. وخلافا للرأي الشائع ، يبدو أن انتظام شبكة الطرقات في أور كما في بابل يفوق إلى حد بعيد المنعرجات الموجودة فيهما لكن هذين الصنفين من السكك متواجدان. وهذه مشابهة أخرى مع الكوفة في أول عصرها كما هي مع بغداد الأولى. ولعله ينبغي البحث عن تسلسل ما ، على مستوى بنية الدار بالذات ، هذه الدار المطبوعة هنا وهناك بتفتحها على الوسط ، رغم أننا نجهل كل شيء عن الدور الأولى بالكوفة.

__________________

(١) لعلّه يحسن أن نوجه نظرنا بتمعّن أكثر إلى أعلى بلاد الرافدين والشام وآسيا الصغرى وخاصة هاترا في عصر البارث التي كانت مستديرة لا محالة ، لكن تضمّنت مدينة داخلية مربعة الشكل :.Oppenheim ,p.٦٤١.

(٢) حيث نجد رجوعا إلى النمط الآشوري.

(٣) حتى فيرث قبل بذلك :.Wirth ,» Orientalische Stadt «,pp.٣٨ ـ ٩٨ وتدل كلمة «سكّو» في الأكادية على السكة والشارع. راجع : سعيد الأفغاني ، أسواق العرب ... بيروت ١٩٧٤ ، في موضوع تقاليد الأسواق عند العرب.

(٤) منذ أن ظهر كتاب وولي :.Excavations at Ur

(٥).Oppenheim ,p.٩٤١ لكنه قبل أيضا بفكرة «التواء السكك والأزقة» :.Ibid.,pp.٣٥١ ـ ٤٥١

١٦٨

وبذلك نرى وجوب الحذر في معالجة مسألة الجذور الشرقية للكوفة بالخصوص ، والمدينة الإسلامية عموما. ليس أمرا واضحا كل الوضوح أن أحسن كيفية لمقاربة المدينة الشرقية تخيلا ، أن تعرض على النظر المدينة الإسلامية المتأخرة ، سوى بنوع ما من الحدس يكون له مثل التلاشي والعناد الموجودين في شذى البخور السومري ، بل أحرى بنا أن نستعرض مدينة القرن الأول أو الثاني الهجري ـ كالكوفة والبصرة وبغداد وسامراء ـ التي زالت زوال سابقتها الشرقية واقتربت منها بما يستبعد أكثر وينتظر أقل. اقتربت منها باعتماد جديد لتقاليد الهوامش الحضارية المتأخرة زمنيا ـ تقاليد آشورية وبارثية ـ وبفكرة تخطيط المدينة ذاتها ، وبمواد البناء ، والطابع الهندسي للطرق ، ومفهوم المركز السياسي الديني ، أكثر مما يكون باعتماد الأزقة والسكك الملتوية أو سياج الدار. وعلى كل فلن يكون ذلك عن طريق جماهير الأسواق الملونة. إن الاستمرارية التي تربط الشرق بالإسلام ، لم تكن مقصودة لذاتها أو واعية. كانت استمرارية في الأشكال والتقنيات والتصورات. ومن المفارقة أنها فرضت نفسها على مشروع قطيعة تامة مع الماضي : استمرارية مستميتة تنبض بإصرار على امتداد آلاف السنين من الحضارة. حضارة جرت آثارها من الجنوب إلى المركز ، ثم نحو الشمال. وعادت إلى المركز ، ثم تحولت إلى الشرق. ولم تقدر على محوها ألف سنة من الذل. لقد عرف العرب الفرس ، واحترموهم ، وحاكوهم ، لكنهم تجاهلوا الشرق القديم حقا ، ومحوا منه كلّ أثر للضمير التاريخي. على أن الشرق في شكل متنكر ومتغير ، مكتسبا لمضامين جديدة ، حاضر في العمل الحضاري الخفي الذي قام عليه الإسلام ، هو حاضر في مخطط الكوفة ، وفي الاعتقاد في قوة النص المدون ، وفي تقاليد الكتّاب والعلماء ، وفي تشعبات الفقه ، وفي المدونات الكبرى للحديث ، في مذهب التصوف كما في التشيع. إنه مثال عجيب على امتصاص بعيد عن كل تطابق لن نقف أبدا على سر مساره. ما أبعدنا ههنا عن مجرد تنزيل الإسلام منزلة الشرق.

تأثير الهلّينية

لقد أحكمت الممالك الهلينستية سيطرتها على ميدان سوف يكون بعد ذلك مرتعا للفتح العربي ـ باستثناء الأناضول. احتل السلوقيون بالخصوص موقعا مركزيا في الشرق ، فكانت امبراطوريتهم تشمل ، في بداية الأمر ، الشام وبلاد الرافدين وإيران كلها ، ثمّ تراجعوا أمام النهضة الإيرانية التي جسدها البارثيون ، لكنهم تمكنوا من الاحتفاظ بميديا وخوزستان وبلاد فارس ذاتها ، فضلا عن بلاد الرافدين (١). ولا منازع أن قلب

__________________

(١) Rostovtzeff, I, pp. ٩٢٤ ـ ٠٣٤; The Cambridge Ancient History, VII, pp. ٧٥١ ـ ٩٥١; A. H. M. Jones, The Greek City from Alexander to Justinian, Oxford, ٠٤٩١, pp. ٠٣ ـ ٦٣.

١٦٩

امبراطوريتهم بقي وسيبقى الشام ، إلى أن يحين وقت سقوطهم (١). أما بخصوص بلاد الرافدين ذاتها ، فالسؤال المطروح والواجب طرحه وصوغه كما يلي هو : إلى أي حد تسرب التأثير الهلينستي بدءا بدائرة الحياة المدنية؟ هل خلف آثارا باقية؟ من اليسير الإحاطة بهذا المشكل ، لكن الإجابة المرضية غير ممكنة إلا إذا استعرضنا الخلفية التاريخية لما كان عليه الاستيطان الهلينستي في الشرق.

خلافا للعرب والفرس ، المجاورين مباشرة للشرق الواقع بين الشام وبلاد الرافدين ، فإن السلوقيين وهم المتعلقون عاطفيا بالهلينية ، لم يعتمدوا على الشعب اليوناني ككل للامساك بزمام امبراطوريتهم الشاسعة. وربما لأنهم لم يجدوا يونانا بجوارهم ، أو مقدونية ، ولم يعتمدوا إلا على مجموعات مهاجرة صغرى (٢) ، فقد لجأوا إلى إنشاء المدن (Poleis) حيث أقروا عناصر يونانية مقدونية. كانت نقطا يستندون إليها ، وجزرا للهلّينية تدعم هيمنتهم. وهكذا فإن ما بذلوه من جهود جبارة في إنشاء المدن يدخل ضمن خطة سياسية مهيأة (٣) ، أكثر مما يتعلق الأمر بميل إلى التمصير يجب ترضيته ، أو حتى مشروع حضاري ، كما ارتآه مدّاحو الهلينية من النمط القديم ومنهم جونزJones ). وهذا لا محالة هو وضع كل مشروع امبراطوري ، بما في ذلك الاتساعية الامبراطورية العربية ، لكنّا نجد هنا امبراطورية بعيدة عن قواعدها البشرية. إن ما يلفت النظر عند الرجوع إلى خارطة المنشآت الهلينية ، هو كثرتها في آسيا الصغرى والشام حيث يمكن ذكر انطاكية العاصمة السياسية ، وآفامية المركز العسكري ، وسلوقية في بياريا ، واللاذقية مقر التجارة ، لكي ندرك ما كان من قوة للاستقرار المدني (٥). وقد توسعت الشبكة في بلاد الرافدين وامتداداتها إلى الجنوب ، وقلّت كثافة الحضور الهلّيني ، وتناقص عمقه أيضا. وقد ذكرنا أن بابل اصطبغت بالصبغة الهلينية السطحية في عصر متأخر ، وخلافا لذلك فإن سلوقية تحولت إلى مركز نشيط للهلينية الشرقية. فكانت مقرا للحاكم العام بمنطقة الشرق ، وأشرفت هكذا على الميدان الإيراني كله. كانت حاضرة مركزية حقيقية (٦) عامرة بعدد مهم من السكان الذين كانوا خليطا من

__________________

(١) Rostovtzeff ,I ,p.٧٣٤.

(٢) The Cambridge ـ ـ ـ ,VII ,p.٧٥١.

(٣) Ibid.,p.٧٥١.

(٤) Jones ,op.cit.,pp.١٣ ,٢٣. حيث يقول أن الشرقيين كانوا يريدون استيعاب الهلينية لأنهم كانوا «خجلين» من ثقافتهم «المتأخرة العتيقة».

(٥) The Cambridge ـ ـ ـ ,VII ,pp.٧٥١ ـ ١٦١.

(٦) Caetani, Annali, III, ٢, p. ٦٣٨; The Cambridge ـ ـ ـ , VII, pp. ٧٨١ ـ ٨٨١; Pigulevskaja, pp. ٢٦ ـ ٣٦. وقد اعترضت هذه الأخيرة عن حق على الفكرة القائلة بأن هناك أفولا تاما بعد سنة ١٦٥. أما كتاب

١٧٠

الأغريق والمقدونيين والشاميين واليهود والبابليين المنقولين. وقد توفرت لها الأجهزة الأساسية الخاصة بالمدينة الأغريقيةPolis في إطار المملكة الهلينية ، وهي فوق ذلك تجسد وترمز أكثر من أية مدينة أخرى ، إلى مفهوم المدينة كنقطة لارتكاز أية هيمنة أجنبية. وذلك لأنها منشأة شبه معزولة في محيط شرقي صميم ، باستثناء السوس التي كانت بعيدة عن المركز ، وبابل في عصر أنطيوكوس ابيفانوس. ومع أن بلاد الرافدين كانت إحدى الولايات المركزية في امبراطورية السلوقيين ، ومع أنها كانت مقرا لسلوقية ذاتها ، فإنها لم تقبل التأثير الهليني بالقوة نفسها التي كانت له في الشام. لكن لا مجال لنكران بقائه مدة طويلة ، أو نكران آثاره في عصر البارثيين.

وقد اعتبر البحث التاريخي الغربي مدة طويلة أن الهلينية المنتقلة إلى الشرق حتى خراسان كانت حركة «تحضيرية» قوية أخرجت آسيا الصغرى من همجيتها كما أخرجت الشرق من وضعه البالي. إن الأغراض العزيزة على الامبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر تكاد توجد كلها عند مؤرخين من صنف سانفوردSanford ) وجونز بالخصوص ، وقد أسقطت على ماض يبعد عشرين قرنا. وهي الهلينية كمبدأ ثقافي فتي حديث متفوق ، وفكرة مثاقفة الأهالي ، واستكمال مؤسسة البوليس (المدينة) ، الخ ... (٢). وبذلك تكون هذه الهلينية معادلة للحضارة الأوروبية المنتصرة.

وقد اتسم قول روستوقتسيف Rostovtzeff بهدوء أكبر ، مع أنه لم يستخدم مثل سابقيه إلا المصادر اليونانية والرومانية وهو ما ندّدت به بيغولفسكاياN.Pigulevskaja ). ومع أن روستوقتسيف اطلع على نتائج حفريات Doura ـ Europos ، فهو يعترف بالجهل الذي نتخبط فيه إزاء حركتي انتشار الهلينية والتمدين ، وقد أقحم بشدة التمييز بين المدينة الشرقية والمدينة اليونانية ، معترفا بعد هذا بوجود تشابهات بينهما لا يمكن تفسيرها (٤). إن هذا التحفظ الأخير أساسي وهو يخفّف من حدة المعارضة بين الشرق والهلينية. ففي مستوى الطبوغرافيا بداية حيث توجد هنا وهناك الغاية التنظيمية نفسها ، ثم في مستوى المؤسسات حيث يسلّم بدرجة معينة من الاستقلال للمدينة الشرقية ، وقد بات الأمر مقبولا عادة

__________________

Pauly ـ Wissowa ، فلم يشر إلى سلوقية إلا بصورة طفيفة.

(١) Sanford, The Mediterranean World in Ancient Times, N. Y., ٨٣٩١.

(٢) The Greek City.,pp.٢٣ ـ ٧٣ ,٩٣ ـ ٣٤.

(٣) Ibid.,p.٠٢.

(٤) Ouvr.Cit.,II ,pp.٥٤٠١ ـ ٢٥٠١.

١٧١

بالنسبة للمدينة الهلينستية. لكن هل كانت هذه المدينة حقيقة من نمط الPolis )؟ من الواضح أنه تمّ إحياء الأجهزة اليونانية القديمة ومنها الEcclesia (جمعية الشعب). لكن هذا الإحياء الذي استفاد منه العنصر اليوناني المقدوني خاصة ، هل كان سياسيا أم ثقافيا؟ هل كان يعمل بكيفية ديمقراطية ، أم كان مجرد تقمص لرمز ثقافي؟ لا يخلو الأمر من تناقض حيث أن المتمسكين بالهلينية يعتبرون هذه المؤسسات أمرا مصطنعا في حين أن بيغولفسكايا التي تنازع مبدأ تفوّق الهلينية معتمدة المصادر السريانية معيدة الاعتبار بعد اشبنغلر إلى الروح الشرقية التي لا تقهر ، تظهر وكأنها تعتقد في جديتها واصفة إياها بمزيد من التفاصيل (٢). وكأن الندم قد انتابها ، فخلصت إلى القول إنه لا يمكن استنقاص التأثير الهليني. ولا شك أن لديها ما تبرر به قولها. ذلك أنه من وراء الصراع المبسط الذي افتعل بين الشرق والغرب والذي طالما طمس قضية الهلينية ، وتجاوزا للمفاهيم الضمنية للمثاقفة واللقاح والرفض وتفوق مبدأ على آخر ، يتحتم الإلحاح على الواقع الجوهري للعبة السياسية العسكرية. لقد تشكلت امبراطورية ثم تفككت. لم تكن لها ايديولوجيا راسخة قوية ، وامتدت على أرض متسعة جدا في فترة زمنية قصيرة جدا. وبعد هذا ، فمع أن الشرق يستند إلى بنى متينة من الحضارة ، فقد انفتح لكي تتسرب إليه المؤثرات اليونانية واحتفظ بشكل خفي بآثارها. وكان هو بذاته يعيش في الداخل تغيرا عميقا ، رافضا الأشكال الأكثر ظهورا للماضي الأكادي ، لكنه سيستمر في الخضوع للسيطرة الخارجية. ليس مقصودنا من طرح قضية تقلبات الهلينية في الشرق إشعال خصومة جديدة في تاريخ الحضارات على الرغم من أهميتها بالنسبة لمستقبل الإسلام وعلى الرغم من المقارنات الموحية كثيرا بين العروبة والهلينية. إنما نسعى إلى تفجير سلسلة من المقابلات الواهية بين الشرق والهلينية ، بين المدينة الشرقية والمدينة اليونانية (٣) ، بين مبدأ الخضوع هنا ومبدأ الاستقلال هناك ، وتلك المقابلات بين العفوية والخلق ، وبكلمة ، تفجير غشاء كامل من الفرضيات المسبقة.

كيف نترجم ذلك على صعيد المحسوس؟ منذ البداية ، تفرض المقارنة نفسها بين شكلين للتمدن والهجرة. الهجرة العربية هي التي أوجدت الفتح ، ولم تكن مجرد نتيجة له. وبسبب قرب العرب الفاتحين من مخزونهم البشري ، فإن استيطانهم كان يتصف بكثرة العدد وقوة التجمع ، ولم يكن مشتتا مبعثرا. انفصلت الأمة الفاتحة في العراق ، انفصالا صريحا عن الأهالي المحيطين بها. وأقام العرب تجمعاتهم الكبرى في بلاد الرافدين لا في

__________________

(١) The Cambridge ـ ـ ـ VI ,p.١٣٤.

(٢): Pigulevskaja ,Ouvr.cit.,pp.٣٢ ـ ٨٢ كان لسلوقية والسوس ، نظام الPolis ولم تكن بابل كذلك.

(٣) فصّل روستوقتسيف بوضوح بين النموذج اليوناني والنموذج الشرقي ،.Rostovtzeff ,I ,p.١٨.

١٧٢

الشام ، خلافا لليونان ، فضلا عن أنه لم يكن لهم نموذج طبوغرافي أو مؤسساتي مسبق للحياة الحضرية.

فآل الأمر إلى تعايش غريب جدا بين المدينة والقبيلة التي كانت نابضة بالحياة عند العرب بينما لم تكن سوى أمر مفتعل وربما أثر عند اليونان. لماذا وفق الإسلام حيث فشلت الهلينية؟ لأنه جمع بين المبدأ الديني الذي لا يمّحي وبين الهوية الثقافية المتينة ، والتنظيم العسكري الجيد ، ولأنه حافظ على هذه العناصر الثلاثة في أمصاره القليلة. وخلافا لذلك ، فقد كان مستعدا لتقبل سلسلة النماذج الحضارية المودعة في الشرق بشكل انتقائي ، بما فيها الهلينية. وتم العمل بهذه الانتقائية في تخطيط الكوفة. لكن الإسلام وجد أخيرا الأسلوب اللائق به بعد قرن من ذلك. إن العرب الذين أتوا مع سعد لم يكونوا يمتلكون المخطط الجاهز لهيبوداموس الذي أبدع في ميلي Milet ، مع أنه في الحقيقة يعود إلى زمن غابر (١) ، إذ كان ابتكارا للهلّينية الأيونية وليست الأتّيكية ، وقد نشره خلفاء الإسكندر. ولعلهم اطلعوا على ما تبقى من المخطط المشبّك بسلوقية ـ بهرسير وحتى في بابل ، أو في السوس بالنسبة لأهل البصرة. ولنا أن نوضح القول أكثر من ذلك ونتساءل إلى أي حد يندمج مخطط هيبوداموس في الثقافات ـ بالمعنى الأنثروبولوجي ـ الشرقية ، بما فيها ثقافات مشارف بلاد العرب (٢)؟ ولذا يجدر بنا التساؤل عن إمكانية غامضة تتمثل في الأصل الهليني للشوارع الكبرى بالكوفة. حيث إذا رضينا بالتأويل الثاني لرواية سيف ـ أي أن الشوارع الرئيسة كانت تقطعها شوارع ثانوية قطعا عموديا ـ نكون قد وقعنا قطعا على تخطيط هيأته رقعة أو شبكة. ومهما كان الأمر ، وفيما يخص مساحة السكن فلا يتعارض النموذج الشرقي والنموذج الهليني ، بل إنهما يتشابهان كما رأينا ذلك ، ولعلهما يمتزجان في رؤية واحدة للمجال هيأها المخططون طبق حاجات التنظيم العشائري العربي أو تنظيم المعسكر. فأدى ذلك إلى تصفيفات وشرائط متمددة. أما عن المركز المقتبس من الأسلوب البابلي الجديد والآشوري ،

__________________

(١) History of Mankind ,II ,١ ,p.٦٧١ ؛ ناقش أوبنهايم تأثير «الأورارتو» على المخطط المشبك : op.cit.,.pp.٠٥١ ـ ١٥١

(٢) تسرب التأثير الهلينستي وصبغته الرومانية إلى امبراطورية البارث وبقيا في الامبراطورية الساسانية : راجع في خصوص بلاد ما بين النهرين : Oppenheim ,p.١٥١ ؛ وقد وافقت بيغولفسكايا (Pigulevskaja ,p.٤٨) على أن «دخول اللغة اليونانية والتقاليد الهلينية إلى المدن الشرقية كان عميقا». انظر أيضا : Ghirshman, L\'Iran des origines a ? L\'Islam, pp. ٨٧٢, ٩٠٣ ، وانظر خاصة :(Univers des Formes ,III) Parthes et Sassanides وقد أثارD.Schlumberger النقاس حول هذا الرأي معتبرا أن الفن الساساني تحرر من الهلينية وقام في جملته على العودة إلى المصادر الأخمينية والشرقية ، رغم قبوله بوجود الطابع الهليني في فن البارث. راجع» Sur l\'origine et sur la nature de l\'art des Sassanides «في : VIIIe Congre ? s International d\'Ar ـ. che ? ologie classique, pp. ٧٦٥ ـ ٧٧٥

١٧٣

فنجد الرحبة تقابل الأغورا الهلينية التي حافظ عليها الحضور البيزنطي.

وهكذا نصل إلى فكرة الالتحام المعماري ، إلى لغة مشتركة نجدها في الحجر أو الآجر نشأت في العالم القديم كله. وعندئذ ، إذا كان نموذج الدار العربية اللاحقة بابلي الأصل ، فيمكن القول أنه هليني لأنه غطى إلى حد بعيد المساحة الهلينستية. مثله مثل القوس الذي انتقل بعد الإسكندر ، من بلاد الرافدين إلى قلب العالم اليوناني. وكالآجر ذاته الذي عرف طريقه إلى الشام ، فيما الشام بلد الحجر أصلا وأساسا (١).

فارس وروما وبيزنطة

الحقيقة الواضحة التي ينبغي التذكير بها دائما ، أن الانساق الحضرية تتبادل التأثير وأن ليس هناك نسق مدني بحت. فهل انتظام المخطط ظاهرة شرقية أم ظاهرة هلينية ، أو على الأقرب مجرد خاصية لكل مدينة تنشأ دفعة واحدة؟ سؤالان ينبغي طرحهما قبل أن تصبح الكوفة إمّا حاضرة شرقية وإما حاضرة هلينية. نجد بمصر القديمة مخططات مشبكة فيها شوارع رئيسة تقطعها شوارع ثانوية. ومن الممكن أن هذا الرسم هاجر إلى الشام ، وتواجد مع رسوم أخرى ، واستمر في النشاط بمكان آخر ، ثم رجع إلى مصادره بعد أن دخله التغيير. ومن الوجهة المعمارية ، «إذا كانت فكرة ال olis استمدت شيئا من تجمع الدور حول القصور المسّينية» (٢) ، فلعل انتظامها اللاحق صدر عن اتصالات بعالم الأناضول أجرتها اليونان. لكنّ أثينا مثل روما ، احتفظت بتشكل متراكم فوضوي استمدته من أصولها (٣). وهو يتميز من مظهر الحواضر الهلينية التي تغذت من مهد المؤثرات الأناضولية.

فمن المناسب ألا نبالغ في عمل هيبوداموس الرائد الذي لم يعمل إلا على استكمال تقليد معماري وجده في المكان نفسه ، حتى في عمله الممتاز الذي هوPriene (٤). وما يلفت النظر أن الأغريق والرومان لم يبنوا مدنهم النموذجية إلا في المستعمرات ، تلك الحواضر المنتظمة المنسقة (٥). ذلك إما لأنهم تمكنوا في الخارج من استيعاب أسهل للتقاليد الأجنبية ، وإما لأن صورة المعسكر كانت عالقة بهم فيما يخص الرومان ، وإما لأن كل خلق جديد

__________________

(١) The Cambridge ـ ـ ـ ,VI ,pp.٨٥٥ ff.

(٢) Luigi Paretti ,History of Mankind ,III ,١ ,p.٧٧١.

(٣) Mumford ,p.٨٥٢.

(٤) Le ? on Homo ,Ouvr.cit.,p.٩٢ ؛ يرى أريسطو أن هيبوداموس هو الذي أبدع تقسيم المدن.Aristote ,.Politique ,II ,chap.٨

(٥) Ibid.,pp.٦٢ ff.

١٧٤

يخضع لعقلانية هندسية. وتنطبق هذه الدوافع الثلاثة بصورة فريدة على العرب الذين خرجوا من بلادهم وبنوا الكوفة الأولى : التهيؤ للتقبل ، وصورة المعسكر (لا بالمعنى الذي جعل المعسكر يتحول من ذاته إلى مدينة ، كما رأينا ذلك) ، وجدة الإنشاء. لم يكن مخططوهم يشعرون أنهم كانوا يصنعون البابلي الجديد والهليني والفارسي والروماني ، لكنهم غرفوا ، غير واعين ، من تراث أفكار دون أن يكون لهم تصور مرئي واضح. ولربما يتم استيقاظ الجانب الأكثر مسخا من الماضي ويتم رجوع العتيق إلى الوجود ، حين يخلق الجديد إذ هي فرصة لا تعوض بالنسبة إليه ، ليرجع بقوة. وهكذا حدث وثوب فوق العصور الساسانية في اتجاه بابل وربما في اتجاه الهلينية ، وقد امتزجتا امتزاجا مبهما ضمن تراث مشترك. هكذا فعل الرومان الذين خطوا مدنهم بالمحراث تخطيطا شعائريا (١) ، إذ كانوا يرددون دون علم به ، تقليدا أتروسكيا نابعا من أعماق الجذور الشرقية لهذا الشعب (٢). فمن الممكن أن احتفظت الجزيرة العربية بفضل اتصالها بالشرق بمحاولات عتيقة تخلى الشرق نفسه عنها ، وذلك بالضبط لوضعيتها الهامشية عنه.

إن الفرس والرومان شعبان وريثان. لقد اعتمدا أصلا نماذج مهيئة في بوتقة الحضارات التي خضعت لهما ، لكن دون أن يخلو ذلك من زاد أصيل. من هنا انتشار هذه النماذج انتشارا ممتازا ، ومن هنا حدثت تركيبات وانحرافات. لكن لم يجر اللحاق بالركب أبدا. حين صمم الفرس القاهندز ـ يعني القلعة المركزية المحصنة ـ وأبدعوا فيها ، فقد توسعوا بذلك في النموذج العتيق الآشوري ـ البابلي ـ الجديد في السوس كما في همذان ، وفي اصطخر كما في بابل التي جددوا بناءها ، لكنهم عدلوا في طيسفون وفي درابجرد عن الشكل المربع لصالح الشكل المستدير المستمد من إرثهم بالذات ، أو من ارث «الأورارتو» ، أو لعل الأمر تعلق برجوع النمط المصري أو الشامي الأناضولي. وكذلك الرومان فإنهم روجوا في الشرق نموذج المدينة الهلينية التي صارت مثالهم الأعلى (٣). لكنهم لم يوفقوا أبدا بأن يجعلوا من روما حاضرة مكتملة نظيفة مضاءة (٤) متسقة ، كما كانت أنطاكية. إن انتظام المدن الرومانية خارج إيطاليا مقتبس من التقليد الهلينستي في الشرق ، ومن التقليد الأتروسكي في العالم الغربي. وعلى هذا النحو لم يقم الفرس والرومان كل في ميدانه بعمل ابتكاري

__________________

(١) Mumford ,p.٧٦٢.

(٢) Le ? on Home ,p.٤٢ ؛ ويرى ارنست بلوخ «أن المعمار الرّوماني أخذ عن الأتروسك الصبغة الهندسية الكوسمية .. وبعد قرن من Vitruve رجع المعمار الروماني إلى التراث الهندسي الكوسمي للأتروسك» :. Ernest Bloch, Ouvr. cit., p. ١٤٣.

(٣) Mumford ,pp.٦٥٢ ff.

(٤) Le ? on Homo ,p.٢٨٥.

١٧٥

أساسي ، بل كان عملهم تركيبيا وبصورة ما عملا تشويهيا للنموذجين الأصليين الشرقي والهلينستي.

لكن ينبغي الاعتراف أنه لم يقع في الوضع الروماني ، إلا نادرا ، فرض مخطط السكك من كاردو (Cardo) وديكومانوس (Decumanus) فوق المدينة الهلينية مع المسخ الذي يشوّه وجهها. كانت المدينة الرومانية في أنطاكية كما في الإسكندرية ، بخاصياتها وتسمياتها المحددة ، تقع إلى جانب المدينة الهلينستية دون المساس بها (١). أما بأعلى بلاد الرافدين وهي منطقة حدود وساحة للقتال فإنا نلحظ وقوع تخريبات تتلوها إنشاءات على الأسلوب الروماني. فهل أن التصور الروماني للمدينة بصفتها شكلا جسديا سما هنا وهناك إلى مرتبة النموذج القادر على أن يعتمد على نفسه وينتشر خارج الامبراطورية؟ مثلا في بلاد بابل ، وبصورة أوسع في الامبراطورية البارثية؟ ليس في هذا السؤال تمويه كما يظهر لأول وهلة ، نظرا للقرب الزمني ، ولأن الشحناء بين امبراطوريتين لا تستثني المبادلات الحضارية (مثلا : الحمامات التي اقتبسها العرب عن الساسانيين الذين اقتبسوها بدورهم عن العالم الروماني البيزنطي في رأي وليام مارسي) (٢). ولا ننس أن الحيرة التي يسرّ طابعها العربي انتقال المؤثرات الخارجية إلى الكوفة ، لم تكن مرآة للحضارة الفارسية فحسب ، بل انخرطت ضمن خط عربي اتصالي امتد حتى الشام عند الغساسنة ، وهذا الخط كانت التسربات الرومانية البيزنطية فيه أكثر أهمية من المفعول الساساني ذاته ، مما أدى إلى عملية تنصيرية قوية في الحيرة ذاتها.

لا يمكن رد التأثير الروماني في الكوفة إلى المظهر الشعائري للتخطيط ، رغم ما هنالك من تشابه في الشكل ، لأن مصدر هذه التشابهات مورده عندئذ الارث المشترك الغابر ، ارث الشرق القديم الذي نقلته التقاليد الأتروسكية إلى الرومان ، بل بالأحرى يمكن ردّه إلى المعمار. فإذا وافقنا سيفا على أن الصورة الهندسية المعمارية الأولى للمسجد كانت قائمة منذ البداية ، فمن المهم أن ننتبه إلى ما قاله في هذا الموضوع. لقد تحدث عن أعمدة جلبت إمّا من الأهواز وإمّا من الحيرة ، واصفا بالخصوص سقف قاعة الصلاة الذي شبهه بسقف «الكنائس الرومية» (٣). لا شك إنه يمكن تسفيه هذه التوضيحات وردّها إلى عصر لاحق شهد استيعابا أفضل لكلية الارث الشرقي من جانب العرب ، وبذلك تتأخر القضية نصف

__________________

(١).Meulot ,Le monde et son histoire ,I. راجع خارطة أنطاكية.

(٢) Articles et Confe ? rences ,p.٦٦.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

١٧٦

قرن. لكن تثير هذه الروايات وتوحي بإمكانية جديرة بالنظر لم يتردد كرسويل (١) في درسها ، وقد سبقه إلى ذلك لامنس (٢) الذي يرى أن المقصود به عند سيف تصاوير جدارية وفسيفساء ذهبية على الطريقة البيزنطية. ويوافق كرسويل على وجود التأثير البيزنطي لكن بشكل آخر غير شكل الفسيفساء على الحجر. ينبغي البحث عن النموذج حسب رأيه ، في الصنف الكنسي من كنائس شمال الشام تلك التي استعمل فيها الخشب كمادة لبناء السقوف المستقيمة المستطيلة لا السقوف المقببة أو التي كانت على شكل القبة. ولعل هذا النمط المعماري يكون انتشر في شمال بلاد الرافدين عند قدوم الجيوش البيزنطية. ثم أورد كرسويل كمثال ، الرصافة التي يعود تاريخ الكنيسة الجامعة فيها إلى القرن السادس م ، وسرجيوبوليس ، وحلبية. لكن لا يكشف لنا كيف انتصر هذا النموذج في بلاد بابل ، ولا كيف أصبحت هذه البلاد تابعة ، من بعض الوجوه على الأقل للعمارة الشامية ، كما جرى في الجزيرة. ويكون سقف الظلّة حسب رأيه من خشب ، أقيم مباشرة على الأعمدة وبدون أقواس ، ولم يكن شكله مقببا. وهذا يستثني التفكير في النموذج الخاص ببلاد الرافدين المتضمن لسقف من لبن مخلوط بالقصب ، كما في نينوى وخورسباد ، وكما أيدته المصادر بالنسبة للبصرة الأولية. فهل أن المؤثرات الرومانية أو بالأحرى البيزنطية توقفت في مستوى الحيرة والكوفة ، ولم تتقدم أبعد من ذلك؟ في الحقيقة ، حتى لو شككنا في واقع هندسة معمارية جديرة بهذا الإسم في الكوفة المبكرة ، فإن مصادرنا تؤكد على وجود تأثير بيزنطي معين يخص الكوفة ، وهي صامتة عن البصرة. وبخلاف ذلك ، كانت صريحة إذ نسبت للبصرة مسجدا ، إمّا من النمط الذي قد ينتسب إلى بلاد الرافدين (٣) ، وإمّا من النمط العربي البدائي ، وهي تسكت عن هذا في خصوص الكوفة. ومهما كان الأمر ، وإذا صح أن وجود تيار من المبادلات بين بلاد بابل والشام يفرض نفسه على انتباهنا ، فإن المؤثرات الرومانية ـ البيزنطية التي لا شك في حضورها (٤) ، بقيت ضعيفة في تعابيرها المباشرة. وأكثر أهمية من هذا دون شك الدور الذي قامت به هذه المؤثرات في نشر المثال الهلينستي أو في المحافظة على مثاليته كمرجع معماري ، لكن أيضا وبالخصوص في نشر مفهوم المدينة المنشأة

__________________

(١) Ouvr.cit.,I ,pp.٧١ ـ ٨١.

(٢) Lammens,» Ziad Ibn Abihi, vice ـ roi de L\'Irak «, Rivista degli studi Orientali, IV, ٢١٩١, pp. ٧٤٢ ـ ٨٤٢.

(٣) «بنى أبو موسى الأشعري المسجد ودار الامارة باللبن والطين وغطاهما بالقصب» : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٤٢. ها نحن قربنا كثيرا من نموذج نينوى وخرسباد الذي أشار إليه كرسويل. على إننا لا نجد ذلك بالنسبة للكوفة عند البلاذري ولا عند الطبري.

(٤) الظاهر أن ريح الشمال تصل إلى بلاد بابل لكنها لا تبلغ الجنوب.

١٧٧

باعتبارها المكان الأقدر على دعم أية هيمنة امبراطورية جديدة.

لا ريب أنه يوجد من الجانب الفارسي تلك الإرادية التمصيرية (١) ، التي ورثها العرب والتي كانت من الأسباب الجذرية لإنشاء الكوفة. لكن الكوفة ـ وهذا الفارق مع بغداد ـ لم ترد أن تكون حاضرة امبراطورية متجهة بكل قواها إلى التعبير عن العظمة الملكية لنفسها ، كما جرى الأمر بالنسبة للسوس واصطخر والمدائن. وإنما خضعت مثل المدينة الفارسية إلى سلطة مركزية ممتدة على تراب شاسع ، وأقحمت في شبكة إدارية لم تتغير ، هي شبكة الكور الساسانية. إن هذا المظهر الذي اتخذته الكوفة كمتصرفة في تراب محدود (٢) ، يمدد الواقع الفارسي ويناقض واقع الاستقلال النسبي الذي كانت عليه الحاضرة الهلينستية.

وبعد ، فلا أسلوب التخطيط ، ولا بنية الفضاء الكوفي الأول يبدوان مقتبسين شيئا من الأرث الفارسي. مع أن ما كان أكثر وضوحا من غيره هو الحضور الساساني. كان أشد تأكيدا في النصف الشرقي من العراق ـ سواد دجلة أو إقليم ديالا (٣) ، لكنه بارز أيضا في منطقة الفرات ، عبر أسماء المكان ومسح الأراضي وشبكة القنوات ، ومن خلال وجود إنشاء فارسي مثل الأنبار (٤). من الممكن ومن الواجب قطعا أن نقبل بوجود جانب كبير من الوساطة الفارسية في نقل التصورات البابلية والمقاربات الهلينستية للظاهرة المدنية ، لا أن نقبل المسعى الفارسي الصرف لهندسة المجالات. لقد كانت الكوفة مربعة الشكل فعلا ، غير مستديرة مثل درابجرد وأصفهان ، وحتى المدائن التي عرفها العرب وحدها في ذلك العصر. لكن بخصوص ما اقتبس من الفرس في المعمار فإن ذلك يظهر فورا للعيان. فقد ذكر أن الأحجار جلبت من الأهواز (خوزستان) لنحتها أعمدة عالية (إن هذه الظاهرة فارسية صرف تعود إلى عصر الاخمينيين) (٥) ، وأنها حملت سقفا مسطحا ، دون تقويس ، وهذا يسترعي الانتباه ، ففرض على كرسويل صورة آپادانا.Apadana وكان المهندسون من الفرس وقد ورد إسم رئيسهم ، وهو من همدان اسمه روزبه بن بزرجمهر ، وقيل أيضا انه صمم المركّب الموحد للمسجد والقصر. صحيح أن سيفا نفسه لم يقبل خبر نقل الأعمدة من

__________________

(١) راجع حول هذا المظهر من السياسة الساسانية :.Pigulevskaja ,p.٦٨١ ff

(٢) Aubin,» Ele ? ments pour l\'e ? tude des agglome ? rations Urbain dans L\'Iran me ? die ? val «in The Isla ـ mic City, pp. ٨٦ ـ ١٧. لكن تأثير الكوفة كان شاسعا فيما يتعلق بالعمليات العسكرية.

(٣) R. McAdams, Lands Behind Baghdad; a History of settlement on the Diyala Plains, Chicago, ٥٦٩١.

(٤) كانت منطقة الكوفة منطقة الثلاث بهقباذات التي نظمها أو أعاد تنظيمها الساسانيون.

(٥) رجع إليها الساسانيون :.Schlumberger ,Ouvr.cit.,pp.٧٦٥ ff

١٧٨

الأهواز ، إلا بخصوص إمارة زياد. لكن مشاركة «بنائين من بنائي فارس» (١) ، كما يقول حرفيا ، أمر مؤكد بالنسبة للعصر الأوّلي. أما لاحقا وفي العصر الأموي ، فسيظهر الإيوان (٢) البارثي ـ الساساني كواحد من العناصر الأساسية لبنية القصر ، وهو ما أيدته الحفريات بكل وضوح.

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ : استخدم المرمر في المرحلة الأولى لا الحجر. هذا طابع هليني سيمّحي في مرحلة البناء النهائية بخاصية فارسية صرف. فهل أن الطابع الفارسي ظاهرة متأخرة؟

(٢) راجع Schlumberger ,p.٩٦٥ : ، بخصوص الايوان ، وهو إنشاء بارثي اقتبسه الساسانيون. ولاحظ المؤلف نفسه أن المعمار المقبب الذي عوض السقف المسطح ، ابدعه البارث وأثراه الساسانيون. كما أن التغليف بالجبس المنحوت الذي صار «ستارة معمارية حقيقية» سوف يستخدم في قصر الكوفة. إلّا أن شلومبرغر يلح على الطابع الهليني القوي جدا ، باستثناء النقاط المذكورة ، على فن البارث. وهو يلح أيضا على مظهر «النهضة» في الفن الساساني الذي يعود هكذا إلى الأصل الأخميني ، وخلف ذلك إلى الأصل الشرقي لبلاد الرافدين. فهل أن إرث الشرق الذي تلقاه الاسلام مرّ عبر النهضة الساسانية؟

١٧٩

ـ ١٤ ـ

قوّة الماضي :

الارث العربي القديم

يبدو لنا أمرا بديهيا أن كل ما من شأنه أن يشكل تكوّن الحضارة العربية الإسلامية وهياكلها ، ينبغي أن يعتمد قطبين ، على الأقل خلال الأربعة أو الخمسة قرون الأولى من فترة الانطلاق. أما القطب الأول فهو العالم الشرقي الخارجي حيث تطورت هذه الحضارة ، وأما القطب الثاني فهو عالم العروبة الداخلي الذي منه تحدرت. لقد سبق أن ألمحنا إلى النقطة الأولى ، وها نحن نشرع الآن في فحص الموضوع الثاني.

لقد نزعت لفترة طويلة الرؤية التقليدية الأوروبية والإسلامية معا إلى تصور الحضارة العربية ـ والمدنية أيضا ـ وكأنها منبثقة مباشرة ومكتملة من بلاد العرب لكي تفرض وجودها على العالم الشرقي ، في حين أن المعرفة الأوروبية ، وبدرجة أقل الصورة الذاتية التي كوّنها العرب المحدثون ، قد تطوّرت منذ حوالى قرن في اتجاه يبرز المؤثرات الخارجية غير العربية ، سواء كانت نصرانية في المجال الديني ، أم فارسية في المجال الحضاري ، أم هلينية وهندية في المجال الثقافي. وعلى هذا النحو تمّ تفضيل عمل المحيط على عمل المعطى الوراثي. ولعلّه ينبغي اعتبار هذا الأمر عزما على التقليل من الحصيلة العربية الأهلية أو على حل الغيرية العربية الإسلامية ، من وجهة النظر الأوروبية. أما من الوجهة العربية الحديثة ، حيث يبقى التصوّر القديم مهيمنا لا محالة ، عند ظهور اغراء الاتجاه الإيراني والبابلي والهليني ، فذلك دون شك استجابة لرغبة ترمي إلى إخراج الكيان العربي الإسلامي من عزلته التاريخية وإنقاذه من «الهمجية» ليصار إلى ربطه بتقاليد ثقافية كبرى ، وتبرير وجوده ، ومنحه عزة. إنما لم يمر وقت طويل على اتجاه البحث التاريخي من جديد وبمنظورات مغايرة تماما ، في طريق تعمل على تحليل الواقع العربي الجاهلي بغية مزيد من الإحاطة بتولد الإسلام على الصعيد الديني كما على صعيد مؤسسات الاجتماع والدولة. ألم يكن الرسول قرشيا نشأ وترعرع في بيئة مكة قبل كل شيء؟ ألم تكن الدولة بالمدينة دولة عربية قبل كل شيء؟ وهل

١٨٠