نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

٣) سير المعركة :

ليس ما يبرّر البتة أن نتجه بتفكيرنا ، كما فعل كايتاني ، إلى القول إن المعركة دارت في يوم واحد (١). ورغم أن رواية سيف اكتست طابعا ملحميا ، فقد كانت أكثر تفصيلا ، ولا شك أنها كانت قريبة من الحقيقة نسبيا. وإذا ما حاولنا كتابة التاريخ العسكري الصرف لحرب القادسية ، ففي الامكان تشييد إشكالية كاملة للفن العسكري عند العرب ، اعتمادا على الروايات التي وصلتنا. كان ترتيب القتال قائما على الخط ، لا على الكراديس التي استخدمها مروان الثاني فيما بعد (٢) ، مع وجود جناحين وقلب. كيف كانت الوحدة التكتيكية؟ هل كانت الكتيبة؟ وفي هذه الصورة ما هو الدور الذي كان للعرافات المتركبة من عشرة ومن مائة رجل ، والتي سبق الحديث عنها؟ وهناك مشكلة مهمة أخرى : كيف يتكيف النسق القبلي بالتنظيم العسكري البحت؟ هل حافظت القبائل على وحدتها وكيانها ، بعد أن اندمجت في نظام قتالي لا يخضع مبدئيا إلا لغاية خاصة به؟ (٣). يدور الحديث مثلا حول كتيبة أسد (٤) ، وفي اليوم الأول من وقعة أرماث ، نشعر تماما أن القبيلة ـ مثل بجيلة ، وأسد ، وتميم ـ أصبحت العامل الأساسي للتحرّك. ويمكن أن يكون قد سخر سعد عبقريته كلها لحماية تماسك وحدة القبيلة مع صهرها في الوقت نفسه في هياكل استراتيجية وتكتيكية للجيش ، بمعنى أن يجد الحل الوسط بين البنية القبلية والبنية العسكرية الصرف. أما عن العمل العسكري ذاته فتبقى الأمور غامضة. يجري الكلام عن المطاردة والطراد (٥) (هل كانت ملاحقات للخيالة؟) ، والجولان (دورات الخيل ومبارزات؟) ، والزحف أو

__________________

(١).Caetani ,Annali ,III ,p.٦٥٦ ـ ٧ يتحدث الواقدي عن «يوم القادسية» : البلاذري ، ص ٢٥٦ ، لكن ذلك لا يدل على أنه ينبغي اعتبار يوم بمعنى «يوم واحد». أما ابن اسحاق ، فلم يحدد المدة وقد استنتج كايتاني أن البلاذري تأثر بمدرسة العراق عند حديثه عن ثلاثة أيام ، معتمدا رواية للشعبي ، وكيف لا يكون الأمر كذلك بالنسبة لرواية أحداث تهم أهل العراق في المقام الأول؟

(٢) Wellhausen, Das Arabische Reich und Sein Sturze, ، نقله إلى العربية أبو ريدة ، القاهرة ، ١٩٥٨ ، ص ٣٥٨.

(٣) يرتب سيف رؤساء القبائل في آخر السلم ، بعد أمراء التعبئة (المشاة والفرسان والطليعة دون شك) ، وأمراء الأعشاء ، وأصحاب الرايات : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٩. هذه أمور كلها غامضة ويكاد يكون مستحيلا كذلك تكوين فكرة عن التنظيم العسكري العربي ، اعتمادا على روايات أبي مخنف المتعلقة بالفترة اللاحقة ؛ راجع الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٧ ، بخصوص وجود فرق المائة.

(٤) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٩. من الممكن أن تكون الكتيبة هي الوحدة التكتيكية بينما الوحدة الاستراتيجية هي الجناح والقلب والطليعة.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٨ ، وغيرها حتى صفحة ٥٧٦. وكذلك الأمر بالنسبة للمصطلحات الأخرى التي استخدمها سيف.

٤١

الهجوم الشامل. وقد ذكر سيف ما يلي : «كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة» (١). ويبدو أن المطاردات كانت تتمادى على شكل اشتباكات عنيفة ، لكن باستثناء اليوم الأخير ، لم يكن يعني الأمر سوى مواجهات ظرفية ، ولم يشن الهجوم العام إلا في النهاية.

ولنتعمق في الأمور عن كثب. لقد دامت المعركة أربعة أيام وليلة : يوم أرماث ، ويوم أغواث ، ويوم عماس ، وليلة الهرير ، ويوم القادسية.

أ) في اليوم الأول ، واجهت القبائل صدام الفيلة ، وكانت على التوالي بجيلة ، ثم أسد ، ثم تميم (٢). وقد تمثل المشكل عند العرب من وجوب التصدّي للصدام ، والتنسيق بين نشاط القبائل ، وإبطال تأثير الفيلة. وقد تحقق لهم ذلك حين لجأوا إلى تجريدها ، وتمزيق أغطيتها الفاخرة وسيورها ، وتحطيم المحامل. كان يوما شديدا على العرب فقدوا فيه ٢٥٠٠ من القتلى وأشرفوا على الكارثة مرارا ، لكن الغموض الذي اكتنف تفاصيل العملية لا يزول : فمن جهة ، يروى أن الجهد الفارسي تركز على نقطة محدّدة من المكان الذي عسكرت فيه بجيلة ، وأنه وجب أن تتدخل أسد وتميم إنقاذا للوضع. ومن جهة أخرى ، تتحدث الرواية عن مرحلة الطراد ، مرحلة تشابكت فيها الكتائب وعن تكبيرة رابعة لسعد تأهبا للهجوم العام أو الزحف ، لكن لم يتم هذا الهجوم إلا في اليوم الرابع : فكأن الرواية مترددة في تجميع الأحداث في يوم واحد أو في تمييعها (٣).

ب) يطرح يوم أغواث مشكلة المساعدات القادمة من الشام. هل كانت مهمة وحاسمة أم كانت بمثابة الدعم النفساني أكثر منها مساعدة حقيقية؟ تحدث خبر عن إرسال ٦٠٠٠ رجل من أهل العراق (كانوا من المقاتلين المتمرسين الذين خرجوا مع خالد) من

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٥٤٥.

(٢) نتبين من خلال الرواية شحناء ما بين القبائل. وذلك دليل على أن دور القادة من رؤساء القبائل كان مهمّا على الرغم من تهميشهم على الصعيد المؤسّساتي : راجع الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٢٩ ـ ٥٤٠. وقد قتل ٥٠٠ رجل من أسد.

(٣) وعلى هذا ، يسترد كل قيمته نقد كايتاني لما تضمنته رواية سيف من تناقضات. بدأ سيف يتحدث عن توصيات سعد الذي حدد تكبيراته تماشيا مع مراحل القتال ، فخصص التكبيرة الرابعة للهجوم العام ، لكن هذه الخطة العامة تتنافر ومدة القتال الذي استمر أربعة أيام : الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٥. ثم تضطرب الرواية في الأيام التالية وكأن التكبيرة الأخيرة بقيت معلقة. وفي خصوص يوم عماس يعود الخبر إلى المزج بين عناصر سبقت روايتها وبين قضية سعد ، ص ٥٥٩ وما بعدها ، كأن الأمر يتعلق بإجمال للعملية كلها ، أقحم في اليوم الثالث وكأن المقصود منه وصف يوم عماس ، أو أن سيفا رتب استخدام رواية مستقلة تصف مجمل الدراما في يوم واحد.

٤٢

طرف أبي عبيدة (١). وورد بخبر آخر أن ٧٠٠ رجل فقط بلغوا القادسية (٢). وكان قيس بن مكشوح حاضرا أو أنه كان غائبا حسب الظرف ؛ وهناك خبر ملحّ ورد مرارا مفاده أن المساعدات وصلت متأخرة لكنها حصلت على نصيبها من الغنيمة رغم ذلك.

ومن الممكن أن سيفا ومخبريه من أهل العراق ، مجدوا أكثر مما يجب ، دور القعقاع وهو أحد قادة بعوث اليرموك الذي أصبح مدربا للجيش العربي كافة. فكان يوجد في كل مكان ، ويقود أعمالا ظرفية ، وهو الذي دشّن تكتيك الدفاع المتمثل في دائرة الخيل المحيطة بنواة من الجمال وهو الذي قتل الجالينوس ، وتولى فعلا قيادة العمليات آخر الأمر (٣). لكن لا نجد له أثرا في روايات الواقدي المدنية.

ج) كان يوم عماس أقسى يوم على العرب. تحصل الفرس على النجدات في حين أن دعم هاشم لم يكن إلا رمزيا (٤) وظهرت الفيلة من جديد فتحتم قتلها هذه المرة. تذكر لنا المصادر وقوع حركة تطويق في أحد ممرات العتيق. كان عملا جسورا أنفذه طليحة وعمرو بن معديكرب لكن من الصعب إدراك تأثيراته على المعركة في مجموعها (٥).

والأمر الأساس أن المعركة استمرت كامل الليلة ـ ليلة الهرير ـ حيث توقع العرب أن يشن الفرس هجوما عاما ، فقاموا بزحف كامل ، مستبقين أوامر سعد ، وبالكاد متخطين لأوامره (٦). فكانت لهم الغلبة في فجر ليلة القادسية ، لكن مسعاهم لّما يكلل بالنصر ، إذ كان عليهم أن يتجلدوا ساعات أخر ، ويقاوموا ويجالدوا حسما للأمر لصالحهم.

د) وقد تم لهم ذلك في صبيحة وقعة القادسية. قتل رستم فانهار الجيش الفارسي انهيارا تاما. ودار التقتيل والإغراق في نهر العتيق. ولم ينجح في التقهقر بانتظام إلى المدائن سوى جمع محدود العدد ، لكن حتى ذا الحاجب الذي كان يقود هذا الفريق أمكن اللحاق

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٤٣ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٦. وقد أورد كايتاني رواية اليعقوبي التي لم تكن سوى نقل لرواية سيف : ج ٣ ، ص ٦٤٥. ولم يرد عدد المقاتلين لدى الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١٢٠.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥١ ؛ يتحدث سيف ، ص ٥٤٣ ، عن ١٠٠٠ رجل دون أن نعلم هل يقصد بذلك ١٠٠٠ مقاتل في الجملة ، وصل منهم ٧٠٠ في بداية الأمر ، أو أنه قدم ١٠٠٠ ثم ٧٠٠ رجل ؛ البلاذري ، ص ٢٥٧ ، يذكر رقم ٧٠٠ رجل بقيادة قيس بن مكشوح الذي جاء لانقاذ الوضع.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٤٧ وغيرها.

(٤) روي أن هاشما جاء يوم عماس برفقة قيس بن مكشوح في حين أن القعقاع سبقهما.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٧ ـ ٥٥٨ نقلا عن سيف.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٥١ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، يعترف أن ليلة الهرير بالقادسية كانت نموذج ليلة الهرير بصفين : ص ٢٥٩. ويرى كايتاني خلافا لذلك ، أن الأمر اسقاط يعود من المستقبل على الماضي Caetani Annali ,III ,٢ ,p.٦٤٦ ff.

٤٣

به وقتل. كان النصر العربي كاملا. أما ما يثير الاستغراب في الجانب الفارسي فهو اتساع الانهيار أكثر من الهزيمة ذاتها ، وما لحق الفرس من تقتيل وقد تشتتوا شذرا مذرا ، واستسلموا ، وهو ما لم يكن متوقعا بعد صلابة المقاومة الفارسية التي استمرت ثلاثة أيام وليلة.

٤) تفسير وقعة القادسية ودلالتها :

فتح النصر في القادسية طريق العراق للعرب ، العراق الذي يجب اعتباره الآن مفتوحا ، بعد القضاء على القوة العسكرية الفارسية. وقد تضمن هذا النصر على المدى المتوسط بذور نهاية الامبراطورية الساسانية وغزو فارس ذاتها وإخضاعها. ويعترف كايتاني أن نتائج معركة اليرموك كانت أقل أهمية من نتائج معركة القادسية لكنه يجادل في أن يكون لهذه المعركة صبغة درامية. قال : «كانت القادسية معركة ناجحة في يوم واحد ، وكانت اليرموك الخلاصة والأزمة القصوى لحملة طويلة شاقة استمرت ثلاث سنوات» (١). ومن المؤكد كما أسبقنا أن الشام اكتسبت أهمية أعظم من العراق ، في مسيرة الفتح العربي ، وأنها استقطبت القدرة العسكرية لدولة المدينة ، بمعنى تلك القوة الضاربة التي أنشأها الرسول ، ثم طورها أبو بكر وعمر. وخلافا لذلك ، جرى اللجوء دوما إلى قوات قبلية فرعية ، في خصوص العراق ، كانت مستقلة نسبيا. ويحتمل أيضا أن بيزنطة اعتبرت في بداية الأمر الخطر الأساس الذي كان يستوجب أسرع رد ممكن ، وأكثره تنظيما وتواصلا ، كما اعتبرت الشام امتدادا طبيعيا لبلاد العرب. وهو ما يفسر استمرار الجهد المبذول وتماسكه بالنسبة لجبهة الشمال. لكن لا يعني ذلك إطلاقا أنه تمّ استنقاص الفرس من الوجهة العسكرية. ومن المعروف أن العرب ترددوا في الهجرة إلى العراق ، وقد مر معنا ما كان من خطورة الهزيمة التي مني بها العرب في معركة الجسر ، وهي الوحيدة التي ألحقت بالعرب والتي كان لها مثل تلك الأهمية. وتدل الأخبار الكثيرة التي وردت في المصادر على الشعور بالنقص الذي انتاب العرب أمام القوة الفارسية ، وقد وجب التغلب على إحباط نفسي حقيقي لمواجهتها (٢).

كانت وقعة القادسية كوقعة اليرموك تتويجا لعمل دام ثلاث سنوات. وليس لها أن تكون نصرا يسهل قطفه إلا إذا أخفق الفرس في تنظيم أمورهم من جديد ، ولم يجر الأمر على ذلك النحو. كانت حقا امبراطورية بكامل مواردها وتنظيمها ، وتقاليدها العسكرية

__________________

(١) Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٩٥٦.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٤ ـ ٤٨٥. كان «الأسد» لقب الفرس وربيعة ـ نعني بها بكرا ـ كانت تلقّب بربيعة الأسد لأنها كانت الشريك الأكبر ، في الحرب ، للساسانيين. واستمرت حتى صفين الفكرة القائلة إن لربيعة خبرة كبيرة في الحرب.

٤٤

تلك التي واجهت الفتح العربي في القادسية. صحيح أنها كانت امبراطورية في حالة ضعف عميق ، لكنها استردت استقرارها مؤقتا ، وكانت قائمة الذات عند وقعة القادسية.

ويعني ذلك أن الأمر لم يتعلق في شيء بغارة موفقة بل إن المعركة كانت جدية ، درامية ، وكانت بمثابة المأساة إلى أعلى درجة في نظر المهزومين. كانت درامية بالنظر للمقاتلين لأن نتيجتها كانت محل شك. لكن مشكل المناعة العربية مطروح على المؤرخ لكثرة ما اعتبر طبيعيا أن العرب لا يمكنهم إلا أن ينتصروا.

توخى العرب تجاه خصومهم كافة سلوك انتصار محقق ، ولم نعد في حاجة إلى تعليل جانب كبير من ذلك. إنها قضية تاريخية ، لكن يمكن عرض بعض العناصر في وضع القادسية بالذات. لقد جمع الجيش العربي بين خاصتين : كان من الصنف البرابري ، وكان أيضا جيشا منظما تنظيما قويا لا محالة ، كان جيشا ـ شعبا وجيش مهاجرين ، وقد تألّف من محاربين مالكين لأسلحتهم ، نعني نخبة القبائل ، فضلا عن أنهم كانوا من المتطوعين.

وكانت تحرك هؤلاء الرجال رغبة واضحة في الفتح : ليس إرادة لتوسيع امبراطورية ما ، بل صورة ملحة للعيش الأفضل. وكان جيشا من النوع البرابري أيضا ، لأنه واجه شعبا بامبراطورية ، وكان ذلك الشعب قليل السلاح ، لكن كانت له دوافع نفسانية فضلا عن وجود القوة التعبوية للإسلام وندائه الموحد ، ووجود سياسة منسّقة ، ومسعى عقلاني. قلنا إنه كان غزوا من الصنف البرابري لا شعبا برابريا ذلك أن ما يلفت النظر في الروايات التي وصلتنا لم يكن من شكيلة الجسارة اللّاواعية ، بل هي الشجاعة المكتسبة والمزج بين روح المبادرة والانضباط ، وفوق كل ذلك وجود تقاليد ثقافية وتقاليد عسكرية.

لا شك أن البعد المعنوي وهو الأيسر على الإدراك كان الأكثر حسما لتعليل الانتصار. وفوق ذلك ، يبدو أن العرب أقاموا استراتيجية عسكرية جديدة. كان تجهيزهم أخف ، وكانوا أكثر حركة تجاه جيش قوي لكنه ثقيل ، وقد مرت بهم أيضا تجربة حروب الردة وما حصلت عليه بكر ثم بجيلة من ممارسة حربية ثمينة خلال فترة الأيام إضافة إلى خبرة القعقاع ورجاله. ولا نعلم إلا القليل عن تنظيم الجيش العربي ، لكن هل آل تنظيمه إلى الرفع من قدرته على التنقل والفعالية من الوجهة التكتيكية؟ ودور الفرسان أيضا؟ كل هذه الأمور تستوجب التوضيح.

حقيقة الأمر أن هذا الفن العسكري شهد تطورا حاسما بدفعة من النبي ، خصوصا على مستوى التعبئة أي تنظيم الجيش القتالي أو قبلها (١). لقد كانت الحرب مقامة في

__________________

(١) المؤسسة العسكرية ، بيروت ١٩٧٧ ؛ عبد الجبار محمود السمرائي ، «تنظيم التعبئة عند العرب» ، المورد ، مجلد ١٢ ، عدد ٤ ، ١٩٨٣ ص ٧ ـ ١٥.

٤٥

الجاهلية على نظام الكر والفر أي الرجعة بعد الجولة وهذا يعني من وجهة التعبئة أن يصطف المقاتلة على أساس قبلي ويعني من وجهة القوة العدائية انتفاء روح الاستقلال والصمود على نطاق واسع. والتجديد الحاسم الذي أوجده الإسلام يكمن أولا في اتخاذ التعبئة بالصفوف بصفة مضبوطة صارمة وثانيا في نبذ فكرة الفر والإبقاء على الكر وبالتالي بث روح الصمود دون استثناء. وأول ما طبق ذلك النبي في معركة بدر حيث تذكر لنا المراجع أنه كان يسوي الصفوف كصفوف (١) الصلاة (وهنا تبرز بصفة محسوسة العلاقة في الإسلام بين الحرب والصلاة) وأن المؤمنين كانوا يزحفون على العدو دون فكرة تراجع. وقد اعتبر القرآن بعد أحد كل انهزام في المعركة دون مبرر تكتيكي أمرا كبيرا حيث يرد أن (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٢). وكان الجيش الإسلامي يتركب منذ زمن النبي على النمط التالي : الصف الأول هو صف الرماح والثاني السهام والثالث والرابع السيوف. ويبدو أن الصفوف الأربعة هذه كلها مشاة ، أما الفرسان فهي تكون ميمنة الجيش وميسرته. فالنبي إذن يكون قد سنّ انقسام تعبئة الجيش إلى قسمين : القلب وهو مؤلف من المشاة ، والجناحان حيث الفرسان ، والقلب بذاته منتظم صفوفا مختصة حسب السلاح. وإذا صح هذا فقد قام النبي بتجديد عميق في التعبئة ، تجديد معقلن تماما يفوق بكثير التنظيم القبلي القديم إذ يتجاوز الاصطفاف على أساس القبيلة ويقيم وحدة الجيش المقاتل. ولعل هذا يفسر إلى حد كبير تفوّق جيوش النبي على جيوش أعدائه كما تفوّق الحكم القائم بالمدينة على القبائل العربية في حروب الردّة (٣). ونحن نعلم أن أبا عبيدة باليرموك جعل هو بدوره الفرسان على أجناب الصفوف الثلاثة. أمّا بخصوص سعد بالقادسية ، فإنّ سيفا يذكر لنا ما نصّه (٤) : «والمسلمون على مواقفهم إلا من تكتّب أو طاردهم وهم ثلاثة صفوف ، فصفّ فيه الرّجالة أصحاب الرماح والسيوف وصف فيه المرامية ، وصفّ فيه الخيول ، وهم أمام الرّجالة وكذلك الميمنة ، وكذلك الميسرة» ويعني هذا أنّه احتفظ بالثلاثة صفوف وبهيكلة الجيش إلى قلب وجناحين دون تخصيص الجناحين إلى الفرسان. لكن من جهة أخرى ، وقد ذكرنا ذلك ، تبدو القبائل وكأنها وحدات قائمة الذات ، ونحن نلحظ الشيء نفسه في معركة صفين (٥). ولا يمكن تفسير ذلك إلا إذا اعتبرنا توزيع القبائل إلى كتل ، الكتلة حذو

__________________

(١) ابن اسحاق ، السيرة ، ص ٤٤٥ حيث يقول : «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قضيب يعدل به القوم ..».

(٢) سورة الأنفال ، ١٦.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٩.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٥٦١.

(٥) نصر بن مزاح ، معركة صفين ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٩.

٤٦

الأخرى ، لكن على جميع الصفوف.

وتبرز المصادر أيضا هذه المقدرة على الصمود وصبر المقاتلين العرب ، وهذا أمر يعود بنا إلى خلفية المعنويات تجاوزا للمآثر الفردية والقبلية.

وخلافا لذلك ، فقد انهارت قدرة الفرس القتالية في آخر الأيام الأربعة بصورة يرثى لها وكان ذلك نتيجة لمعنوياتهم الرديئة كما كانت حصيلة استنقاصهم للعدو. ومن المتيسر جدا إذا اعتمدنا شهادة الغالبين إبراز السلوك العشوائي الذي ساد جيشا بلا روح ، ولا دافع ، ولا إيمان. وهناك سؤال أكثر أهمية : من كان يقاتل مع رستم؟ هل هي الارستقراطية الفارسية بالسواد ، التي كانت عنيفة في عدائها للعرب ، لكنها أثبتت عجزها قبل ذلك؟ أم جمع المرازبة والملوك والأسياد في الداخل (فارس ، وميديا ، وسجستان ، وخراسان) المصحوبين بمواليهم وأتباعهم؟ كلاهما دون شك. لكن الشعور يحدونا أن الارستقراطيين في السواد بقوا بحصونهم في موقف دفاعي ، وأن الارستقراطية العسكرية بالداخل لم تجند بتمامها ، إذ وجب على العرب أن يقاتلوا فيما بعد أو أن يتفاوضوا مع رؤساء المدن والمناطق. وكأن كل شيء يحمل على الاعتبار أن الامبراطورية لم تعبىء كل قدرتها العسكرية ، لكن كل شيء يحمل على الافتراض أن ما جندته كان مهمّا وبما يكفي للقضاء على جانب عظيم من الارستقراطية الساسانية ، بعد وقوع مقتلة القادسية (١). وكما أن امبراطور بيزنطة واجه العرب في اليرموك بجموع الأرمن وعرب الشام ، إضافة إلى الروم ، فكذلك استخدم يزدجرد أعوانا من الأمم التابعة ، من أجناس أخرى ، كالأتراك وأهالي بخارى ، والديلم (٢). ومن المعلوم أن الديلم تخلوا عن الجيش وانتقلوا إلى الصف العربي. فيعود بنا الأمر دائما إلى أزمة الدولة الفارسية التي لم تتوان عن التأثير على معنويات الجيش والقيادة. لكن ينبغي البحث عن التعليل الأساسي للنصر العربي ، من وراء السياق العام ، في الشعب العربي ذاته الذي شهد تحرر قدراته فجأة ، تبعا لتحول طرأ على التاريخ. وقد تجاوزت معركة القادسية في هذا الصدد مصير العراق لتطرح نفسها كأحد الأحداث الأقوى دلالة في تاريخ العالم.

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٦٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٥٦٦.

٤٧

ـ ٣ ـ

إنهاء فتح العراق

وتنظيم السواد

(١٦ ـ ١٧ ه‍ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨)

تلاحقت الأحداث بعد القادسية ، وجرى فتح سريع نسبيا ويسير شمل السواد كافة ، وطرد الفرس من العراق ، وأقيم نظام الأراضي والبشر ، وأنشئت أخيرا الكوفة والبصرة. وقد تطلبت كل هذه الإنشاءات سنتين أو ثلاثا ، اعتبارا للسنة التي تم خلالها استقرار الأمور وتهيئتها ، نعني سنة ١٧ أو ١٨ من الهجرة. وكما كان الأمر بخصوص الفترة السابقة ، فإن المادة التاريخية المتوافرة لدينا تختلف في كثير من التفاصيل. لكن الوقائع الجوهرية الثلاث : الاستيلاء على المدائن ، واحتلال جلولاء وطرد الفرس إلى النجد الإيراني ، وإنشاء الكوفة ، وردت في الروايات المتواترة كلها.

قسّم كايتاني (١) كعادته هذه المادة إلى رافدين كبيرين : الروايات المدنية (ابن اسحاق والواقدي) التي كانت مفضلة لديه ، والروايات العراقية المرتكزة على سيف بن عمر ، وهو يرفضها إن صح القول. فهو يعارض بين رواية عراقية متلونة قطعا ، حية أيضا وحماسية بالخصوص ، لكنها تمتاز بالأخطاء في التواريخ وبتضخيم الأحداث البسيطة ، ويراها في جملتها تمجيدا خرافيا للأحداث العسكرية ، وبين الروايات المدنية الجافة ، الهزيلة ، المضطربة ، ولكن المتميزة حسب رأيه بمصداقيتها. هذا وإن هيل (٢) يجاري كثيرا وجهة نظر كايتاني وقد انتقد بالخصوص التسلسل الزمني الرديء لسيف وانحيازه للكوفة وهما أمران بديهيان بخصوص فتح الجزيرة ، هذا الفتح الذي جعل منه سيف امتدادا فوريا للعمليات بالعراق. إن نقائص سيف بديهية ، فوجبت الحيطة بشأنها. لكنه يتميز بتماسك الرواية كما يتميّز بثراء المادة الاخبارية. وعلى النقيض من ذلك ، فقد اتسمت روايات عراقية أخرى

__________________

(١) Caetani, Annali, III, ٢, pp. ٣١٧ ff, ٩١٧ ـ ٢٣٧, ٤٣٧ ـ ٢٥٧.

(٢) Hill ,Termination of Hostilities ـ ـ ـ ,p.٤٩.

٤٨

بجفاف تجاوز ما هو موجود عند ابن اسحاق ـ وقد روى عنه الطبري (١) وهو الذي يشكل جوهر الروايات المدنية ـ واعتمد البلاذري (٢) بالخصوص تلك الروايات العراقية (رواية عوانة ومجالد بالنسبة للمدائن ، ورواية أبي مسعود الكوفي وعوانة وهشام بن الكلبي وعوانة من جديد بالنسبة لجلولاء). وقد اشتملت رواية خليفة بن خياط (٣) على كثير من الأخبار المقتضبة التي كانت عراقية ومدنية ، كانت أخبارا رئيسة وثانوية ، اضطرب توقيتها. أما رواية الدينوري (٤) ، فقد اتصفت بشكلها العام.

الواقع أن من غزارة الروايات وتناقضاتها ذاتها يبرز منطق للأحداث يجب متابعته دون المساس بأصل الروايات أو بشكلها : تلك هي الطريقة التي توخيناها لحد الآن ، وهي الطريقة ذاتها التي سنستمر في العمل بها.

الاستيلاء على المدائن

خرج العرب إلى المدائن بعد وقعة القادسية ، ودفعتهم إلى ذلك ضرورة عسكرية بديهية هي الاستيلاء على عاصمة الامبراطورية الفارسية التي كانت المقر الرئيسي للسلطة في العراق ، والمركز النابض للقيادة ؛ وتبعا لذلك تقرر القضاء على الدولة الفارسية في العراق. كان العرب لذلك السبب على يقين من أن انتصارهم في القادسية كان حاسما واكتسب طابعا آخر مغايرا لما كان عليه الأمر في البويب مثلا. ويزداد الأمر بداهة عند مقارنته بما جدّ في الأيام المعروفة. بقي أن نعرف هل تم القضاء على الجيش الفارسي قضاء مبرما ، إلى درجة أن المسيرة نحو المدائن ستؤول إلى مجرّد حوز للمدينة أم أن الفرس ما زال لديهم دافع يدفعهم ، وهل كان ممكنا قلب الوضع لصالحهم؟

يبدو أن كايتاني يميل إلى الرأي الأول (٥) ، وذلك ما جعله يرّق لرواية المدنيين الجافة. على أن ما يقبل الاحتمال هو ظهور بعض مواقع المقاومة الصغرى حتى المدائن ، وصمود أشد في أسفل جبال زاغروس ، بجلولاء ذاتها. لجلولاء في الرواية التاريخية العربية كلها مكان مفضل في ملحمة فتح العراق ، لكن أيضا في كتب الفقه. كان حضور الناس وعدم الحضور

__________________

(١) التاريخ ، ج ٣ ، ص ٥٧٨.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٥.

(٣) التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٨.

(٤) الأخبار الطوال ، ص ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٥) فقد تحدث عن «حملة بدون رونق» ترتب عليها طرد الساسانيين من بلاد بابل : Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,pp.٣١٧ ـ ٤١ ,.p.٦٥٧.

٤٩

في المدائن وجلولاء يكتسب أهمية بالنسبة لتقسيم الغنيمة وإسناد أراضي الفيء (١). هذا يعني أنه ينبغي مجاراة سيف بحذر ويقظة أيضا.

وبذلك نصل إلى طرق نقطة أخرى كذلك هي أنه كان للعرب رغبة ملحة في الاستيلاء على الكنوز الساسانية. وخشية أن تفلت منهم هذه الكنوز بعيدا داخل الأرض الإيرانية ، اندفع العرب إلى التعجيل بالمرحلة الأخيرة المتمثلة في الاستيلاء على المدائن وكذلك إلى ملاحقة الجيش الفارسي بجلولاء وحتى حلوان. وبتهيئتهم المراحل (في بابل ، وساباط ، وبهرسير والمدائن) ، أثبتوا جيدا ما كان لهم من حيطة في التوغل العسكري ، ويدل هذا الأمر كذلك على وجود مقاومة فارسية ما ، قصد بها حماية فرار ملكهم وكنوزه. وتم هذا الفرار على مراحل أيضا ، فانطلق الملك من المدائن إلى حلوان ، ثم من حلوان إلى الجبال ، كأن هذا الملك كان يترقب حدوث معجزة ، أو كان يعقد بعض الأمل على رجاله. إذ لو اقتصر الفرس على مجرد حماية كنزهم لما ترقبوا أن يباغتهم العرب في المدائن. المؤكد أن الفرس أعادوا تجميع قواتهم في فترة أولى ـ لتشتت أكثرها ـ وحاولوا تعطيل التقدم العربي إلى أقصى حد ، لكن فوجىء الملك في المدائن ، ففر تاركا جانبا مهما من ماله. ومع هذا فلم يتردد في مواجهة العرب من قلعة أخيرة ، نعني الجيش المعسكر بجلولاء. كان على هذا الجيش أن يحمي فراره ، ويقطع الطريق على غزو محتمل للتراب الإيراني ، وأن يقاتل في آن واحد من أجل الكنز الملكي أو ما تبقى منه.

أما بخصوص التوقيت ، فلم يتمكن سيف إلا بعسر من التوفيق بين تأريخه المبكر لحرب القادسية في ١٤ ه‍ والاستيلاء على المدائن في صفر سنة ١٦ ه‍ (٢). ولذا أرّخ ، حسب ما ورد لدى الطبري ، أكثر الأحداث التي جدّت بين وقعتي القادسية والمدائن في سنة ١٥ ه‍. ولا شك أنه أفاض القول بسبب ذلك في عبور سواد الفرات في حين أن الرواية توحي بنفاد صبر الجيش العربي. ويقول الطبري أيضا أن ابن اسحاق والواقدي أرّخا هذه الأحداث بالذات في سنة ١٦ ه‍ (٣) ، وبذلك كان عليهما أن يوجزا القول فيها. واتفق جميعهم باستثناء خليفة بن خياط الذي اعتمد تواريخ كانت محض خيال (٤) ، اتفقوا على

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٥ ، وج ٤ ، ص ٢٠ ـ ٣٢ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ؛ أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٣٢. أما بخصوص الأقوال المنسوبة إلى عمر والمتعلقة بأبناء سبايا جلولاء الذين سيحضرون وقعة صفين ، فليراجع الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١٢٩.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٨.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٦١٨.

(٤) التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٧ حيث أرخ وقعة جلولاء في ١٧ ه‍ / ٦٣٨ م.

٥٠

تأريخ الاستيلاء على جلولاء في ذي القعدة ١٦ / ديسمبر ٦٣٧ (١). وبالفعل ، يتفق الواقدي وسيف ، حسب الطبري كما حسب البلاذري ، على أن تاريخ وقعتي المدائن وجلولاء يقع في سنة ١٦ ه‍ (٢). وبذلك يكون تحديد التاريخ في سنة ١٩ كما جاء عند الواقدي وذكره كايتاني ، غير مقبول اطلاقا (٣). لا شك أنه ينبغي تأخير الاستيلاء على المدائن ، كما ورد عند سيف ، بضعة شهور كي تتسق سلسلة الأحداث طبق الصورة التي وردت عند المؤرخين. وعلى ذلك يبدو لنا تأريخ الاستيلاء على المدائن في جمادي سنة ١٦ / يونيو ٦٣٧ ، حسب ما قرّره كايتاني قريبا إلى المعقول كل القرابة (٤).

تقدم العرب على الطريق الرابطة بين الحيرة وبابل ، فالمدائن ، فالنهروان ، ثم جلولاء في اتجاه حلوان والري. وكان لا بدّ من عبور الفرات وسورا ودجلة. نحن هنا في قلب بلاد بابل ، أي في قلب السواد أو تربة الفرات ، حيث تجري قنوات جانبية كثيرة رابطة بين دجلة والفرات في اشتباك مكثّف (٥). كانت تربة غنية عامرة بالفلاحين الخاضعين للدهاقين ، وقد سبق أن اختار أكثر هؤلاء حلا للتعايش مع الغالب ، وفرّ الفلاحون أمام التقدم العربي. كان هذا التقدم إلى المدائن مصحوبا بغارات وقعت بين دجلة والفرات ، وروي أن ٠٠٠ ، ١٠٠ من الفلاحين وقعوا أثناءها في الأسر ، في حين تحدثت المصادر وألحت في الحديث عن هروب الفلاحين (٦). أما القيادة فهي دائما بيد سعد في أعلى مستوى ، نائبه فيها هاشم بن عتبة ابن أخيه وقد عوض في هذا المنصب خالد بن عرفة الذي عيّن قائدا للمشاة (٧). ولم تتضمن كوكبة القادة التي أحاطت بسعد وهاشم ، قادة الردة ، ولكنها اشتملت على ثلاثة رجال رئيسيين هم زهرة بن الحوية قائد الطليعة ، وعبد الله بن المعتّم ، وشرحبيل بن السمط. وقد

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٦٥ ؛ الطبري ، التاريخ ، ج ٤ ، ص ٣٢ ؛ Skizzen ـ ـ , VI, p. ٣٧; Caetani, Chronog ـ rafia. Islamica, I, p. ٠٩١; Hill, Termination of Hostilities ـ ـ ـ , p. ١١١

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٦٣ : «قال الواقدي : كان فراغ سعد من المدائن وجلولاء في سنة ست عشرة» ولا يقترح ابن اسحاق تأريخا ضمن الرواية التي ذكرها الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٧٠ ـ ٥٧٩ ، والبلاذري.

(٣) Annali ,III ,٢ ,p.٧١٧ ، حيث نستغرب نسبته تأريخ وقعة جلولاء في ١٦ ه‍ ، إلى ابن اسحاق ، وإلى الواقدي تحديد تأريخها في ١٩ ه‍.

(٤) Caetani ,Chronografia Islamica ,I ,p.٠٩١.

(٥) Le Strange, The Lands of Eastern Caliphate, p. ٠٣.

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥ ، وقيل ان ذلك وقع خلال الحصار المضروب على بهرسير في حين أن العرب كانوا يغيرون على المناطق الموجودة بين الفرات ودجلة.

(٧) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٩. وروى البلاذري خبرا لعوانة مفاده أن خالدا كلف بالاستيلاء على ساباط : فتوح البلدان ، ص ٢٦٣. وكان خالد قائدا بالنيابة في معركة القادسية وحليفا لزهرة ، عشيرة سعد : ابن سعد ، الطبقات ، ج ٢ ، ص ٢١.

٥١

روى سيف أن «كل المسلمين فارس مؤد» (١). وذلك قد يعني أن المشاة ينتمون إلى صفوف الأساورة والحمراء. وبقي سعد مع أكثر الجيش ، في المؤخرة على عادته ، لكنه كان يلحق بانتظام بالمقدمة.

تكللت المرحلة الأولى في نرس (٢) بنصر صغير على بصبهري. وفي بابل وهي المرحلة الثانية تجمعت بقايا القادسية ممن أفلت من القتل مع قادتهم وهم : النخيرجان ، ومهران الرازي ، والهرمزان ، والتحق بهم بصبهري ، وتولى عليهم الفيرزان قائدا أعلى ، وكان سابقا منافسا لرستم (٣) ، واتضح بذلك العزم الفارسي على التصدي. ولم يعتقد زهرة أنه كان يستطيع هزمهم بمفرده ، فطلب المدد من سعد الذي وجه إليه عبد الله وشرحبيل ، ثم هاشما مع باقي الجيش الذي وصل بعد أن تم النصر (٤). كان نصرا سريعا ، تفرق بعده أكثر القادة الفرس ، فجارى كل واحد منهم أطماعه أو انساق وراء المصلحة المحلية للإقليم الذي كان يمثله. فعاد الهرمزان إلى الأهواز ، ورجع الفيرزان إلى نهاوند لاستغلال موارد هذا الإقليم. وبقي النخيرجان ومهران وحدهما للدفاع عن المدائن (٥). ويدل تفكك القيادة هذا على عدة عوامل ، منها أن السلطة الملكية تلاشت تماما أو كادت ، وأن الاقليمية عادت إلى الظهور في عالم إيراني منحلّ مهدد ، وقد تأكدت دون شك حال انفجار أزمة الخلافة على الملك ، وبلغت طلائع الجيش العربي بهرسير غرب دجلة بعد صدام قصير في كوثى. وتجدد المشهد ذاته في مواطن القتال الأخرى إذ حالما وصل زهرة مع مقدمة الجيش إلى ساباط ، طلب دهقانها الصلح ، بعد أن قضى زهرة على الكتيبة الخاصة لكسرى بوران ، ولحق به هاشم وخاض القتال (٦) ، وأخيرا وصل جميع الفرسان المرافقين لسعد أمام بهرسير وضربوا عليها حصارا دام شهرين (أواخر سنة ١٥ وبداية سنة ١٦ من الهجرة) (٧). وخلال هذا الحصار اكتسح الجيش العربي السواد فيما بين الفرات ودجلة ، ولعل الاتفاق قد تم أثناءه بخصوص وضع الفلاحين وأراضي هذه المنطقة.

__________________

(١) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٦١٩.

(٢) خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٣ ، لا برس بالباء كما جاء بطبعة القاهرة ل تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٩. ذكر خليفة أن الطريق المسلوكة هي نرس ـ دير كعب ـ كوثى. وقد ذكر البلاذري مرتين كوثى وساباط : فتوح البلدان ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، لكن لم يتحدث أي واحد منهما عن بابل.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٢٠.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٦١٩.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٢٠. في الامكان أن يكون لكل قائد جيش خاص به.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٢٢ ـ ٦٢٣ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٢.

(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٢ ، حيث جاء في رواية غير مقبولة أن الحصار استمر مدة تتراوح بين تسعة أشهر وثمانية عشر شهرا. والملاحظ أن الملك كان بالمدائن آنذاك.

٥٢

إن حصار بهرسير سبق الدخول إلى المدائن وكان تمهيدا له. وكانت بهرسير ذاتها جزءا من مجموعة المدن المكوّنة للمدائن الكبرى ، فضلا عن إمكان اعتبارها مفتاح المدائن ـ طيسفون بالذات ، بتسمية «المدائن الدنيا» تجاه «المدائن القصوى» (١). لقد تكون مركّب المدائن أصلا انطلاقا من مدينتين (٢) هما سلوقية غرب دجلة المؤسسة بين ٣١٢ و ٣٠١ قبل الميلاد ، وطيسفون شرقا (٢٢١ ق. م.) وهي وريثة أوبيس.Opis لكن في حين أن المدينة الواقعة شرقا تطورت وأدمجت القرى المجاورة ، واتسعت أيضا بفضل إنشاء مواطن جديدة (مثلا رومية حيث وطّن المهاجرون من سلوقية الشام في ٥٤٠ بعد الميلاد ، والتي لا ينبغي أن تشتبه علينا بسلوقية توأم طيسفون) ، فإن المدينة الواقعة إلى الغرب التي كانت من أصل يوناني ، تبدو قد تقلصت. ولم يبق فعلا منها سوى الجزء الجنوبي الذي أعيد تسميته بيه ـ أردشير ، من طرف الساسانيين (٣). ويطابق هذا الاسم الصيغة المعربة «بهرسير» المشتقة من الأرامية ، وكان يصل جسر بين بهرسير والمدائن وقد مكّن الفرس من إخلاء مدينة بهرسير والاتجاه إلى الشاطىء الشرقي ، دون أن يتفطن العرب إلى ذلك. ثم حطموا الجسر وسحبوا كل السفن فدخل العرب مدينة قفراء. وشاهدوا عن بعد القصر الأبيض لكسرى (٤) ، وكان رمزا خياليا للعظمة والحضارة الفارسية. إنها للحظة مشهودة في خضمّ مغامرة خاطفة. ولا ريب أن الفرس فكروا في الاستفادة من مهلة ما ، في المدائن الشرقية ، حتى يرتبوا أمورهم ، ويضمنوا إجلاء منظما للعائلات والكنوز الملكية الهائلة. فوجه يزدجرد أهل بيته إلى حلوان بعد أن تم الاستيلاء على بهرسير (٥). لكن العرب عجلوا باحتلال المدائن ، بصورة لم يكن يتوقعها الفرس ، وقصروا الإقامة في بهرسير ، فاتجه العمل العسكري بأكمله عند ذلك إلى السباق نحو الغنيمة إذ وجب اللحاق بها قبل أن تطير.

وتم عبور دجلة عبورا ملحميا على الخيل (٦). توجه في البدء عاصم بن عمرو عاجلا في الطليعة مع ٦٠٠ رجل منهم ٦٠ مقاتلا خرجوا للاستكشاف فنجحت العملية ، وفرض عاصم رقابته على ضفة النهر بعد الفراغ من مناوشات صغيرة ، وسرعان ما لحق به أكثر

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٨.

(٢) Streck, art.» Mada\'in «, E. I / ١; Le Strange, op. cit. p. ٣٣ ff. Hertzfeld, Archaeologische Reise,. II, p. ٦٤ ـ ٦٧. وأورد ياقوت في معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٧٤ ، قائمة منقوصة لمختلف المدن ، كما أورد اليعقوبي في كتاب البلدان ، ص ٣٢١ ، قائمة لها.

(٣) (واه) حسب Streck و (بيه) حسب Le Strange ، وهو لا يعني أردشير الطيب بل بيت أردشير.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٨. لا ينبغي الخلط بين القصر الأبيض والإيوان ، لكن كليهما كانا على الشاطىء الشرقي.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٣.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٩ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٣ ؛ الأخبار الطوال ، للدينوري ، ص ١٢٦.

٥٣

الجيش بأمر من سعد الذي كان حاضرا بنفسه. إنها لمفخرة بالنسبة لأولئك العرب الصحراويين أن يتخلصوا من خوفهم من الماء ، ويتحدّوا عظمة دجلة وزبدها وموجها الأجاج ، ولم يفت سيفا طبعا أن يفاخر «بيوم الماء» (١) ، لكن الواقعة وردت في أكثر الأخبار. بعد الوقعة وفي هذه المرة أيضا تشتت السكان ، وفرّ الملك وكان لفراره طابع الفاجعة ، ودخل الجيش العربي مدينة قفراء واقتحم القصر الأبيض والإيوان بعد استسلام المدافعين ، وأقام سعد صلاة الفتح في الإيوان بين التصاوير الحائطية والتماثيل (٢).

وبعد قرنين من ذلك جاء البحتري متأملا منشدا شعره أمام الإيوان ، فأهدى الدولة المنقرضة درة من درر الشعر العربي (٣). واستولى الفاتحون على الغنيمة التي كانت تعادل نصف أموال الملك المقدرة بثلاثة مليارات من الدراهم (٤). وكانت هذه الذخائر ثمرة لتقليد طويل مقام على خزن المال زاد تأكدا مع السياسة الخرقاء التي سار عليها أبرويز. وقد سلمت أربعة أخماس الغنيمة إلى الرجال وتجاوز نصيب الفرسان مرتين أو ثلاث مرات نصيب المشاة (الحمراء المتحالفين فقط أم أن هناك مشاة من العرب؟) (٥). ووجه الخمس المتبقي إلى المدينة بعد أن أجاز سعد بعض القادة. ووافق المقاتلون على عدم اقتسام كسوة الملك وجواهره ، وبساط كبير مرصّع بالأحجار الثمينة ، وقرروا توجيه كل هذا إلى الخليفة (٦). وقد روى سيف حكايات شيّقة بهذا الصدد ، فقال مثلا إن الغالبين العرب ظنوا الكافور ملحا ، واستبدلوا بالتساوي الآنية الفضية بالآنية الذهبية (٧). أما بالمدينة وحول عمر فقد ساد الوجوم والعبث ، والانبهار الكبير والتذكير بزيف الدنيا.

سيتبين أن الاستيلاء على المدائن كانت له أهمية قصوى من حيث منطق الفتح العربي ومن حيث التنظيم الآتي للبلدان المفتوحة. واستقر بها العرب بصورة مؤقتة (٨) ،

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٣.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٥ ـ ١٦ : وأقيمت بعد صلاة سعد المفردة أول صلاة جامعة في العراق ، والتاريخ المحدد لها هو صفر من سنة ١٦ ه‍.

(٣) في ٢٩٠ ه‍. راجع قصيدته المشهورة التي تضمنتها مقدمة ديوان الحماسة للبحتري ، ط القاهرة ، ١٩٢٩ ، ص : س إلى ف.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ١١.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٠ ، زعم سيف أن عدد الفاتحين كان ٦٠٠٠٠ وأكد أنهم كانوا جميعا من الفرسان وأن نصيب كل واحد منهم كان ١٢٠٠٠ درهم.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٠ ـ ٢١.

(٧) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ١٧ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١٢٧ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٣.

(٨) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٠ ـ ٢١ ، قسمت دور المدائن بين الفاتحين بعد أن استولوا على الغنيمة كلها التي كانت موجودة فيها.

٥٤

فصارت نقطة تعتمد لتحديد البلاد التي فتحها جيش العراق عملا بالمبدأ القائل إن لكل جيش مجالا ترابيا يصبح ملكا له ومن حقه ومكسبه. فكان مهما أن يعرف من كان حاضرا في تلك الفترة الممتازة التي كانت خلالها المدائن مرحلة ، ذلك أن مثل هذا الحضور كان يعادل حقا مكتسبا في الفيء بمعناه الأكثر اتساعا ، أي الغنيمة لكن أيضا أي مكاسب ثابتة في المستقبل. ومن المدائن تحدد كذلك المجال الذي ستمنحه الكوفة فيما بعد ، بصفتها وريثة للمدائن بالذات. وبهذا المعنى ينبغي فهم قول سيف : «فتوح المدائن السواد وحلوان وما سبذان وقرقيسياء» (١) وهذا القول الآخر : «ولي سعد بن مالك على الكوفة بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها ، وعمالته ما بين الكوفة وحلوان والموصل وما سبذان وقرقيسياء إلى البصرة» (٢). هذا وسنعود إلى طرق مشكل امتداد فتوحات أهل المدائن وقد أصبح أكثرهم من أهل الكوفة (٣) ، لكي ينبغي التأكيد على دور الاستيلاء على المدائن والإقامة فيها كعقدة مجاليّة ـ زمنية في النسق العربي ، ومرحلة لزمنية تاريخية تندرج في تسلسل معين لكنها تفرض مسبقا وجود مجال وحقوق.

جلولاء (١٦ ه‍ / ٦٣٧ م) : المعركة الأخيرة من أجل العراق

كان الاستيلاء على المدائن بلا قتال. أما جلولاء فهي معركة مهمة ، وتكاد تكون حدثا تاريخيا في المشروع العربي الموجه ضد الساسانيين ، ومعركة أخيرة. لا شك في أن الغنيمة كانت أحد الحوافز بالنسبة لبعض الفاتحين ، فقد اكتسبت وقعة جلولاء مظهر الملاحقة وحتى ما يشبه السباق من أجل الملاحقة. لكن كان الأمر بالنسبة للفرس يتعلق بالدفاع عن أملاكهم وحماية العبور إلى الجبال ، وإلا فلا يفهم الغرض من اعتصامهم بهذا المكان قبل لجوئهم إلى النجد الإيراني. كان معسكر جلولاء يشكل نقطة قصوى لتجمع الفرس قبل كارثة تشتتهم الذي نجم عنه خضوع بلدهم (٤).

كانت جلولاء بالفعل آخر مدينة بالسهل في اتجاه الجبال (٥). وكانت مفترقا لطرق الشمال والشرق ، الطرق المؤدية إلى آذربيجان وطريق الجبال فخراسان (٦) فاكتسبت بذلك

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٥٠.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٥.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤ ـ ٣٥ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١٢٧ ـ ١٢٩ ؛ خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٥) Le Strange ,op.cit.,p.٢٦.p.٢٦.

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤.

٥٥

أهمية الحاجز والحصن ، من هنا تجمّع الفرس وإسراع العرب الكبير للتحول إلى هذه النقطة. من هم هؤلاء الفرس الذين اعتصموا في جلولاء ، بقيادة مهران أو خرزاد؟ كانوا عبارة عن النواة الأخيرة المتبقية من جيش القادسية التي سبق أن تخلت عنها فضائل فضلت الانسحاب إلى النجد الإيراني ، وروي أن أمدادا قادمة من حلوان وما والاها التحقت بها أيضا (١). لقد أجلي الأهالي إلى خانقين ، بينما حط الملك رحاله بحلوان (٢) التي كانت أول ممرّ جبلي بالجبال (٣) ، وكانت تقع تماما على التراب الإيراني لا في العراق كما قيل ، ولذا يحدونا الشعور الجلي أن الفرس عمدوا إلى اختيار موقع جلولاء ليكون العراق مسرحا لآخر معاركهم من أجل العراق وكذلك لحماية بوّابة فارس : كانت جلولاء أهم من المدائن من حيث الأهمية الاستراتيجية.

ولم يخطىء العرب في تقديرهم ولذا وجهوا هاشم بن عتبة نائب القائد العام برفقة ١٢٠٠٠ فارس شكلوا نخبة المقاتلين ، ونحن نستشف هذا الأمر من رواية الأحداث بل إن الروايات تؤكد ذلك (٤). وخرج إلى القتال قادة من طراز جرير بن عبد الله البجلي والقعقاع بن عمرو ، وقد تولوا القيادات في حين أن زعماء الردة لم يقوموا إلا بالمساهمة في القتال. لقد ظهرت معركة جلولاء في نظر العرب بمظهر المعركة الجدية التي كانت محسومة سلفا ، نظرا للموقف العسكري العام ، وهو ما يفسر أن سعدا لم يخرج بأكثر الجيش من المدائن ، فوجه جيشا مهما لا كل الجيش. ولكن يمكن القول إن ثمة مجموعة شاركت في القتال بغية العمل من أجل كسب حقوق معنوية لاحقة ، لأن الحضور بجلولاء اعتبر مخولا للفيء بمعناه الضيق (التمتع بالأراضي المغتصبة من أملاك التاج الفارسي) ، ولأن الغنيمة المتكدسة كانت عظيمة.

لا فائدة من الإلحاح على العملية العسكرية وتفاصيلها. لم تكن جلولاء محصنة أصلا : فوجب تحصين المعسكر وإحاطته بالوسائل المتاحة لكون الفرس سلكوا حتما مسلكا دفاعيا ، فلم يتمكنوا من الصمود طويلا ، وحاولوا الهجوم ، فكانت الهجمة الأخيرة هي التي شكلت معركة جلولاء بالذات. كانت معركة حامية إذا ما صدقنا سيفا الذي عاد إلى وصفه الملحمي جاعلا من جلولاء رجعا للقادسية إلى حد ما (٥) : كان كايتاني محقا عندما أشار إلى

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٦٤ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١٢٧ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٧.

(٢) الأخبار الطوال ، ص ١٢٧ ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٤.

(٣) على الطريق الكبرى لخراسان : اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٧٠ ؛ ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص ١٦٤ ؛.Le Strange ,op.cit.,p.٣٦.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤ و ٢٦ : كان القعقاع يقود الطليعة ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٤.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

٥٦

مبالغاته في هذا الصدد. ثم بدأ تقتيل الفرس ، واستولى العرب على غنيمة مهمة وحتى على بيت المال الساساني ذاته (١) ، وقد ألحت بعض الروايات على سبي النساء ، وروي أن نساء جلولاء كنّ بداية للتمازج العربي الفارسي (٢). ويفهم من التأكيد على هذا الحدث بأن الفرس كانوا دائما يعملون على إبعاد نسائهم عن أطماع الغزاة ، ويبدو أن أكثر النساء أبعدن على عجل إلى خانقين التي تم الاستيلاء عليها بعد قليل. ينبغي تسمية مجموع العمليات التي حدثت ما بين معركة المدائن والاستقرار بالكوفة بمرحلة جلولاء وهو اسم الحدث الرئيسي ، وذلك بالنسبة للإطار المتعلق بالغنيمة ، واستحقاقها ، وبخصوص كل امتياز معنوي أو قانوني : هذا ما توحي به النصوص ظاهرا.

ماذا كانت هذه العمليات؟ لنقل بداية إن استيلاء جرير على خانقين ، وسيطرة هاشم على سواد شرقي دجلة هما حدثان لا مجال للشك فيهما (٣) ، على أن احتلال حلوان وشرقي الجزيرة يطرح مشكلا. إن البلاذري هو الذي يبرز نشوب معركة خانقين (٤) ، كما أوضح بدقة أكبر من دقة سيف ، دور هاشم في إخضاع شرقي السواد ، وقد كان عملية استيلاء أكثر منه عملية عسكرية. هذا السواد الشرقي كان له الاتساع ذاته وسواد الفرات ، وقد أثر فيه كثيرا الحضور الساساني وذكريات هذا الحضور والإنجازات المعمارية الساسانية ، وهو يضاهي في الثراء الزراعي السواد الآخر. وقد أسر ١٣٠ ألفا من فلاحي هذه الجهة ثم أخلي سبيلهم سريعا (٥) كما سنرى ، وبذلك عاد الفارون إلى قراهم.

أما حلوان ، المدينة الفارسية ، مدينة الجبال المشرفة على الفج والتي تمر منها الطريق الكبرى نحو الشرق ، فقد غادرها الملك بعد وقعة جلولاء متوغلا داخل البلاد. فهل استولى عليها القعقاع لكي يقيم فورا ثغرا أي حامية خارج الميدان المفتوح لكنها ساهرة على أمنه ، والثغر عبارة عن امتداد ، وهو بالمعنى الحرفي ثلمة (ينبغي سدها) وبمثابة المدينة الحدودية المطلة على العدوّ والمغايرة للمصر أو المدينة ـ المعسكر؟ إن سيفا يعلن ذلك (٦) كما أن المصلحة الاستراتيجية تتطلب مثل هذا الأمر ، ولم ينبس البلاذري بكلمة عن ذلك لكنه

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٩ ؛ الدينوري ، ص ١٢٩ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٥ ؛ خليفة بن خياط ، ج ١ ، ص ١٠٨. كانت الغنيمة مهمة جدا.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٨ : سبيت أم الشعبي بجلولاء ؛ الدينوري ، ص ١٢٩.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٨.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٠.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٨.

٥٧

يتحدث عن وجود وال عربي بحلوان في موضع آخر من كتابه (١).

وعلى النقيض من ذلك ، تنسب روايات ملحّة إلى عمر رفضه رفضا تاما المساس بأرض فارس ، معبرا عن عزمه على الاكتفاء بالسواد (٢). ويبدو جيدا ، فضلا عن ذلك ، أن المقاومة الفارسية هدأت وسبب ذلك قد يرجع إلى أن الفرس حصلوا على تطمينات من جانب العرب بالتوقف عند حدود العراق. لكن حلوان كانت توجد في إيران. فهل أفهمهم العرب ، وهل فهم الفرس أن ذلك الأمر يشكل استثناء يعود إلى موقع حلوان وضرورتها لحماية العراق من وجهة نظر العرب؟ فالدينوري يقدّم وجود العرب بحلوان والأهواز على أنه السبب في الرد الفارسي الذي مهّد لتحرك الهرمزان كما لمعركة نهاوند (٣) ، لكن العمليات العربية في الأهواز لم تبدأ إلا سنة ١٧ ه‍. وهي تنتهي سنة ٢١ / ٦٤٢ بالاستيلاء على تستر. أم هل وضع الجيش العربي يده على حلوان ضمن عمل منفصل متأخر بالنظر لمعركة جلولاء وربما بعد الاستقرار بالكوفة؟ يبقى السؤال بدون جواب.

وتتضح الأمور أكثر بخصوص شرقي الجزيرة لأن رواية سيف غير قابلة للتصديق. يريد سيف حملنا على أن نصدق أن الجيش العربي انقسم نصفين في المدائن ، فاتجه قسم منه إلى جلولاء واتجه قسم آخر إلى شرقي الجزيرة ، ولا سيما الموصل التي وقع اقتحامها والاستيلاء عليها سنة ١٦ ه‍ (٤). ويكون هذا القول في رأي هيل بمثابة التعويض بالنسبة للكوفيين الذين بقوا في الواقع في حالة فراغ طيلة أربع سنوات و «لم يحاولوا فتح الجزيرة الشرقية رغم خلوها من العوائق الطبيعية وفراغها من قوات معادية» (٥). ذلك أن الجزيرة فتحت في جزئها الغربي خاصة الذي كان أكثر ثراء ، انطلاقا من الشام سنة ١٩ ه‍. ولم يستول عتبة بن فرقد القادم من العراق ، على الموصل وتكريت إلا سنة ٢٠ ه‍ ، مع أن هرثمة بن عرفجة الذي كان أحد الشاميين الذين شاركوا في فتح الجزيرة بصحبة عياض بن غنم هو الذي تولى تخطيط الموصل (٦). وستقع هذه المدينة في فلك الكوفة ، لكن يمكن القطع بالقول إن إخضاعها لم يقع إثر وقعة جلولاء. فلا يمكن إذن إدراج الموصل ، وقرقيسيا ، ومن باب أحرى ماسباذان ـ التي استولى عليها أبو موسى بعد نهاوند (٧) ـ ضمن

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٣٢٩ : المقصود هو عزرة بن قيس البجلي بالذات.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٨.

(٣) الأخبار الطوال ، ص ٢١٩.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٥ ـ ٣٦.

(٥) Hill ,ouvr.cit.,pp.٤٩ ـ ٧٩.

(٦) فتوح البلدان ، ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

٥٨

فتوحات المدائن لسنة ١٦ ه‍ ، خلافا لمزاعم سيف. ولم يبق إلا حلوان التي تطرح علينا مشكلا. يعني كل هذا أن العرب ركزوا جهودهم بعد وقعة القادسية على طرد الساسانيين فقط ، وإخضاع وادي دجلة والفرات دون التقدم خلف ذلك الخط سواء في اتجاه الجزيرة أم في اتجاه الأرض الإيرانية. وتوارت الغاية العسكرية لصالح قضايا التنظيم والاستقرار ، كما أن اختيار الكوفة بالذات بدل المدائن كمركز للسكنى ينبىء بالرغبة في الوقوف عند حد المواقع المكتسبة.

تنظيم السواد :

لن يتم إنشاء الكوفة قبل نهاية سنة ١٧ ه‍ وبداية سنة ١٨ (١) ، أي بعد أربعة عشر شهرا من احتلال المدائن (٢) ، وبعد سنة من انتصار جلولاء بحيث أن سنة ١٧ بقيت سنة استراحة وتفكير وتنظيم. لقد تحول عمر إلى الشام في سنة ١٧ ه‍ ، لكي ينظم أوضاع المقاتلة (٣) ، ويحل مشاكل الدفاع والاستقرار والأعطيات ، لكن هل قام بذلك بالنسبة إلى كل الأقطار المفتوحة بما فيها العراق ، عند تحوله هذا؟ لا تؤيد النصوص ذلك بل هي تقول العكس ، بمعنى أنه تمّ فضّ المسائل المعلقة بالشام ولم يفض سواها (٤). وعلى النقيض من ذلك يحثنا الوضع العام على الاعتقاد بأن التشاور المستمر بين عمر وسعد خلال عام ١٧ ، أدى إلى إعداد وضبط النظام الشامل الذي سيخضع له العراق (٥).

فبعد أن تبلور الوضع ، تحول أكثر الجيش المعسكر بالمدائن إلى الكوفة العتيدة. ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ، لأن الاتجاه إلى اختيار تمركز الجيش بمعسكر ارتبط باختيارات مسبقة أخرى هي : عدم اقتسام البلاد المفتوحة بقوة السلاح ، وإبقاء الفلاحين على أراضيهم والاستمرار في العمل بالهياكل الجبائية الساسانية ، والعمل بفكرة تسديد نفقات المقاتلين بواسطة العطاء. كما أن الصلة واضحة بين هذه الاختيارات الأولى التي جدّت في البلاد المفتوحة عملا برأي عمر ، والانشاء المركزي العام للديوان ، وقد أدرك

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ ، قد اعتمد خبرا أورده الواقدي ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ؛ Caetani,. Annali, III, ٢, p. ٣١٨ ـ ٣٣; Chronografia ـ ـ ـ , I, p. ٩٩١. أرّخ سيف إنشاء الكوفة في بداية سنة ١٧ ، وهذا تاريخ غير مقبول : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠. ويبدو لنا أن آخر سنة ١٧ أكثر اقترابا من المعقول من بداية سنة ١٨ وهو التاريخ الذي أخذ به شعبان ، انظر :.Shaban ,Islamic History ,p.١٥.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٥٩. لم يتجول عمر إلّا مرة واحدة في هذه السنة ، بسبب انتشار الطاعون.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٦٤.

(٥) البلاذري ، ص ٢٦٦ ـ ٢٦٨ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٠ ـ ٣٢.

٥٩

سيف هذه الصلة لكن لا يمكن موافقته على تأريخ ذلك في سنة ١٥ (١). وهو بهذا يناقض نفسه لأنه يعيد الكلام في الأمر بعد حرب جلولاء (٢) فيفصّل لنا أوامر عمر الجديدة ومقرراته بخصوص الفيء والجزية والخراج الخ ... على أن أخباره ثمينة المحتوى. إن الروايات العراقية الأكثر قدما وهي روايات مجالد والشعبي جاء بها تأريخ تأسيس الديوان بآخر سنة ١٧ ، أي بعد إنهاء فتح الشام والعراق ، وبعد جباية محاصيل الخراج الأول (٣) ؛ أما الروايات المدنية كما جاءت عند الواقدي والزهري ، فقد اقترحت تاريخ محرم سنة ٢٠ / ٦٤٠ (٤). الواقع أن هذا الخلاف يفسر كثيرا من الأمور. إن الديوان كسجلّ لتسجيل أسماء مستحقي العطاء ، عملا بالترتيب الذي تصوره عمر الذي انطلق من المغامرة الإسلامية بأكملها منذ وقعة بدر ، كوثيقة ضبطتها وحددتها الكتابة ، والديوان كمؤسسة لنسق توزيعي عام ، تقرر إنشاؤه على الأرجح سنة ٢٠ / ٦٤٠. لكنه بهذه الصفة كان امتدادا معقلنا للاختيارات التجريبية التي جرت في البلدان المفتوحة فور الفراغ من القتال ، أي في سنة ١٧ / ٦٣٨ ، بعد أن استقرت الأمور ، بحيث كان صعود من أسفل إلى أعلى ، لا العكس. وهذا ما يفسر أن البلاذري قسم إلى فصلين متميزين الأحكام التي يخضع لها السواد ومؤسسة الديوان ذاتها (٥). وقد فعل ذلك كبار الفقهاء ، منهم أبو يوسف (٦) وأبو عبيد بن سلّام (٧). فأصبح الديوان الكتابي عملا منسجما جاء بعد الوضع الناشيء عن القرارات الحية ، وشمل بالخصوص النخبة الإسلامية بالمدينة وأقرها على رأس النسق. فما هي هذه الاختيارات الأساسية بالنسبة للعراق؟ يعتمد قسم من جملة المواد التي وصلتنا على الظروف التاريخية السائدة في ذلك العصر ـ نعني رواية سيف والاخباريين ـ ووقف قسم آخر موقف الفقهاء ، فقدم الأمور تقديما منطقيا إسلاميا. ولا يوجد أي سبب لرفض رواية دون أخرى إذ لو عمل عمر طبق تصميم سياسي قبل غيره ، فلا يتصور كيف أنه فعل ذلك متجاهلا تعاليم القرآن التي حددت أعمال الرسول.

ولنترك جانبا المدن القليلة التي تمتعت بعهد وكانت مدنا ثانوية تماما ، علما أنها فسخت

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٦ ـ ٦١٩.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٣١ ـ ٣٣.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٤٣٥.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٤٣٦.

(٥) وضع جلولاء مباشرة ضمن الفصل المتعلق بفتح السواد ، ص ٢٦٥ ـ ٢٧٤ ، والديوان في آخر كتابه ، ص ٤٣٥ ـ ٤٥١.

(٦) أبو يوسف ، كتاب الخراج ، على التوالي ، من ص ٢٣ إلى ص ٣٩ ومن ص ٤٢ إلى ص ٤٧. ترتبط مؤسسة الديوان في هذا الصدد بفكرة العطاء لصحابة الرسول.

(٧) كتاب الأموال ، طبعة القاهرة ، ص ٥٧ وما بعدها وص ٢٢٣ ـ ٢٢٧.

٦٠