نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

هذا العهد لا محالة ، حين تراجع العرب مؤقتا ، فمنح العهد من جديد لبعض المدن. إن فتح العراق وقع عنوة على حساب سيد قديم ـ الملك الساساني ومن والاه ـ لكن أكثر الأشخاص العائشين في العراق كانوا غير إيرانيين ، كانوا أنباطا كما سموا في اللغة العربية وكانوا من الساميين الآراميين. وقد أرغموا منذ ألف سنة على البقاء في وضع الفلاحين يدفعون الطسق أو الخراج والجزية : كانوا من المزارعين والعمال والفلاحين ، فشكلوا عامّة الأرياف الضخمة التي قدر عددها ب ٥٥٠٠٠٠ شخص ، حسب تقدير عثمان بن حنيف الذي أحصاهم وختم عليهم كما روي (١). وبذلك كان في العراق صنفان من الأراضي : أراض كانت على ملك التاج وكبار الملاك الإيرانيين الذين حاربوا العرب ، وأراض استقر فيها أكثر الفلاحين في البلاد بإشراف الدهاقين. وقد استولى الجيش العربي على الصنفين ، لأن عددا كبيرا من الفلاحين فروا أمام تقدم هذا الجيش. وحسب السنن العربية للحرب فالأرض والرجال (٢) تعتبر غنيمة يقتسمها المقاتلة. وورد ذلك أيضا في تعاليم القرآن الذي ينص على أن كل ما أخذ عنوة يعتبر غنيمة تسلم أربعة أخماسها إلى المقاتلة والخمس الباقي يسلم إلى الله ورسوله أي إلى الخليفة (٣). ويحدد القرآن الفيء كهبة من الله لم يكن من اللازم أن يحصل قتال من أجله ولذا فهو يعود كاملا إلى الله ورسوله (٤). ومن المعلوم أن النبي استولى على أموال بني نضير لمساعدة المهاجرين المعوزين إذ اعتبرها فيئا (٥). فحلّ التقسيم كان يبدو حتميا إذن في العراق لكن عمر اختار عدم التقسيم. فثار نقاش كبير في المدينة حول هذا الموضوع : تمسك عبد الرحمن بن عوف وبلال خاصة تمسكا شديدا بمبدأ التقسيم ، وعارضه عمر ، وكان علي أول المؤيدين له ، وكذلك طلحة ، وعثمان ، وعبد الله بن عمر ، ومعاذ بن جبل (٦). ولجأ الخليفة إلى تأويل اجتهد فيه شخصيا لإحدى آيات سورة الحشر تعلقت بالفيء فتعرضت لأوضاع المهاجرين والأنصار ، وجاء فيها بعد ذكر هؤلاء ما يلي : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فاعتبر عمر أن الآية تقصد الأجيال القادمة (٧).

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٠ ؛ يبدو أن سعدا لم يجد سوى ٠٠٠ ، ١٣٠ وراء دجلة بعد جلولاء : الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٠.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٠. روي أن نصيب كل مقاتل كان ثلاثة رجال.

(٣) لا يميز القرآن بين الأموال المنقولة والعقارية ، سورة الأنفال ، الآية ٤١ ، بل عمر هو الذي ميز بينها.

(٤) سورة الحشر ، الآية ٦ إلى ١٠.

(٥) سيرة ابن هشام ، ط ١٢٧٦ ه‍ ، ص ٦٥٢ وما بعدها. لكن كلمة فيء لها أيضا معنى أعم يدل على الغنيمة.

(٦) دار النقاش أساسا بخصوص الشام ، لكن أيضا في شأن العراق : أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٢٦ ؛ أبو عبيد بن سلام ، كتاب الأموال ، ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٧) لكن مثل هذا التأويل الذي استهدف اقحام المهاجرين والأنصار والقادمين الجدد بفيء بن نضير ، تأويل غير صحيح بداهة لأن الأنصار وغيرهم أقصوا عنه : ذكرهم القرآن محرضا إياهم على إخراج ما في قلوبهم من

٦١

من المهم أن نلاحظ ، انطلاقا من فكرة الاستمرارية الزمنية للأجيال المسلمة ، أن عمر اعتبر الثروة العقارية في العراق فيئا ، حسب ما ذكر الفقهاء. ومضمون ذلك ليس أن الدولة تتصرف بها حسب مشيئتها ، بمعنى أن تنزعها من المقاتلة ، بل معناه أن على الدولة أن تقوم بدور الوساطة ، وتبتكر حلا وسطا يجعل من الفيء ملكا مشاعا للمجتمع الإسلامي ، فيشمل بداية وقبل كل شيء كل الذين قاتلوا من أجله. وبهذا المعنى يقع الفيء في الوسط ، بين الغنيمة المكوّنة من الأموال المنقولة والقابلة للتقسيم ، والخاضعة لدفع الخمس إلى بيت المال (١) وبين التصور القرآني للفيء الذي يوكله تماما إلى مشيئة الرسول ، فصار الفيء نوعا من الوقف تتصرف به الدولة لمصلحة الجميع ، الحاضرين منهم والغائبين (٢). ووافق أفراد الجيش على ذلك بعد أن استشيروا على تصور الأمور هذا. وأفضل من ذلك : فيما يخص الأراضي الملحقة بالتاج الساساني والمحاربين الإيرانيين والمعروفة بالصوافي ، لكن أيضا بالفيء أكثر تحديدا ، فقد خوّل لهم تقاسمها ، لكنهم فضلوا عدم التقسيم. وقد ذكر سيف أنهم فهموا أن تفرقهم في السواد قد يضرّ بالتأكيد بوظيفتهم الحربية كما يضر بعزمهم على البقاء معا (٣).

لنتمعن في الأمور عن كثب. عاد الفلاحون سكان المنطقة الواقعة بين الفرات ودجلة وكذلك فلاحو ما وراء دجلة ، إلى أراضيهم بعد تبدد الرعب ولا سيما أنهم شجعوا على العودة. فنجوا بداية من العبودية حيث أن عودتهم قامت مقام العهد وبقوا على حالهم في استغلال الأرض (٤). وكل الذين لجأوا إلى الفرس ولم يعودوا عن طيب خاطر ، استثنوا من

__________________

ضغينة بسبب استثنائهم بالذات من الفيء. يلاحظ بلاشير : Blache ? re ,Coran.III ,p.٩٧٩ ، أن الآية العاشرة لا ارتباط لها بالآية السابقة من الوجهة النحوية. وعندي أن الأمر ربما تعلق بسوء تأويل للقرآن أقدم عليه أبو يوسف ، ونسب إلى عمر لا غير. ويمكن تفسير ذلك بكون مدرسة الرأي العراقية لم تكن على علم كاف بالظروف التاريخية التي وقع فيها نزول القرآن. هناك فرق كبير ملحوظ بين الشرّاح ومتخصصي السيرة ، من ابن اسحاق إلى الطبري.

(١) كان المسلمون الأوائل مشدودين إلى نموذج خيبر ، الذي أكدته الآية ٤١ من سورة الأنفال حيث الغنيمة التي تشمل الأموال المنقولة والعقارية تقسم قسمين يأخذ منها المقاتلة أربعة أخماس ويسلم الخمس المتبقي إلى الرسول لتسديد الصدقات. عمل عمر بهذه القاعدة بالنظر للغنيمة المنقولة فحسب والقابلة للتقسيم والتخميس. ولم يطبق على الأرض مبدأ اقتطاع الخمس ، لأنه لم يتم تقسيمها. فينبغي لذلك التفكير في مصدر أعطيات أهل المدينة المتأتية من المداخيل الاجمالية لا من الخمس. وقد وجب على الفقهاء الذين اضطربوا في الأمر فعقلنوه بعديا ، أن يقبلوا بوجود خطين وسنتين ، سنة الرسول وسنة عمر : ابن سلام ، كتاب الأموال ، ص ٦٠. انظر أيضا البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٥.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٤ ـ ٦١٥ ، وص ٥٨٤ ـ ٥٨٥.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣١ ؛ كان الجيش هو الذي بادر بالأمر.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٠ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ؛ أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٣٥

٦٢

إجراء التهدئة والادماج ، فجرى اللحاق بهم أو ألقي القبض عليهم ، وحتى في هذه الصورة فقد خيّر عمر المقاتلين بين أن ينتزعوا منهم أراضيهم أو أن يسترقوهم أو يعتقوهم ويعيدوا ادماجهم في النسق ، ومن المحتمل أن الحل الأخير هو الذي تم لأكثرهم. أما الدهاقين الذين لا ينبغي أن يخلط بينهم وبين أشراف الفرس من المقاتلين ، فقد اعتنق كثير منهم الإسلام (١). ومهما كان الأمر ، فإنهم سيتحملون دورا كبيرا في التأطير ونقل الأوامر والوساطة الجبائية بين جماهير الفلاحين والسلطة العربية. لا فائدة في هذا المقام من الدخول في تفاصيل الجباية المفروضة على الأرض ، والتي كانت في بداية الأمر موحدة (درهم وقفيز لكل وحدة مساحة عرفت بالجريب) (٢) ، ثم اتجهت أكثر فأكثر إلى التنوّع ارتباطا بمحصولات الأرض وبالقرب من مراكز التسويق ، منذ خلافة عمر ، مع استمرار الأمر زمن علي ، وأخيرا في خلافة معاوية الذي استكمل العمل التنظيمي الذي بدأه عمر (٣). لكن ينبغي الاحتفاظ بعنصرين ، أولهما أن المساحة الخاضعة للخراج كانت تساوي ٣٦ مليون جريب (٤) وثانيهما أن مساحة أراضي الصوافي لم تتجاوز ٧ ملايين جريب (٥). وقد وفق الضبط الأكبر للجهاز الجبائي في التحصيل على دخل كان أقصاه ١٠٠ مليون من الدراهم من الفئة الأولى أي من أراضي الخراج. وخصص أكثر هذا المقدار لتسديد أعطيات المقاتلين المقيمين (يبدو أنهم لم يقبضوا سوى عطاء أو عطاءين في المدائن ، أي قبل الانتقال إلى

__________________

٣٦ ؛ ابن سلام ، كتاب الأموال ، ص ٥٧. جعل عمر من أهالي السواد ذميين ، لا عبيدا كما كان يتوقع أن تفرضه قوانين الحرب فأدى ذلك بالفقهاء إلى التذكير باستمرار بهذا القرار. والتساؤل نفسه موجود بخصوص مبدأ العهد : هل حصلوا عليه أم لم يحصلوا عليه؟ منعه عنهم يحيى بن آدم ، ولم يفعل ذلك الشعبي الذي أوضح أن العهد ضمني لأنهم قبلوا بدفع الخراج : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٦. لقد بقي الذين درسوا هذه المسائل في القرن الثاني رهن مقولات جامدة ، فعاقهم ذلك عن إقحام التدابير التي اتخذها عمر ضمنها. الواقع أن إضفاء الطابع الاسلامي على المفاهيم ساهم مساهمة خفية في إعادة تصورات عربية مبكرة إلى النشاط : ومن الغريب أن يبقى المستشرقون أيضا رهن هذه الاشكالية اللاواقعية.

(١) راجع بخصوص الدهاقين عامة المسعودي ، مروج الذهب ج ٢ ، ص ٢٤١ ؛ وChristensen; L\'Iran sous les Sassanides, p. ٧٠١ ؛ وDennett ,op.cit.,p.٢٣ ؛ وراجع حول اعتناقهم الاسلام ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٥.

(٢) الجريب قياس مساحة يطابق انتاج أربعة أقفزة ويساوي ١٥٩٢ مترا مربعا.

(٣) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٨ ـ ٢٧١ ؛ أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٣٦ ـ ٣٨ ؛ Dennett ,Con ـ : version ,pp.٤٢ ـ ٥٢. يرى المؤلف أن فرض الضرائب تدقّق بعد سنة ٢٢ ه‍. أي في أواخر خلافة عمر ، بمساعدة المغيرة بن شعبة ، انظر أيضا : Hill ,Termination of Hostelities ,p.٣١١.

(٤) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٨.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٧٢ ، كانت مجرد إشارة إلى أن أغلالها ٧ ملايين درهم. وبما أن أراضي الخراج في المرحلة الأولى ، وبموجب نمط الجباية الموحدة ، كانت تدر ٣٦ مليونا من الدراهم فهذا استنباط قريب من المعقول.

٦٣

الكوفة (١) ، ولا شك أن المبلغ المذكور استخدم أيضا لسد نفقات الإدارة والأشغال العامة. وأخيرا تغذى بيت المال المركزي بمداخيل العراق أساسا ، وأعاد توزيع جانب من المال على المستحقين من النخبة الإسلامية المدنية والمسجلين بالديوان ، بداية من سنة ٢٠ ه‍. وبذلك ندرك الدلالات المتعددة التي تضمنها اختيار عمر. لم يتعلق الأمر فقط بحماية زراعة مزدهرة من خلال المحافظة على هياكلها البشرية والجبائية ، ولا بتجنب غليان الأطماع وتراتب الناس حسب ثرواتهم ، بصورة لا تتيح المراقبة ، بل أضيفت إلى ذلك فكرة مفادها أن الخيار العسكري العربي أمر دائم يوجب تحرير العرب من الهمّ الاقتصادي ، والاستعاضة عن الاتجاهات الإقليمية التي يحتمل أن تنشأ عن الاستقرار الزراعي ، بمبدأ وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها أيضا. وتجسم الدولة هذا التضامن وتقوم مقام الوصي والمتصرف والمنظم والوسيط والموزع. فأسست هكذا تراتبيتها التوزيعية التي احتلت فيها النخبة الإسلامية بالمدينة مقام القمّة. وبذلك فإن فيء العراق لا يوزع على الرجال الذي افتتحوه عنوة فحسب ، فقد أصبح المهاجرون والأنصار يستحقونه (٢) ، وكل الذين وفدوا على العراق ، من العرب البدو أو الروادف (٣) ، وطبعا الأجيال القادمة. وبذلك تكون الطريقة التي سنها عمر قد تميزت بتجاوز حدث الفتح البحت ، والتوسيع تدريجيا لحلبة المساهمة ودعم سلطة الدولة التنظيمية. على أن الأمر يتعلق بتحويل فعلي لمكاسب العراقيين بصورة من الصور ، يعني ذلك تبعية تتزايد باستمرار بطول المدة ، تجاه السلطة المركزية.

وفيما يخص الفئة الثانية ، أي أراضي الصوافي ، كان لتدخل الدولة تأثير أقل شدة على الأقل في بداية الأمر. فقد شملها المقاتلة عن طيب خاطر بمبدأ عدم التقسيم (٤) لكن ما كان مفروغا منه هو ملكيتهم لهذه الأراضي بصورة جماعية لا يشاركهم فيها أحد. فانطبقت كلمة فيء سريعا جدا على الصوافي بصفة خاصة عند سيف بن عمر الذي ميز فضلا عن ذلك بين أهل العطاء وأهل الفيء (٥). وبما إن هذه الأراضي كانت بالماضي ملكا للمقاتلين

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ : روى سيف أن المال وزع في محرم ١٧ ه‍. بالمدائن وتمّ توزيع أولي في بهرسير سنة ١٦ ه‍.

(٢) استثني من ذلك أهل مكة ، والبدو أيضا ، الذين لم يشاركوا في الفتوحات : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٤٤٤.

(٣) وعلى هذا توجد صلة مؤكدة بين الجهاد والعطاء. راجع الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٤ ، بخصوص أعطيات الروادف ، التي لم توزع قبل سنة ٢٠ / ٦٤٠. المهم الملاحظة أن القرّاء شكلوا فئة قائمة بذاتها ، وقد طلب سعد ، بدون نجاح ، أن يجري عليهم العطاء بصفتهم تلك بالتساوي مع أهل القادسية وأهل الشام (٢٠٠٠ درهم) : فتوح البلدان ، ص ٤٤٢.

(٤) تلافيا للتشتت : الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٢.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٥ ـ ٦١٦. وهكذا ازدوج معنى كلمة فيء ، فهي تعني :

٦٤

الفرس ، فقد كان عسيرا حرمان المحاربين العرب الذين استولوا على السواد من التمتع بها. فلم يرد في هذا الباب ذكر الأجيال القادمة ولا الروادف أو الإنضمام إلى نسق الديوان على الأرجح ، بل كان الحضور في ساحة الوغى هو الذي يؤخذ بعين الاعتبار لا غير. فكل محارب شارك في القتال فيما بين مرحلة الأيام والاستيلاء على المدائن ، له استحقاق في الفيء ـ الصوافي بسواد الفرات ، وكان المقصود بالذات هو الجيش الذي حضر برمّته وقعة القادسية. لكن المقاتلين في جلولاء فقط ، أي ١٢٠٠٠ رجل بقيادة هاشم بن عتبة ، استحقوا الفيء دون الآخرين على ما يبدو ، في ما وراء دجلة. يقول سيف (١) : «وكان أحظى بفيء الأرض أهل جلولاء ، استأثروا بفيء ما وراء النهروان وشاركوا الناس فيما قبل ذلك».

وهكذا تجعل الدائرة المضاعفة للامتيازات التضامن يربط بداية بين أهل القادسية ثم بين رجال جلولاء بالخصوص ، الذين تحصلوا بذلك على الأكثر ، دون التوقف عن المشاركة في الأقل. بقي أن نتعرف عليهم. لا شك أن بجيلة بقيادة جرير (٢) ، وطليعة زهرة أيضا ، ورجال القعقاع ، وفدوا لتقديم المدد في القادسية على رأس أهل العراق أصحاب خالد سابقا ، يعني المشاركين في الأيام لسنة ١٢. ومن المحتمل أنهم كانوا قليلي العدد نسبيا عند العودة من الشام إلى العراق (٣). لكن لا ننس أيضا بروز عناصر من الردة في معركة القادسية حيث رويت أسماء قادتهم الرئيسيين كطليحة وعمرو بن معديكرب خاصة. لا بد

__________________

أ) أولا كل الأموال المكتسبة عن طريق الحق الطبيعي للفتح ، من أراضي الخراج أو الصوافي ، مع اشتراك بقية المسلمين في قسط منها بفضل تدخل الدولة. وليس أهل العطاء جميعا أهل الفيء ، لكن العكس صحيح. ويعني ذلك تأكيد لا غير لحق معنوي.

ب) ينطبق الفيء في معناه الضيق أيضا على الصوافي حيث يتمّ الحفاظ على حقوق المقاتلة بصورة أوضح.

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣١. معنى «فيء» الواضح في هذا الصدد هو أراضي الصوافي.

(٢) كان جرير في جلولاء وخانقين وحلوان ، حسب بعض الأخبار : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ؛. Caetani, Chronografia, fasc. ١, p. ٧١٢, Annali, IV, pp. ٣٤١ ـ ٥٤١. وصمتت رواية سيف كما أوردها الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤ ـ ٢٩ عن جرير ، في حين أبرزت دور القعقاع وهاشم اللذين استعانا بجنود الحمراء الإيرانيين الملتحقين بالصفوف العربية.

(٣) ارجع إلى ما سبق وانظر شعبان (Shaban ,op.cit.,p.٥٤) ، حيث طابق بين أهل الأيام وأهل العراق ، أي رجال خالد لا غير (الأنصار والمهاجرون وبعض العشائر الصغرى الأخرى) مميزا إياهم عن بكر الذين حضروا هم أيضا الأيام ، ولعلهم تسموا بأهل البلاء. ويحتمل أن جيش خالد ، الذي عاد جزء منه بعد مدة قصيرة ، قد تلقب اعتباطا بهذا اللقب وهو ما يفسر أن تأثير بكر قد تقهقر مباشرة. لكن مفهوم الأيام بالنسبة للديوان مثلا ومن الوجهة الرسمية كان يشمل كل الذين حضروا قبل حرب القادسية ؛ هذا ولا ريب أن رفقة خالد الذين كانوا يمثلون الجيش الاسلامي النظامي في بدايته ، قاموا بدور ممتاز كبير بعد القادسية ، واتخذوا مبادرات وأكدوا روحا عصبية لديهم ، كما دل على ذلك حضور القعقاع في مقدمة الساحة.

٦٥

أن هؤلاء القادة شاركوا أيضا في فيء جلولاء بصفتهم شركاء في الملكية. على أن التصرف أنيط بعهدة الأمراء ، أي الماسكين بالقيادة كهاشم ، وخالد بن عرفطة ، والقعقاع ، وزهرة بن الحوية ، وجرير بن عبد الله البجلي ، فاستثني قادة الردة من التمتع فعلا بهذه الأراضي (١). الحقيقة أن القادة الرئيسيين وقع اختيارهم من أهل الأيام ، لكن لم يكونوا منهم جميعا دون شك ، وبذلك يكون التعريف الذي اقترحه شعبان جريئا نوعا ما ، ومفاده أن أهل الفيء هم أهل الأيام (٢). إن العهد إلى كوادر الجيش بالتصرف في أراضي الصوافي يعني أن امتيازا مشطا سلم إلى هذه النخبة الإسلامية التي أراد لها عمر أن تتميز من العامة فأفردها بوضع متميز من الرؤساء التقليديين ، بداية من وقعة القادسية. وكما سنرى لاحقا ، فقد طرح هذا الإقصاء قضايا خطيرة (٣). لكننا على جهل بالأهمية الحقيقية التي كان عليها التفويض الذي تمتع به الأمراء والكيفية التي استثمروا الأرض بها ، وكيف وزعوا على عامة المستحقين ما يستحقونه (٤). وأقصى ما نعلم أن الكثيرين منهم استقروا في قلب السواد (٥) ، ونستشعر بأنهم ربما قاموا في أراضي الصوافي بدور شبيه بدور الدهاقين في أراضي الخراج.

تلك كانت القواعد التي أجملناها والمتعلقة بالتنظيم العربي الذي ساد العراق ، وقد سبق أن وضعت خلال مرحلة المدائن. لكن من الواضح تماما أن الخيارات إذا كانت واضحة واستخدمت كمخطط للمستقبل ، فلا بد أن الترتيب الفعلي ظل يكتنفه الغموض. والأرجح أن نسب العطاء لم تتحدد إلا عند إقامة الديوان ؛ كما أن إنشاء مؤسسات الإحصاء ، وتوزيع الأعطيات ، والتجنيد ، لم يتمّ إلا بعد التحوّل إلى الكوفة.

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٢. جاء في جملة لسيف ما يؤكد أنه كان موجودا ضمن حملة جلولاء ، التي كانت عملية مربحة قبل كل شيء ، «وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ وممن لم يرتد» : المرجع نفسه ، ص ٢٥. إذن وقعت هنا تنقية واختيار لفوائد محتملة. وبخصوص التصرف في هذه الأراضي ، راجع شعبان :) Shaban, Islamic History, p. ٣٥ (، الذي جعل منها قضية قرّاء واعتبرهم خطأ أهل الأيام ، في حين أن الأمر يعني فئة خاصة تجاوزت الترتيب الزمني للمعارك ، ذاكرا وضعية القعقاع ـ الذي كان أميرا ـ لا قارئا ـ فكان مرجعه الوحيد.

(٢) Shaban ,Islamic History ,p.٣٥

(٣) وجدت الثورة على عثمان جذورا لها في هذا الوضع ، لكن المعوزين طالبوا قبل ذلك بالتقسيم بصفتهم مستحقين ، لكن الأغلبية لم تكن لترضى به : الطبري ج ٤ ، ص ٣١ حيث يقول : «فكان بعض من يرق يسأل الولاة قسم ذلك فيمنعهم من ذلك الجمهور ، أبوا ذلك ، فانتهوا إلى رأيهم ولم يجيبوا». انظر أيضا : ج ٣ ، ص ٥٨٦.

(٤) يمكن أن يكون تقسيم المداخيل متساويا بين الشركاء في الملكية في الكوفة كما في البصرة (الطبري ، ج ٤ ، ص ٧٥) بعد طرح الخمس لفائدة بيت المال.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٧٥.

٦٦

ـ ٤ ـ

انشاء الكوفة

(أواخر سنة ١٧ ه‍ / ٦٣٨)

ما ينبغي تأكيده جيدا ، أن عرب العراق رغم أنهم اندمجوا في نسق أكد التفوق الأبوي للدولة ، فإنهم تمتعوا فعلا بأعظم جزء من مداخيل الولاية بفضل مؤسسة العطاء. ذلك أن بيت المال بالمدينة تغذّى أيضا بموارد أخرى (١). وما يستخلص في التحليل الأخير أن إعادة توزيع الأموال لصالح الارستقراطية الإسلامية لم يشمل سوى قليل من الناس. ولا شك في قلة احتياجات الدولة وفي بساطتها في تلك الفترة ، مما جعل ولاية العراق تتمتع باستقلالية ذاتية مالية لحد كبير. وكانت هذه الاستقلالية شرطا أوليا لتكوين مصر الكوفة. لعل كلمة مصر من أصل يمني ، ولم تكن شائعة للتعبير عن إنشاء الكوفة (خلافا لكلمة تخطيط التي تعني الاستيلاء على الأرض بعد تقسيمها) (٢). ومن الممكن أن الكلمة شهدت تطورا وأنّها رسخت في الاستعمال ارتباطا بما أوحت به من واقع. كانت توحي في الأصل بفكرة الحدود والمعسكر الحدودي المتاخم لعالمين حيث يجري توزيع الفيء «دون الرجوع إلى الخليفة» (٣).

لا شيء في المصادر المتوافرة لدينا يدل على الأسباب المحتملة التي يمكننا عرضها بخصوص انتقال جيش المدائن إلى الكوفة العتيدة ، كضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية والإصرار عليها ، والصلات المتيسرة بالوطن الأم ، والانفصال عن السكان الخاضعين ، والاستعداد العسكري. حقا أنّ إحدى الروايتين اللتين ذكرهما البلاذري ، وهي رواية مدنية (للواقدي) ، أشارت جيدا إلى السبب الأصلي المتمثل في الأمر الذي أصدره عمر لسعد بأن

__________________

(١).E.I / ٢ sub verbo. وكانت موارد ضخمة.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣٠٩ ـ ٣١٠ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠ وما بعدها ؛ استعمل ياقوت كلمة (تمصير) : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٣) ابن منظور ، لسان العرب ، بيروت ، ١٩٥٦ ، ج ٥ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

٦٧

يجد «دار هجرة» لا يفصلها البحر (بمعنى النهر) عن المدينة (١) أي أن يبقى الإتصال المكاني ببلاد العرب قائما. لكن الإشارة إلى الأسباب المناخية كانت هي الواردة في كل الروايات الأخرى. ولنأخذ على ذلك مثل الطبري : تستند كل الروايات الخمس المذكورة بخصوص الإنشاء ، ومن بينها أربع روايات رواها سيف وخبر واحد رواه أبو عوانة ، إلى مشكلة المناخ (٢). ولم يزد البلاذري عن كونه حوّل المكان الذي انطلق منه المشكل المناخي ، فلم يحدده في المدائن بل في المواقع المختارة مؤقتا بالأنبار وسوق حكمة (٣).

لا بد أن المشكل كان واقعا. إذ بعد أربعة عشر شهرا من الإقامة في المدائن تخللتها عمليات جلولاء وحلوان وسواد دجلة ، ظهرت علامات التعب على العرب فلم يتكيفوا مع المناخ واعتبروه مضرا بصحتهم ، ومتعفنا ، ووخيما (٤). وكانت الحشرات تنهال على الجمال وتوجعها. فصار واضحا أن موقع المدائن المائي لم يناسبهم. كان موقعا غطته القنوات ، فكان نديّا على الرّغم مما امتازت به مثل هذه المدينة المشيدة المنظمة من الميزات. وقد صار مؤكدا أن ضرورة التكيف مع المحيط الطبيعي لا مناص منها في كل المواقع التي استقر فيها العرب. فأدى ذلك إلى اختيار الفسطاط بدل الإسكندرية ، والقيروان بدل قرطاجة. تلك كانت الضرورة الطبيعية التي أملت على العرب اختيار موضع الكوفة على مشارف الصحراء دون شك ، فأثر ذلك الاختيار بدوره على الخيارات القادمة ، وسن سنّة. وعندي أنّ اختيار الموضع أملته أيضا خيارات سياسية واستراتيجية وثقافية.

لقد كان لتعليمات عمر دور جوهري في هذا الاختيار ، وهو الذي ينسب إليه هذا القول : «إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل (٥). فهل كان قوله هذا تعبيرا عن تصور رعوي للوجود العربي في العراق وكامتداد لوجودهم في بلاد العرب ، وكيف وقع أن المقاتلين العرب في المدائن وجلولاء قد اصطحبوا ابلهم؟ تثير هذه العبارة مشكلا متشعبا هو : استقرار العرب ، وتراكب الأنماط الحياتية السابق منها واللاحق ، وآثار الحياة الرعوية أو الإرادة العنيدة في المحافظة على نمط العرب الحضاري ، رغم أنهم كانوا محمولين على تقمص دور آخر هو دور المجموعة الامبراطورية المقاتلة المقامة على توزيع المال المقتطع من الأهالي الأصليين. ستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع.

__________________

(١) فتوح البلدان ، البلاذري ، ص ٢٧٤.

(٢) التاريخ ، ج ٤ ، ص ٤٠ وما بعدها.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ و ٢٧٥ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤١.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٤١ ، نقلا عن خبر لأبي عوانة ، وص ٤٢ عن رواية لسيف.

٦٨

والملاحظ على كلّ أن الإبل كانت حاضرة ، سواء اعتبرنا هذا الحضور بقية من بقايا الماضي أم لا. ولا يستبعد أنه أثر في قرار الانتقال إلى منطقة تشرف على البادية لأسباب نفسية أكثر منها اقتصادية ، كان التكيف مع الموقع أكثرها بداهة ، ذلك أن العرب لا يتكيفون مع مكان إلا إذا تكيفت معه مواشيهم. فكان موقعا بين البر (١) ـ عالم السباسب والصحراء ـ والريف ـ عالم البادية المزروعة ، المنظمة ، غير العربية ، الخاضعة «للبحر» ، بمعنى أن له وضعية الحدود فيسمح بمراقبة السواد دون أن ينفصل عن بلاد العرب. وتذكر المصادر أن استكشاف الأراضي شمل الفرات على امتداده ، وقد قام بالعملية سلمان وحذيفة بن اليمان ، سلمان من جهته وحذيفة (٢) من جهته ، ذلك أن مواضع كثيرة قد تستجيب للشروط المقررة مسبقا ، وذكرت المصادر مرارا إسم الأنبار وهي الحاضرة التي أنشأها سابور (٣). وقد مر بها سلمان دون أن يتوقف ، وهذا ما ذكره سيف. وأقام سعد فيها مدة ، كما قال الواقدي ، وفيها تململ الجيش من كثرة الذباب (٤). الواقع أن الأنبار كانت تتمتع بموقع استراتيجي طيب : كان مدينة حدودية ، فضلا عن وقوعها بمدخل أول طريق مائية بين الفرات ودجلة. وقد أعدّ فيها السفاح بعد ذلك مقر إقامته. إلا أنها كانت حاضرة تقع فيما وراء الفرات ، بعيدا إلى الشمال في ظن المخططين ، وكانت مدينة قائمة الذات بمعنى أنها كانت مجمدة الهياكل ، في حين أن همة العرب تعلقت بالجديد ، أي أن رغبتهم في أن يشكلوا مجالا وفق مزاجهم ، لا أن يسكنوا إطارا مبنيا طبق مقاييس حضارية مغايرة. ويحتمل أنهم لم يريدوا حتى إنشاء مدينة ما خلال المرحلة التي وقفوا عندها. بل إن همّهم كان إقامة معسكر مفتوح ، كما جاء في توصية منسوبة إلى عمر (٥). حتى أنهم مالوا إلى اختيار أرض عراء بدل اختيار الأنبار ، أو سوق حكمة وحتى الحيرة. كانت الحيرة شديدة التوغل في البادية ولم يكن قربها من الفرات والسواد كافيا (٦) ، لكنها كانت تقع بالخصوص تحت وطأة الماضي الذي أرادت العروبة

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٤٢.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤١.

(٣) Le Strange, The Lands of the Eastern Caliphate, p. ٦٦. ؛ ياقوت ، ج ١ ، ص ٢٥٧.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤.

(٥) «المعسكر أجدى لحربكم» : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٣.

(٦) لم يتأكد لدينا هل أن الحيرة كانت تقع إلى الجنوب الغربي من الكوفة العتيدة ، على طريق القادسية ، أو إلى الغرب تماما ، من جهة النجف الحالي ، وقد تضاربت المصادر في هذا الموضوع ، وسادها الغموض. حدد اليعقوبي ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٩ ، موقعها على طريق النجف ، وحدده ياقوت «على بعد ثلاثة فراسخ من الكوفة في مكان يقال له النجف» : ج ٢ ، ص ٣٢٨. راجع أيضا الجنابي ، ص ١٩٧ ، وما بعدها ، وصالح العلي ، «منطقة الحيرة» في مجلة كلية الآداب ، بغداد عدد ٢٥ ، ١٩٦٢ ، ص ١٧ ـ ٤٤. انظر كذلك لاسنر! Lassner, The Shaping of Abbasid Rule, Princeton, pp. ٣٤١ ـ ١٥١. ، الذي يميل إلى الاعتقاد بأن

٦٩

الجديدة الانفصال عنه. ومع هذا فلا بد أن قربها قد لعب دورا في الاستقرار بموقع الكوفة ، وقد ورد خبر فريد لكنه مثير للاهتمام مذكرا بتدخل لبني بقيلة الذين أسدوا النصح لسعد حتى يختار موضع الكوفة (١).

تتحدث المصادر عن ذلك وكأنه اكتشاف. لكن سبق للعرب معرفة هذه المنطقة فضلا عن أنها وافقت التصور الذي أراده عمر وفرضه. كانت منطقة مأنوسة لديهم نظرا لما شنوه من غارات على الحيرة وضواحيها في البداية ثم لأن معركة البويب دارت فيها ، وقريبا منها دارت وقعة القادسية. لقد طرق العرب باب العراق من هذا المكان ، ومن هنا كان الممر الذي يسّر تسربهم. وما يمكن استخلاصه أن أيسر خط للمرور بين بلاد العرب والعراق كان يمر من هذا المكان ، وكذلك الأمر بخصوص عبور الفرات الأوسط وبلاد بابل كافة. إن موقع الكوفة يمثّل نقطة اتصال كما نقطة التقاء بين عالمين وهو ينفتح على الأمداد العربية القادمة من الصحراء ، ويشرف على السواد مع كونه متأخرا عنه. تلك كانت وضعية الكوفة. وبما أن العرب فضّلوا تجميع الأمة ووقفوا ضد الانبثاث في السواد ، فقد كان منطقيا نسبيا تحديد هذا الموقع المهمش الحدودي الخارج عن المركز ، مع أنه كان موقع اتصال. وهم سيقومون بحركة معاكسة في اتجاه الشرق ، بغرض إنشاء واسط أولا ، ثم بغداد ، لكن بعد أن استوثقوا تماما من المجال العراقي ومما يليه من بلاد فارس.

لقد فعلت الظروف المناخية فعلها بخصوص انتقال الجيش ، فوجب على موقع الكوفة أن يكون صحيا. كانت الكوفة تقع في المكان الذي يدلع البر لسانه (٢) في الريف المروي ، في موضع متقدم من البرّ إذن ، على سطح يقع فوق شاطىء الفيضان للفرع الرئيسي للفرات في ذلك العصر ، على ارتفاع يناهز ٢٢ مترا من مستوى البحر (٣). ويرتفع الموضع فوق النجاف غربا ، الذي كان بمثابة الحوض المالح ، وقد كان أصله محل نظر عند الجغرافيين العرب (٤) ، وكذلك فوق البطائح جنوبا التي كانت تمتد حتى البصرة (٥) ، وهذه البطائح عبارة عن مساحة غارقة في الماء حيث ينبت القصب والحلفاء. وأرض الكوفة مزيج من الحصباء

__________________

الحيرة هي مجموعة قصور ومواضع مشتتة ممتدة أكثر مما هي مدينة مجمّعة.

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ ؛ ابن قتيبة ، عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ٢١٨ ؛ Massignon,» Explication du plan du Ku fa «, Opera Minora, III, p. ٧٣

(٣) الجنابي ، ص ٣٢.

(٤) المسعودي ، مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١١٩.

(٥) ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص ٩٤ ، الذي يجعل البطائح تبدأ من كسكر لا من جنوب الكوفة كما يرى ذلك لاسترانج.Le Strange

٧٠

والرمل الأحمر ، فأما مصدر الحصباء فهو الرسوبات النهرية وأما الرمل الأحمر فهو متأتّ من الغرب ، كما يدل اسمه على ذلك (سهلة) لأن مسجد السهلة الذي استكشفته التنقيبات كان يقع بالضبط إلى الشمال الغربي من المصر. وبقدر ما نقترب من النهر في المنطقة الغربية دائما ، تكون الأرض مشكّلة من غرينات طينية تحدّد الملطاط (١).

إن جودة موضع الكوفة ، وهواءها النقي ومواردها المائية الطيبة ، كل ذلك كالت له كتب الأدب المديح ، ولا سيما من خلال ذكرها للمجالس التي تواجه فيها الكوفيون والبصريون ، وقد اعترف البصريون على الدوام بعيوب مدينتهم (٢). وفوق كل ذلك ، إنّ ما يجعل هذا الموضع ذا قيمة استثنائية بالنسبة للسكن البشري ، كونه محاطا من كل جانب بمناظر جغرافية تختلف شديد الاختلاف : الصحراء والنهر والبطائح والبحيرة المالحة ، دون التأثر بمساوئها. وفي إمكان هذه الصلة الممتازة بين الصحراء والأرض الزراعية ، المستقرة ، المائية أن تنشيء نوعا من التكامل ينبغي التعمق والتمعن فيه ، لأن الأمر قد يتعلق أيضا بحل تلفيقي ، مستحيل ، أو يتعلق بالتردد وعدم الاختيار.

إن تربة الكوفة لم تكن معدة للزراعة بل للاستقرار البشري. فاستقر العرب فيها ، ولم يجدوا سوى ثلاثة أديرة فصلت بينها مساحات قصب ، هي دير حرقة ودير أم عمرو ، ودير سلسلة. كانت هذه الأديرة شاهدا على استقرار المسيحية العربية التي أشعت انطلاقا من الحيرة (٣). وعلى هذه المواضع الهادئة أقيم في أواخر ١٧ ه‍ / ٦٣٨ تجمّع هائل من القبائل العربية والعشائر وأنصاف القبائل ، أتى البعض منها من البعيد النائي والبعض الآخر من البعيد القريب ، فجعلوا منها مكانا ساميا للتاريخ المضطرب ورحما أساسيا للحضارة والثقافة الإسلامية قاطبة.

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٧٧. من رأي سيف أن اللسان هو ظهر الكوفة ، أي حدها الغربي المعلى وهو يمتد في جهة الفرات بالملطاط ، وفي جهة الطين بالنجاف. فنجد من الغرب إلى الشرق : النجاف ، واللسان ذاته ، والملطاط. وتابعه ماسينيون عن كثب ، واضعا الملطاط على حافة النهر :. Massignon, op. cit., p. ٧٣ ولكن عبارة سيف غامضة. أما البلاذري فقد حدد موقع الملطاط بين الكوفة والحيرة ، وجاراه صالح العلي في ذلك : مرجع مذكور ، ص ٢٥.

(٢) ابن الفقيه ، ص ١٦٤ ؛ ياقوت ، ج ٤ ، ص ٤٩٢.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤١ ؛ لم يذكر الشابشتي أي دير منها في الديارات ، ولا ياقوت ، لكنهما أشارا معا إلى وجود دير الحريق ، بالحيرة : الديارات ، ص ٢٣٠ ، ومعجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٥٠٥.

٧١
٧٢

الباب الثاني

المخطط المدني الاول

٧٣

ـ ٥ ـ

تشابك المشاكل

أشرنا حتى الآن إلى التقلبات التي طرأت على نشأة الكوفة وإلى الأسس التنظيمية التي ستعيش عليها. لكن ، ألا يتجاوز الفتح العربي للعراق مصير الكوفة ، إذا ما شرعنا في دراسة هذا المصر في خصوصيته وفي وجوده الهش كمدينة؟ لا شك أن المأثرة العسكرية التي دامت خمس سنوات والتي انطلق منها العرب فخرجوا من الحجاز ونجد واليمن إلى طيسفون ، أعطت أكلها فكانت الكوفة وكانت البصرة أيضا. وكان من المحتمل أن يؤول الأمر إلى خيار آخر ، مثلا إلى انبثاث في السواد ، ريفي الطابع. لكن لا مناص من الاعتقاد أن فكرة الهجرة هي التي هيمنت على فتح العراق ، بصورة أوضح مما كان عليه الأمر بالشام ، وأن الاستقرار بالكوفة كان الغاية والمحرك للعمل العسكري. كان العرب يهدفون إلى احتلال مكانة الفرس بصورة محسوسة ، أكثر مما كانوا يهدفون إلى تحطيم الامبراطورية الفارسية في العراق ، بوازع القوة (١). واجتمع في الكوفة أكثر المقاتلة ، فبدت وكأنها نتيجة تمخضت عن الفتح إلى حد بعيد ، ذلك أن التسلسل من الفتح إلى الكوفة أقرب إلى الإدراك الفوري مما عليه في البصرة. بقي أن نطرح المشكل الذي ألمحنا إليه سابقا ، والمتعلق باختيار النموذج المدني كنمط للاستقرار بالعراق ، أي في الكوفة كما في البصرة. كان اختيارا كبير النتائج لتحكمه في بنية الحضارة العربية الإسلامية المرتقبة وفي التوسعية العربية كما في الأسلوب المضطرب الذي عاشته الكوفة. ذلك أن مفهوم المصر ينطبق بداية على مركز ذي اتجاه عسكري حدودي (٢) ، لكنه يعني أيضا وبصورة لا تقل قيمة ، إقامة دائمة للسكن قابلة للتطور إلى مدنية (٣).

__________________

(١) راجع ما سبق ص ١٧ وما بعدها ، سمى العرب الفرس «الأسد» وسموا البيزنطيين «الأسيد». روى الطبري هذه الكلمة مشوهة ، ونجت من التشويه عند ابن الأثير ، الكامل ، ج ٢ ، ص ٤٥٢.

(٢) ابن منظور ، لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٧٥.

(٣) المعنى واضح عند البلاذري ، فتوح البلدان ، فهو يصف ما يطرأ من تحول من الحامية إلى المدينة حيث يصير لها

٧٤

ارتبطت الكوفة في نشأتها ونشوئها بالعمل العسكري ، متحملة إياه كهدف لها طيلة قرن. لم تكن حاضرة ـ امبراطورية ، بل كانت إحدى الحواضر الأساسية لامبراطورية أرضية شاسعة في حالة تكوّن ، وقد ساهم رجالها مساهمة كبيرة في خلقها والمحافظة عليها ، وتوسيعها. صارت الكوفة جزءا من الجهاز العربي لاحتلال ومراقبة المشرق كافة ـ أي العالم الساساني ـ موجهة قدرتها العسكرية إلى التراب الإيراني الذي كان أفقا للفتح انفتح إلى ما لا نهاية. ومع هذا ، كان الطابع المدني للسكنى ، والتعايش المنظم العائلي والعشائري والقبلي ، قائما منذ البداية. لم يكن الجيش في الكوفة مقيما على شكل حامية كما هو الشأن في مستعمرة خارجية ، كما في الماه أو الثغور تحديدا (١). بل استقر في وطنه الجديد دون إبداء نية في العودة. وبذا دلت كلمتا مصر ومصّر منذ البداية على الكيان المدني ، سواء على الصعيد البشري أم على الصعيد الهندسي المعماري ، حتى إننا نجد ابن خلدون يستعمل ذلك باستمرار في فترة متأخرة ، تسمية للظاهرة المدنية في نقاوتها المطلقة ، وفي أشد معارضتها للحياة البدوية (٢).

تخطئة بعض التصورات. قضايا حقيقية وقضايا خاطئة

المفارقة أن الكوفة وهي المصر المثالي ، كانت مصرا للبدو في أول الأمر. إذ لا يمكن أن تنزع عن قبائل مثل أسد وتميم وكندة ، التي استقرت بكثرة في الكوفة ، السمة المزدوجة للبداوة العربية ، أي التنظيم العشائري والقبلي الذي استبقي في الكوفة ، وماضي الترحل والظعون. لكن الأمر يرتبط ارتباطا دقيقا بماض معين ، مهما كان قريبا. أما عن الظاهرة القبلية ، فقد تأطّرت بقوة التنظيم الحكومي والعسكري والجبائي. ولم ترتبط بالترحل وما كان أحاط به من تيه ونهب. هنا في هذا الزمن والمكان ، بقيت القبائل مستقرة منضبطة

__________________

جامع : مثلا ص ٣٢٨ بخصوص الحديثة بالموصل. وتعني كلمة «مصر» معسكرا في الحميرية : راجع بحثنا :» Les Yamanites a ? Kufa au ١ er sie ? cle de l\'Hegire «, JESHO, XIX, ٢, P. ٧٧١. أما عند ابن خلدون ، فالمصر هو الحاضرة بالضبط : مقدمة ابن خلدون ، طبعة بيروت ١٩٦١ ، ص ٦٣٦ وغيرها حيث استخدم الكلمة دون تمييز مع كلمة مدينة. راجع أيضا : Wensinck ,E.I / ١ ، والصفحات التي كتبها صالح العلي في كتابه التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري ... ، ص ١٣ وما بعدها.

(١) قبل دخول العرب التراب الايراني ، يبدو أن ثغور الكوفة كانت الموصل ، وما ساباذان ، وحلوان ، وقرقيسياء : الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٧ ـ ٤٢ ؛ ثم الري وقزوين بعد ذلك : الطبري ، ج ٤ ، ص ١٤٩ وما بعدها. أما عن مسألة الماهين الاثنين ، التي سأعود إليها ، فليراجع الطبري ، ج ٤ ، ص ١٦١. انظر أيضا البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٢ ، ٣٠٥ ، ٣١٥ ـ ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) مقدمة ابن خلدون ، مرجع مذكور ، ص ٦٤٩ ـ ٦٥٠.

٧٥

متحضرة بصورة متزايدة ، مع المحافظة على صلات وجدانية ببلاد العرب ، على الرغم من استمرار نمط العيش السابق في التأثير على السلوكيات والذهنيات. والأهم من ذلك أن الاستقرار كان له من السرعة والنجاح ما جعل الترحل يظهر جليا وكأنه كان ضرورة بالنظر للماضي وواقعا حتميا ، أكثر مما كان وجودا محبوبا ، مع أنه كان محبوبا بصورة من الصور. أما عن الكوفة ، والبصرة أيضا ، فما من شيء أغرب ، بلا شك ، عن واقع الأمور من الفكرة الشائعة التي تقول بهجرة فوضوية وفدت منقضة على بلاد الرافدين (١). إن مقابلة أو معارضة ابن خلدون بين المصر والإنسان البدوي في منحى التنافر بينهما ، قد تكون وجيهة في فترات متأخرة ، في الكوفة بالذات وفي غيرها ، لكنها ليست كذلك قطعا في الفترة التي تكوّن خلالها هذا المصر وازدهر. هذا إشكال خاطىء ينبغي إحباطه. وتوجد إشكالات أخرى أكثر دقة ، منها إشكال الاستقرار مثلا. لقد اعتبره ماسينيون Massignon ) ، وريشارد بوليات Richard Bulliet ) أيضا ، تجربة حاسمة في الكوفة التي كانت لديهما نموذجا جديرا بأن يبدي الرأي فيه المخططون المعماريون المعاصرون ، وعرض كل منهما تفسيرا لهذا النجاح العظيم الذي بلغته عملية الاستقرار. وقد عزاها ماسينيون إلى الدور الدافع الذي لعبه اليمنيون المتحضرون من قديم (٤) ، وعزاها بوليات إلى فقدان الفاصل بين ظاهرة الترحل وظاهرة الاستقرار في ماضي الشرق قبل ظهور الإسلام ، وتمادي هذا التناضح في الكوفة والبصرة. ينبغي أن تؤخذ وجهات النظر هذه بعين الاعتبار قطعا ، ولكنها تردّ دون وعي على الإشكالية القديمة وتتقمصها ، حتى لو تعلق الأمر بدحضها (بوليات). الواقع أنه يمكن التساؤل عما إذا كان لفظ الإستقرار هو اللفظ الصالح فعلا في هذا الصدد. لعل الأولى القول إنها كانت عملية تمدنية جدّت في ظروف خاصة ، اثر دعوة

__________________

(١) توجد أخطاء فادحة جدا في تقدير ظاهرة الفتح العربي ، مثلا عند زافييه دي بلانول : Xavier de Planhol, Les Fondements ge ? ographiques de l\'Histoire de l\'Islam, Paris, ٨٦٩١, pp. ٥٣ ـ ٧٣.

(٢) تحدث ماسينيون عن ذلك ، في بحثه الأساسي عن الكوفة :» Explication du plan de Kufa «, Melanges Maspero, III, pp. ٧٣٣ ـ ٠٦٣, reproduit dans Opera Minora, III, pp. ٦٣ ـ ٢٦ .. فلاحظ من أول وهلة أن رغبته من وراء هذا العمل هو أن يستخدم «للدراسة التاريخية للاسلام في العراق خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة ، وأيضا للدراسة الاجتماعية لتوطين وتحضير البدو ، وكانت الكوفة أنشط مركز في فجر الاسلام ، لهذه الظاهرة الاجتماعية الرئيسية في تكوين الحضارة الاسلامية لذلك العصر ، وهي ظاهرة رئيسية في عصرنا أيضا ، حيث رجعت على نطاق واسع ، لمستقبل العروبة».

(٣) في بحث غير منشور زاخر بالأفكار ، عنوانه Nomadic Sedentarization in the Seventh Century ومخصص للكوفة والبصرة.

(٤).» Explication du plan de Ku ـ fa «,op.cit.,p.١٤ راجع نقدنا لآراء ماسينيون في هذه النقطة بالذات ، ضمن بحثنا :» Les Yamanites ـ ـ ـ «,art.cit.,p.٥٧١

٧٦

دينية وضمن نشوء دولة إمبراطورية ، وبعد الفتح. إن العنصر الإرادي كامن دائما ، ولا سيما عنصر التأطير. قد يكون لمفهوم الاستقرار معنى أنفذ ، لو استقر العرب المهاجرون في السواد بصفة فلاحين ، استقرارا عفويا ضمن إطار اقتصادي مندمج ، منسجم تقريبا ، أي في ظروف تاريخية لم تعرف الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام. إن التغيير ، بطابعه المحير ، يكمن في التدرب على التعايش بين قبائل كانت متباعدة الواحدة عن الأخرى منذ أقدم العصور ، أكثر مما كان ترسيخا سكنيا لأناس اعتادوا من قبل التنقل الترحلي ، كما أنه يكمن في امتلاك جديد للروح الحضرية ، والخضوع لدولة فوقية موحّدة. ولم يتسرب لا محالة أي شيء من المصادر ، تسربا صريحا ، فيما يخص الطريقة التي بها تم الاستقرار. وبلوغا لذلك ، ينبغي أن نعود إلى طرح القضية ضمن منظار يخالف كل المخالفة منظار الجغرافيا الاستعمارية أو نظرية التنمية التخطيطية. وما يلفت النظر أن النصوص القليلة المتاحة والخاصة بالكوفة وتشييدها من الداخل ، تجرّ الباحث كلما تعمق في المطالعة إلى الاقتناع بأن الأمور تمت من أول وهلة ، وأن الكوفة حصلت على خاصيات المصر الأساسية منذ انطلاقتها الأولى وفي فترة قصيرة ، المصر أي مكان إقامة دائمة ، مالك لنواة معمارية ومنظم ، ومن البديهي أنه يجب إعادة النظر في مراحل تطور الكوفة منذ خطواتها الأولى.

سبق لنا أن جلّينا مظهر الكوفة ، وسنحاول التدقيق فيه ، وهو في الحقيقة يتحدى التصورات المعهودة. نحن نترقب مثلا أن تعود بقوة إلى السطح مسألة العلائق القائمة بين المدينة والريف. الواقع أن الكوفة كانت مرتبطة في آن بالسواد ، ومنه تستمدّ عيشها وقاعدتها المادية ـ كنقطة لامتصاص الفيء ، كما يقول ماسينيون (١) ، ومرتبطة ببلاد العرب حيث تستمد جوهرها البشري والثقافي. إلا أن نشاطها ارتبط بالأحرى بالأفق الإيراني الذي اتجهت إليه بكامل طاقتها (٢). ولذا يظهر السواد عبر المصادر بمظهر الإطار الجغرافي ، و «البستان» في نظر أهل الكوفة ، تمثلا بعبارة معروفة (٣) ، أكثر منه فضاء اندمج في الحاضرة أو غزاها. المؤكد أن المبادلات البشرية جدّت وزادت قوة بمرور الزمن ، لكن يتبين أن

__________________

(١) Massignon ,Opera minora ,p.٩٣.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٢٢ وما بعدها ، ص ١٤٩ ما بعدها وما قبلها ؛ ج ٦ ، ص ٣٤ وما بعدها ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٢ وما بعدها ، ص ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ؛ ابن رسته : الأعلاق النفيسة ، ص ١٦٦ ؛ Hill, Termination of Hostilities, p. ٨٣١ ff. p. ٢٥١ ـ ٣٥. Shaban, The Abbasid Revolution, Cambridge, ٠٧٩١, p. ٦١ ff.

(٣) نسبت هذه الكلمة إلى سعيد بن العاص دلالة على السواد ك «بستان قريش» ، مما أدى بقسم من أهل الكوفة إلى معاداته فعلا : البلاذري ، أنساب الأشراف ، طبعة القدس ١٩٣٦ ، ج ٥ ، ص ٤٠ ؛ ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، B.G.A. ، ج ٥ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦.

٧٧

الانفصال كان أقوى من التناضح. هذا ولا يمكن الحديث عن عراق عربي جديد في القرن الأول الهجري تحتل فيه الكوفة والبصرة موقع العاصمتين السياسيتين. بل على النقيض من ذلك مثّلث هاتان البؤرتان العراقين (١) العربيين ، واستنفدتا فكرة العراق العربي ، فما كان يوجد خارجهما شيء سوى سواد البصرة والكوفة أي ميدانهما أكثر مما هو ترابهما (٢). وقد اقتطع بعض الأفراد من أرستقراطية الأشراف قطائع (٣) وأقاموا بها من حين لآخر ، ومنهم المختار (٤). لكن الحياة الزراعية استمرت على ما كانت عليه في الماضي ، مع قيام الدهاقين بمهمة الجباية ، وكانوا مسؤولين أما دواوين الدولة (٥). لقد كان الرجل العادي في الكوفة يشعر بوزن السواد شعورا سلبيا فقط ، عندما تنقص مداخيل الخراج باستحواز جماعات الخوارج على الأموال (٦). ويعني هذا أن العلاقة بين المدينة والريف لا تسترعي هنا الانتباه كثيرا ولا تبرز للعيان وأنها أكثر تشعبا مما هي عليه في وضع المجتمع المنسجم غير المتأثر بظروف الهيمنة العسكرية والعرقية ، أو في صورة الحاضرة المستقلة التي لا تعيش إلا اعتمادا على ترابها. ومن المفارقات أنه بقدر ما يقوى الرباط الحميم الذي يربط بين الكوفة والسواد ، يتضاءل شعورهم بهذا الرباط. وبدون أن تكون العلاقة بين الحاضرة وريفها مفقودة ، فهي تكتسي صبغة ثانوية في هذا المجال ، كأن الكوفة قد اقتلعت من الأرض

__________________

(١) العراقان كلمة شاعت في كل مكان في العصر الوسيط ولا صلة لها بما طرأ من تمييز لاحقا بين (العراق العربي) (والعراق الأعجمي ـ الجبال) راجع : Le Strange, The Lands of Eastern Caliphate,. P. ٥٨١ ، بخصوص هذه النقطة الأخيرة.

(٢) وهو ما كان يفرض مسبقا لا تملك الأرض فقط ، بل رباطا ماديا بواسطة الشغل ، وحضورا ، وتنقلا بين المدينة والحقل. على أن الشعور بالتملك كان الأقوى.

(٣) سنعود إلى مسألة القطائع التي وزعت في خلافة عمر ، وفي خلافة عثمان بصورة أوسع : Massignon ,op.cit.,p.٨٤ ؛ حسين الزبيدي ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة ، بغداد ، ١٩٧٠ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٤) كان يملك قرية كاملة وضيعة ضخمة في خطرنيّة : أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢١٤. لكن من المهم التذكير بوجود انبثاث عربي بالسواد منذ القرن الأول مع تقوية الظاهرة في القرنين الثاني والثالث. انظر بهذا الصدد عبد العزيز الدوري : «الإسلام وانتشار اللغة العربية والتعريب» في القومية العربية والاسلام. مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ١٩٨١ ، ص ٦١ ـ ٩٠.

(٥) Shaban ,lslamic History ,p.٣٥.

(٦) هو «كسر الخراج» : راجع الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ بالخصوص ، حيث يحرض الحجاج أهل الكوفة على «أن يقاتلوا عن بلادهم وفيئهم» ؛ راجع أيضا الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ٢٦٩١. ٢٨٠ ؛ خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٨ ؛ Wellhausen, Die religios ـ politischen Oppositions parteien im alten lslam, ، نقله إلى العربية عبد الرحمن بدوي ، طبعة جديدة بالكويت ، ١٩٧٣ ، ص ٦٠ ـ ٩٨. وقد لاحظ صالح العلي ، بعد أن ذكر ابن خرداذبه ، أن خراج العراق انخفض في ولاية الحجاج ، إلى ٢٤ مليون درهم بعد أن كان ١٢٠ مليون درهم ، اعتبارا للانكسار الحاصل ، يعني الاغتصاب الذي جد بسبب الخوارج : راجع التنظيمات ، مرجع سبق ذكره ، ص ١٣٥.

٧٨

للنهوض بمشاريع يغطّي رهانها مجال الإسلام كله. لم تكن الكوفة مدينة زراعية كما أنها لم تكن مدينة تجارية. وهذا منظار آخر ينبغي تفنيده أو تقويمه : وهو يتمثل في فكرة ما للدور التجاري من أهمية ضرورية لتفسير الازدهار الذي تبلغه حاضرة من الحواضر. وهي تتحول إلى فكرة فاتنة شديدة الجاذبية إذا تعلق الأمر بمدينة إسلامية ، منذ أن أبرزت أهمية اللغة التجارية في القرآن ، مرورا بالتاريخ القوافلي لمكة ، دون إغفال الاتجاه التجاري الأولي للرسول ، إلى أن أوضحت خطوط الاتصال الكبرى في العالم الإسلامي بصورة مفصّلة أكثر ، ووزنه النقدي في العصر الكلاسيكي (٦٥٠ ـ ١٠٥٠) ، وكذلك تيارات المبادلات العظيمة التي اخترقت مجال الإسلام (١). لم ينفك التقليد التاريخي الحديث يفرض أخذ الظاهرة التجارية بعين الإعتبار ، عند القيام بأية دراسة تاريخية للمدينة ، إلا أن الكوفة ، وكذلك البصرة ، لم تنشأ من احتياجات التجارة التي لم تكن محركا لتطورها. وفي حين أن البصرة ـ التي ازدهر دورها التجاري كما عرفناه ، في القرن التاسع (٢) ـ تمكنت لا محالة من النشوء مجددا من العدم ، نظرا لموقعها الطيب ، كان المركز الديني بالنجف العنصر الوحيد الذي خلفته الكوفة حين قضي عليها إلى الأبد. لقد تمكنت التجارة من إنقاذ البصرة إلى حد ما. وبما أن التجارة كانت ضعيفة بالكوفة ، فإنه لم يتح لها مثل هذا الإنقاذ. وبعد ، فقد ظهرت التجارة هنا وهناك منذ البداية (٣) ، وقامت بوظائفها الأساسية في تغذية الحاضرة وهي الحاضرة المتخمة بالعملة (٤) ، لكن هذه التجارة تمت انطلاقا من المال الموجود والعمران القائم.

لم تنشأ تصورات شعبية خاصة بالكوفة ، لها ثراء التصورات نفسها التي نشأت بخصوص البصرة وبغداد اللتين كثيرا ما ورد ذكرهما في كتاب ألف ليلة وليلة مثلا. حقا

__________________

(١) ابن خرداذبه ، المسالك ، ص ١٥١ وما بعدها ؛ عبد العزيز الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي ، بغداد ، ١٩٤٨ ؛ Lopez et Raymond, Medieval Trade in The Mediterranean World., N. Y., ١٦٩١ Goitein, A Mediterranean Society, BerKeley, ٧٦٩١; Lombard, L\'lslam dans sa premie ? re grandeur, Paris, ١٧٩١; Espaces et re ? seaux du haut moyen age, Paris, ٢٧٩١. وأعمال ماسينيون وكلود كاهن من بعده معروفة بما يكفي.

(٢) صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٢٣٣ ـ ٢٦٣ ؛ Lombard, L\'Islam ـ ـ ـ , op. cit., p. ٢٤١ de la nouvelle. e ? dition ـ ـ ـ

(٣) الزبيدي ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة في القرن الأول الهجري ، بغداد ، ١٩٧٠ ، ص ١٤٩ ـ ١٧٨.

(٤) كان محصول الخراج في خلافة عمر ١٠٠ مليون درهم : فتوح البلدان ، ص ٢٧٠ ؛ أما عن عصر زياد ، فيراجع أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢١٩ ، والأرقام هي خاصة بالكوفة فحسب ؛ والصولي ، أدب الكتّاب ، القاهرة ، ١٣٤١ ه‍ ، ص ٢٢٠.

٧٩

وجدت رؤية شيعية كارثية ، وقد حللها ماسينيون (١) ، كما وجد تصور ثقافي ، ما زال حيا ، متعلق بالارث النحوي (٢) ، إلا أن ايقاع أطوار حياة هذه الحاضرة بقي هزيلا في المخيال الإسلامي. وبذلك تفرض نفسها صورة الحاضرة الإسلامية المتأخرة ، الحاضرة المختنقة في أزقتها الضيقة ، المسحوقة بتشعبها الفوضوي ، المأهولة بالسكان والمتلونة (٣) ، وإذا كانت فكرة «المدينة» (٤) قد ظهرت بظهور العصر العباسي ـ التي نفترضها متراصة ـ وكذلك فكرة الربض المحيط ، يبقى أن الكوفة تميزت بخاصيات المدينة المفتوحة الهندسية الواسعة المهوّاة وهي الخاصيات الموجودة حين كان نشاطها السياسي والعسكري على أشده (١٧ ـ ١٣٢ ه‍ / ٦٣٨ ـ ٧٤٩) ، والموجودة مجددا في آخر مراحل حياتها (٥). ولذا وجب في استقرائنا للمدينة الإسلامية من الجيل الأول إمعان النظر باتجاه الماضي القريب (العربي ذاتيا ، والماضي الفارسي (٦) والهلنستي (٧)) ، أكثر من إمعانه بالاتجاه إلى المستقبل أي نحو الجهاز الكلاسيكي ، وقد أصبح هذا الجهاز يتماثل مع طول الزمن وإلى حدّ كبير بنمط المدينة العراقية القديمة (٨)).

__________________

(١) Massignon ,op.cit.,p.٤٥ ؛ البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ٧٠ وما بعدها ، يعرض وصفا غريبا لنهاية الزمان بالكوفة والعلامات البارزة المرافقة لذلك ، وهي عبارة عن تنبؤات توحي بالكوارث.

(٢) الفهرست ، تحقيق فلوجل Flu ? gel ، ص ٦٤ ـ ٧٧ ؛ ياقوت ، معجم الأدباء ، ج ٥ ص ١٠٦ ـ ١١٥. لقد اعتمدت كل التآليف الكلاسيكية في الأدب والطبقات ، المقارنة بين الكوفة والبصرة في مجال النحو الذي ارتبط كثيرا بفقه اللغة ، ولا سيما ابن الأنباري. أما عن المحدثين فيراجع جرحي زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، القاهرة ، ١٩٢٤ ، ج ٢ ، ص ١٧٩ ـ ١٨٩ ؛ وأحمد أمين ، ضحى الإسلام ؛ Brockelmann, Geschichte ـ ـ ـ , sup. I pp. ٧٧١ ff. وخصّ المخزومي المدرسة النحوية بالكوفة بدراسة جدية عنوانها : مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ، بغداد ، ١٩٥٥.

(٣) انظر لاحقا ص ١٣٤ من هذا الكتاب.

(٤) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ؛ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٧١ ، ٧٤ ، ٧٦ ؛ الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٦١.

(٥) ابن جبير ، الرحلة ، بيروت ١٩٥٩ ، ص ١٨٧ وما بعدها ؛ ابن بطوطة ، الرحلة ، بيروت ١٩٦٠ ، ص ٢١٩ وما بعدها. وهناك معلومات عند المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ص ١١٧.

(٦) انظر لاحقا ، ص ١٦٦ ـ ١٧٣.

(٧) انظر لاحقا ، ص ١٦٢ ـ ١٦٦.

(٨) H. Franckfort,» Town ـ Planning in Ancient Mesopotamia «, Town Planning Review, XXI) July ٠٥٩١ (; Sir Leonard Wooley, Excavations at Ur; a Record of Twelve years\' Work, Lon ـ don, ٤٥٩١; History of Mankind, I, pp. ٧١٤ ـ ٩٢٤; Leo Oppenheim, La Me ? sopotamie, Paris,. ٠٧٩١, pp. ٨٨ ـ ٥٥١. وقد ذهبت مرغريت روتن بعيدا جدا في المقارنة بين المدينة الاسلامية في العهد الوسيط والمدينة البابلية ، انظر : Marguerite Rutten, Babylone, Paris, ٨٤٩١, pp. ١٥ ـ ٥٥ راجع أيضا :. E. Wirth,» Die Orientalische Stadt ـ ـ ـ «, Saeculom ٦٢) ٥٧٩١ (, pp. ٥٤ ـ ٤٩. ونقدنا له لاحقا ، ص ١٤٤ ـ ١٤٦.

٨٠