نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

المصادر في موضوع تسمية هذه الجبانة التي تنسب إلى الصائديين تارة ، وإلى الصوداويين طورا ـ لكن المصادر المتأخرة هي التي تستخدم دائما هذه التسمية الثانية. وما تواتر في المصادر هي التسمية الأولى بنسبة عالية جدا. ولذا ، يمكن حسم الأمر حسما قاطعا أو يكاد ، لفائدة الصائديين. وفي صورة ماذا كانت جبانة الصائديين منشأة يمنية فلا يعني ذلك انتقال عشائر همدان ، بل إنه مجرد حضور عشيرة صغيرة في وقت من الأوقات ؛ أتيح لها فيها بعد أن تهاجر إلى مكان آخر. وعلى النقيض من ذلك ، فإذا تم هذا الإنشاء بمنطقة تفوقت فيها بكر وقيس فذلك يدل دلالة واضحة على الطابع اليمني الصرف للجبانات.

ـ من إحدى عشرة جبانة عدتها الكوفة (١) كانت ست جبانات يمنية ، إذا عددنا جبانة الصائديين. والأهم من ذلك أن حدثت بهذه المواقع أحداث جسام ، منها الانتفاضات المسلحة والثورات والمعارك ، وقد ارتبطت صميم الارتباط بحياة المصر. ونستثني جبانة سليم (٢) التي كان لها اسم آخر هو جبانة بني سلول (٣) والتي كانت ملكا لقيس ، وكانت الوحيدة من بين ما تبقى من جبانات التي يمكن مقارنتها بجبانات اليمن. ذلك أن شمر بن ذي الجوشن انتصب مع قيس في جبانة سالم خلال ثورة الأشراف على المختار ، في حين اجتمعت اليمنية بجبانة السبيع وجبانة بشر ، وفي حين لم يكن لمضر (تميم وعبس وضبة) سوى الكناسة ، وحيث اكتفت ربيعة بمكان غير محدد كان يقع بين التمّارين والسبخة (٤). وفي سنة ١٢٢ ه‍ سوف تكون جبانة سالم المكان الذي يختاره زيد بن علي لجمع رجاله واعلان الثورة (٥).

ـ وكانت جبانة أثير تابعة لأسد (٦) التي كانت قبيلة مضرية كبيرة. فوجب تحديد موقعها إلى الجنوب الغربي ، في خطتها وفي اتجاه الكناسة. ولم يذكرها الطبري سوى مرة واحدة عندما كانت مقرا لمناوشة بين ابراهيم بن الأشتر وأحد خصومه ، كان قد تغلب عليه وطرده حتى الكناسة بالذات (٧). ولذا لم يكن لها من الأهمية ما كان للجبانات اليمنية

__________________

(١) لا نعتبر في هذا العدد جبانة ميمون التي أنشئت في العصر العباسي : فتوح البلدان ، ص ٢٨٦ ، وإلا صار عددها ١٢ جبانة تماما ، بشرط تمييز الثويّة.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٨٣ ؛ الطبري ج ٦ ، ص ١٧٢ و ١٨٢ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٣ ، ص ٢٤٩ ؛ ابن الفقيه ، ص ١٨٣ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥ و ٤٦.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٤٥.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ١٧٢.

(٦) أخطأ البراقي حين أسندها إلى عبس لكنه يؤكد أنها عادت بعد ذلك لكندة : تاريخ الكوفة ، ص ١٢٠ وما بعدها.

(٧) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢١.

٣٠١

الأخرى ، ولا حتى جبانة سالم التي تبدو ممثلة حقا تمثيلا استثنائيا للجبانة غير اليمنية ذات الاشعاع الكبير. فضلا عن أن ما يدل على ذلك أن جبانة أثير تسمى كذلك بصحراء أثير ، كما سماها أبو مخنف نفسه (١). ولا يقل دلالة عن هذا الأمر أن جبانة سالم صنفت مع الصحارى ، كما ورد في مصدر انفرد حقا بهذا الخبر وأشار إليها في بيت شعر (٢). ذلك أن مثل هذا التمثل لم يرد أبدا في المصادر التي بين أيدينا ، فيما يخص الجبانات اليمنية الكبرى. فضلا عن أن الكلمتين غير مترادفتين. لقد ميز ماسينيون بين الفكرتين وحمل نفسه على طرح معادلة بالنسبة لسالم وأثير فحسب (٣) ، وهو ما يفسر حيرته كما يفسر إلى أي حد تبقى الجبانة ظاهرة يمنية في صفائها. ولا يعني الصفاء في هذا المجال أن الوظائف كانت بسيطة بل أن الأمر يستدعي على النقيض من ذلك جملة من الدلالات التي لا يمكن أن تحملها إلا مؤسسة متقدمة كانت ثمرة لتجربة تاريخية طويلة.

ـ جبانة عرزم حيث كان يصنع اللبن الرديء (٤) ، كانت تقع دون شك غربا ، في خطط عبس (٥) وقد ورد ذكرها فعلا في رواية أبي مخنف عن ثورة حجر (٥١ ه‍) (٦). روى أن قافلة الأسرى مرت من هناك وهي في طريقها إلى دمشق وكان لقبيصة بن ضبيعة العبسي دار فيها ـ لم تكن داخل الجبانة دون شك ، بل إلى جانبها ـ وقد توقف فيها ليعلن وصيته الأخيرة. ثم مرت القافلة بالغريّين غربا ، مما يلي النجف ، وتحولت قسرا إلى الشمال ، وجهتها دمشق (٧). يمكن أن نفترض أن هذه الجبانة التي كانت تحمل اسم شخص لا اسم عشيرة أو قبيلة (٨). كانت ملكا لعبس. لكنها لم تقم بأي دور في النزاعات السياسية إذ كانت مضر تجتمع بالكناسة. وبما أنها كانت مقرا لنشاط اقتصادي الطابع ـ يتمثل في صنع اللبن وقولبته ـ فقد أقرها ذلك في وضعية خاصة غير معهودة.

والآن نصل إلى الجبانة أو الجبانتين الأخيرتين اللتين كانتا موجودتين في العصر الأموي ، إذا ما تقرر التطابق بين تسمية الثويّة والجبانة (بدون أية صفة أخرى) ، دلالة على

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢١ ؛ كتاب البلدان ، ص ٣١١ ، ولم يصفها اليعقوبي بالصحراء بل أدرجها ضمن الجبانات.

(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٢٨٢.

(٣) Massignon ,p.٧٤.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨١.

(٥) يرى ماسينيون أنها من أقدم الجبانات : op.cit.,p.٦٤.

(٦) الطبري ، ج ٥ ص ٢٧٠.

(٧) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٧١.

(٨) مع أن بني عرزم وجدوا بالبصرة وكانوا مجهولي النسب : كتاب الاشتقاق ، ص ٥٥٣.

٣٠٢

الواقع نفسه ، أو الفصل بين التسميتين.

ويرى ماسينيون (١) وفي أثره البراقي (٢) أن أول يخص الكيان نفسه الذي تسمى باسمين مختلفين ، وقد تتضافر الدلائل على صحة هذا الرأي. لكنه ليس بديهيا من أول وهلة ، كما أنه من غير البديهي تحديد الموقع من قبل المؤلف نفسه في الشمال الشرقي عند طرف خطة ثقيف. ولنذكر أن الجبانة أو الثوية كانت لجمع أهل المدينة المشتمل على القرشيين والأنصار والثقفيين ومواليهم وحلفائهم. فما سبب هذه التسمية المزدوجة المحيرة؟ وما سبب الاشارة إلى الثوية في المصادر كلما دفن فيها أحد الأشخاص المهمين من العصر الأولي ، لا سيما زياد (توفى سنة ٥٣ ه‍). علما أن هذه الكلمة ظهرت أول ما ظهرت بشأنه (٣) في حين أن الجبانة لم تذكر بصفتها مقبرة سوى مرتين بمناسبة دفن (٤) الفضل بن دكين مولى آل طلحة الذي توفي في خلافة المعتصم ، وسهل بن حنيف وكان من الأنصار ومن صحابة الرسول ، وقد مات في خلافة علي سنة ٣٨ ه‍؟ (٥). وخلافا لذلك فإذا تعلق الأمر بأعمال تاريخية أو أشير إلى هذا المكان كعلامة طوبوغرافية للثورة ـ المختار وزيد ـ أو كنقطة للمجتمع ، فإن تسمية الجبانة هي التي ترد دائما وليست الثوية.

روي أن زيادا وقبله المغيرة بن شعبة ، وكذلك أبا موسى الأشعري (٦) ، والأحنف بن قيس (٧) دفنوا بالثوية. وقد جاء في أشعار كثيرة ذكر اسم الثوية مع قرنه بهيبة قريش (٨) وقد ورد صدى هذا الاسم في قصائد المتنبي. كان للكلمة في حد ذاتها رنين شعري وهي تخرج عن المعجم العادي ، وتضيف لفكرة الموت لونا من العطف والرقة ، جاعلة من المقبرة «دار ضيافة» : إنه المعنى الأول للأصل ث ، و ، ى (٩). لا شك أن هذا البعد هو المفسر لثنائية التسمية ، الأولى شعرية والثانية عادية. فوجب قبول هذه الثنائية لأن كلمة ثوية أصبحت تستعمل للتفخيم وهي تلطف من رهبة الموت ، وتمتزج بصورتها فقط لما تنزل على الفضلاء وعظماء القوم من قريش لتميزهم عن الآخرين ، وهي في الآخر كلمة تثير منا الخشوع.

__________________

(١) Massignon ,op.cit.,p.٧٤.

(٢) مرجع مذكور ، ص ١٤٣.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٩٠ ، نقل الخبر عن عمر بن شبّة ؛ أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٤٠١.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٤٧٢.

(٦) ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٧) ابن قتيبة ، كتاب المعارف ، ص ٥٦٤.

(٨) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٩) لسان العرب ، مادة ثوى.

٣٠٣

ولذا تسترد كلمة جبانة حقوقها حين يضطرب الناس ويثورون ، لكن المقصود بالذات في هذا المقام أيضا هي الجبانة بلا نعت بمعنى الجبانة الفذة التي يقع هكذا تفخيمها بسلبها من أية نسبة. وقد ورد ذكرها في العصر الأولي كمكان يؤمه الزهاد من أصحاب ابن مسعود (١) للصلاة والعبادة. وبداية من عصر زياد استخدمت الجبانة مصلى لصلاة الجمعة (٢). وهي ترد في غير هذا وبصورة مركزية أثناء ثورة المختار (٣) ـ لا ننس أنه من ثقيف ـ وثورة زيد بن علي وكان من قريش (٤). ظهر المختار فيها بعد انتصاره في السبخة ثم «طلع» إلى دور مزينة وأحمس (٥) وبارق وقد كانت بعيدة عن المدينة أو بطرفها. يجب تحديدها بأقصى الشمال ، والمحتمل أن يكون ذلك خارج الخطط المعروفة كما يوحي السياق وكذلك فبعد أن سيطر زيد على الكناسة ، حل مدة قصيرة بالجبانة التي يبدو أنها كانت خارج الكوفة ذاتها بصورة واضحة (٦). وهي لم تستخدم للقتال في الحالتين معا أو للتأهب له ، بل كانت مرحلة أو مكانا للعبور. إنه لأمر مهمّ ينبغي تأكيده. هذا ولم يكن اسم الجبانة دون أية صفة أخرى صورة فريدة ، بل إنه كان موجودا في البصرة (٧) والمدينة. ففي المدينة أمر عمر خلال سنة الرمادة بإقامة خيام بدو محارب الجائعين في الجبانة (٨). فهل كانت موجودة منذ ظهور الإسلام أم قبله؟ وفي الحالة الثانية ، يكون ذلك دليلا على تأثير اليمن منذ القديم ، على مدن شمالي بلاد العرب.

لكن جبانات الكوفة بقيت خاصية من الخاصيات المميزة للكوفة ، ومعبرة عن الوجود القوي الذي كان لليمنيين فيها ، وبفضل عددها وتعدد وظائفها وما كان لها من دور اجتماعي

__________________

(١) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ١٦٠.

(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٨. لكن من الممكن أن المقصود هي الجبانة بالبصرة.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٨.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ١٨٣.

(٥) يقول اليعقوبي : «انتقلت عامة أحمس عن جرير بن عبد الله إلى الجبّانة» : كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٦) يبدو أن أبا مخنف حدد موقعها خارج الكوفة. فضلا عن أن المشهد الذي وصفه هذا المؤلف يسمح لنا بتحديدها في اتجاه الحيرة : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٣ ، علما أن يوسف بن عمر كان يتابع من فوق ربوة كانت تقع بين الكوفة والحيرة ، وعلى امتداد البصر ، تحركات زيد في الجبانة. وقد كان قريبا منه بحيث كان في مستطاع زيد أسره. وروى سيف : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٨ ، أن سعدا عسكر قبل الوصول إلى القادسية بين الغضيّ (في الطفّ غربا) والجبانة. وأخيرا ، فقد حدد ياقوت بوضوح الثوية خارج الكوفة وجعلها إلى جانب الحيرة : ج ٢ ، ص ٨٧. وجاء في عيون الأخبار ، كما ذكر في حاشية كتاب وكيع : أخبار القضاة ، ج ٢ ، ص ٤٢٤ ، خبر في المعنى نفسه لكن السؤال يبقى مطروحا : هل كانت تقع في الشمال الشرقي أم في الجنوب الغربي أم في الشمال الغربي؟

(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ص ٤٠٧ ؛ ابن سعد ج ٧ ، ص ٤٩٤.

(٨) ابن سعد ، ج ٣ ، ص ٣١٤.

٣٠٤

وعسكري وسياسي كبير. ولنذكر أن أقدم الجبانات ـ ما عدا الجبانة ـ ملك لقبائل اليمن (١) : السبيع ومراد وكندة والصائديين. وهي أيضا أهمها مع جبانة سلول. والملاحظ أيضا أن تميما وضبة وربيعة لم تكن لها جبانة. ولعل الأحنف دفن بالثوية لهذا السبب ، ولأنه كان شخصية مرموقة. في حين أن طيا وبجيلة المتحالفتين مع خثعم ، كانت لهما جبانة بشر ، وأن بجلة المتصاهرة مع الأزد كانت تستخدم جبانة مخنف لدفن موتاها وتنظيم حياتها الاجتماعية. فكان على بعض القبائل الكبرى كربيعة ومضر التي كانت اقامتها غير قارة نسبيا أن تستخدم أمكنة أخرى للاجتماع أو لدفن الموتى. يقول أبو مخنف : «وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم» (٢).

وها أن خباب بن الأرت وهو من مشاهير الصحابة مات في غياب علي بوقعة صفين ، فدفن بالظهر وهو الحد الذي كان للكوفة مع البادية ، وأضاف أبو مخنف قائلا : «ودفن الناس إلى جنبه».

ماذا يعني بقوله هذا ، لا سيما وأن الدليل متوفر على أن كثيرين منهم استمروا يدفنون في الجبانات؟ (٣). لكن اذا اعتبر بعضهم خبابا حليفا لبني زهرة أي حليفا لقريش ، فقد اعتبر البعض الآخر أنه كان حليفا لتميم مقيما بخطتها في جهارسوج جنيس (٤). من هنا نستخلص أن تميما هي المقصودة بصفة خاصة عند أبي مخنف بقوله هذا الثري بالمعاني على الصعيد الانثروبولوجي. تشمل كلمة «أفنية» قطعا الجبانات لكن أيضا الصحاري وكافة الأراضي الخالية الأخرى الموجودة في الخطط. ولا شك أن الأهالي استمروا في دفن موتاهم في دورهم الخاصة ، وبقيت هذه العادة شائعة في المدن الإسلامية إلى عهد قريب.

وعلى هذا تتمثل الوظيفة الأولى للجبانات في القيام بدور المقابر القبلية كما كان الأمر

__________________

(١) يطالب اليمنيون لأنفسهم بالأسبقية في إنشاء أول جبانة للإسلام في صنعاء كما جاء في كتاب أحمد بن عبد الله الرازي الصنعاني (توفى سنة ٤٦٠ / ١٠٦٨) بعنوان : تاريخ مدينة صنعاء اليمن ، دمشق ، ١٩٧٤ ، ص ٩٠ إلى ٩٢ وص ٢١٦ ـ ٢١٧ وص ٢٢٢. ومن الغريب أن إنشاء هذه الجبانة نسب إلى بادرة قام بها الرسول ، واعتبر في الوقت نفسه أن الفرس هم الذين أنشؤوها ـ بني جريش أو الأبناء ـ ولم تكن مقبرة بل مصلى للعيدين. وهذا يحملنا على الخلوص إلى نتيجة مزدوجة تقول بأن الجبانة منشأة يمنية أضيفت عليها الصفة الإسلامية وأن وظيفة المقبرة بالكوفة فرضت عليها طبق العادات المعمول بها شمالي بلاد العرب مما يفسر وظيفتها الثنائية. وما يلفت النظر أن جبانة صنعاء اليوم هي مصلى في الهواء الطلق ، يستخدم في المناسبات الكبرى ، وليست مقبرة بتاتا.

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٣) ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٤٤ و ١٦٠ و ٤٠١.

(٤) ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٤.

٣٠٥

في مقابر البصرة (١). لقد أقيمت هذه المقابر وسط الخطط القبلية معبرة بذلك في أعمق دخيلتها ، بفعل الدفن وأزليته ، عن الضمير الجماعي للقبيلة ومن انتسب إليها. وبدون الدخول في البحث في أنثروبولوجيات الموت ، الذي نزعم أنه يكتسي أهمية قصوى ، ففي الإمكان أن نفترض أن الجبانات بقيت مدة طويلة بدون أنصاب وأحجار على القبور (٢). وقد أوصى بعضهم مثل شريح ببناء لحد داخلي (٣) ، لكن عدم ذكر اسم المدفون في الخارج هي القاعدة المعمول بها في أكثر الأحوال. علما أن اليمن عرف قديما أنصابا كانت تحمل كتابات منقوشة (المساند). ولا شك أن المثال البدوي عاد متفوقا في هذا المجال ، بعد أن أضفى عليها الاسم طابعه القدسي : كان مثال التستر والزهد وعدم الاكتراث بالقبر بوصفه علامة مرئية. ولم تكن اللامبالاة تتجه إلى الميت الذي يتضرع الشاعر العربي إلى السماء يستعطفها ، راثيا إياه ، طالبا منها أن تجود عليه بمائها المنعش. كما أنها لم تتجه إلى الموت في حد ذاته وقد كان مبعث الفزع والألم في القرن الهجري الأول ، كما ورد بأقوال ابن سعد (٤) ، ومنطلق مشاعر أخرى طبعا.

لا شك أن أرض الجبانات كانت منبسطة (٥) ، حتى تطأها أقدام البشر والخيل بالآلاف وتدور فيها معارك حامية دون ضيق واضح. وهكذا يصل بنا القول إلى أن الوظائف التي قامت بها هذه الأماكن كانت متعددة. كانت في البداية نقطة إشعاع ومركزية مجالية : فقد أشعت العشائر بقطائعها ضمن الخطة القبلية ، انطلاقا من جبانة مركزية ؛ ثم قامت بدور المقبرة ؛ والمقر للتجمعات ومركز العصب للحياة الاجتماعية عند القبيلة عندما تكتسي نبرة رسمية ؛ وأخيرا فقد كان لها دور عسكري بمعنى معين. لم يكن الجانب العسكري متوقعا في البداية قطعا ، إذ كانت الحشود التي تخرج إلى القتال من الكوفة كما من البصرة ، من الأسباع والأخماس ، تتجمع خارج المدينة في أمكنة تؤخذ من الصوافي كما

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦.

(٢) أبو داود ، السنن ، القاهرة ١٩٣٥ ، ج ٣ ، ص ٢١٦ ؛ وكيع. أخبار القضاة ، ج ٣ ، ص ١١.

(٣) ابن سعد ج ٦ ، ص ١٤٤. كان الأمر كذلك عند إبراهيم النخعي الذي أوصى زيادة على ذلك ، ألا تصحب النار نعشه : المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٨٣ ، ٣٠٢. كان اللحد عبارة عن سرب من لبن ، يشيد تحت الأرض ولا بدّ أن ذلك لم يكن شائعا إلا قليلا.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٦ وج ٧ ، في عدة مواضع. راجع أيضا تحية الأموات المنسوبة إلى علي عند الطبري ، ج ٥ ، ص ٦١ ـ ٦٢.

(٥) روي أن عليا وجه من قبله صاحب الشرطة لتسوية القبور الناتئة وقد فعل ذلك في المدينة بأمر من الرسول : وكيع ، ج ٣ ، ص ١١. يلتقي المثال البدوي بالتشدد الإسلامي في هذا المجال. ولنقارن ذلك بتعاليم محمد بن عبد الوهاب. وقد ظهرت أحجار القبور حوالى سنة ١٠٠ ه‍ ، وجرى التشهير بهذه البدعة : ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٠٢.

٣٠٦

صرح بذلك سيف وروى عنه الطبري بالنسبة للبصرة في العصر الأولي (١). أما فيما يتعلق بالكوفة ، فقد ورد خبر هام (٢) مفاده ما يلي : «أمر علي الناس أن يخرجوا بسلاحهم فخرجوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم». وكان ذلك سنة ٣٧ ه‍ ، أو ٣٨ ه‍ ، بعد وقعة صفين ولما بلغ خطر الخوارج أشده ، فوبخهم علي لدخولهم المسجد حاملي السلاح ، معتدين بذلك على حرمته ، وأمرهم أن «يذهبوا إلى جبانة مراد» فأطاعوه. فكان علي أول من بادر بجعل الجبانة مكانا لحشد كافة الناس لا قبيلة معينة ، لأن الجبانة كانت أكثر اتساعا ، أو أنها كانت موجودة على طريق حروراء. هكذا وفي مثل هذا الوقت الذي كانت صبغته استعجالية ، استنفر أهل الكوفة لكن لم يعرفوا مكانا يتجمعون فيه داخل مدينتهم لأن الجبانات لم تكن موظفة بعد لمثل هذا الأمر (٣) على ما يبدو. إن عليا هو الذي شرع في إضفاء دور عسكري على الجبانات بنيّة القيام بعمليات داخلية أو لتنظيم تجمعات عاجلة. ذلك أنه لم تظهر أية رواية تتعلق بفترة سابقة باستثناء الرواية الغامضة الخاصة بمقبرة بني حصن في البصرة (٤) والمتعلقة بأحداث جرت سنة ٣٦ ه‍ قبل وقعة الجمل. لقد ارتبطت هذه الظاهرة هنا وهناك بأمر استثنائي غير متوقع ، وبجو الحرب الأهلية. فكان الرجال والقادة يبحثون عن أمكنة داخلية للتجمع : منها المسجد في الكوفة ودار الرزق في البصرة وجبانة مراد ، ومقبرة بني حصن. وارتجلت القرارات انطلاقا من اختيار معقلن قائم على القابلية الطبيعية للجبانات ، لكي تحوي عددا كبيرا من الأشخاص. فقامت منذ ذلك الوقت بدور استراتيجي وأبقت عليه ، وتخصصت حسب القبائل أو مجموعات القبائل وارتبط الأمر دائما بالاضطرابات الداخلية ، بجو الدراما والطوارىء : قضية حجر بن عدي (٥١ ه‍) ثورة المختار (٦٦ ه‍) ، انتفاضة الأشراف (٦٦ ه‍) ، دخول مصعب (٦٧ ه‍) ، ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه‍). واستخدمت الجبانات في كافة هذه الحالات من قبل القوات الثائرة كما من قبل قوات السلطة الحاكمة (زياد وابن مطيع والمختار نفسه ومصعب). وإن بدا أن الولاة الأمويين عند قيام الثورات فضلوا المسجد مكانا للتجمع ، فذلك لكي يفكوا التعبئة فعلا ، لا لكي يقوموا بها ، بمعنى أن هدفهم كان دفاعيا. في حين كانت الجبانات تستخدم للعمل الهجومي ، أو لرد الهجوم ، وفي الجملة القيام بثورة أو للعمل على مقاومتها. أما عن نقاط تجمع الحشود النظامية (الأرباع) التي تحشدها السلطة وتشرف عليها ، تأهبا للحملات السنوية في اتجاه العالم الايراني ، فقد استمر اختيارها خارج المدينة. ولم تقم فيها الجبانات بأي دور ، حتى ولو

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٨٦ و ٦٢٣.

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٩١.

(٣) المحتمل أيضا أنه كان حشدا لكل القبائل وأن الجبانة كانت ملكا لقبيلة واحدة وهذه حجة لا ينبغي استبعادها.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦.

٣٠٧

كان للتعبئة الأولية لكل قبيلة على حدة. كان المقاتلة يتحركون فرادى وجماعات وكتلا مضطربة أحيانا ، مرهقة مرهبة (١) في اتجاه السبخة وكانوا كثيرا ما يعبرون الجسر للذهاب إلى حمام أعين وحمام عمر بن سعد وغيرهما. وكان ذلك خارج المدينة طبعا ، دون أن يقع أي تجمع مسبق في الداخل. وعلينا إذن أن نتصور الدور العسكري الاستراتيجي والثوري للجبانات ضمن هذه الحدود وهو الدور الممتلىء حضورا والأساسي جدا في حياة الكوفة : لم يكن دورا عسكريا عاديا متسقا مندمجا في الهياكل القائمة بل كان بالأحرى دورا مرتبطا بالقلاقل الداخلية ، والحروب الأهلية وأوضاع الانقسام والطوارىء. والملاحظة الأخيرة أن الجبانة أحيت القبيلة بصفتها وحدة مقاتلة والروح القبلية الانقسامية. إنها عكس العنصر التجميعي بالنسبة للكيان الاجتماعي.

وتبقى مشكلة السكن في الجبانات قائمة. وقد ارتأى هندزM.Hinds ) أن الناس بنوا فيها وسكنوها في فترة مبكرة دون أية حجة بل وصل به الأمر إلى القول بأن المختار اعتمد على أهل الجبانات مما يدلل على سوء فهم كبير للأوضاع بالكوفة. الحقيقة أن المصادر قليلا ما تورد أسماء أشخاص يقطنون في جبانة ما خلال العهد الأموي ، والمقصود هنا هو قرب الجبانة ، والمثال على ذلك هو قبيصة العبسي صاحب حجر بن عدي الذي يقول عنه الطبري (٣) : «فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهو في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات» والمرجح إذن أن الجبانات لم تكن طوال القرن الأول لا مبنية ولا مسكونة. لكن لعل الأمور تغيرت مع العهد العباسي لوجود ضغط ديموغرافي ولأن الجبانات فقدت وظائفها العسكرية ـ الثورية المعهودة ، ومن الممكن إذن أن اجتاحتها البناءات خصوصا وهي تقع داخل «المدينة» التي صارت مسورة. ولنا إشارة طارئة على هذا في طبقات ابن سعد (٤) حيث يأتي ذكر محاضر بن مورّع الهمداني وهو من رجال آخر القرن الثاني فيقال عنه : «كان يسكن جبانة كندة».

الصحاري (جمع صحراء) : هل كانت معادلة تماما للجبانات بالنسبة للجماعات غير

__________________

(١) في ولاية الحجاج : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٠٧.

(٢) M. Hinds,» Ku fan political alignments and their background in the mid ـ seventh century «,. The International Journal of Middle Eastern Studies,) ١٧٩١ (p. ٨٤٣. ربما كانت البنايات قد اجتاحت الجبّانات في العصر العباسي ، نحو نهاية القرن الهجري الثاني. ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٩٨ ، يذكر حالة همداني كان يقيم في جبّانة كندة ؛ بينما لم تذكر في العصر الأموي سوى حالات الأشخاص المقيمين (في) هذه الجبانة أو تلك : مثلا قبيصة العبسي ، من أصحاب حجر ، ورد عند الطّبري ، ج ٥ ، ص ٢٧٠. فضلا عن كون هذه الحالة غامضة.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٧٠.

(٤) ابن سعد ، طبقات ، م. ن.

٣٠٨

اليمنية من قيس ومضر وربيعة؟ لقد سبق أن أشرنا إلى جبانتين فقط كانتا ملك قبائل الشمال ، أثير وسالم ، من بين الجبانات وتطلق عليها تسمية جبانة تارة وصحراء طورا ، في حين أن جبانة عرزم بقيت غامضة الأصل. فضلا عن أن الصحاري الصرف التي ليس لها من اسم سوى اسم صحراء كانت كلها ملكا لمضر وقيس وربيعة ، ولا يملك اليمنية شيئا منها. كان عددها خمسة باستثناء صحراء أم سلمة التي أنشأها العباسيون :

ـ صحراء شبث (١) : تميم.

ـ صحراء البردخت (٢) : ضبة.

ـ صحراء بني قرار (٣) : ضبة.

ـ صحراء عبد القيس (٤) : ربيعة.

ـ صحراء بني عامر (٥) أو على الأصح بني جعفر بن كلاب : عامر بن صعصعة (قيس).

لعل الأمر يتعلق ببديل عن الجبانة اليمنية وتقليد لها ، مع اللجوء إلى استعمال اسم ورد من شمال بلاد العرب. أو أنها كانت مؤسسة ، بالمعنى الواسع ، قبلية عربية متجذرة في العصر الجاهلي وانتقلت إلى الكوفة. وتعرف المعاجم الصحراء بأنها «الأرض المنبسطة والفضاء الواسع لا نبات فيه» (٦). كانت الأرض العراء حقا والقاحلة ، لكن يبدو أنها لم تكن الصحراء الكبرى (الفيافي) المفتوحة والخلاء الشاسع. ولم تستخدم هذه الكلمة أيضا دلالة عن الأراضي التي في وضعية ما بين السباسب والفيافي من بلاد العرب أو مما يقع بين العراق وبلاد العرب ، حيث كانت تستخدم كلمتا بادية وبر (٧). وعند الاقتضاء يمكن التساؤل عما إذا لم يكن التعريف المدرج مستمدا من الخبرة العربية في الأمصار ، التي كانت حضرية محضة ، وعما إذا لم يتعلق الأمر بفسحات خالية هيئت داخل النسيج الحضري وكانت محدودة ظرفية؟ إنها لم تكن متسعة إلا بالنظر لمجموعة المساحات الصغيرة الموجودة في

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٨٣.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٨٠. أخذ عنه ابن الفقيه : ص ١٨٣.

(٣) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢ ؛ مقاتل ... ص ١٣٦.

(٤) البراقي ، ص ١٢١ وما بعدها.

(٥) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٣.

(٦) ابن منظور ، لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٤٤٣.

(٧) المسعودي ، مروج ، ج ٢ ، ص ٢٤٦ وما بعدها. لا يستعمل أبدا كلمة صحراء في هذا الفصل المخصص لخصال الحياة البدوية ، في الصحراء.

٣٠٩

الخطط ، والمدعوة أفنية أو رحابا (جمع رحبة) ، حيث يستلقي الناس على الرمال طلبا للراحة ، وحيث يجتمعون حلقة لعقد الحوار ، والتي كانت شواطىء داخلية ومساحات للراحة واللقاء وأماكن للمداولات والممارسة الاجتماعية. ويتضح هذا الأمر جيدا في فقرة وردت في كتاب أخبار القضاء ، وتعلقت بالجولات اليومية التي كان يقوم بها الشعبي (١). لكن الصحراء تقع مثلها مثل الجبانة على مستوى أعلى ، فيما يخص الاتساع والوظائف التي تقوم بها.

وقد أبدى البراقي رأيا مفاده أن الصحراء كانت مخصصة للاحتفالات والمظاهر والتظاهرات الجماعية وأن الجبانة خصصت للدفن. لكن الدفن كان يقع أيضا في الصحاري حيث أن لبيدا دفن بصحراء بني جعفر بن كلاب ، وقد عرفها البراقي دون شك بأنها صحراء بني عامر (٢). وسبق أن رأينا أن الجبانات كانت ، على النقيض من ذلك ، مقرا للتجمعات الكبرى يعني للقتال في الحقيقة. لكن المصادر ظلت صامتة فيما يخص انتشار الناس عند إقامة الاحتفالات على مستوى القبيلة ، بالنسبة للجبانات كما بالنسبة للصحاري.

وإذا ما فكرنا أن الصحراء تمثل اللون الشمالي ـ والشرقي ـ من بلاد العرب للجبانة ، وبشكل أعم صورة لعالم المدينة في اليمن وحتى في الحجاز ، فإن كانت هناك معادلة ، فإنها غير تامة. لماذا تلصق بصحراء أثير وسالم فقط صفة الجبانة ، دون الصحاري الأخرى؟ ولماذا لم يعترضنا أي شيء عن الصحاري في روايات أبي مخنف وسيف وعمر بن شبة ، حتى كمجرد علامات طوبوغرافية ، باستثناء ما ورد ذكره في شأن صحراء عبد القيس؟ (٣) وليس هناك من قائمة ، على نقصها ، سوى في فتوح البلدان ، للبلاذري. وأخيرا فإن الحالة الوحيدة التي أشير إليها بخصوص الدفن في الصحراء تتعلق بلبيد (٤) وتستند إلى صحراء جعفر بن كلاب من عامر ، التي لعلها هي جبانة سالم ، مع أن الأمر قليل الاحتمال.

وليس ثابتا أن الصحاري قد حددت واختطت منذ البداية مثل الجبانات ولا سيما

__________________

(١) وكيع ، ج ٢ ص ٤٢٤. راجع أيضا الملحوظة في أسفل الصفحة التي تحيل إلى عيون الأخبار لابن قتيبة ، وكلاهما قولان موحيان.

(٢) تاريخ الكوفة ، ص ١٢٠.

(٣) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢ : ورد ذكر الخبر في صلب الرواية الخاصة بزيد بن علي.

(٤) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٣. لكن مصعب بن الزبير دفن إلى جانب مسكن بالمكان نفسه الذي أقام معسكره فيه قبل المعركة التي تحمل الاسم نفسه. وما هو ذو دلالة أن المكان سمي «صحراء مصعب» : أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ، حيث يقول البلاذري : «وزعموا أنها لا تنبت شيئا». حقا إن الصحراء تنتمي إلى مصطلحات مستمدة من الجغرافيا الطبيعية ، إنها مساحة ما من الصحراء المحضة ، مهما صغرت.

٣١٠

بمركز الخطط القبلية ما عدا الصحاري المرتبة في مرتبة الجبانة. لا شك أنها كانت توجد في محيط المدينة بصورة متفاوتة ، وكأنها ألحقت بها. كما يحتمل أنها كانت أصغر من الجبّانات وأنها تشكّلت ضمن مجال أقل تهيئة وأن وظائفها لم تكن واضحة. وفي حين أن الجبانة كانت تظهر كأنها جهاز مجرّب ، وأنها استقرت فورا في وضع جبانة ومساحة مركزية ثم تبين فيما بعد أنها اختبرت مسرحا للقتال ، قد تكون الصحراء إسقاطا لساحة التجمع القديمة داخل محلة القبيلة أو خارجها ، والتي لم تكن صالحة للرعي دون شك ، أو أنها كانت اسقاطا لفسحات صحراوية متناثرة على أرض القبيلة حيث لا ينبت أي نبات؟ وفي هذه الصورة الأخيرة فلعل المقصود هو العودة المؤثرة إلى الماضي ، والتعبير عن الحنين إلى الفسيح الرحب وعن مقاومة خفية لهوس الانحصار والاختناق والانغلاق. وفي مرحلة ثانية فقط ، تحولت الصحراء إلى جبانة واقتربت من مثال الجبانة ، طلبا للاندماج في المجال الحضري بصفتها إحدى أجهزته.

٣١١

ـ ٢٢ ـ

مساجد الكوفة

تذكر المصادر المعهودة ومصادر الشيعة ثلاثين مسجدا (١) بالنسبة للكوفة وهو عدد لا نجد مثيله في مدينة أخرى ـ كالبصرة والمدينة وبغداد ـ خلال العصر نفسه من تاريخ الإسلام. إن مصدر هذه الكثرة هو الروايات المفصلة عن الثورات ، كما الشعور الديني الشيعي الخصوصي جدا ، الذي عمل على تصنيف وترتيب وتعديد مساجد الكوفة ، وهي مساجد تكون محل تقديس أو لعنة حسب الأحوال. ينبغي التمييز قطعا بين المسجد الجامع الذي سمي المسجد الأعظم أحيانا والمخصص لصلاة الجمعة وكافة الصلوات الرسمية التي تبدأ بالخطبة ، ولاجتماع الجماعة كافة بإشراف الوالي ، وبين المساجد الأخرى المتكاثرة البسيطة. كان للمسجد الأعظم وضع خاص ، لا لأنه كان أوسع من غيره بل لما كان له من وظائف ولرمزيته العظيمة ، ولعله كان الوحيد المقرر في التخطيط الأول. وخلافا للجبانات ، فإن المساجد العادية لا تظهر بصفتها مساجد أصلية. بل إنها ظهرت بعد المدة الأولى ضمن الخطط القبلية إما كمساجد ارتبطت بشخص وتسمت باسمه ، وإما كمساجد للعشيرة لا للقبيلة. ويمكن افتراض أنه كان لكل عشيرة بالكوفة في وقت من الأوقات ـ بعد سنة ١٠٠ دون شك ـ مسجد خاص بها مما يرفع عدد المساجد إلى أكثر من مائة. إن تكاثر مباني العبادة وامتدادها عبر كافة المجال الحضري ، إلى جانب وجود جامع أعظم مركزي ، كل هذا يشكل كل مدينة اسلامية مقبلة وبالتالي فهو ارث من القرن الأول. الأمر الذي يؤكد بقوة أنه ينبغي اعتبار الأمصار المقر والمركز لأسلمة العرب أنفسهم ، فضلا عن وجود دورين آخرين ، كنقط للهجرة والإشراف وكحراس للبلدان المفتوحة في آن. وإذا كان الجامع الأعظم يقع في المساحة العمومية ، فإن المساجد الأخرى كلها تقريبا تقع بحوزة القبيلة داخل قطائع العشائر. وإذا كان الجامع الأعظم من إنشاء السلطة ، ارتبط ارتباطا وثيقا

__________________

(١) أكثر بكثير بعد اطلاعنا على ابن الكلبي : انظر القائمة الإضافية.

٣١٢

بممارساتها فإن المساجد الأخرى مؤسسات خاصة أنشأها الأفراد والعشائر ولا يبدو أنها كانت نقطا انطلقت منها الثورات والقلاقل خلافا للجبانات. كانت تنوب عن المسجد الأعظم في القيام بالشعائر كل يوم فقط ، وأحيانا حتى في صلاة الجمعة ، وبذلك تلتئم الجماعة (١) لكن ليس بقصد تنظيم عمل سياسي متعمد لم يرد ذكره بمصادرنا أبدا.

هذا وقد حثت السلطة وشجعت على بناء مساجد للعشائر. فقد أمر زياد في البصرة ببناء المساجد «لشيعة بني أمية» ، بمعنى العشائر المؤيدة للأمويين ، منها مسجد بني عدي ومسجد بني مجاشع ومسجد الاساورة ومسجد الحدان (٢). وبرزت الظاهرة نفسها في الكوفة دون شك ، مباشرة أو عن طريق الاشراف أو كلاهما. وعلى كل حال ، فإن مساجد الكوفة التي حملت اسم شخص ـ هو مؤسسها ـ فإنما هو اسم أحد الأشراف الذي ألصق بها ، من بين كل من ساعد الأمويين عموما : مسجد الأشعث المرتب ضمن المساجد الملعونة حسب التقليد الشيعي اللاحق (٣) ومسجد شبث الذي وقع له الشيء نفسه ، ومسجد سماك. أما مسجد عدي بن حاتم ، فقد استثنى من ذلك. وهذه قائمة بالمساجد مستمدة من مصادر مختلفة ، مع التحري اللازم فيما يخص مصادر الشيعة التي كانت متأخرة عموما ، وكذلك تجاه ماسينيون الذي لا يبدو أن قائمته مؤكدة.

قائمة مساجد الكوفة

اسم المسجد

اسم آخر يسند إليه

القبيلة المنتسب إليها

المصادر

مسجد عبد القيس

مسجد ظفر وربما السهلة

عبد القيس

الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٩.

البراقي ، ص ٤٤ ، ماسينيون ، ص ٥٢.

مسجد أبي داوود

مسجد القصاص

وادعة

الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٨.

مسجد عدي بن الحاتم

طي

الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٧.

مسجد أحمس

مسجد مزينة ، مسجد بارق

بجيلة ، مزينة ، الأزد

الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦ و ٤٨.

الأغاني ، ج ٨ ، ص ٣١.

مسجد

الأنصار

الجنابي ، ص ٨٨.

مسجد الأشعث

مسجد الجواشن

كندة

الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢ ، البراقي ص ٤٥.

__________________

(١) أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٠٧.

(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٢.

(٣) البراقي ، ص ٤٤ وما بعدها.

٣١٣

اسم المسجد

اسم آخر يسند إليه

القبيلة المنتسب إليها

المصادر

مسجد بني عبد الله ابن دارم

تميم

 البراقي ، ص ٤٤.

مسجد بني عدي

قيس (هوازن)

الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٣.

مسجد بني عنز

وائل بن قاسط (ربيعة)

فتوح البلدان ، ص ٢٨٣ ، ابن الفقيه ، ص ١٨٣.

مسجد بني أود

مسجد بني فرن

مذحج

ماسينيون ، ص ٥٢.

مسجد بني البداء

كندة

أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٠٧.

مسجد بني بهدلة

كندة

فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

مسجد بني ذهل

بكر

الطبري ، ج ٥ ، ص ٥٧٨ ، وج ٦ ، ص ٢٤١.

مسجد بني جذيمة

عبس أو أسد

فتوح البلدان ، ص ٢٨٣ ، ابن الفقيه ، ص ١٨٣.

مسجد بني دهمان

جهينة

الطبري ، ج ٦ ، ص ٥٩.

مسجد بني هلال

عامر

الطبري ، ج ٧ ، ص ١٧٢.

مسجد بن كاهل

مسجد أمير المؤمنين

أسد

البراقي ، ص ٤٦.

مسجد بني مخزوم

عبس

الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥.

مسجد بني المقاصف

عبس

فتوح البلدان ، ص ٢٨٤ ؛ ماسينيون ، ص ٥٢.

مسجد بني مرة

بكر

ماسينيون ، ص ٥٢.

مسجد بني السيد

 ـ

البراقي ، ص ٤٤.

مسجد بني شيطان

تميم

الجمهرة ، ص ٢٢٨.

مسجد جرير بن عبد الله البجلي

بجيلة

البراقي ، ص ٤٤.

مسجد جعفي

مذحج

ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٨٠ ، ٣٩٦ ، ابن الفقيه ، ص ١٧٤ ، البراقي ، ص ٤٤ ، ماسينيون ص ٥٣.

مسجد غني

سليم أو الأنصار

ابن الفقيه ص ١٧٤ ، البراقي ص ٤٤.

مسجد الحمراء

حلفاء تميم

ابن الفقيه ، ص ١٧٤ ، البراقي ، ص ٤٤ ، ٤٥.

مسجد النخع

مذحج

ابن سعد ، ج ٦ ، ص ١١٩.

٣١٤

اسم المسجد

اسم آخر يسند إليه

القبيلة المنتسب إليها

المصادر

مسجد موجود بالحمراء

حلفاء تميم

البراقي ، ص ٤٥.

مسجد السكون

كندة

الطبري ، ج ٩ ، ص ٢١.

مسجد صعصعة إبن صوحان

عبد القيس

البراقي ، ص ٤٦.

مسجد شبث

تميم

الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤ ، ٢٧٠.

مسجد سماك

مسجد الحوافر أو بني هالك

أسد

فتوح البلدان ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ؛ الجمهرة ص ١٩١ ؛ الأغاني ، ج ٧ ، ص ١٨٤.

مسجد تيم

رباب (تميم)

البراقي ، ص ٤٤.

مسجد ثقيف

 البراقي ، ص ٤٥.

قائمة إضافية بأسماء مساجد قبيلة كندة

التي وردت عند هشام الكلبي (١) ولم ترد عند غيره

مسجد بني زيد بن حارثة

مسجد بني ذهل بن معاوية

مسجد بني امرىء القيس بن الحارث (فترة عباسية)

مسجد بني مالك بن الحارث

مسجد بني الطمح بن الحارث

مسجد بني مالك بن ربيعة

مسجد جبلة بن عدي بن ربيعة

مسجد بني الحارث بن عدي

مسجد بني مرة بن حجر بن عدي بن معاوية

مسجد بني عمرو بن وهب بن ربيعة

مسجد بني أبي الخير بن وهب بن ربيعة

مسجد بني الأرقم بن عمرو بن وهب

مسجد بني شجرة

مسجد بني سلمة (بني أبي كرب بن ربيعة).

__________________

(١) الكلبي : كتاب النسب ، ورقة ٢٤.

٣١٥

بعض الملاحظات عن الجدول الأول : لم يرد في القائمة مسجد المعادل الذي حدد موضعه خطأ بفهرس تاريخ الطبري (١) ، وعند الجنابي (٢) بالكوفة مع أنه كان يوجد في البصرة. كما أننا أغفلنا عمدا إضافة مساجد العصر العباسي إلى القائمة ، منها مسجد المروزية (٣) ، ومسجد وكيع بن الجراح (٤) ومسجد دار اللؤلؤ الذي ذكره ماسينيون بدون أي سند. ولا يمكن ادراج مسجد الموالي بتاتا في هذا الجدول ، لأنه كان يقع خارج الكوفة بشراف ، بعيدا جدا عن القادسية كما ورد في الاشارة الوحيدة المتوفرة لدينا (٥). فقد أخطأ ماسينيون حينما حدده بالكناسة عند بني أسد (عشيرة كاهل) قائلا : «أرى أن مسجد الموالي أقيم في هذه العشيرة الأخيرة التي كثرت مواليها ، فكانت تسمية فريدة لفت إليها النظر غولدزيهرGoldziher ). فإن كانوا فعلا موالي لأسد (٧) ، فإن المقصودين بالذات هم بنو أسد المتواجدون في البادية قريبا من طريق الحج ، لا أولئك المقيمون بالكوفة (٨) : ذلك أن هذا المسجد كان يبعد عن الكوفة ١٣٠ ميلا (٩) أي ٢٦٠ كيلومترا.

كان كتاب الطبري أضمن مصدر لضبط هذا الجدول ، فقد أمدنا بأكبر قسم من أسماء المكان وتلاه البلاذري ، ونقل ابن الفقيه عن البلاذري واعتمد كذلك مصادر الشيعة التي استفاد منها البراقي كل الاستفادة. فقد اقتبس البراقي معلوماته عن المجلسي وعن الحر العاملي وعن كتب الزيارات (١٠) ، فذكر أسماء مساجد لم يرد ذكرها في المصادر المعروفة ، منها مسجد جرير بن عبد الله البجلي ، ومسجد صعصعة ومسجد تيم. وأورد بالخصوص ما رواه الشيعة عن المساجد المباركة والمساجد الملعونة ، فجاء ذلك قراءة معيارية جديدة لمواقع الكوفة من طرف الضمير الشيعي. وتظهر هذه القراءة المستجدة نفسها اسقاطا على الفضاء لرؤية خاصة بتاريخ المدينة في القرن الأول. وقد قامت هذه الرؤية أصلا على جدلية الصديق والعدو. فقد تعرّض كل الأشخاص والعشائر الذين واجهوا «قضية الشيعة» بالفتور والعداء ، لأن تصنف مساجدهم وخططهم أيضا في صنف الملعون. فكان الأمر

__________________

(١) الطبري ، ج ١٠ ، ص ٥٤٩.

(٢) الجنابي ، ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) الأغاني ، ج ١٨ ، ص ٤٢.

(٤) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٩٨.

(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٣٢.

(٦) Massignon ,op.cit.,p.٤٥.

(٧) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٣٢.

(٨) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٩) ابن خرداذبه ، المسالك ، ص ١٢٦.

(١٠) البراقي ، ص ٤٤.

٣١٦

كذلك بالنسبة لمسجد الأشعث وجرير البجلي وسماك وشبث ، ومسجد ثقيف ، والمسجد الواقع عند الحمراء. ووصفت المساجد بأنها مباركة ، إذا مر بها وصلى فيها أحد الأئمة الأوائل ولا سيما علي (١). الواقع أنها تحيل على شخص أو عشيرة أيدوا القضية. وهذه حال مسجد السهلة الذي قال عنه البراقي إنه تحقق من كونه مسجد بني ظفر وقال ماسينيون إنه مسجد عبد القيس (٢). ومن المعلوم أن الارتباط قوي جدا بين عبد القيس وبين علي وقد وقفوا إلى جانبه في وقعة الجمل ، وحتى منذ وصوله إلى ذي قار قرب الكوفة (٣). وكذلك حال مسجد جعفي ومسجد غني ، مع أن الأمر كان أقل وضوحا ، وكذلك الأمر بالنسبة للحمراء ، وهو شيء محتمل لأنهم أيدوا المختار ، وقد تماثل مسجدهم بصورة مثيرة بمسجد يونس (٤).

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٤٤.

(٢) Massignon ,op.cit.,p.٢٥.op.cit.,

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٠٥.

(٤) البراقي ، ص ٤٥ و ٤٦ ؛ ابن الفقيه ، ص ١٧٤.

٣١٧

المصطلحات

١ : دار عمرو بن حريث

٢ : دار الوليد بن عقبة

٣ : دار المختار

٤ : دار خالد بن عرفطة

٥ : دار أبي موسى

٦ : مسجد بني مخزوم

٧ : مسجد الأشعث

٨ : جبانة كندة

٩ : مسجد بني البدّاء

١٠ : مسجد السّكون

١١ : مسجد بني أود

١٢ : مسجد النخع

١٢ م : جبانة مراد

١٣ : مسجد جعفي

١٤ : مسجد سماك

١٥ : جبانة أثير

١٦ : مسجد بني كاهل

١٧ : جبانة عرزم

١٨ : مسجد بني جذيمة

١٩ : صحراء البردخت

٢٠ : مسجد بني مقاصف

٢١ : صحراء بني قرار

٢٢ : مسجد دارم

٢٣ : مسجد بني شيطان

٢٤ : مسجد بني تيم

٢٥ : مسجد شبث

٢٦ : صحراء شبث

٢٧ : مسجد بني دهمان

٢٨ : جبانة مخنف

٢٩ : صحراء عبد القيس

٣٠ : مسجد عبد القيس

٣١ : مصلى خالد

٣٢ : جبانة بشر

٣٣ : مسجد جرير

٣٤ : جبانة السّبيع

٣٥ : مسجد أبي داود

٣٦ : مسجد ثقيف

٣٧ : حمام قطن بن عبد الله

٣٨ : حمام عمرو بن حريث

٣٩ : مسجد أحمس

٤٠ : الجبانة

٤١ : بستان زائدة

٤٢ : مسجد شبيب

٤٣ : الايوان

٤٤ : دار الرزق

٤٥ : دار الجزارين

٤٦ : حمام المهبذان

٤٧ : صحراء بني عامر

٤٨ : مسجد بني غني

٤٩ : جبانة سلول

٥٠ : مسجد بني عدي

٥١ : مسجد الحمراء

٥٢ : جبانة الصائديين

٥٣ : مسجد بني عنز

قطيعة عشيرة

سكة

دار (مسكن الأشراف)

مسجد

٣١٨

ـ ٢٣ ـ

وضع السكك : السور والخندق

لا يبدو أنّ الإنارة كانت موجودة باستمرار في الكوفة ، خلافا لما قد يظنّ اعتمادا على إشارة ماسينيون الذي يتكلّم عن «المشاعل المنارة ليلا» (١). كان الظلام يسود الكوفة بالليل ، كما كان يسود روما (٢) ، وتقريبا كافة المدن التي سبقت العصر الحديث. ولنا على ذلك حجج مباشرة وغير مباشرة ، فمثلا كان عبيد الله بن زياد يتفقد المسجد ليلا ، سنة ٦٠ ه‍. بالمصابيح مقلبا الزوايا (٣). وقد وقف الحجاج فوق باب القصر ، عند دخول شبيب إلى الكوفة «وثم مصباح مع غلام له قائم» داعيا الناس إلى الحشد ، ويرشدنا السياق إلى أن الرؤية كانت غير ممكنة بالمرة (٤). وكانت المشاعل التي تحدث عنها ماسينيون وجاراه البراقي في ذلك ، من الهرادي الذي أشعلها جنود زيد بن علي (١٢٢ ه‍). لما ثاروا بالليل ، وذلك للتعارف وإشاعة الدفء بينهم في آن لأن «الليلة كانت شديدة البرد» (٥). إنها لظاهرة استثنائية وهذا ما يفسر ملاحظتها وتدوينها ، ذلك أن الأمر لم يكن متعلقا بإضاءة عادية مستمرة للسكك. ويظهر أن الهرادي كانت لا محالة حزما من القصب ربطت بينها فروع الكرم (راجع تاريخ حنبعل) يتمّ اشعالها ورفعها ، وهي تحترق سريعا جدا ، «فكلما أكلت النار هرديا رفعوا آخر». أما الحجج غير المباشرة فكثيرة. ورد بالمصادر أن الليل كان يساعد على التجمعات تأهبا للانتفاض ، واندلاع الثورات ، وأيضا تدبير المؤامرات والتنقلات أو مجرد العنف اليومي ، ولا سيما السرقات. وكان هذا العنف حاضرا وشاملا ، وقد شهر به زياد وندد به في خطبته (٦) التي كانت في الواقع بمثابة منشور موجه لأهل البصرة .. وقد غلب

__________________

(١) Massignon ,op.cit.,p.٦٤.

(٢) Le ? on Homo ,op.cit.,p.١٨٥.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤٢.

(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢.

(٦) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٣١٩

عليه الشعور بقوة الاضطراب العمومي الذي هو اضطراب يتبع الحق العام لكن ارتبط ببداية الاضطراب السياسي. كان الأمر كذلك عندما بدأ الانتفاض على عثمان : فقد بدأت الفوضى تدب وظهرت نزعة مخيفة إلى الإجرام (١). وكان ذلك عبارة عن نوائب من الحمى ، واهتزازات من الضيق لكنه كذلك انخرام طرأ على تكيّف الروح العربية بالمحيط ، بالنظر لضياع الفرد في المدينة التي عمّتها البلبلة ، وأخيرا فهو عنف عادي يفرزه كل تواجد حضري في كل عصر ويحتار منه الناس فتستغله السلطة أو المشوشون في اتجاهات مختلفة. والظاهرة الكبيرة هنا أن زيادا فرض استبدادا شحن بالمخاطر وأوقع بهذا تحولا في تاريخ العراق والإسلام ، وهو أمر شعر به أبو مخنف لوضوحه. فما هو منطلقه؟ كان الأمر عبارة عن معاينة لفوضى عامة عادية يصرح بها زياد بهذه العبارة : «الغارة في النهار والسرق في الليل» (٢).

ويضيف : «وإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه». وأخضع البصرة إلى نظام منع التجول (٣) بصورة مستمرة لا هوادة فيها. كان المقصود من ذلك اتخاذ إجراء لحفظ الأمن اليومي الحيوي ، وهو تنظيم للتعايش الجماعي حتى ولو أخفى هذا الأمر نوايا سياسية دون شك. ذلك أن زيادا نفسه مؤسس الدولة السلطوية وفارض الاستبداد والعسف والممارس للقسوة في الضرب على أيدي الأعداء ، كان أيضا منظما ومربيا. وقد بيّنا أنه جعل من البصرة والكوفة على صعيد التمصير الصرف ، مدينتين حقيقيتين. وإضافة إلى جهده المعماري ، فقد أصدر تدابير كثيرة لفائدة المدينة ، ولا سيما المحافظة على نظافة السكك. فكان السكان ملزمين برفع أكوام الطين بعد نزول الأمطار ، ورفع القمامات من السكك (٤) وبلغ به الأمر في البصرة إلى حد إنشاء مصلحة مختصة لرفع القمامة. والمفروض أنه طبق السياسة نفسها في الكوفة. لقد أشار البلاذري إلى أن المكان الموجود بدار الروميين في المركز ، كان مصبا للزبال (٥) : يعني ذلك أن الناس كانوا يذهبون إليه لصب زبالهم و «الرمل». ثم في عصر يزيد بن عبد الملك ، نظّف هذا المكان وبسط. وقد أشرنا كذلك إلى وضع الكناسة التي كانت مصبا للقمامة ، ثم أصبحت سوقا كبرى للقوافل. وما يستخلص من هذه الأمور أن شاغل نظافة السكك كان موجودا.

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٧٩.

(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٧.

(٣) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٧ ؛ الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٤) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٧.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٨٠.

٣٢٠