نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

أصحاب أبي حنيفة (١). وتذكر مصادر الأماكن والمواقع في الكوفة وضواحيها عددا من الرجال البارزين في بجيلة : دار أبي أرطاة بن مالك البجلي ، نهر خالد ، سوق أسد وهو قرية حملت اسم أسد بن عبد اللّه القسري (٢).

٣ ـ مقارنة مع الأمصار الأخرى :

لا يسعفنا في فهم خصائص الكوفة ، وإدراك ميزاتها ، إلا مقارنتها بأماكن أخرى للهجرة العربية في القرن الأول ، استقرت فيها قبائل يمنية. وهنا نصطدم بغموض معنى كلمة يمن التي أردنا ، من جهتنا ، أن نحدّدها ، فميّزنا فيها بين النواة المركزية والأطراف ، فاستثنينا منها ، على أية حال ، جماعات قبلية كقضاعة والأنصار ، مثلا.

أ) لا نجد في البصرة أية عشيرة تنتمي إلى النواة اليمنية؛ فالتعديل الذي أدخله زياد على التنظيم العسكري ، حينما جعله أخماسا ، يظهر جماعات فيها هيمنة قيسية واضحة (أهل العالية) ، وجماعة من تميم ، وأخرى من بكر ، وأخرى أيضا من عبد القيس (وكلا هذين الأخيرين من ربيعة). وهناك أيضا خمس آخر مؤلف من الأزديين ، وتشارك فيه معظم العشائر ، ولكن بهيمنة واضحة لأزد عمان على أزد السراة (٣) على الرغم من أن هؤلاء وصلوا مع بدء الاستقرار ، في حين أن أزد عمان لم يصلوها إلا في نهاية حكم معاوية (٤). لم تتمثل اليمن في البصرة إلا بالأزديين وحدهم ، أي بجماعة من الأطراف ومن عمان بالأساس ، لا بقبائل يمنية قديمة. ولئن كان الأزديون قد تمكنوا من إنشاء تحالف قوي استطاع أن يقف في وجه تميم ، واكتسبوا في البصرة ، أو حملوا إليها معهم ، وعيا يمنيا قتاليا وحربيا ، فتلك مسألة أخرى سنتفحصها على حدة.

ب) كذلك ، لا نعثر على يمنيين في الجزيرة ، شمال العراق ، بل نعثر على

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) فتوح ، ص ٢٨٤ وما يليها. لعب خالد القسري دورا مهما في استصلاح السواد ، فحفر فيه قنوات الري ، إلخ ... كما لعب دورا مهما في بناء الكوفة : فهو الذي بنى الأسواق وسقفها فكانت نموذجا لأسواق بغداد في ما بعد ، على حدّ قول ماسينيون. حول دور خالد في العراق ، راجع البلاذري ، أنساب الأشراف ، مخطوط إسطنبول ، نسخة باريس ، الصفحات ١٧٣ ـ ١٩٢.

(٣) صالح أحمد العلي ، التنظيمات الاقتصادية .. بالبصرة ، بغداد ، ١٩٥٣ ، الملحق.

(٤) Welhausen,Das Arabische Reich und sein Sturz ، الترجمة العربية ، القاهرة ، ١٩٥٨ ، ص ٣٨١.

٣٨١

قيسيين وقضاعة وربيعة (١).

ج) على العكس من ذلك ، يبدو أن هجرة مبكرة ولكن محدودة إلى سوريا ، قامت بها همدان ومذحج ، وكندة بخاصة (سكاسك)وعكّ وأشعر ، وهي جماعات شاركت في وقعة صفين إلى جانب معاوية (٢).

د) هاجرت قبائل يمنية قديمة إلى مصر. ومن هناك انتقلت إلى المغرب ، حيث نجد إشارة إليها في مراجع الشخصيات التي تنتمي إلى عشائر حميرية (رعين) ، وكندية (تجيب) ومذحج. تتكرر كلمة معافيري ، نسبة إلى المعافر ، كثيرا في كتب الطبقات ، وكذلك كلمة صنعاني نسبة إلى صنعاء ، وباب أصرم وهو اسم يمني محض ، كان أحد أبواب القيروان الأولى (٣). ويبدو هذا الوجود اليمني في إفريقية ظاهرة تستحق الاهتمام. أفمن هناك ، ومن سوريا ، انتقلت هذه الجماعات العربية الجنوبية إلى إسبانيا؟ فهم موجودون في كل مكان : الأشاعرة في ريّة (٤) ، وطيّ في بسطة وتاجلة وغوليار (٥) ، وعنس (وهي من مذحج) في قلعة يحصب (٦) ، وخولان في قرطبة (٧) ، وحضرموت (ومنهم آل خلدون) في إشبيلية (٨) .. إلخ.

فإذا استثنينا اليمن حيث بقيت جماعات كثيرة من جنوب الجزيرة ، بحسب شهادة الهمداني ، يكون الشتات اليمني قد تجمّع ، بعد الإسلام ، في الكوفة وفي الغرب الإسلامي (المغرب وإسبانيا). أوليست المفارقة في أننا نجد تلك الجماعات حيث لا نجد بالضرورة الجماعات العربية المهيمنة : تميم وقيس عيلان وكلب؟ (٩) ثمة مفارقة أخرى : في الكوفة ، وهي مركز التجمع الأكبر لقبائل همدان ومذحج وأشعر وحمير وحضرموت وبجيلة ، كان الصراع الإقليمي / القبلي

__________________

(١) أنساب الأشراف ، ٥ ، ص ٢٩٨ وما يليها.

(٢) الطبري ، ٥ ، ص ٢٤ وما يليها.

(٣) أبو العرب ، طبقات؛ المالكي ، رياض النفوس؛ الرّقيق ، تاريخ ، طبعة تونس ، ١٩٦٨ ، الصفحات ٩٩ ـ ١٣٩؛ ابن ناجي ، معالم الإيمان. يذكر في الطبقة الثانية ٢٦ اسما اثنان منها معافريان ، وفي الطبقة الثالثة أسماء معظمها من جنوب الجزيرة (معافر ، همدان ، تجيب ...) راجع مقالتنا في :. Annales E. S. C. ١٩٧٣ (٣)

(٤) جمهرة ، ص ٣٩٨.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٤٠٤.

(٦) المصدر نفسه ، ص ٤٠٦.

(٧) المصدر نفسه ، ص ٤١٨.

(٨) المصدر نفسه ، ص ٤٦٠.

(٩) في إسبانيا ، وهي فسيفساء حقيقية للقبائل العربية ، نجد كل شيء.

٣٨٢

اليمني ـ القيسي غائبا تماما ، في حين أنه كان على أشدّه في سوريا والبصرة والجزيرة وخراسان. وسنرى أن ذلك عائد إلى أن اليمنية المناضلة لم تكن متطابقة مع اليمنية التاريخية ، وأنها كانت تخوض نضالات أخرى ١. من جهة ثانية ، تظهر هذه المفارقة الزائفة هامشية القبائل اليمنية القديمة بالنسبة إلى الشكل الجديد للعروبة التي دخلت التاريخ بالإسلام ومع الإسلام. ومهما بلغت من كثافة الحضور في الكوفة ، فإنها لم تكن أكثرية فيها؛ ومهما كان لهذا الحضور من إشعاع ثقافي ، فإنه لم يكسف محور ثقافة العروبة الشمالية. ومن هنا ارتباطها بالمسألة الشيعية ، وهو ارتباط ما لبث أن أخذ يزداد رسوخا ، وذلك بمقدار ما كان التشيّع يزداد تحوّلا إلى معارضة يائسة ، لا بل إلى ميثولوجيا. فهل هامشيتها هي التي دفعتها إلى تكثيف وجودها في الكوفة ، فساعدها نفوذها ـ كما يقول ماسينيون ـ على «تمدين العرق العربي»؟الثابت هو أن الكوفة تدين للحضور اليمني فيها ، بقدر كبير من أصالتها : وهي لا تدين لها بثقافتها (الفقه ، التصوف ، اللغة) بمقدار ما تدين لها بصبغتها الاجتماعية التي تمتاز بعروبة راسخة ، موغلة في القدم ، أرستقراطية ، وبمقدار ما تدين لها أيضا بحسّها التاريخي. وقد يكون ، في العمق ، أن من اليمن القديمة هذه ، استمدت الكوفة هامشيتها الحادة التي قادتها ببطء إلى الموت ، بعد أن كانت المركز الملتهب للإسلام في عصره الأول.

III ـ اليمنيون وصراعاتهم السياسية

١ ـ المشكلة «الشيعية» :

حاول ماسينيون ، في دراسته الملهمة عن الكوفة ، أن يحلل ـ كما يحلل المطياف الألوان ـ الألوان السياسية للقبائل والعشائر ، ولكن انطلاقا من خط فاصل محدد ٢. هذا الخط يفصل بين الجماعات تبعا لمعيار الارتباط والوفاء لقضية علي ، أو العكس. ويخلص ماسينيون إلى استنتاج مفاده أن اليمنيين مؤيدون للشيعة ، وأن ربيعة هي أيضا كذلك. أما قيس مضر فقد كانت معادية للشيعة بوضوح. وإذ ينهي ماسينيون عملية تحليل طيف الألوان السياسية ، يخلص إلى النتائج التالية :

__________________

(١) نوافق على ما يقول شعبان حول هذه النقطة :. Abbasid Revolution,p. ١٣٥

(٢) Massignon,«Explication du plan de Ku?fa»,Opera Minora,t. III,p. ٥٩.

٣٨٣

أ) يمن :

ـ همدان : شيعية جامحة؛ أسهموا في الثورات الزّيدية (باستثناء عشيرة ناعط ، فقد كانت من أنصار عثمان في العام ٣٧ ه‍).

ـ مذحج : شيعية بعشائرها جميعا ، وبخاصة عشيرة النخع ، وكذلك عشيرة جعفي ومراد. تستثنى عشيرة أشعر التي وقفت على الحياد ، وعشيرة بلحارث التي يقول ماسينيون إنها اتبعت الخوارج في العام ٤١ ه‍. ثم تحوّلت إلى تأييد بني العباس في العام ١٣٢ ه‍.

ب) قبائل الأطراف اليمنية ، موقف معتدل :

ـ كندة : تشيعت جميع عشائرها (راجع حجر بن عدي) لكن تشيّعها كان شكليا فقط.

ـ بجيلة : وقفت منذ البداية ضد الشيعة (راجع موقف جرير) مع بعض الاستثناءات.

وحيث إن ربيعة كانت شيعة في البصرة بخاصة ، وهذا ما يستدلّ عليه من وقوف قبيلة عبد القيس بثبات إلى جانب عليّ ، قبل وقوع معركة الجمل ، لأن تشيعهم كان متميّزا بأسبقيته أكثر منه بديمومة فعاليته ، فإننا هنا في إزاء مواجهة فقط بين مضر ويمن. وكانت هذه المواجهة تشتدّ وترسخ بمقدار ما كان وهج الكوفة يذوي ويأفل مجدها ، ويتبلور الوعي الشيعي والسني : ومن هنا كان انتقالها إلى المجال المديني. فسرعان ما غدت الكناسة موئلا للعناصر القبلية غير المتحمسة لقضية علي : عبس وضبّة وتميم. من هنا ، عمدت الميثولوجيا الشيعية ، في ما بعد ، إلى تعيين هوية كل حي من أحيائها «المدنّسة» : الكناسة ، خطّة ثقيف ، دور بني أمية ، الخوارج ، .. إلخ.

وجهة نظر ماسينيون صحيحة في الجزء الأهم منها. كان يمنيو الكوفة بسبب هامشيتهم بالذات ، يدعمون ، طيلة القرن الهجري الأول ، حزب علي ثم الهاشميين المطالبين بالحكم ، ولكن وفق أشكال كانت تختلف باختلاف المراحل التاريخية. عندما استتب الأمر للعباسيين ، واصلوا دعمهم لأبناء علي المطالبين بالحكم. وفي النهاية ، بين القرنين الثالث والرابع تحوّلوا إلى تشيّع يتجمّد في مذاهب دينية ، بعد أن كان التشيع يتجسد في معارك سياسية محض. ولكن كان يجب إيضاح هذه الاختلافات الزمنية وإجراء المزيد من البحث والتنقيب فيها. فإذا أخذنا مثلا ، هو دعم علي في معركة صفين ، فإن هذا الدعم لم يكن له

٣٨٤

المعنى الذي اتخذه التشيع حين غدا ميثولوجيا في القرن الرابع الهجري ، وصار يميّز بين الأحياء فينعت بعضها بالمدنسة ، ويفرّق بين مساجد لعينة وأخرى مباركة ، ويرسم طريقا دينيا فوق آثار المدينة.

هكذا فإن الدعم اليمني لعلي في نضاله المسلح من أجل الحكم ، لم يكن عفويا ولا جماهيريا. عندما انتقل علي إلى ذي قار ، فور توليه الخلافة ، كان مساعدوه الأقربون من طيّ وأسد وعبد القيس الذين في البصرة ، وبكر (١). وطوال معركة صفين كان أكثر المتحمسين للقتال إلى جانب علي هم من ربيعة؛ كما يشار أيضا إلى همدان ومذحج الذين قاتلوا ، لفترة قصيرة ، إلى جانب الأشتر (٢). وعلى العكس من ذلك ، قاتلت عكّ وأشعر بضراوة إلى جانب السوريين. أما الكوفيون ، ولا سيما اليمنيون منهم ، فقد اصطفوا مع علي. لكن وراء هذا الاصطفاف كانت هناك قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، أكبر بكثير من مجرد موقف تحركه المشاعر العاطفية. فهو اصطفاف ظرفي أحاطت به ظروف محددة في سياق وضع محدد ، كما أثبتت بعد ذلك الأحداث ، كما أنه اصطفاف يتحدّد من خلال التراتب الاجتماعي داخل القبائل.

وقد بدا ذلك بوضوح في أثناء ثورة حجر بن عدي الكندي (٥١ ه‍ / ٦٧١ م). فمن بين الذين شهدوا ضدّه ، كان هناك عدد من الأشراف المعروفين في القبائل اليمنية الكبرى ؛ وإنه لأمر ذو دلالة أن يكون أكثر الذين طاردوا حجرا ورفاقه ، هم من همدان ومذحج (٣). في ذلك الوقت ، لم يكن ممكنا التماثل

__________________

(١) الدينوري ، الأخبار الطوال ، طبعة بيروت ، ص ١٨٦؛ الطبري ، ٤ ، ص ص ٤٨٧ ـ ٤٨٩ ، ٥٢١ ـ ٥٢٢ ، ٥٢٨ ، حيث نقرأ : «كانت ربيعة يوم الجمل تعدّ ثلث أهل الكوفة ، مع علي ، وكان منها نصف رجال المعركة».

(٢) الطبري ، ٥ ، ص ١٠ وما بعدها؛ وحول مذحج وهمدان ، ص ٢٠ ـ ٢١. الأشتر من نخع (مذحج)لكنه كان قائد موقع همدان. تحيل رواية أبي مخنف الملحمية إلى أحداث واقعية ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، بقيت في ذاكرة أهل الكوفة. انطلاقا من هذه المعارك الملحمية ارتسمت صورة ذاتية بطولية للإخلاص والوفاء. لكن ربيعة كانت أكثر كفاءة في القتال وأكثر فعالية وجدوى. حول تضحيات اليمن وهمدان في معركة صفين ، راجع : أنساب الأشراف ، ص ص ٥١٠ ـ ٥١١. علاوة على ذلك ، استعان علي بمعظم القادة الشيعة اللاحقين؛ فقد استعان بسليمان بن صرد وحجر بن عدي : أنساب ، ص ٤٤٧. يضع خليفة بن خياط تاريخ ، طبعة النجف ، ١ ، ص ١٧٧ وما يليها ، لائحة بالقبائل العربية الأساسية والقادة الأساسيين في معركة صفين ، ويعتبر الأشتر قائد مذحج.

(٣) الطبري ، ٥ ، ص ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٣٨٥

والتطابق بين الشيعة والقبائل اليمنية ، كما لم تكن ممكنة المماثلة والمطابقة بين دعم علي (١) في حياته ، وبين شكل ما للوعي «الشيعي».

فلنتابع مسارنا التاريخي. كشفت ثورة المختار عن تطور في الوعي ، لكنها سرّعت أيضا في تطويره ، تاركة بصماتها على الحركة اللاحقة في جملتها. وقد أثبتت أو أنها ولّدت لدى اليمنيين ، وربما للمرة الأولى ، تماهيا نسبيا مع «القضية» التي غدت قضية سياسية ـ دينية اغتنت بلغة عاطفية مؤثرة. بطبيعة الحال ، كانت لثورة المختار أبعاد مركبة : فالمطالب الاجتماعية التي رافقتها وأودت بها إلى الفشل والإخفاق ، شملت قطاع الموالي الذين لم يندمجوا في المجتمع بل ظلوا على هامشه ، دهماء غير منظمة وقابلة للانفجار. وقد حجبت المشاعر والانفعالات الدينية المطالب الاجتماعية ذات الجذور العربية ، وعلى صعيدها العربي. من هذه الزاوية يجب النظر إلى الأمور بدقة. ضمّت ثورة المختار ، على المستوى القيادي ، نوعين من القادة ، كانا في الأساس ، منفصلين ، هما : الناجون من عين الوردة ، وهم من حركة التوّابين ، وأنصار المختار المخلصون. وفي كلا النوعين ، كانت الأكثرية يمنية ، أو على الأقل ، كان هناك عدد كاف لفرض كلمتها ، ومنهم : أحمر بن شميط ، عبد اللّه بن شداد ، ابن كامل ، السائب بن مالك (٢). وكان بين المتعاطفين أشراف وقادة قبائل ، منهم مثلا ، عبد الرحمن بن شريح من شبام الذي يقال فيه : «وكان عظيم الشرف» (٣) ، وإبراهيم بن الأشتر الذي غدا رأس حربة الثورة بعد انضمامه إليها. كذلك ، فإن العشائر التي لبّت جميعا نداء المختار ، على الرغم من الظرف غير المؤاتي والضغط الذي مارسته أكثرية الأشراف ، كانت في معظمها قبائل يمنية : شاكر ، خثعم ، شبام (٤). لقد سبق للمختار أن كان شديد التأثير ، بخطابه الحماسي الملتهب في نفوس «مشايخ همدان» الذين كانت الناس تشاهدهم يبكون في مسجد الكوفة (٥) عندما تذكر مآسي«ابن بنت نبيّكم». كان اليمنيون يتأثرون بكل

__________________

(١) ثمة إشكال بخصوص السّبئية. يعتقد الطبري ، تبعا لمخبريه ، بنوع من المؤامرة السّبئية العدوانية العميقة والخبيثة على الإسلام ، تتخفى وراء مواقف ديماغوجية : الطبري ، ٤ ، ص ٥٤١. وإنه لأمر ذو دلالة أن تكون الكلمة ذات أصل يمني.

(٢) الطبري ، ٦ ، ص ٨؛ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ٥ ، ص ٢٥٣.

(٣) الطبري ، ٦ ، ص ١٢.

(٤) المصدر نفسه ، ٦ ، ص ص ٢٣ و ٣٥ ، حيث للعشائر ذكر في شعر ابن همّام السّلولي.

(٥) المصدر نفسه ، ٦ ، ص ٥٧٩؛ من يوم وصوله من الحجاز بعد لقائه بابن الزبير في العام ٦٥ للهجرة دخل المختار المسجد وجلس في حلقة همدان ليزفّ إليهم البشارة.

٣٨٦

شكل من أشكال الوعظ «الشيعي» : وكانت بعض القبائل تتأثر بسهولة أكثر من بعضها الآخر ، كما كانت بعض الفئات الاجتماعية ، داخل القبيلة ، تتأثر أكثر من بعض الفئات الأخرى. في واقع الأمر ، يجب ألا ننظر إلى موقف همدان السياسي أو إلى موقف مذحج كأنه موقف واحد لا يتخلله تمايز ولا اختلاف : ذلك أن التنظيم الأفقي للبنية القبلية ، يواكبه تنظيم عامودي اجتماعي يتيح إظهار اختلاف المواقف. كان الأشراف ، بعامّة ، معادين لثورة المختار منذ أن اندلعت؛ ثم أصبحوا أكثر عداء لها عندما طالبت بتحرير العبيد والموالي. من أصل سبعة زعماء قبائل ، سعوا إلى الوقوف في وجه الثورة ، كان هناك أربعة زعماء يمنيون (١). وقد ضمت مؤامرة الأشراف ، بعد انفجار الثورة ، زعماء قبائل من بجيلة وخثعم والأزد ، وكذلك من ربيعة وتميم. كانت مضر كلها مجتمعة في الكناسة تحت قيادة شبث بن ربعي ، وكانت اليمن مجتمعة تحت قيادة عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني (٢) في جبانة السّبيع. كانت حماية نظام المصالح والدفاع عنها أقوى بكثير من العواطف الإيديولوجية. ولكن في صف المختار ، كانت تقف أكثرية يمنية جاءت من الفئات الشعبية وتولى تنظيمها وتأطيرها أشراف مغمورون. ولئن كان إبراهيم بن الأشتر قد دعم الانتفاضة ، فإنما فعل ذلك عن قناعة بالقضية وبدافع من الطموح الشخصي والتقليد العائلي في آن معا. ومن المؤكد أن اليمنيين خاضوا أقسى المعارك وتكبدوا أكثر الخسائر ، وأن قدرة عظيمة على الوفاء والإخلاص لأسرة النبي طبعت موقفهم ، وتعدّت التقسيم الاجتماعي الهرمي ، متجاوزة حدود التضامن القبلي. فتمكنت بذلك الأجيال الجديدة ، في السنوات الستينيات للهجرة ، من الاضطلاع بالمهمة بكاملها. فحجر بن عدي في العام ٥١ الهجري ، وعروة بن هانئ المرادي في العام ٦٠ الهجري ، كانا يناضلان في العزلة؛ تكونت هذه المرة حركة استندت إلى قاعدة واسعة ، وكانت هذه القاعدة ذات أكثرية يمنية ساحقة. على أية حال ، لم يكن هناك علاقة واضحة وواعية بين الانخراط في هذه الحركة وبين الانتماء اليمني.

ظهرت أهمية النظام الاجتماعي المحض ، وبرزت قوة الجمود المتجسد في العلاقة العميقة بين السلطة والأشراف ، مرة ثانية ، أثناء ثورة زيد بن علي في العام

__________________

(١) الطبري ، ٦ ، ص ١٨.

(٢) المصدر نفسه ، ٦ ، ص ٤٥؛ أنساب الأشراف ، ٥ ، ص ٢٣٢.

٣٨٧

١٢٢ ه‍. هنا ، تختلط علينا الأمور : ذلك أن أول من قدّم الولاء لزيد ليسوا اليمنيين ، فكأنما المناقشات كانت قد بلغت من العمق ما جعل الخيار موقفا شخصيا ، نابعا من قناعة خاصة ، تفوق أي اعتبار آخر. فكان بين الذين ضلعوا في المؤامرة عبسيّ وكنديّ وأنصاري (١) ولم يكن هناك أي همداني. السيناريو نفسه تكرر كما مع الحسين : كان ردّ فعل السلطة أنها طلبت إلى الأشراف أن يتدخلوا من أجل تهدئة القبائل ، ثم تكفّلت القوات السورية بإتمام الباقي. لقد أخطأ ماسينيون خطأ بيّنا عندما بنى جازما موقف قبيلة بأكملها من التشيّع إلى الأبد على حادث تاريخي واحد أو على موقف شخصية تاريخية واحدة. وإنما سير الشخصيات الشيعية اللاحقة هي التي أتاحت حركة الرجوع إلى الوراء ، بدءا من واقع حالها ، لكشف المواقف والولاءات بدقة ، انطلاقا من التاريخ ومن أجل التاريخ.

ولئن كانت الثورة العباسية قد انطلقت من خراسان ، فإن رأس الثورة كان في الكوفة. وقبل أن تتمأسس هذه الحركة في دولة جديدة ، كانت قد وضعت نصب عينيها هدفا مبهما : استعادة حق آل البيت (٢). والحال ، أن أبا سلمة كان مولى ، ولكن مولى لعشيرة يمنية هي السّبيع (٣) ؛ والبيعة أخذت من الخراسانيين في الكوفة ، وفي جبانة السبيع ، لا في مكان آخر. وأبو حميد ، أحد قادة الشيعة ، الذي ارتدّ على أبي سلمة ، تأييدا للفرع العباسي ، كان حميريا. هذه المؤشرات تدلّ دلالة كافية على استمرار تيار مؤيد لحق آل البيت في أوساط اليمنيين في الكوفة. ولم يتحول التشيّع إلى إيديولوجيا ، وتتزايد فيه الانقسامات إلى ملل ومذاهب ، إلا لاحقا أي في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وهكذا بدأ الوعي الشعبي يتعمّق ، ويتعمم الشعور بالخصوصية الشيعية. وما من شك ، كما سبق لنا القول ، في أن وعيا ما بهامشية يمنية ما هو الذي دفع إلى الالتحاق بالهامشية الأخرى ـ الشيعية ـ وإلى التواصل معها.

٢ ـ العصبية أو الصراع فوق القبلي :

سواء تحوّل هذا الصراع إلى حرب أم بقي عداء أصمّ ، فإنه يحدث على مستوى أرفع من مستوى القبيلة ، فوق القبيلة؛ فهو لا يظهر بين قبيلتين (كما كان

__________________

(١) الطبري ، ٧ ، ص ١٦٧.

(٢) Claude Cahen,«Point de vue sur la re?volution abbasside»,Revue Historique,١٩٦٣.

(٣) الطبري ، ٧ ، ص ٤١٨.

٣٨٨

يحدث قديما بين بكر وتغلب ، أو بين عبس وذبيان) ، بل يظهر بين مجموعتين من القبائل ، تنتسب كل مجموعة منهما إلى أصول واحدة. ولئن كانت التسميات لا تتغير في اليمن ، فإنها في الجانب المقابل ، تضيق أو تتسع ، بحسب الحالات المختلفة : قيس ، مضر ، عدنان. معروفة هي ضراوة هذه الصراعات التي جرت في تاريخ العرب الأول الذي يمكن تعيين بدايته بوفاة يزيد بن معاوية (٦٤ ه‍ / ٦٨٣ م) فبموته انفلتت كل القوى التي كانت مكبوتة. في البصرة (١) وقف الأزديون ، حلفاء ربيعة ، ضد تميم من دون سبب سياسي ، وبأسلوب يعود إلى عصر الجاهلية؛ وكادت أن تقع الحرب ، ولكن أمكن تفاديها. أما في بلاد الشام (٢) ، فقد تحوّل الصراع بين كلب وقيس ، إلى حرب دامية ، في سياق النزاع على الحكم : بعد يوم جيرون التقى التّحزّبان في مرج راهط في ٦٤ ه‍٦٨٣ / م ، ودارت بينهما معركة انتهت بهزيمة القيسيين (٣). بعد هذه الهزيمة ، علا شأن كلب في الشام وأمسك المروانيون بزمام الحكم. طيلة العشر السنوات التالية استمر الصراع الدامي ، وبخاصة في الجزيرة وانتقل إلى خارج المحورين الأساسيين في النزاع السياسي الأكبر : الزبيريين / المروانيين ، شيعة / مروانيين. ما يسترعي الانتباه ، هو أن الكوفة ، المدينة اليمنية بامتياز ، ظلت باردة تجاه هذا النزاع ، في مرحلته الأولى ، في حين أن سوريا ، مركز الخلافة ، كانت خلافا لذلك ، تلتهب حماسا له. وقد سبق لبعض المستشرقين أن أشاروا إلى ذلك (٤). هذا التناقض ليس استمرارا لظاهرة جاهلية كما يمكن أن توحي به أدلجة كتب الأنساب ، كما أنه ليس صراعا سياسيا خالصا ، أي أنه ليس صراعا على السلطة. ولئن أمكن له أن يتخذ ، جزئيا ، شكل الصراع بين الزبيريين والمروانيين ، فإنه لاحقا ، تعدّى هذا الشكل ليتبنّى قضايا أخرى : منها على سبيل المثال ، استبدال التوسع العسكري اللامحدود بوقف الفتوحات واستقرارها ، وبخاصة في خراسان ، على نحو ما يبيّن شعبان (٥). في غضون ذلك ، والمروانيون في أوج عظمتهم ، سواء في عهد عبد الملك أم في عهد هشام ، تحول ذلك الصراع ، بعد أن استقر على شكل

__________________

(١) الطبري ، ٥ ، ص ٥٠٤ وما بعدها؛ Wellhausen,Das Arabische Reich und sein sturz ، الترجمة العربية ، القاهرة ، ١٩٥٨ ، ص ١٦٥.

(٢) البلاذري ، أنساب الأشراف ، ٥ ، ص ١٣٦ ـ ١٤٦.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٣٠٨ وما يليها.

(٤) Goldziher و. Wellhausen

(٥) غير أن شعبان يحدد أحد الأسباب المؤقتة للوقوف ضد الظاهرة في جملتها : Islamic History

٣٨٩

خصومة ومنافسة ، إلى آلية للحكم : تداول السلطة في الدولة. تارة يحكم «اليمنيون» وطورا «القيسيون» ، لتحقيق غاية بديهية هي فرّق تسد. وكان الأمويون ونظام حكمهم يفعلون كل شيء من أجل توسيع ذلك الصراع ، وتعميمه على الأمصار ، إلى أن اتخذ طابعه العنصري المعروف ، والذي ما لبث أن ارتدّ على النظام نفسه.

من تلك الملاحظات الأولية نستنتج ما يلي :

أ) إن معظم اليمنيين الذين انخرطوا في الصراع في الشام هم من قضاعة :

كلب ، تنوخ ، جهينة ، بلي؛ وقد انضم إليهم من أطراف اليمن : سكاسك (وهي من كندة؛ أزد). تأتي بعد ذلك ، قبائل يمنية خالصة استقرت في سوريا (حمير ، عكّ).

ب) إن ما يميّز هذه القبائل عن تلك التي في الكوفة ليس «يمنيتها» المفترضة ، وإنما هو واقع مشاركتها في الحكم الأموي. فالعداوة بينها وبين القيسيين دخلت في صلب النظام ، وأصبح كلا الطرفين قبائل حكومية بالمعنى الواسع للكلمة. وعندما هاجت العصبية في الكوفة ، أواخر العصر الأموي ، فإن القبائل السورية هي التي جلبته ، ولم يكن معنيا به إلا يمن ومضر الشام وحدهما (١).

ج) في خراسان ، كان الصراع بين الأزد وتميم وقد انتقل من البصرة.

فإذا بقيت الكتلة اليمنية الكبرى في الكوفة خارج ذلك الهيجان ، فإنه لا بد من الإجابة على السؤال : لماذا رأت هذه الخصومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (النزاع على الحيّز المكاني في الجزيرة كان عاملا حاسما) بين القبائل المسيطرة ، والتي تتعايش مع نظام الدولة ، أن من الأفضل أن تستتر وراء شعار : يمن / عدنان؟ إن انتماء قضاعة اليمني ، هو تاريخيا ، انتماء افتراضي. ولئن كان ثمة هجرة يمنية حدثت في عصور ما قبل الإسلام ، فماذا يمكن أن يكون قد بقي عالقا منها في الوعي والذاكرة ، بعد نصف قرن من ظهور الإسلام؟ وبدلا من القول بأن عودة ما ، أو انبعاثا ما قد حصل ، نريد أن نقول إن تماهيا حديثا قد حدث بتأثير من بعض عناصر يمنية قديمة ، حديثة الهجرة إلى سوريا ، كان أحد وجوهها

__________________

(١) الطبري ، ٧ ، ص ٣١٦ ، حيث نقرأ : «كان اليمنيون من أهل الشام يقفون مع عبد اللّه (بن عمر)في الحيرة ، والمضرية مع ابن الحرشي في الكوفة؛ وكانوا يتقاتلون من الصباح إلى المساء».

٣٩٠

البارزين ذو الكلاع الحميري (١). في وجه الطموح المضري إلى اكتساب شرعية تاريخية بالنبوّة والهيمنة اللغوية ، نهض طموح آخر لاكتساب هذه الشرعية ، يستند إلى العظمة التاريخية القديمة والملوكية والحضارة. فمجرد كلمة يمن ، كانت كافية وحدها ، بما تختزن من رفعة وسمو قدر ، لتفرض نفسها قطبا آخر للعروبة. وثمة رجال من هذا اليمن كانوا هناك لشحذ هذا الوعي التاريخي ، أو لتكوينه لدى قبائل أقلية وقديمة مستقرة في جوار قبائل كبيرة تزعم اليمنية لنفسها (قبيلة كلب ، مثلا) ، وكانت تلعب دورا في التاريخ الجديد. فالدور الذي كانت تلعبه قبيلة كلب في الشام / الجزيرة ، لعبته قبيلة الأزد في البصرة وخراسان. بمقدار ما كانت البنية الاجتماعية الاقتصادية في الكوفة تخلو من شيء يحفز التضاد بين الكتلة اليمنية والقبائل المضرية (أسد ، تميم) (٢) ، وبمقدار ما كان الكوفيون كلهم يجدون أنفسهم مبعدين عن المشاركة في سلطة الحكم المركزي ، كانوا يجدون أنفسهم في منأى عن صراع يرفع راية اليمن ، في كل مكان لا يكون فيه في الواقع لليمنيين الأقحاح إلا وجود ضئيل. ولكن كم كانت كبيرة الخدعة التي عادت بعد قرون فسحبت نفسها على اليمن بالذات ، لأن الهمداني وآخرين نادوا ، بسذاجة ، بوعي يمني مشوّه. وقد تكون العصبية أسهمت ، بمفارقة مدهشة ، في تعزيز الوعي القومي لدى العرب ، وفي إغناء وعيهم التاريخي ، بإغناء تراثهم بهذه الملاحم ، وبترسيخ شجرة أنسابهم إلى الأبد (٣).

IV ـ دور اليمنيين الحضاري والثقافي

يمكن الاعتقاد بأن اليمنيين قد أسهموا ، في ما يتعدى الدور الذي لعبوه في بناء الوعي التاريخي العربي ، إسهاما أكثر وضوحا ، في إغناء الحضارة العربية الإسلامية ، بحكم تجربتهم الحضارية العريقة. وهذه فرضية معقولة ، على الرغم من القطيعة التي حصلت منذ ما قبل الإسلام ، في الحضارة اليمنية ، وعلى الرغم

__________________

(١) ذو الكلاع ، الذي تصوره قصيدة قديمة أنه سيد اليمنيين ، يقاتل معهم ، إلى جانب معاوية في صفين : ابن منظور ، لسان العرب ، طبعة بولاق الأولى ، ٥ ، ص ٢٥٢.

(٢) كانت هناك عداوة عميقة بين همدان وتميم. يوضح أنساب الأشراف (مخطوط باريس ، ص ٤٤٨)أن الكناسة مكان يظهر فيه الصراع بين همدان وتميم ، كما يظهر علي مصلحا بين الطرفين.

(٣) M. Pietrovsky ، «التراث اليمني القديم في الحضارة الإسلامية» ، مداخلة في المؤتمر الدولي حول الحضارة اليمنية ، عدن ، ١٩٧٥.

٣٩١

من هيمنة القبائل العربية الشمالية (عبر الإسلام واللغة والدولة)في تحديد الإطار الجديد للوجود العربي.

يقول ماسينيون ، بخصوص الكوفة ، إن«العرق العربي أصبح مدنيا في الكوفة بفضل العنصر العربي الجنوبي الذي كان حضريا» (١). فإذا تذكرنا أن القسم الأعظم من المهاجرين كانوا إما بدوا عريقي البداوة (مضر ـ تميم) وإما نصف بدو (ربيعة) ، فإن السؤال حول الحضرية يبقى قائما يحتاج إلى إجابة. فالحضرية ليست تثبيت البدو في مكان محدد فقط ، وإنما هي أيضا تمرّس بحياة المدينة يصعب الحصول عليه ، وتجربة تعايش بين القبائل ، وتربية اجتماعية تتولاها عقلية معينة. من هنا جاءت الفرضية التي أطلقها ماسينيون حول الدور التحضيري الذي قام به اليمنيون أمثال همدان وحمير ومذحج. وقد كان للقبيلتين الأوليين ، على الأقل ، تمرس فعلي بحياة المدن كما بحياة الأرياف. فالهمدانيون كانوا يقيمون في الوديان شمال صنعاء ، في تلك القرى إياها التي حملت أسماءها قبائل انتقلت إلى الكوفة : شبام ، ناعط ، ديبان ، السّبيع ، مرهبة ، شاكر ، خارف ، إلخ. حتى إننا نتساءل إن لم تكن المطابقة بين العشيرة (وهو مفهوم يقوم على نسب الدم) وبين القرية ـ الأصل (وهي مفهوم يقوم على حيّز جغرافي) التي جاءت منها هذه العشيرة ، قد تمّت أثناء الهجرة ، بغية تكييفها مع العادات البدوية المهيمنة ، لا سيما أن القبائل العربية الجنوبية الأكثر «حضرية» ، بما فيها الحميريون ، عاشت في هيكليات قبلية. كانت حمير ، داخل مجمّع القبائل اليمنية الأصيلة ، القبيلة السياسية؛ ولا نعلم ما إذا كان عددها قليلا على الدوام ، أم أنه كان لممارسة السلطة يد في إضعاف عددها. وعلى الرغم من عراقة همدان ، فإنها ربما كانت على صلة ما بالمدّ البدوي في اليمن الذي تحمّل ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، أوزار دك صرح الحضارة اليمنية. ثمة إذا أسئلة مستعصية مطروحة ، إلا أن المؤكد هو أنه كان هناك تعايش بين بنيتين قبلية وحضرية (كما في حالة قريش وثقيف ...) ، وأنه إذا كانت القبيلة تحدّد بوعيها بالأصل المشترك الواحد ، فإن العشيرة في اليمن تتحدد بالعيش المشترك في قرية واحدة.

تصطدم فرضية ماسينيون بعقبتين كبيرتين :

ليس هناك من دليل على الدور «التمديني» الذي لعبه هؤلاء اليمنيون. خلافا لذلك ، وجد اليمنيون أنفسهم مرغمين على الإعراض عن الهيكلية

__________________

(١). Opera Minora,III,p. ٤١

٣٩٢

القروية والانضمام إلى النظام العشائري العام.

ب) الدليل المضاد هو أن البصرة ، التي لم يكن لهذه العناصر من وجود فيها ، تمدّنت بأسرع من الكوفة ، وذلك بحسب ما يقول ماسينيون نفسه (١).

يمكن الاعتراض أيضا بالقول إن التخطيط (وهو قرار الاستقرار والبنيان ، أي النقل العملي لما كان مرسوما على الورق من ترسيمة عمرانية إلى الأرض؛ وتوزيع المواقع والحصص على القبائل)كان من عمل قادة قريش وثقيف الذين انتدبتهم قيادة المسلمين في المدينة ثم الخليفة الأموي في الشام ، كما أن عمليات البناء الفعلية في المدينة ، كانت تجري تحت إشراف مباشر من زياد ، وهو الآخر من ثقيف ، وكان فضلا عن ذلك مطلعا على المهارات الفارسية في هذا المضمار. فإذن ، إن فرضية ماسينيون ، لا تثبت أمام النقد ، ويصبح أكثر عقلانية إسناد هذا الدور التمديني إلى النخب السياسية القرشية والمدينية والثقفية ، وربما أيضا لبعض عناصر من ربيعة (إياد ، عبد القيس ، بكر) ولبعض عرب الضاحية (العربية ـ الفارسية). أما التنفيذ العمراني الفعلي فقد تمّ تحت تأثير فارسي ـ بابلي ، كما تدلّ حكاية بناء مسجد الكوفة على يد زياد ، (٢) وكما يدل أيضا استخدام الآجر المشوي ونمط العمارة العربية في العراق فيما بعد.

من الواضح أن الوجود الكثيف لليمنيين في الكوفة حال دون أن يكون لهم تأثير على الصعيدين المعيشي والحضري للمدينة. ويقضي المنطق أن نبحث عن أدلة لهذا التأثير في ما هو كوفي مخصوص. ولكن من البديهي ألا يكون هناك سوى فرضيات. ليس من شك في أن اللبن ، وهو الآجر المجفف الذي يقطّع ويرقّق ، وبنيت به المدينة كلها ، في المرحلة التي أعقبت مباشرة مرحلة الإسلام الأول (٣) (حيث لم يكن هناك إلا أكواخ من القصب) ، كان من أصل عراقي بحت. وإذا كان ما يزال اليمنيون يستخدمونه إلى يومنا هذا في بناء منازل عالية وجميلة ومتينة فبتأثير من العراق (٤). ومعلوم أن الكوفة كانت تحوي جبانات

__________________

(١) شرح تخطيط الكوفة ، في Opera Minora,III ، حيث يقول (ص ٤١) : «ويمكن الاعتراض بالقول إن البصرة كانت ، هي الأخرى ، مصدرا من مصادر هذه الثقافة» ، وفي ص ٣٩ : «وفي النهاية ، بنيت البصرة بأسرع بكثير مما بنيت الكوفة ... في حين أن الكوفة تتيح لنا أن نتابع عملية التّمدّن عن كثب».

(٢) البلاذري ، فتوح ، ص ٢٧٦.

(٣) الطبري ، ٤ ، ص ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) شاهدنا عينات منها في صنعاء وفي عتق. ولربما كانت الأكواخ ، هي الأخرى ، من أصل يمني.

٣٩٣

ورحبات يبدو أن البصرة كانت لا تعرفها. ترجم ماسينيون جبانة إلى الفرنسية ب‍ cimetie?re أي مقبرة بمعناها الشائع المعروف ، لكنه يضيف قائلا إن الجبانة كانت أيضا«مساحة واسعة خالية من الأبنية تستخدم للعرض العسكري والخطابات». وفي الواقع ، تذكر المراجع أنها كانت ت ، ستخدم لدفن الموتى ولكن نادرا وبإيجاز (١). خلافا لذلك ، تكثر الإشارات إلى الاجتماعات السياسية والنزاعات والتحشيدات العسكرية التي كانت تحدث في الجبانات. ثمة احتمال كبير في أن تكون هذه السمة المميزة لطوبوغرافيا الكوفة مأخوذة من اليمن؛ فالجبانات التي ما زالت قائمة في بعض مدن اليمن كصنعاء ، ليست مقابر ، بل هي مساحات مسوّرة ، مزوّدة بمحراب وتقع مباشرة خارج السور ، وتستخدم كمصلى في المناسبات الكبرى ، كما تستخدمه القبائل لاستعراض قوتها القتالية. كان في اليمن القديمة رحبات (جمع رحبة) أي ساحات مركزية وسط المدينة (٢). والجذر (ج ب أ)في النقوش والمدوّنات يعني ، في جنوب الجزيرة ، «ردّ» و «استردّ» ، ويعني جمع وتجمّع في لغة الغا؟؟؟ز gue?ze (ويستخدم أيضا بمعنى جمعية ، جماعة ، مجتمع) (٣). هذه الجبانات والرحبات التي يكثر وجودها في الكوفة ، أضفت على المدينة شكلا طوبوغرافيا خاصا. وكان لها دور مهم جدا في اللحظات التاريخية التي عرفتها الكوفة ، فكان لها ، في الجملة ، وظيفة اجتماعية وسياسية في آن معا. هذا مثال نسوقه لإظهار التأثير الذي كان للتقاليد اليمنية في تمدين الكوفة (٤). في ما عدا ذلك ، يمكن توقع التأثير الخفي الذي كان لتلك التقاليد في العقلية والسلوك ، والذي يصعب تحديده.

بيد أنه ليس ثمة أدنى شك في أن هذا التأثير كان حاضرا في ميادين

__________________

١) ابن سعد ، الطبقات ، طبعة بيروت ، ١٩٥٧ ، الجزء الرابع ، ص ١٤٤. على أن أبا مخنف يقول (كما ينقل الطبري في تاريخه ، الجزء الخامس ، ص ٦١) إن الناس كانوا ، قبل علي ، يدفنون موتاهم ، داخل المنازل وخارجها؛ بعد ذلك أخذوا يدفنون على الظهر. ونادرا ما نجد هذا النوع من التفصيل ، المعروض بدقة ، في نصوص أبي مخنف الذي يميل ، خلافا لذلك ، إلى استخدام الإطار الطوبوغرافي المتأخر لأحداث سابقة. لذا ، لا شيء يحمل على الاعتقاد ـ كما فعل هندس في مقاله : «Ku?fan political alignments» بأن الجبانات كانت مشيّدة ، يسكنها الناس في زمن المختار.

٢) مداخلة شفهية للبروفسور بيستون.

٣) مداخلة شفهية للبروفسور رودنيسون.

٤) نجد كذلك كلمة م ص ر في الكتابات والنقوش في جنوب الجزيرة بمعنى المعسكر : مداخلة البروفسور الغول في المؤتمر حول الحضارة اليمنية (عدن ، ١٩٧٥).

٣٩٤

الحضارة المختلفة والمادية ، كالزراعة والصناعة والتبادل التجاري. فمن المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن التأثير اليمني في الأندلس ظهر في أساليب الريّ وفي ذلك الحجم الكبير والمتنوع من المنتجات اليمنية ، وأهمها الأسلحة والأقمشة (١). ولكن اليمنيين لم ينصرفوا إلى الأعمال الزراعية والحرفية بأكثر من العرب الذين استقروا في الأمصار العراقية ، وذلك في القرن الأول على الأقل ، وبسبب كونهم يتقاضون رواتب مالية؛ فتركت تلك الأعمال إلى السكان الأصليين (من ذمّيين وموالي وعبيد). وإذا ، كانت الهيمنة للتقاليد المحلية القائمة الآرامية والفارسية. على أن الخبرات والمعارف اليمنية قد تكون تسرّبت على نحو مباشر إلى الحياة الاقتصادية ، وبخاصة في الري والتجارة ، لا سيما بعد ما نزع السلاح من البصرة والكوفة وانخرط في الحياة المدنية جميع الذين كانوا يقاتلون ويشاركون في الفتوحات.

لقد كانت الكوفة أحد مهدي الثقافة العربية الإسلامية ، وهذا أمر واقع متفق عليه. وكان اليمنيو الأصل يسهمون إسهاما نشطا وفعالا في بلورة هذه الثقافة. لكن ، يبقى أن المسألة التي ينبغي التحقق منها هي إلى أي مدى تمّ إنجاز ذلك الإسهام تحت عنوان أو في إطار الهوية اليمنية.

استلهمت هذه الثقافة مرجعين أو نظامين أساسيين هما الإسلام من جهة ، والعروبة البدوية من جهة ثانية. كما كانت تلك الثقافة على تماسّ مع ثقافات البلدان المغلوبة ، فتأثرت بها من خلال سعيها إلى الإجابة عن أسئلة جديدة لم يسبق أن واجهتها قط ، فقد طرحتها عليها الظروف التاريخية والاجتماعية المستجدة. فقراءة القرآن وجمع الأحاديث النبوية وصوغ قانون قضائي وتثبيت قواعد اللغة والكتابة ، والتوق التاريخي إلى أيام الجاهلية وقيم العروبة البدوية ، أو على العكس من ذلك ، إلى العصر الذي دشنه نزول القرآن ، ذلك كله شكل تحديات راح يتصدى لها مؤسسو الثقافة العربية الإسلامية. وفي خضم هذه الأمور التي كانت في طور التخلق ، انحسرت اللغة الحميرية لفظا وكتابة ، لما فيه مصلحة اللغة القرآنية وكتابة أهل الحيرة (التي ضبطتها إياد ، على ما يقال). وكان تاريخ«أيام العرب»الحديث يفوق مجدا مآثر ملوك حمير. فلم يكن معترفا بشيء من الميراث اليمني كأساس للوعي العربي الجديد ، حتى ولو كان عليه أن يلعب دورا في الوعي السياسي بوصفه ذاكرة ، كما مرّ بنا. انطلاقا من هذا التصحيح

__________________

١) راجع في هذا الموضوع : صالح أحمد العلي ، تنظيمات .. (مرجع مذكور).

٣٩٥

الأولي ، ينبغي إذا تقدير الدور الثقافي الذي لعبه اليمنيون حق قدره ، وقد تحولوا ـ بفعل واقع الأمور واندماجهم بعالم فكري جديد ـ جزءا لا يجزّأ من مغامرة حملتهم إلى أبعد مما كانوا يتصورون. فمن الجلي الواضح والمثبت ، أنهم كانوا حاضرين مندمجين في الحركة العامة ، وفاعلين حيثما كانوا يشاركون في هذه الصراعات الفكرية.

إذا أخذنا مثلا ميدان الحديث والفقه ، فإن القراءة المعمّقة للمجلد السادس من طبقات ابن سعد ، المخصص للكوفة ، تثبت بالتفحص الدقيق أن نسبة اليمنيين في الطبقات الخمس الأولى من رواة الحديث (طبقة الصحابة ثم الطبقات التي تليها مباشرة من الذين جاؤوا بعدهم ، إذا استثنينا منهم قضاعة والأنصار) ، هي على التوالي : ٢٠% ، ٣٣% ، ٤٠% ، ٣٣% ، ٣٠% ، كما هو مبيّن في الجدول التالي :

اسم الطبقة

العدد الإجمالي

عدد اليمنيين

الشخصيات المرموقة ذات الأصل اليمني

طبقة الصحابة

١٥٠

٣٠

عمار بن ياسر ، أبو موسى الأشعري ، عدي بن حاتم ، جرير بن عبد اللّه ، الأشعث بن قيس

الطبقة الأولى من التابعين

٣٤٥

١١٠

مسروق بن الأجدع ، علقمة بن قيس ، الأسود بن يزيد ، شريح ، أويس القرني

الطبقة الثانية من التابعين

٦٩ (بينهم ٥ شخصيات مجهولة)

٢٧

الشّعبي ، إبراهيم النخعي

الطبقة الثالثة من التابعين

١٢٣

٤٢

أبو إسحق السبيعي ، حماد بن أبي سليمان

الطبقة الرابعة من التابعين

٨١

٢٤

مجالد بن سعيد

٣٩٦

في طبقة الصحابة ، أي الشخصيات التي يفترض أنها كانت قريبة من النبي ، والذين يذكر الإسناد أسماءهم ، لم يكن هناك إلا شخصيتان من أشراف اليمن ، هما أبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر الذي كان قرشيا بالولاء. لم تشارك اليمن في الانطلاقة النبوية الكبرى مشاركة واسعة؛ وتعرضت القبائل لغزوتين ، فلجأ الهمدانيون ، مثلا ، إلى الجبال. لكن بقاء اليمنيين على هامش تلك الانطلاقة ، لم تحل أبدا دون دخولهم في الإسلام بقناعة وإخلاص ، وبأعداد واسعة. ولعلهم وجدوا في الدين الجديد طريقا للخلاص من بؤسهم السياسي والمعنوي ، ومن انحلال النظام القديم ، ومن حالة الضياع التام. كان أبو موسى وعمار نموذجا للإنسان المسلم ، قبل كل شيء؛ وقد حاول عمر أن يعتمد عليهما لتنظيم الفتح؛ ونحن نعلم تأييد عمار غير المشروط لعلي في سبيل إقامة نظام إسلامي. وضمّ الجيل الأول من التابعين ثلاثة يمنيين ضمن أصحاب ابن مسعود الستة (١) : القاضي شريح وأويس القرني ، أحد أوائل الزهّاد المسلمين (٢). وقد غدا أويس وجها بارزا بين وجوه الأتقياء في العصر الإسلامي الأول. وعلى الرغم من أن هذا الرجل لم يكن لديه أي امتياز في الإسلام ، فإن الموروث جهد كي يصنع له مثل هذا الامتياز وأن يقرّبه ، بصورة أو بأخرى ، من النبي محمد ومن الخليفة عمر. ولربما كان يكمن وراء ذلك رغبة جامحة لدى اليمنيين في التعويض عن النقص الناشئ لديهم عن بعد المسافة التي تفصلهم عن الشرعية التاريخية في سباق الوصول إليها. في الطبقة الثانية ، هناك الشعبي وإبراهيم النخعي ، وفي الطبقة الثالثة حماد بن أبي سليمان ، وهو وجه غير معروف كثيرا.

وكان الشعبي أحد رجال الكوفة المعروفين ، وصاحب سطوة ونفوذ في ميادين شتى (٣). أما حماد وإبراهيم فقد لعبا دورا أساسيا؛ فقد وضع إبراهيم تعريفا دقيقا للشعائر ، ووضع حماد أسس الحديث والفقه.

حاول جوزف شاخت في كتابه ٤أن يبيّن أن الفقه ولد في مكان واحد هو الكوفة لا المدينة ، وأن عددا كبيرا من العقائد تنسب إلى إبراهيم النخعي ، وأن

__________________

(١) ابن سعد ، طبقات ، ٦ ، ص ١٤.

(٢) المرجع نفسه ، ص ص ١٦١ ـ ١٦٥؛ يوسف خليف ، حياة الشعر في الكوفة ، القاهرة ، ١٩٦٨ ، ص ٢٠١ : مسروق والأسود وأويس كانوا أول الزهّاد.

(٣) ابن سعد ، طبقات ، ص ٢٤٦ وما يليها؛ الجاحظ ، البيان والتبيين ، ١ ، ص ٢٣؛ ابن الفقيه ، بلدان ، ص ١٧١.

(٤). Joseph Schacht,The Origins of Muhammadan Jurisprudence,Oxford,١٩٥٠

٣٩٧

هذا العمل تمّ على يد رجل من الجيل اللاحق هو حماد. غير أن هذه الفرضية لم يتم إثباتها بما فيه الكفاية ، لكنها تبرز الدور المركزي الذي اضطلعت به الكوفة ، وتبرز على أية حال الدور الذي تواصل من حماد إلى إبراهيم إلى ابن مسعود ، وهو دور تقرّ الأحاديث بأنه كان أساس المدرسة العراقية. ويرى شاخت أن الجهد الفقهي الحقيقي بذله الجيل الذي كان مجتهدا بين العامين ١٠٠ و ١٢٥ للهجرة ، أي جيل حماد والأعمش. غير أننا نرى أن ذلك الجهد قد أعدّ له الجيل السابق (بين العامين ٧٥ و ١٠٠) الذي يمكن تسميته بالجيل المؤسّس ، وهو جيل الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي. فهؤلاء الثلاثة هم الذين وضعوا أسس معرفة إسلامية لم تكن قد توزعت بعد في الفروع التي تشعبت إليها لاحقا (قراءة القرآن ، تفسير القرآن ، الفقه ، الحديث ، والتاريخ)وأطلقوا وجهة البحث ، وعيّنوا خطوات المستقبل ، وأرسوا من خلال ذلك كله أسس سلطة معنوية متصلة بالعلم. بين هؤلاء الآباء الثلاثة ، اثنان من أصل يمني محض. كثيرون هم الكوفيون اليمنيون الذين تركوا بصماتهم على الإرهاصات العلمية الأولى ، سواء منها الدينية أم الدنيوية : طلحة بن مصرّف وعيسى بن عمر الهمداني في قراءة القرآن ، مجالد بن سعيد وأبو مخنف ومحمد بن السائب الكلبي (الذي يمكن نسبته إلى مجموعة اليمن)في التاريخ. أما في الشعر فيكفي أن نذكر اسم أعشى همدان ، حتى ندرك مستوى التثاقف الذي بلغه اليمنيون القدماء ، ومدى إسهامهم في الثقافة العربية الإسلامية الكونية.

وحيث إن السلطة كانت تهمّش اليمنيين ، فقد وضعوا عاطفتهم السياسية في الآمال الشيعية التي كانت نوعا من الكونية. وحيث إنهم كانوا مقطوعين عن ماضيهم الثقافي الخاص ، فقد أسهموا إسهاما بالغا ، وفي الأعماق ، في بناء مستقبل ثقافي للعرب المسلمين جميعا ، كما في بناء ماض لهم.

٣٩٨

فهرس المصادر والمراجع

١ ـ المصادر

ـ الأزرقي ، أخبار مكة ، بيروت ، [بدون تاريخ].

ـ الأصفهاني ، كتاب الأغاني ، بيروت ، ١٩٥٥ ؛ القاهرة ، ١٩٢٨.

ـ الأصفهاني ، مقاتل الطالبيين ، بيروت ، [بدون تاريخ].

ـ الألوسي ، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ، بغداد ، ١٣١٤ ه‍.

ـ ابن أبي حديد ، شرح نهج البلاغة ، القاهرة ، [بدون تاريخ].

ـ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، بيروت ، ١٩٦٥.

ـ ابن الأعثم الكوفي ، كتاب الفتوح ، حيدرآباد ، ١٩٦٨.

ـ ابن بطوطة ، الرحلة ، بيروت ، ١٩٦٠.

ـ ابن جبير ، الرحلة ، بيروت ، ١٩٥٥.

ـ ابن حبيب السكّري ، المحبّر ، حيدرآباد ، ١٩٤٢.

ـ ابن حجر ، الاصابة في تمييز الصحابة ، القاهرة ، ١٣٢٨ ه‍.

ـ ابن حزم ، جمهرة أنساب العرب ، القاهرة ، ١٩٦٢.

ـ ابن خرداذبه ، كتاب المسالك والممالك ، طبعة جديدة ، ليدن ، ١٩٦٧.

ـ ابن خلدون ، مقدمة ، بيروت ، ١٩٦١.

ـ ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ، بيروت ، [بدون تاريخ].

ـ ابن دريد ، الاشتقاق ، بغداد ، ١٩٧٩.

ـ ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ليدن ، ١٨٩٢.

ـ ابن سعد ، كتاب الطبقات الكبرى ، بيروت ، ١٩٥٧.

ـ ابن عساكر ، التاريخ الكبير ، دمشق ، ١٣٢٥ ه‍.

ـ ابن الفقيه الهمذاني ، مختصر كتاب البلدان ، ليدن ، ١٨٩٢.

ـ ابن الفقيه الهمذاني ، بغداد مدينة السلام ، تحقيق صالح أحمد العلي ، باريس ، ١٩٧٧.

٣٩٩

ـ ابن قتيبة ، عيون الاخبار ، القاهرة ، ١٩٢٥ ـ ١٩٣٠.

ـ ابن مزاحم ، كتاب وقعة صفّين ، القاهرة ، ١٩٨١.

ـ ابن منظور ، لسان العرب ، بيروت ، ١٩٥٥.

ـ ابن النديم ، الفهرست ، طبعة فلوغل ، طبعة جديدة ، بيروت ؛ ١٩٦٤ ؛ طبعة ر. تجدّد ، طهران ، ١٩٧١.

ـ ابن هشام ، سيرة سيدنا محمد ، غوتنغن ، ١٢٧٦ ه‍.

ـ أبو داود ، سنن ، القاهرة ، ١٩٣٥.

ـ أبو عبيد بن سلّام ، كتاب الاموال ، القاهرة ، ١٣٥٣ ه‍.

ـ أبو عبيدة ، كتاب الخيل ، حيدرآباد ، ١٣٥٨ ه‍.

ـ أبو يوسف ، كتاب الخراج ، القاهرة ، ١٣٥٢ ه‍.

ـ البحتري ، كتاب الحماسة ، القاهرة ، ١٩٢٩.

ـ بحشل الواسطي ، تاريخ واسط ، بغداد ، ١٩٦٧.

ـ البخاري ، التاريخ الكبير ، حيدرآباد ، ١٣٦١ ه‍.

ـ البغدادي (عبد القادر) ، خزانة الأدب ، بولاق ، ١٢٢٩ ه‍.

ـ البكري ، معجم ما استعجم ، القاهرة ، ١٩٤٥.

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٣ ، تحقيق محمودي ، بيروت ، ١٩٧٧.

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٣ ، تحقيق عبد العزيز الدوري ، بيروت ، [بدون تاريخ].

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٤ ، تحقيق احسان عباس ، بيروت ، ١٩٧٩.

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٤ ، تحقيق شلوسينغر ، ١٩٣٨.

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٥ ، تحقيق غويتين ، القدس ، ١٩٣٦.

ـ البلاذري ، أنساب الأشراف ، مخطوطة المكتبة الوطنية / باريس ومخطوطة مصوّرة عن نسخة مكتبة السليمانية ومودعة في جامعة باريس الثالثة.

ـ البلاذري ، فتوح البلدان ، القاهرة ، ١٩٣٢.

ـ الجاحظ ، البيان والتبيين ، القاهرة ، ١٩٢٦.

ـ الجاحظ ، رسائل ، القاهرة ، ١٩٦٤.

ـ الجاحظ ، كتاب البلدان ، تحقيق صالح أحمد العلي ، بغداد ، ١٩٧٠.

ـ الحمداني ، كتاب الإكليل ، ج ١٠ ، القاهرة ، ١٣٦٨ ه‍.

ـ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، القاهرة ، ١٩٣١.

ـ خليفة بن خياط ، التاريخ ، بغداد ، ١٩٦٧.

ـ الدينوري ، الأخبار الطوال ، القاهرة ، ١٩٦٠.

٤٠٠