نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

نشأ عنه كثير من الطرق الجانبية بكيفية غير منظمة حتما. وقد تحدث سيف بالفعل عن مناهج كانت تتوازى ثم «تتلاقى» ، وتحدث عن أخرى «تتبعها» ، وعن الدور «فيما بينها ومن ورائها». يجب الاعتراف أن هذه الفقرة بإمكانها أن تحملنا على تأويل مخطط الكوفة تأويلا مخالفا لما ذكرت ، أي كمخطط متقاطع حيث تتلاقى السكك ، مفصلة بذلك قطائع مربعة الزوايا (١). وحتى في هذه الصورة حيث يقع تصحيح الاتجاه الطولي الذي اعتقدنا اكتشافه ، فإن عناصر المشكلة تبقى قائمة ، يعني وجود خطط فرعية للعشيرة محصورة في شبكة من المناهج ، وغير قادرة على التمدد إلا إذا قضمت هذه الشبكة ، وبذلك يكون الساكن حبيس مجالها العياني.

إنّما سقنا الكلام عن مشكل النمو والتطور ، ضمن سياق تكوّن الكوفة لكي نحيط فعلا بالتصدع الذي بموجبه تنفصم بنية منتظمة متسعة منشرحة ، إن لم تنقلب في القرون المقبلة. وهي من أمّات مشاكل المدينة الإسلامية وكثيرا ما تعرض لها المستشرقون لكن بصفة غير مرضية.

__________________

(١) انظر المناقشة فيما سبق.

١٤١
١٤٢

الباب الثالث

الاستشراق والمدينة الاسلامية

١٤٣

ـ ١٠ ـ

من النظام إلى الخلل

على الرغم من وجود أدب استشراقي وفير عن المدن الاسلامية ، لم يتساءل إلا علماء قليلون عن المشكل المتعلق بمعنى هذا التطور ومسبباته ، ربما لأنهم لم يتمعنوا في أوضاع الامصار. ذلك أنهم كانوا يفضلون دراسة العصور اللاحقة. وإذا ما شعروا بوجود تناقض بين المدينة الأولى في العصر المبكر ، المدينة المفتوحة المنظمة ، والمدينة الثانية المتكدسة الملتوية وغير «المنظمة» ، فإنهم يعللون ذلك بمفعول التطور وحده ، لا ببنية المخطط الأصلي أبدا. فكيف تم الانتقال من النظام إلى الخلل؟ هذا سؤال تطارحه باحثون منهم : بلانهول X.de Planhol ) ، وبرونشقيك R.Brunschvig ) ، وقيرث Wirth ). لم يفسر ذلك بلانهول ، بل اقتصر على تأكيد الأمر. وباستثناء بعض التخمينات المهمة ، فقد عكس مسعاه تماما أصناف التطورات الاستشراقية كافة عن المدينة الاسلامية ، وهذه التصورات ينبغي إمعان النظر فيها جيدا. قال إن الاسلام المبكر عرف الشوارع المتسعة : «نسب حديث إلى الرسول يقول : يجب أن يكون لعرض السكك ٧ أذرع على الأقل (ما يقرب من ٤ ، ٣ أمتار) ، وهو

__________________

(١)» Le paysage urbain de l\'Islam «,pp.٢٢١ ـ ٢٣١.

(٢)» Urbanisme me ? die ? val et droit musulman «in Revue des Etudes Islamiques XV) ٧٤٩١ (, pp. ٧٢١ ـ ٥٥١.

(٣)» Strukturwandlung en und Entwicklungstend enzen der orientalischen Stadt «in Erkunde ٢٢) ٨٦٩١ (, pp. ١٠١ ـ ٨٢١;» Zum Problem des Bazars) su ? q, carsi (. Versuch einer Begriffsbestim mung und Theorie des traditionellen Wirthschaftszent rums der orientalisch ـ islamischen Stadt «in Der Islam ١٥) ٤٧٩١ (, pp. ٣٠٢ ـ ٠٦٢ et ٢٥) ٥٧٩١ (, pp. ٦ ـ ٦٤;» Die orientalische Stadt. Ein Uberlick aufgrund ju ? nguer Forschungen zur materiellen Kultur «in Saeculum ٦٢) ٥٧٩١ (, pp. ٥٤ ـ ٤٩;» Villes islamiques, villes arabes, villes orientales ? Une proble ? matique face au changement «, communication au Colloque de Tunis sur la ville arabe, ٩٧٩١, publie ? dand La Ville arabe dans l\'Islam, e ? d. par Dominique Chevallier, Tunis ٢٨٩١, pp. ٣٩١ ff.

١٤٤

حيّز يتنافر وتلاقي دابتين مثقلتين بالأحمال. وقد اعتمد عمر هذا العرض بالنسبة للسكك الاعتيادية في البصرة والكوفة ، ثم في بغداد بعد ذلك ، بينما كان عرض الشوارع يبلغ ٢٠ ذراعا (ما يقرب من ١٠ أمتار) فكانت تفصل كتل الدور وعمقها ٣٠ مترا ... وقد ظهر اهتمام تنظيمي مرموق ، ونظام صارم ، وتصميم موضوع بحزم ، حتى في عدة منشآت مدنية إسلامية في بدايتها» (١). ثم أضاف أن «اختلاف المخطط في المدن الإسلامية هو في أكثر الحالات ، واقع مكتسب وليس واقعا تكوينيا» ، وأن الامر لا يتعلق «بنقص جذري» ، بل بالاحرى بتطور لاحق يمكن أن يعزى إلى فقدان التنظيم البلدي فقط. هذه حجة منقوصة لأنه لم يمتنع على الدولة تحمل المهام البلدية المهمة ، كما فعل عمر بالنسبة للكوفة ، والمنصور بالنسبة لبغداد ، كما أنها حجة خادعة دافع عنها الاستشراق القديم مدة طويلة ، وقد صارت محل اتهام في العصر الحديث ، لأنها تستند إلى مثالية المدينة اليونانية ومدينة العهد الوسيط وتعرّف المدينة الاسلامية لا بما هي ، بل بما ليس فيها.

ومع أن روبير برونشفيك درس تطور التمصير الاسلامي من خلال مصادر الفقه ، فقد كان شعوره حادا بالعناصر الحضارية التي ينبغي اعتبارها لشرح هذا المظهر اللافت للنظر في المدينة الاسلامية : تصور الأسرة المنطوية على نفسها (٢) ، ونوع من التسامح القريب من الاهمال تجاه المبادرات الفردية (٣). الشيء الذي جعل الأولوية للبيت على قارعة الطريق العامة التي تواصل قضمها بسبب إمتداد البناءات ، في حين أن الخرابات والأماكن المفتوحة كل الفتح كانت متراكمة فضلا عن ذلك. يقول (٤) : «إن الطريق العمومية سيئة الحماية ، والتسامح يتجه إلى من ينمي الملكية المبنية ، ولو كان ذلك على حساب الساحات والسكك». هذه ملاحظ صحيحة قطعا ، لكن ما هو سبب عجز السلطة عن العناية بالطرق والمحافظة عليها ، بينما كان هذا الشاغل قائما في القرنين الأول والثاني من الهجرة؟ لعل الاندفاعات العميقة هي التي طغت على كل إرادة تنظيمية لدى السلطة التي تنشيء وتؤسس ، ثم تفشل في الصيانة. كانت اندفاعات سكانية ، وتصاعدات لنزعات ثقافية ما زالت حية (النزعة البدوية والشرقية وغيرهما) ، وتنظيم الحضارة الاسلامية ذاتها في إطار المدينة أو نشوؤها البطيء داخل بعض المدن الرئيسة بالذات. لا يوجد أي شك في وجوب طرح قضية الترابطات العميقة الخفية والتطورية أيضا ، بين نمط الحياة كما تكون بفضل سلسلة من الخيارات والالغاءات ، وبين الشكل المدني ، كما يتقولب حول أقوى متضمناته.

__________________

(١) op.cit.,p.٣٢١.

(٢) op.cit.,p.٠٤١.

(٣) Ibid.,pp.٢٣١ ـ ٤٣١.

(٤) Ibid.,p.٤٥١.

١٤٥

وبقدر ما تكونت الحضارة الاسلامية في المدينة ، انتهى بها الأمر إلى إضفاء وجه معين يشكل هذه المدينة بالذات ، ويتمثل في البنية الالتوائية ، وتفوّق المخفي وبالتالي إنغلاق الدار ، وتخصص الأماكن العمومية وتحديد مواقعها بالمركز ، وانقسام المدينة إلى أحياء في فترة لاحقة.

زد على ذلك أن المشكل المطروح يتعلق بمعرفة ما إذا كان المعروض كتطور نحو الفوضى كما قيل (١) ، لا يعبر بخلاف ذلك ، عن نظام ما ، مغاير لنظام الهندسة الواضحة ، كما يعبر عن نظرة جمالية بدأنا نشعر بها اليوم ، وعلينا أن نسرع بحمايتها من غائلة الدهر. ولا فائدة من الإفاضة في القول في هذا الباب ، لكن كان مهما تصحيح عدة فرضيات مسبقة نشرها الأدب التاريخي الخاص بالمدينة الاسلامية.

__________________

(١) Planhol, op. cit., p. ٥٢١; Wirth,» Die orientalische Stadt «, pp. ١٦ ff.

١٤٦

ـ ١١ ـ

مدينة بلا وجه

هل هي مدينة إسلامية؟ هل من يقين في هذا المضمار؟ هذا تساؤل مطروح من طرف الاستشراق ويعلل بالتصور الآتي : بما أنه اتضح وجود فترتين في تاريخ هذه المدينة ، فترة أولى (أمددها بعضهم إلى القرن الحادي عشر) ربما تميزت بشبهها بالعصور القديمة اليونانية والفارسية والبابلية والبيزنطية ، فيستنتج أن المدينة الاسلامية طالما اتسمت ببعض الاستقلالية في مؤسساتها ، وبكونها منفتحة واسعة في مخططها ، وبما أن هذه التشابهات والاقتباسات والتأثيرات واردة ، فالرأي أن هذه المدينة لم تكن إسلامية (١). وجملة القول إن الاسلام لا يصبح إسلاميا كما قيل ، إلا في عصر متأخر. إن الإسلام الأولي المقاتل والعربي ، وكذلك الاسلام المعتد في العصر العباسي ، ذاك الاسلام المتردد بين قطب استبطان المحيط الثقافي وقطب المقاومة ، في حركة جدلية قوية ، يفقد صفته الاسلامية والمدينة من وراء ذلك. وهكذا ، لا يمكن لأية حضارة أن تنسب إلى اسمها إلا حين تنهي بناء ذاتها ، لا في مرحلة التكون ، حتى لو تبين أن هذا التكون تم عن وعي وعمدا. وأحسن من ذلك ، يحدد كيانها الأول بالمؤثرات الحاصلة ، لا بنصيبها من الخلق والابداع.

نزع قيرث أيضا ، وبكيفية أخرى ، الصبغة الاسلامية عن المدينة الاسلامية ، فجعل منها مدينة شرقية. كان واعيا بانتظام الشكل في البداية ، وهو أمر صحيح مهم ، وباختلاله في النهاية ، تبعا لأسلوب النمو على رأيه ، لكنه يتقدم شوطا أبعد من ذلك ويقوم بالتنظير ؛

__________________

(١) Claude Cahen,» Mouvements populaires et autonomisme urbain dans l\'Asie musulmane du : moyen a ? ge «, in Arabica, V) ٨٥٩١ (, pp. ٥٢٢ ـ ٠٥٢, et VI) ٩٥٩١ (, pp. ٥٢ ـ ٦٥, ٣٢٢ ـ ٥٦٢. يلح كاهن على فكرة استرسال الماضي قبل الاسلامي. ويعرض أن يعود إلى فكرة الإسلام بصنفيه. ويختم لابيدوس دراسته عن «المدن الاسلامية والمجتمعات الاسلامية] Ira Lapidus ,Middle Eastern Cities ,p.٣٧ [فيؤكد بوضوح أن «المدن كانت وحدات جسدية لا كيانات اجتماعية موحدة ومحدّدة بصفات اسلامية مميزة».

١٤٧

إن رغبته في إبراز خصوصية المدينة الاسلامية تنتهي به إلى حرمانها من أي طابع إسلامي (١). يمكن تلخيص مظاهرها المميزة فيما طرأ على المخطط من قلب عجيب ، وفي ظاهرة الزقاق غير النافذ ـ وهي خاصية لتنظيم المجال تعكس سلوكا معينا للجماعات البشرية ـ «لا نجدها في مدن العصور القديمة الكلاسيكية ولا في مدن العهد الأوروبي الوسيط» ، وتكون مشتقة من الشرق القديم ، ومن هذه المظاهر أيضا الدار ذات الصحن الداخلي ، وهي إرث شرقي ، والتنوع الإثني للاحياء وبالخصوص وجود السوق. ويرى قيرث أن الخاصيات الأربع الأولى ليست ابتكارات إسلامية ، بل هي عناصر شرقية لا تتميز إلا بالنسبة للتقليد الكلاسيكي أو الأوروبي ، والسوق فقط إبداع ثقافي إسلامي (٢). على أن «السوق (البازار) بصفتها مركزا تجاريا يعمل بمقتضى مبادىء اقتصادية عقلانية ، هي مؤسسة لها أضعف الصلات بالاسلام كدين» ، يقول قيرث مسترسلا في تفكيره دون حرج ، جامعا بين الأفكار الاستشراقية المسبقة والفرضيات المسبقة كما يجدها عند قيبر (٣). ليست هذه المدينة إسلامية لأن أغلب خاصياتها مستمدة من المدينة الشرقية. فهل نسميها لذلك شرقية؟ لا ، حيث «إذا اعتمدنا الآثار المادية والتوثيق المختص بهندسة العمارة ، فإنه يبدو معقولا العدول عن عبارة (مدينة شرقية)» وأخيرا فإنها ليست مدينة عربية (٤). إنها مدينة بدون اسم ، لا ترتبط بأية حضارة معينة. ويختم قيرث تدليله دون أن يستنتج فكرة ما ، لأنه بقي حبيس تصوراته الذهنية ، فهو يرى جيدا أنه حتى بإسناده عناصر شكلية إلى التسلسل الشرقي فإنه يستحيل ، من الوجهة الأثرية ، مماثلة هذه المدينة الفاقدة لكل اسم بالحاضرة الشرقية. الحقيقة أن نقطة الضعف تكمن بالنسبة لكل هذه المساعي ومنها مسعى قيرث كما مسعى من سبقه وبسبب مفارقة هائلة ، في التصور المسبق العنيد للاسلام كدين صرف وجديد إطلاقا ، ويكاد أن يكون مثاليا ، وفي أنه قام بداهة على أرضية تاريخية ملموسة مزجها ، وشكلته هي بدورها. وجملة القول ، يكمن هذا الضعف في العمى تجاه الامتدادات والانقطاعات التي تؤسس مجرى التاريخ بالذات.

انطلق المحللون من هذا الوضع ، فجمعوا الفرضيات والمتناقضات ، إضافة إلى إصدار أحكام قيمية ضمنية وصريحة. ومن الغريب أن قيرث أعلن أن العصور الكلاسيكية

__________________

(١)» Die Orientalische Stadt «,op.cit.,p.٧٨.

(٢)» Zum Problem des Bazars ـ ـ ـ «, Der Islam, ٢٥) ٥٧٩١ (, p. ٩٣;» Die Orientalische Stadt «, Saecu ـ Lum, p. ٣٨.

(٣)» Villes islamiques, villes arabes, villes orientales «, op. cit., p. ٨٩١.

(٤) Ibid.,p.٨٩١.

١٤٨

القديمة والعهد الوسيط لم تعرف السكك الصغرى والازقة (١) ، مع علمنا أن روما عرفتها (٢). كما أنه من الغريب أن تكون السوق مقتبسة حسب بلا نهول من «الأروقة» اليونانية الرومانية (٣). إن هذا المؤلف يجد نفسه في تناقض بين ميلين ، يدفعه أولهما إلى إضفاء عنصر سلبي معين على الحضارة الإسلامية ، فيما يدفعه ثانيهما إلى إنكاره ما إذا كان هذا العنصر يعبر عن ابتكار أصيل (٤). فهو مثلا يلح على فكرة انقسام المدينة إلى أرباض (٥) ، وهذا غرض معروف ينطلق منه للتدليل على ما هناك من نقص في اندماج المدينة الإسلامية. ثم لا يلبث أن يؤكد مباشرة بعد ذلك أن هذا الانفصام لم يبتكره الاسلام لأنه كان حيا جدا في المدن خلال العهد الوسيط (يقصد المدن الاوروبية) (٦). هذا وبما أن كل استمرار تاريخي جغرافي ، وكل خاصية موروثة أو مقتبسة تعادل النقل ، فمن المهم أن يوحّد هؤلاء المحللون مواقفهم ، ويتأكدوا من كون العنصر «المنقول» هو من الشرق القديم ، من فارس أو من التقليد اليوناني وإلا فلن تتبقى سوى إرادة عنيدة للاستنقاص ، إذ لم يعد المقصود إبراز التسلسل. فمثلا هل أن الدار ذات الصحن الداخلي المفتوح ، يجب ربطها بالشرق القديم (قيرث) (٧) ، أم بفارس أم بالتقليد اليوناني (بلانهول) (٨)؟ المسعى المعرّض به في هذا المقام ، ينقلب على نفسه : فيصير أعمى أمام تيارات انتقال صور الحضارة بين الشرق واليونان ، ويتجه إلى ثنائية حيرى (الشرق؟ أم اليونان؟) وبذلك يتيه في التناقض لأنه يريد الافراط في تفريد التقليد الكلاسيكي دون سواه. الحقيقة أن هذا النقد المنهجي يتجاوز قضية نشوء الامصار التي تشغلنا في هذا المقام.

__________________

(١) La Ville arabe dans l\'Islam, p. ٥٩١;» Die Orientalische Stadt «, pp. ٥٤ ff.

(٢) Le ? on Homo, Rome impe ? riale et l\'urbanisme dans l\'Antiquite ? , Paris, nouvelle e ? dition ١٧٩١, p. ٠٧٣. حيث يشير المؤلف إلى الأزقة الضيقة (» angiportus «) ويقول إنها «لم تكن سوى أزقة أو طرق مسدودة في الغالب».

(٣) فكرة لعله أخذها عن :.Sauvaget ,art.cit.,p.٢٣١.

(٤) Ibid.,p.٢٣١.

(٥) Ibid.,p.٩٢١.

(٦) Ibid.,p.٢٣١.

(٧) Op.cit.,p.٦٩١.

(٨) Art.cit.,p.١٣١.

١٤٩

ـ ١٢ ـ

المدينة العفوية والمدينة المنشأة

وينكشف غرض آخر يتجه إليه الاستشراق ، علاقته أكثر مباشرة بدلالة التخطيط : نعني محور المدن «المنشأة» والمدن «العفوية» التي قال عنها فون غرونيباوم (١) : إن «المستشرقين الفرنسيين المتخصصين في تاريخ المدن ، ولعون به» ، لكن هذا لم يمنع أن يفرض المحور المذكور وجوده على المدارس الاستشراقية الأخرى. وقد سبق لجورج مارسي Georges Marc ? ais أن حدد القضية (٢) ، وكذلك ادمون پوتي Edmond Pauty ). يعرض جورج مارسي تعريفا ضيقا إلى أقصى حد للمدينة المنشأة ، حيث تكون الكلمة ـ المفتاح هي عمل من محض إرادة شخص أو عمل اعتباطي (٤). وتتضمن كلمة «اعتباطي» معنى تحقيريا ، على أن هذا الأمر لم يمنع التقليد الاستشراقي كافة تقريبا من اقتباسها ، والغريب أن مؤرخا أكثر كلاسيكية إن صحّ القول ، نعني لاقيدان P.Lavedan لا يقبل مثل هذا التقسيم المتسم بالتصلّب ، مؤكدا أنه «ينبغي إعمال الفكر الدقيق أكثر من التعويل على التفكير الهندسي ، للتعرف على هيمنة أحد الشكلين على الآخر» (٥). إن الفكرة الاساسية التي تستند إليها النظرية الاستشراقية هي أن المدينة «المنشأة» تشكل استثناء في تاريخ الاسلام ، لأنه من النادر أن يكون قد سبق تصورها أو تصميمها. وهي إن وجدت فليس لصالح مجموعة معينة ، بل لصالح الأمير. وبذلك تكون مدينة أميرية أو مقرا للقصر ، وترتبط بوجود أسرة

__________________

(١) Von Grunebaum,» The Structure of the muslim town «, dans Islam. Essays in the nature and growth of a cultural tradition, London, p. ٤٤١.

(٢)» La conception des villes dans l\'Islam «, Revue d\'Alger, n ٠١٠, t. II, ٥٤٩١, pp. ٧١٥ ـ ٣٣٥.

(٣)» Villes spontane ? es et villes cre ? e ? s en Islam «, Annales de l\'Institut d\'Etudes Orientales d\'Alger, t. IX, ١٥٩١, pp. ٢٥ ـ ٥٧.

(٤) Art.cit.,p.,٧١٥.

(٥) P. Lavedan, Ge ? ographie des villes, Paris ٦٣٩١, p. ١١.

١٥٠

حاكمة ، أي أنها تكون مؤقتة ومفتعلة بالضرورة (١). فماذا يكون مصير المصر مثل الكوفة والبصرة والفسطاط والقيروان ، من رؤية الأمور هذه؟ أمدينة عفوية أم مدينة منشأة «لغرض استراتيجي» فقط ، لا لسعادة المجموعة؟ هكذا ، وبقدر ما كانت هذه الامصار مجرد معسكرات في بداية الأمر ، و «مخيما» ، تطورت في مرحلة ثانية إلى مدن تملك الصفات الاساسية للحاضرة ، فلا يمكن لهذا التطور أن يكون ثمرة لإرادة أصلية بل نتيجة للمحيط والظروف أي للعفوية.

لم يقصد إنشاء مدينة معينة لذاتها ، بل المعسكر هو المقصود بالذات (٢). وقد صلّب جورج مارسي وجهة النظر التي كان أبداها في مقاله ، ضمن رسالة وجهها إلى پوتي Pauty (٣) حيث يتساءل «هل من الممكن الكلام على إنشاء عندما تنشأ المدينة عن معسكر ...؟ هناك مستوطن عسكري سابق : لكن ليس المعسكر مدينة وليست الخيام دورا. وأضاف قائلا : «إن هذه المقرات العسكرية التي تجمع حول قائد العمليات الاقليمية مصالح الحامية والمنشآت شبه الدائمة لا يمكنها ، بأية حال ، تمثيل إرادة أصلية لارساء قواعد مدينة» (٤). وزاد قوله : «هناك آخر الأمر ... رباطات ومعسكرات وحاميات «أنشئت» قرب المدن القديمة. كما نجد أحياء «منشأة» يقيم فيها الأمراء. وقد انبثقت عنها تجمعات سكنية تكونت من الاستمرار في تعمير الاحياء التي تولدت حولها. وتميزت دون منازع بطابعها العفوي» (٥).

ومهما كان الأمر ، وسواء أكانت المدن منشأة أم عفوية ، فإن العمل التمديني الاسلامي محكوم عليه مسبقا ، مع بعض التخفيفات عند الاخوين مارسي (٦) ، وبصورة فظة

__________________

(١).Georges Marc ? ais ,art.cit.,p.٩١٥ لكن المشكل مطروق هنا مع تحفظات ؛ راجع بالخصوص : Pauty ,.art.cit.,pp.٨٥ ـ ٣٦. وقد أجمل Grunebaum على أحسن وجه وجهة النظر هذه في : The Structure of the muslim town in Essays ـ ـ ـ , p. ٤٤١.

(٢) Pauty ,pp.٠٦ ,١٦ ,٤٧.

(٣) Ibid.,p.١٦.

(٤) Ibid.,p.١٦.

(٥) Ibid.,p.٤٦.

(٦) لا ننس أن مقال W.Marc ? ais المعروف وعنوانه» L\'Islamisme et la vie urbaine «، الذي كان في الأصل بحثا مؤرخا في ١٩٢٨ ، وأعيد نشره في.Articles et Confe ? rences ,pp.٩٥ ـ ٧٦. ، هو الذي انطلق في البحث في هذا الاتجاه. كانت نظرته دقيقة ذكية بالنسبة لذلك الوقت وبالأحرى رصينة. وقد سجل «المفارقة» الواردة في نجاح التمصير الاسلامي ، والجهد الخلاق وكونهما حدثا بمساعدة مجموعة بشرية كانت من الرحل أصلا ، وقد حاول تفسير هذه الظاهرة بالتأطير الذي حصل بفضل العناصر المستقرة من الحجاز كما بالمثل الأعلى الجماعي للاسلام. وسيعود الاستشراق اللاحق كله إلى هذه الفكرة الأخيرة منسقا إياها ، كما جرى العود إلى استخدام

١٥١

وردت عند پوتي وبلانهول ، حيث لا تتطور المدينة العفوية من العشوائية إلى النظام في هذا المقام ، خلافا للنموذج الاغريقي ـ الروماني ـ الاوروبي. وإذا ما وجدت مدينة منشأة «فإنه يحصل محو لهيئتها الأولية» (١).

من المؤكد أن هذه الرؤية كانت محل مراجعة وتدقيق أحيانا ، مثلا من قبل هنري تيراسHenri Terrasse (٢) ، لكنها ما لبثت أن فرضت شبكتها على بعض التحاليل اللاحقة ، ولا سيما التحاليل الأنجلوسكسونية. لم يقم فون غرونيباوم إلا بإجمال وجهة نظر المدرسة الفرنسية ، مضيفا عليها موافقته المترددة (٣). وقد تجاهلها غويتين Goitein مقرا بأن الفسطاط الذي عمّر فورا زمن الفتوح ، صار مركز إشعاع للتعريب اللغوي كما للمبادلات التجارية (٤). أما البرت حوراني فهو يحاول التخلص من الرؤية القديمة التي تنفي عن الإسلام وجود حياة حضرية حقيقية ، وهو لا يقوم سوى بالتذكير بإشكالية المدن المنشأة والمدن العفوية ، ملطفا من حدتها كثيرا (٥). لكن ما راعنا إلا لاسنر الذي يعتمد فكرة عفوية الأمصار ، ويعرضها عرضا يبدو غريبا من طرف مؤلف أمعن النظر في نشوء بغداد ، لكنّه لم يدرك حقّا كل الإدراك قرابتها من الكوفة الأولى. بل نجده خلافا لذلك يعارض بين نمو الكوفة والبصرة من جهة ونمو بغداد من جهة أخرى (٦). ففي هذه الحالة نكون إزاء مدن

__________________

صفة «الاعتباطي» بالنسبة للمدن المنشأة. الواقع أن ماكس فيبر (Max Weber) عبر عنها تعبيرا تاريخيا أقوى حيث طرح الاسلام الأولي كإسلام محارب وسياسي وجماعي ، خلافا لإسلام العصور التالية حيث تظهر العاطفة الدينية الفردية ، وخلافا أيضا للاسلام في الفترة المكية الذي ينعته بأنه «دين أخلاقي يستهدف النجاة : Econo ـ. mie et socie ? te ? , trad. fr., Plon, ١٧٩١, t. I. p. ٧٩٤ وقد أخذ المستشرقون عن ماكس فيبر تعريفا محددا للغاية لمفهوم المدينة يتوقف عند شخصيتها السياسية الإدارية : M. Weber, La Ville, trad. fr., Paris, ٢٨٩١, pp. ٩٢, ٨٣. ، بحيث تكون المدينة ظاهرة أوروبية محضة وهذا ما انفكّ يوحي به ماكس فيبر.

(١) Planhol ,Art.cit.,p.٥٢١.

(٢) ذكره پوتي : Pauty ,p.٣٥ ,note ٣. ، وهو يرى أن «المعسكر الذي صار مدينة ينتج عنه مدينة منشأة ، إذا بقي تنظيم المعسكر حيا في المدينة».

(٣) Ouvr.cit.,pp.٤٤١ ـ ٥٤١.

(٤) Goitein,» Cairo : an Islamic City in the light of the Geniza documents «, dans Lapidus, Middle Eastern Cities, pp. ١٨ ـ ٢٨.

(٥) A. Hourani,» The Islamic City in the light of recent research «, dans The Islamic City, p. ٠١. وهو يلخص نظريات پوتي جاعلا من الطابع العفوي للمدينة الإسلامية انتصارا لقوى الاستمرارية في المجتمع على الحكم الزائل. والملاحظ أن لابيدوس اعتمد إنكار الطابع الاسلامي للمدينة الاسلاميةLapidus ,op.cit.,.p.٤٧.

(٦)» The Caliph\'s personal domain «,p.٣٠١. وقد أعاد نشره مع بعض التعديلات الطفيفة في : Topography of Baghdad in the early Middle Ages, p. ٨٣١.

١٥٢

عفوية ، وفي الحالة الثانية نكون إزاء مدينة منشأة. ذلك أن الأمصار بصفتها مدنا للحاميات في بداية الأمر ، لم تكن «مبنية حسب تصميم مسبق». كانت «مستعمرات عسكرية» تتميز بسرعة نموها الأول ، ولعل ذلك النمو تم «دون شعور واقعي بالعناصر الشكلية للتخطيط» (إن العبارة الإنجليزية المطابقة City ـ planning تكتسي فيما يتعلق بالكوفة ، وضوحا كبيرا لتضمنها فكرة التخطيط). ويضيف أن الاستقرار الدائم ما لبث أن تحقق ، واستبدلت الأسواق بطرق التموين ، كما نشأ تنظيم صناعي ، لكن كل ذلك تم على صورة المدينة الخارجية التي تحيط شيئا فشيئا بالمعسكر الأصلي وتغمره. يبدأ الزخم من المركز وتقع دفعة من الداخل نحو الخارج. إن نمو المصر يظهر هكذا بمثابة السلسلة من «المراحل المتعددة للتولد العفوي» ، وليس نتيجة «تنفيذ لمخطط منتظم» (١). وهكذا فإن هذا التصور قد اقتبس الكثير من أفكار پوتي ، إذ يتضمن الانقسام بين المعسكر والمدينة اللاحقة ، وفقدان كل تصميم سابق ، ونعت هذه المدينة اللاحقة بأنها «عفوية» ، حيث تكون برزت وراء النواة الأولى بحركتها الذاتية ، وبكيفية فوضوية ، كما أنها لا تخضع للمراقبة. لكن الجديد عند لاسنر أنه يلح على اتجاه الحركة التي تكون هنا داخلية ـ خارجية ، فيجعل منها تحولا للمركز. لماذا؟ لأنه يريد قلب الحركة ذاتها فيما يخص المدينة المستديرة ، فتصبح خارجية ـ داخلية ، تنطلق من الأرباض المؤقتة التي أقامها جيش البنائين في اتجاه المدينة المستديرة ذاتها. ويرى لاسنر أن جمهور العمال المشتغلين في بناء المدينة الجديدة قد أفرزوا مدينتهم الخارجية قبل الانتهاء فعلا من المدينة المستديرة ، وتحت أسوارها بالذات. كيف ذلك؟ في شكل مركب مدني قيد التوسع ، بمقابره ومساجده ومؤسساته المستقلة (٢). وبذلك يكون قد سبق الكرخ ، وعلينا أن نقول انه الكرخ الأول ، مدينة السلام. وتصطدم هذه النظرة بشهادات المصادر كما سنرى ذلك ، وسلسلة التواريخ التي تقترحها المصادر نفسها. لكن المهم الآن أن نؤكد هذا التعارض ، الذي أبرزه المؤلف ، بين تكوّن الكوفة وتكوّن بغداد ، حين قلب اتجاه النمو الأول (٣). وهنا يكمن التضارب ، إضافة إلى أن التصور الذي اقترحه لنشأة الكوفة كان خاطئا. ذلك أن هذا المؤلف جعل من المدينة المستديرة مدينة منشأة بصفة ممتازة من جهة ، قد تمّ تصميمها بصرامة مسبقا ، وكأنها قدت في قالب أسقط على الأرض كما قال الجاحظ ، وهو يجعل منها من جهة أخرى امتدادا لمدينة عفوية سابقة للمدينة الأولى. وإذا ما صدقنا لاسنر فإن مدينة المنصور تفقد كثيرا من مظهرها الإرادي ولا سيما أنه وصفها

__________________

(١) Ibid.,p.٣٠١.

(٢) Ibid.,pp.٩٣١ ـ ٠٤١.

(٣) Ibid.,pp.٨٣١ ـ ٩٣١.

١٥٣

كمنتوج «لتطور بدأ من الخارج إلى الداخل (oustide ـ in) ). وإذا استقرت المدينة الحقيقية ـ مدينة السكان والأسواق والعسكريين والصناع والتجار ـ خارج الأسوار من أول وهلة ، فماذا يبقى في الداخل سوى مركز إداري ، أي «ملك خاص للخليفة» شبيه نوعا ما وفي خاتمة المطاف بحامية الكوفة؟ وأين يكمن أيضا تطور الداخل بواسطة الخارج ، إذا ما خطّت المدينة المستديرة مسبقا ، وحصر مجالها ، فكانت فعلا لا تقدر على النمو إلا قليلا؟ وعندئذ ، هل يتعلق الأمر بمصر معكوس؟ يكفي القول ان المركز كان موجودا تماما في المصر وأن كل دفع ممكن صدر منه ـ وهو أمر يبدو لنا بديهيا ـ وأن نعيد إلى الجادة معنى تطوره لكي تصير بغداد صنوا للكوفة ، طبق مقدمات لاسنر نفسه. لقد أنشىء مركز هنا وهناك ، وتحول إلى مدينة حقا ـ مدينة عفوية ـ بفضل امتداداته المتنامية. لكنّ هذه المقدمات خاطئة ، ولا سيما بخصوص الكوفة.

والحق أن كل المواقف المشار إليها سابقا والقابلة للمحاججة بالنظر للأمصار الأخرى ، يتبين خطؤها قطعا بالنسبة للكوفة. فيمكن عند الضرورة الصاق مفهوم «المدينة العفوية» بالبصرة فعلا ، لا بسبب الثنائية المتصورة بين المعسكر والمدينة المقبلة ، ولا كذلك بسبب تطور ما خارجي مستقل عن المصر البدائي ومنعكس عليه ، بل بالأحرى لأن البصرة خلافا للكوفة ، ظهرت بصفة عفوية نسبيا ، متواضعة في الأصل ، وانبعثت انطلاقا من حافز على الهجرة جدّ لدى قبائل البحرين. لم تؤسس البصرة بفعل عمل مصمّم ومسترسل من طرف السلطة بل هي ظاهرة متفرّعة شبه هامشية ، ظاهرة ما زالت غامضة. فضلا عن أن في البصرة يدرك هذا التطور البطيء الذي تم على مراحل ، من الخيام الوطيئة إلى خصاص القصب التي ترفع أثناء الحملة. وقد وصفت المصادر بوضوح أول مسجد في البصرة على أنه مخطط بكل بساطة لا غير ، إنما لم يتمّ بناؤه ولعله أحيط بسياج من القصب. وإذن فليست ظروف البصرة هي ظروف الكوفة حيث استقر أكثر الجيش الفاتح الذي انتصر في معارك القادسية والمدائن وجلولاء : وهي مجموعة ملحاحة متماسكة تطالب وتحصل على رعاية السلطة. فيمكن فعلا الإشارة إلى عفوية نسبية في البداية بخصوص البصرة. ولم يتردد كايتاني في الإشارة إلى هذا الأمر (٢) ، مقارنا بين البصرة التي «تولدت من ذاتها ، ولضرورة في نفسها» ، وبين الكوفة التي ظهرت «اعتباطا» وبإرادة شخص. وقد أدرك ريتمييرReitemeyer ذلك الأمر جيدا (٣) ، وجاراه كرسويل Creswell ). لكن بالنسبة للكوفة لا

__________________

(١) Ibid.,p.٠٤١.

(٢) Caetani ,Annali dell\'Islam ,III ,٢ ,p.٤٣٨.

(٣) Reitemeyer, Stdtgrundungen der Araber in Islam, p. ٥١.

(٤) Creswell, Early Muslim Architecture, ouvr. cit. I, p. ٥١.

١٥٤

مجال لطرح قضية العفوية لا حسب تصوّر پوتي ، ولا كذلك لا سنر ، وهما المشتركان في خلفية فكرية تقرّ بالفصل الجذري بين مجرد معسكر مصطنع «إرادي» بدوي النمط وغير منظم لكونه لم يصمم مسبقا ، وبين مدينة تطورت من ذاتها بعد ذلك بمفعول المحيط ، فكانت واقعا آخر. ذلك أن ما عايناه انطلاقا من تحليل دقيق للمصادر شيء آخر تماما. ظهرت عملية لتخطيط المجال ، وتوزيع الكتل المجالية بين مركز سياسي ديني وبين حزام للسكن ، وتهيئة مرتبة لمناهج الاتصال. ذلك كان التخطيط الذي جاء بعد عملية التمصير مباشرة ، والتمصير مفهوم يستند إلى مشروع إقرار مجموعة بشرية في تجمع سكني مهما كان شكله. ولا نرى هنا ما يشبه المعسكر (١) على طريقة البارث أو الرومان أو الساسانيين أو حتى العرب لمجرّد أن تعمير الكوفة تم بواسطة الجيش. إذ لا يمكن وصف هذا الجيش بمفاهيم معهودة كأن نقول بأنه جيش نظامي دائم ، وجهاز لدولة وجدت قبله ، ينفذ سياستها التوسعية. لقد تعلق الأمر بعناصر قبلية كاملة ، هاجرت بأسلحتها ، وأمتعتها ونسائها وأطفالها وكان لها حرية الاختيار ومعنى التملك وشخصية خاصة. ولم تقم الدولة إلا بتنظيم هؤلاء ، فعرضت عليهم بناء المستقبل. ولماذا تعتبر الكوفة معسكرا ، حتى في فجر إنشائها بالذات ، وحتى قبل الشروع في التخطيط ، في حين يقصد بالمعسكر الهيكل العسكري المتحصن المتأهب للدفاع ، وفي حين يخضع العراق كل الخضوع منذ ما يزيد عن سنة ، ويقيم العرب في الأثناء بالمدائن التي لم تكن معسكرا في شيء ، مع أنها كانت أقرب كثيرا من قواعد العدو ، أي التراب الإيراني ذاته؟ حقّا لم ينو عمر تسريح المقاتلين العرب ، بل بالعكس كان يريد المحافظة على هذه القوة الضاربة لاستبقاء العراق وإنهاء فتح الشام في آن واحد. لكن سنة ١٧ ه‍ كانت بالأحرى سنة الانفراج ، وتنظيم المكاسب ، وإقامة هياكل المستقبل ، ولم تكن سنة تجميع القوات العسكرية استعدادا لعملية معينة. لم يكن الوضع ينبىء بالخطر. وكان المقاتلة العرب ينتشون بنصرهم دون أن يسرحوا ، وهم في راحة أو يكادون. إنّما همّهم الوحيد أن يجدوا موطنا للاستقرار و «دارا للهجرة» ووطنا ، ويحققوا حلمهم في الاستقرار ، بمعنى أن يعودوا إلى الحياة المدنية. إلا أن الخيار العسكري بقي قائما ، كما تمّت المحافظة ، دون شك ، على العادات المكتسبة منذ وقت قريب في التنظيم العسكري الذي يشكل إطارا تنضبط داخله جموع المقاتلين ، ولذا فمن المعقول تصور وجود كوفة أولية ـ الكوفة خلال الشهور التي سبقت التخطيط ـ تنشأ طبق مقاييس تتقاسمها

__________________

(١) قبل أن يظهر التفكير التمديني الحديث بكثير ، وحتى قبل وليام مارسي ، انتشرت فكرة المعسكر في الفكر الاستشراقي : وقد جزم بذلك كايتاني ، Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٣٤٨ , ، مؤكدا الأمر ومعتمدا ما جاء به Mu ? ller في الصفحة ذاتها ، وهو الذي عرّف الكوفة كمعسكر كبير تحول بعد ذلك إلى مدينة ، وجيش الكوفة كجيش مؤلف من الاحتياطيين (Reserveheer).

١٥٥

الصبغة العسكرية والصبغة البدوية ، ولا نعلم عنها إلا القليل. وتكون الكوفة إذّاك في هذه المرحلة الانتقالية السريعة جدا ، منظمة حسب تنظيم مرن للمعسكر ولكن دون صرامة الجيوش خلال الحرب ـ وكيف يكون الأمر مخالفا لذلك على أرض عراء؟ ـ وأيد عمر المشروع ، ثم تمّ تجاوز هذه الصيغة عاجلا إذ ظهرت رغبة ملحة في الاستقرار ، أبداها المقاتلة ، فحل دور التخطيط سريعا.

على أنه لا يمكن التحدث بالنسبة لهذه المرحلة الأولى المحددة زمنيا ، عن إرادة تعمدت «إنشاء» معسكر ، بل كانت إرادة في إقرار جموع المهاجرين على المكان ، أي على الأراضي التي استولوا عليها ، بمقتضى عدة خيارات أساسية هي : التجمع والقرب من بلاد العرب. أما الأمور الأخرى ، أي صيغة المجموعة السكنية ، فقد ترك الأمر لرغبات القاعدة. وصادف أن اختارت صيغة التجمع المدني ، أي تجمع المجال المبني المهيىء الوظيفي المتلاصق الذي يكون ملكا لهم ولا يصطبغ بصبغة حضارة أخرى. يجب التشديد على تسجيل هذه الرغبة في التخلي عن نمط حياة الترحال ، وهذه الجاذبية القوية نحو الاستقرار ، وهما خاصيتان تظهران عند المهاجرين في كل العصور. إنها الحاجة الكبيرة إلى الهدوء والمشاركة الاجتماعية. وبهذا فإن عمر لم يرد «إنشاء» معسكر أو مدينة ، بل كان «يشير» فقط (كلمة شعبان جاءت في محلها هذه المرة) (١) ، بنقطة للاستقرار والتجمع ، على أناس حرضهم على الرحيل خارج بلاد العرب ، فما لبثوا أن اختاروا الإطار المديني. وسواء أكانت مادة البناء المستعملة آجرا ـ وهذا كان تقليديا في بلاد الرافدين ـ أم قصبا ، فذلك أمر لا يهم كثيرا. المهم أن تعوض هذه المادة الخيمة ، فتشكل رمزية الاستقرار. لكن الأهم من ذلك هو أن يأتي التخطيط بعد تقرير البناء ، ويتضمن التخطيط جيدا فكرة ال» Planning «أي صورة المدينة المرسومة على الأرض ، حتى لو رفضنا أن العرب بكّروا بالبناء الصلب ، وأنه وجب ترقب ولاية المغيرة بضع سنوات أخرى. وقد اتفقت المصادر إما على طرح تزامن التمصير والتخطيط وإما على أسبقية التمصير على التخطيط بصورة طفيفة ، وهو رأي سيف الذي أضاف فكرة البناء بصفة قطعية. وتوحي لنا المصادر أيضا بتصور إرادة واضحة صادرة عن سعد ومستشاريه : منهم أبو الهيّاج الأسدي ، ونصارى الحيرة ، وبعض الفرس. فتم على الأقل تحديد المركز السياسي الديني طبق تقنية معينة ، وأحيط بخندق ، وأقرّت حول ذلك العشائر والقبائل. ووضع داخل المركز مركّب المسجد والقصر ، مع أنه كان بدائيا ، وإن لم يشيد أو أن بناءه كان متواضعا. وهكذا وضعت الأجهزة الأساسية للمصر وتحددت نهائيا طبق توجيهات دقيقة : إنه خلق لا مراء فيه تم عمليا من أول وهلة. وسوف تمتلىء الكوفة

__________________

(١) أمير المؤمنين ـ» first counsellor «، في :.Islamic History ,p.٧٥

١٥٦

بداية من هذا التصميم الحاسم وحتى الثابت القّار لحياتها المقبلة. فليست الكوفة معسكرا تحول ببطء إلى مدينة (وبصورة أخرى لم يأت هذا التحول من الخارج ، وهذه فكرة مجانبة لا تقبل بتاتا) ، بل مدينة مخططة ممفصلة أحسن بناؤها بمقتضى تصورها الأول. هذا أقل ما يمكن لأوجز الأخبار أن تفرضه على اهتمامنا.

بل يرى سيف كما ذكرنا سابقا ، أن المدينة بمعناها الكامل قد أقيمت في زمن سعد ، بمناهجها وخططها السكنية وأسواقها وقصرها المشيد وقاعة الصلاة بالمسجد ، الخ ... إن التقليد الاستشراقي يخطّىء عادة سيفا (١) ، لكن دون أن يخلو الأمر من تناقض ، لأنه يستمد منه كثيرا من الأخبار والحجج. وقد سبق أن دحض كرسويل وفلهاوزن وكايتاني ، الذين اعتبروا الغلوة (رمية السهم) قياسا لضلع المسجد ، واعتمد جميعهم رواية سيف والبلاذري أيضا. وبصورة أدق ، إن سيفا هو الذي أتاح لكرسويل تصور تصميم المسجد ، حتى أنه يتقدم بنقاش حول سقف الظلة والنمط الهندسي الذي يستند إليه (٢). ويرى ريتميير أن رواية سيف تسقط واقعا لاحقا ، لم يوجد إلا في إمارة زياد ، وأن المسجد الأول كان بناية بدائية ، بناها العرب بمفردهم (٣) ، وهو أمر غير مستبعد. ويوحي ما ورد عند سيف من تناقضات وتضعيفات ، كما قلنا ، إسقاطات ترد الحاضر إلى الماضي ، لكن فيما يتعلق بالبناء أو إنهاء البنايات أكثر مما يتعلق بالتخطيط ذاته. ما هي القاعدة التوثيقية التي يستند إليها كرسويل (٤) ، وأية حجة منطقية يعتمد ليصرّح بأن عرض السكك يجب تأريخه في إمارة زياد؟ يعترف من جهة أنه كان يوجد بداية خمس عشرة سكة ـ منفذ لم يذكرها إلا سيف. وينسب من جهة ثانية تقرير عرضها إلى زياد في حين أن المساس بنسق الطرق يبدو صعبا بعد ثلاثين سنة من إنشائها ، دون خلخلة تنظيم السكن بصورة خطيرة. وما نريد تقريره هو أنه لا يخول للمؤرخ رفض رواية سيف الثمينة ما لم يكتشف اسقاطا واضحا جدا أو تضاربا فادحا ضمن الرواية ، أو مع أغلب المصادر الأخرى. التخطيط إذن كما تحدثنا عنه طويلا ، حصل فعلا إثر الإنشاء وبميزات لا تنفك تثير إعجابنا إذا ما فكرنا في سرعة الحركة ، ووضوح التصور ، وروح التنظيم. لكن السرعة ليست لتفاجئنا ، وقد جدت في مرحلة تاريخية مشبعة بالمبادرات ، مفعمة بالقرارات ، تبعث على الخلق بصورة عالية ، مغطية مسارها على وتيرة لاهثة. يوجد في البنية الداخلية للكوفة الأولية كما ثبّتها التخطيط ، جانب

__________________

(١) Wellhausen, Skizzen und Vorarbeiten, VI, p. ٣٧; Reitemeyer, Sta ? dtgrundungen, pp. ٤٣, ٥٣; Creswell, Early Muslim Architecture, I, p. ٧١.

(٢) Ouvr.cit.,I ,p.٨١.

(٣) Ouvr.cit.,pp.٤٣ ,٥٣.

(٤) Early Muslim Architecture ,I ,p.٧١.

١٥٧

واسع من الابتكار السريع ، وجانب من الإرث المتلقى جاهزا من عمل الرسول (كان الرسول يخطط ويقطع القطائع في المدينة وفي غيرها ، كما جاء في السنّة) (١). ويوجد جانب استيعابي في مجال التمدين في بلاد العرب وعلى حواشيها ، وكذلك جانب من استبطان التصورات الثقافية الخارجية ـ لكن ما هي هذه التصورات؟ ـ ولنلاحظ تفوق التخطيط في هذه الفترة التكوينية على الهندسة المعمارية ذاتها التي سيأتي دورها فيما بعد. وتبدو الكوفة في الحركة العامة لتاريخ التمدين بمثابة الحلقة الأولى من سلسلة هائلة من الإنشاءات شهدها القرنان الأول والثاني من الهجرة ، وبلاد الرافدين أكثر من غيرها. ومن المؤرّخين من فكّر في مقارنة هذه الظاهرة بإنشاءات الإسكندر وخلفائه (٢) التي هي علامات على المسيرة الساحقة للفاتح العظيم. وهي مقارنة أكثر سدادا مما يعتقد ، لو أدركنا ، بعيدا عن فكرة «العمل التحضيري» أو «إرادة التمدين» ، السبب الأساسي الذي من أجله قام هذا العمل غداة فتح كبير هنا وهناك أي عند اليونان وعند العرب. لقد تعلق الغرض بإقرار شعب طارىء ، Alloge ? ne ، وبتأسيس نقط استيطان هي بمثابة العلامات للهلينية والعروبة. وهكذا ، فإن الرجوع إلى الماضي يفرض نفسه لنحاول تحسين إدراكنا للصورة الأولى التي كانت عليها الكوفة ـ ذلك النموذج الأصلي ـ وأيضا للبيئة التاريخية التي انصهرت فيها. وهنا يحق القول إننا بإزاء قضية تاريخ شمولي أكثر مما نحن أمام قضية تمصيرية أو معمارية.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٢٨١.

(٢) Maurice Lombard,» L\'e ? volution urbaine pendant le haut moyen a ? ge «, Annales, Economie, Socie ? te ? , Civilisation, ٢١) ١ (٧٥٩١, pp. ٧ ـ ٨٢, reproduit dans Espaces et Re ? seaux du Haut Moyen Age, pp. ٧٤ ـ ٢٧; L\'Islam dans sa premie ? re grandeur, Paris, ١٧٩١, p. ٢٢١.

١٥٨

الباب الرابع

التأثيرات والجذور.

من بابل إلى مكة

١٥٩

ـ ١٣ ـ

قوّة الماضي :

الشرق والهلينية وامتداداتهما

ارتبط تكون الكوفة فعلا ، مكانا وزمنا ، بتقاطع المؤثرات والتقاليد المتراكمة. الحقيقة أن ما هناك من مقارنات دالة بين المدينة الاسلامية والمدينة الشرقية تصلح خاصة للفترة اللاحقة ، حين تكون المدينة الاسلامية قد أنهت بناء ذاتها على كل الاصعدة. والحقيقة أيضا أنه لا يمكن إلا مقارنة مرحلة ما من تطور المدينة الاسلامية بمرحلة أخرى من تطور المدينة الشرقية ، مثلا بغداد في القرن الرابع ه / العاشر م. وبابل زمن هرودوتس. على أن الفترة الحاسمة بعد تجاوز الطبوغرافيا في مسيرة حياة مدينة ما ، هي فترة إنشائها ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بحاضرة أم مثل الكوفة ، وأن يصاحب هذا الإنشاء تحول حاسم في التاريخ.

لا يفوتنا أن نلاحظ أن فجوة ألف سنة تفصل الكوفة عن بابل الامبراطورية الجديدة ـ وهذا قصير في حياة الشرق ـ وكذلك مسافة مكانية تعادل ٩٠ كيلومترا (١). إنه لجوار ممتاز في رمزيته ، وما يلاحظ بصفة رئيسة وبالكيفية نفسها ، التأثير المهيمن في ذلك العصر لمركّب سلوقية ـ المدائن ، وهو خلق يوناني ثم بارثي ، فيه تبلورت كل الخطوط البارزة للشرق ، أو ما تبقى منها. كان التأثير الهلنستي الذي جسمه بقوة السلوقيون ، وكانت روما وبيزنطة ، وكان الساسانيون الذين أعادوا تنظيم بلاد الرافدين (٢). هذه طبقات متعددة إذن ، لكنها تحركات أيضا ، واستمرارات واضحة وانفصامات. كان ضروريا تذكير القارىء

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣٠٩ ؛. Caetani, Annali, III, pp. ٣٣٨ ـ ٦٣٨; Le Strange, pp. ٠٧ ـ ١٧.

(٢) Pauly ـ Wissowa, Realencyclopa ? die der classischen Altertumswissens chaft, XXIX, pp. ٦٠١١ ـ ٦٤١١; Oppenheim, Ouvr. cit., Cambridge, VI, pp. ٩٢٤ ـ ١٣٤, ٥٠٥ ـ ٥١٥, ٦٥٥ ـ ٨٥٥; VII, pp. ٥٥١ ـ ٤٦١, ٣٨١ ـ ٩٨١, ٤٩١ ـ ٦٩١; Rostovtzeff, Social and Economic History of The Hellenistic World, Ox ـ ford, ١٤٩١, I, pp. ٧٧ ـ ٠٩, ٢٢٤ ـ ٠٤٤, ٠٣٥ ـ ٣٣٥; II, pp. ٤٦٦ ـ ٨٦٦, ٥٩٦ ـ ٢٠٧, ٤٤٠١ ـ ٣٥٠١, ٠٣٢١ ـ ٨٣٢١; N. Pigulevskaja, Les Villes de L\'Etat iranien aux e ? poques parthe et Sassanide, Paris, ٣٦٩١.

١٦٠