نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

إما من عرب الضاحية (الحيرة) ، وإما جندوا من القبائل المتحالفة : وهي قبائل عجل وأياد وضبيعة. وانتهت القضية بتقتيل حقيقي لهؤلاء العرب والاستيلاء على أمغيشيا (١) ، وكانت أليس قلعة لها (٢). كما وقع الاستيلاء على الحيرة بالعنف نفسه. فقد ضرب الحصار على حصون القصر الأبيض وقصر العدسيين ، وقصر بني مازن ، وقصر ابن بقيلة حيث كان يوجد عمرو بن عبد المسيح (٣) الحامي الرئيسي للحيرة. ونشبت المعركة ودخل الجيش البيوت والأديرة ، وبدأ التقتيل ، فطلب سكان القصور الصلح ، لما كانت عليه المدينة والأديرة من عجز عن الدفاع ، وقبلوا بدفع جزية تبلغ ١٩٠ ألف درهم ، ووعدوا ، فوق ذلك بإرشاد الجيوش الإسلامية. وتجدد المشهد نفسه تقريبا في كل مكان : الشروع في التقتيل في المدينة الملاصقة للحصن ، واستسلام المدافعين عن الحصن بعد التفاوض على إبرام اتفاق. وكان يتم أحيانا إبرام معاهدة صلح بعد حصول اقتحام واضح لا جدال فيه : حدث ذلك في بانقيا وعين التمر (٤). ويروي الطبري الأمور وكأنه يريد إطلاعنا على القواعد الفقهية التي اعتمدها الفتح في البداية وقد يتعلق الأمر أيضا بإسقاط على الماضي. ويظهر خالد في هذه الروايات بمظهر أول شخص ينظم الفتح ويكتشف ويمارس قواعد تنظيمه الأساسية : مبدأ الصلح ، والعهد ، وبقاء الفلاحين في أراضيهم ، والتمييز بين العمل والثغر (٥).

وهكذا أنهي فتح نصف السواد (حتى دجلة) بعد إنجاز ضربة خاطفة ، ساعد عليها غياب الفرس من الساحة غيابا كاد يكون تاما ؛ ويمكن القول إن خالدا تعهد الفتح وكأنه وقع احتلال نهائي. روي أنه بقي سنة في الحيرة يقوم بدور الوالي الحقيقي على المنطقة الموجودة بين الفرات ودجلة (٦). وإن هو انطلق شمالا وقاد حملة قصيرة ، فذلك لكي ينجد أحد ضباطه المسمى عياض بن غنم الذي كان في وضع صعب. وجدّ في الأثناء يوم

__________________

(١) أثبتت الحفريات التي تمت في بابل عام ١٨٨٣ ، وجودUmmischigedia ولعلها تكون هي بذاتها أمغيشيا :. Wellhausen Prolegomena, p. ١٤

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٥٨.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٦٤.

(٤) تحدث أبو يوسف عن الاستيلاء على هذه القرى عنوة ، كما تحدث أيضا عن عهد : كتاب الخراج ، ص ١٤٥ ، كان يرمي إلى وعظ الأمراء عن واجب احترام المعاهدات التي أبرمها سابقوهم.

(٥) يبدو أن خالدا ولى عمالا : فاتجه جرير إلى بانقيا وبسما أو باروسما ، واتجه بشير بن الخصاصية إلى بانبوره ، وسويد إلى نستار أو عقر ، الخ : الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٦٩. أما الثغور فكانت في حكم أربعة أمراء منهم المثنى والقعقاع بن عمرو المشهور.

(٦) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٧٢.

٢١

الأنبار (١) ويوم عين التمر (٢) ، ويوم دومة الجندل (٣). كانت عبارة عن هجمات عنيفة طلبا للغنيمة والتخويف ، وقد ذهب ضحيتها عرب الضاحية. فقتّلت النّمر وتغلب وأياد في عين التمر داخل الحصن ، واشتهر هذا الحصن لوجاهة الأسرى الفتيان الذين أسروا فيه (ولا سيما سيرين ويسار ونصير). وقد واجه خالد في دومة الجندل قبائل كانت تقيم بين الشام والجزيرة هي بهراء وكلب وغسان وتنوخ. ندرك في هذا الصدد الوجه الجاهلي العروبي الموجود في الأيام ، إدراكا جيدا ، فضلا عن كونها تظهر أيضا بمظهر حروب الردة ، الذي لا يرحم غير المسلمين. فوقع تقتيل الأسرى العرب ، إلا من كانوا من كلب لأنهم كانوا في حماية حلف مبرم مع تميم. وعلى هذا النحو حصلت القطيعة مع عرب الضاحية في الجزيرة كما في العراق ، وانضمت العناصر الخارجية من ربيعة إلى الفرس (٤).

عاد خالد بعد هذه الجولة العسكرية إلى الحيرة وهناك دعي إلى اللحاق بالشام ، فانتهت الأيام العراقية بعد نشوب بعض المعارك ، بيوم الفراض. وقد حددها أصحابها أنفسهم ، نعني أهل الأيام ، على هذا النحو من الوجهة الزمنية. وبرزت هذه التشكيلة كإحدى التشكيلات الاجتماعية المقبلة التي ستكون لها أهمية كبرى في الكوفة. الواقع أنه بقبولنا رواية هذه الأحداث على هذا النحو ، ندرك ما كان من تمجيد هؤلاء الرجال للأيام ، وندرك مبررات هذا التمجيد بصورة من الصور ، ذلك أن هذه الأيام تمثل الملحمة الكاملة ـ ولو بصورة مجملة ووتيرة لاهثة ـ لفتح العراق.

مرحلة وسيطة : الجسر والبويب (١٣ ـ ١٤ ه‍ / ٦٣٤ ـ ٦٣٥)

إذا ارتأت حكومة المدينة لزوم توجيه خالد لنجدة جيوش الشام ولم تقم بالعملية المعاكسة على الرغم من الإنتصارات الساحقة التي سجلتها الأيام ، فإن هذا يرجع إلى كون الجبهة الحقيقة الجدية والوحيدة التي تخضع لاستراتيجية موضوعة مسبقا هي جبهة الشام. الواقع أن العمليات التي وجهت ضد البيزنطيين بكامل الجدية ، أعطت نتائج إيجابية فورية بفضل انتصار أجنادين (٥) (جمادى الأول من سنة ١٣ / ٦٣٤) الذي تمّ وأبو بكر على قيد الحياة.

__________________

(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٥.

(٢) الطبري ، المصدر نفسه ج ٣ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٧٨ ـ ٣٨٠.

(٤) اعتنقت الاسلام منذئذ بعض جماعات من ربيعة في العراق : الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤١٤. هذا دون اعتبار الوثبة العرقية القومية التي دفعت بأفراد من ربيعة إلى الانضمام إلى اشقائهم العرب ، في وقعة القادسية وحتى قبل ذلك : المرجع نفسه ، ص ٤٦٤.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤١٥ ـ ٤١٨ ، نقلا عن سيف بن عمر الذي لم يميز بين أجنادين واليرموك (١٥ ه‍ / ٦٣٦) ،

٢٢

وتولى عمر الخلافة فتابع مخططات أبي بكر ، دون أن يدخل عليها من البدء تغييرات تذكر. ولا يبدو قابلا للتصديق أن ننسب إليه ، كما فعل سيف (١) ، مشروعا واضحا محددا وواسع النطاق ، يكون شرع فيه منذ سنة ١٣ ، ويتمثل في تصور الفتح صراحة بمثابة غزو للهجرة ، وفي إرادة إشراك كل العرب من شبه الجزيرة ـ ومنهم المرتدون ـ في التحرك العراقي. كما أنه لا يمكننا على العكس مجاراة كايتاني حين يؤكد أن عمر لم يهتم جديا بالعراق إلا بعد وقعة اليرموك (٢). معنى ذلك أنه لا يمكن أن نحصر كامل العمل الذي سيحققه عمر خلال الثلاث سنوات القادمة ـ وكان عملا تدريجيا حذرا وجسورا في آن ـ في نية وضعت مسبقا ، إذ تصير بداهة تنظيرا إسقاطيا لما سيتم تحقيقه بعد ذلك. فماذا فعل عمر وماذا كان يقدر أن يفعل؟ أن يتابع ما سنه أبو بكر ، ويداوم الضغط على الحدود الساسانية ، ترقبا لظروف أخرى تكون أكثر ملاءمة ، بمعنى أن يسهر على إعداد آلة الحرب. لقد استعان في المدة الأولى بنخبة محاربة صغيرة من الأنصار وأقنع في فترة ثانية قبيلة بجيلة بالاستقرار في العراق ، وقام بخطوة حذرة في اتجاه الانفتاح على المرتدين. كانت سنة ١٣ ـ ١٤ ه‍ عبارة عن مرحلة وسيطة لكنها تجاوزت مرحلة الأيام ، بقوة المجابهات التي جدّت. ذلك أن السلطة الفارسية استعادت تماسكها وأخذت في ردّ الفعل في حين أنها اكتفت إلى ذلك الوقت بالاعتماد على الحاميات العربية ـ الفارسية الساهرة على خط الدفاع.

لكن شعور الفرس الجديد بالخطر العربي لم يكن قويا بما يكفي ، حتى يعدلوا عن منازعاتهم الداخلية فكانت ردودهم ظرفية ، قوية أحيانا لكنها غير مسترسلة وغير مثمرة.

١) أبو عبيد ومعركة الجسر (شعبان أو رمضان ١٣ / أكتوبر أو نوفمير ٦٣٤) (٣).

كلف عمر أبا عبيد بن مسعود الثقفي (٤) برئاسة سرية من ألف رجل لمدّ يد المساعدة

__________________

فالتبست عليه المعركتان وأرخهما في سنة ١٣ ، في حين أن كافة الروايات التاريخية الأخرى لا سيما رواية مدرسة المدينة (ابن اسحاق والواقدي) ومنطق الأحداث البديهي تفصل بين الأمرين : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ١٢٠ ، وخليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ٨٧. يلاحظ كايتاني عن حق أن تقديم سيف لمعركة اليرموك نشأ عنه غلطه في تأريخ المعارك العراقية : Caetani ,Annali dell\'Islam ,III ,٢ ,p.٩٤٥

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٤٥.

(٢) Caetani ,Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,p.٢٣٦.

(٣) حسب كايتاني ، قدّم سيف المعركة شهرا : Annali dell\'Islam ,III ,٢ ,p.٠٣٦ ,٣٣٦. ، راجع أيضا : Voccia ـ Vagliori,» art. Kadisiyya «, Encyclopedie de l\'Islam, t IV, p. ١٠٤ ـ ٣. ؛ وأورد أبو مخنف تاريخا حدده في شهر رمضان من سنة ١٣ : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٣. نجد التاريخ نفسه في الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١٤.

(٤) لعلّ أبا عبيد لم يكن خاملا بالصورة التي يريد كايتاني حملنا على تصديقها ، ويظهر أن هيل Hill ,

٢٣

للمثنى (١) ، وقيادة العملية العسكرية في العراق ، فربطها هكذا بالحكم المركزي. ضمن هؤلاء المقاتلين الألف نجد صفوة من المسلمين من الأنصار ، مع أنه يمكن الخلوص إلى تأكيد وجود عدد مهم من أبناء ثقيف أيضا ، إعتمادا على إشارات كثيرة وردت في رواية سيف (٢).

لقد واجه العرب المسلمون مع أبي عبيد جيشا فارسيا نظاميا ، لأول مرة ، كان بقيادة بهمن جاذويه وانضم إليه جالينوس ، وكانا قائدين مهمين. وبدأت المعركة ، بعد حصول بعض عمليات نهب ، بقرقس (٣) الواقعة على ضفة الفرات اليسرى ، لكنها احتفظت باسم معركة الجسر ، اعتمادا على إسم المشهد الرئيسي الذي أثر فيها وحيث أشرف العرب على الكارثة. لقد أرهبتهم الفيلة ، فأخفقوا في تفجير قلب الجيش الفارسي رغم الحملات العنيفة التي شنوها عليه. وما لبثوا أن أجبروا على التقهقر إلى شاطىء الفرات دون أن يقدروا على عبوره من جديد ـ ذلك أن الجسر المتكون من مراكب انقطع بمبادرة عابثة قام بها أحد العرب ـ فقتلوا وأغرقوا. روى سيف أن عدد القتلى ارتفع إلى ٤٠٠٠ وفرّ ألفان ، ولم ينج سوى ٣٠٠٠ رجل من بكر من رجال المثنى (٤). لقد أنقذ المثنى الجيش ، برباطة جأشه ، من هلاك لا هوادة فيه. أما أهل المدينة فلجأوا إلى الصحراء استحياء من الفرار ، وقتل أبو عبيد بعد أن برهن على شجاعته أكثر مما برهن على خبرته. إن الصدمة التي أثرت في الأنصار رفقاء أبي عبيد تبرهن بقوة على ماهية الإيديولوجيا الإسلامية التي استلهمت الفتوحات روحها منها إلى مدى بعيد ، فبدا الفرار في نظر أهل المدينة وكأنه ضعف لا يغتفر ، لا بمعنى الشرف العربي المعهود بل كخطيئة اقترفت تجاه الله. ولم يكن ينوي عمر توجيه الاتهام إليهم (٥) بل إنه قام بعملية نفسية من شأنها رفع الشعور بالإثم عنهم (٦). ويرجع الفضل له

__________________

The Termination of Hostilities in the Early Arab Conquests, ٤٣٦ ـ ٦٥. London, ١٧٩١, p. ٠١١. قد جاراه في ذلك. لكن كان أبو عبيد ينتمي إلى نسب رفيع من ثقيف.

(١) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥١ ، ذكر أن أبا عبيد جند الرجال في الطريق ؛ وقال الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٤٤ ، إن المثنى كان بالمدينة ؛ انظر الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١٣.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٤٥٤. كانت تسمى أيضا قسّ الناطف أو المروحة : الدينوري ، ص ١١٣.

(٤) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٥٨ ؛ اقتبس إبن الأثير هذه الأرقام والقصة بأكملها ، متقيدا كثيرا برواية سيف التي ذكرها الطبري لكنه عرضها بصورة أكثر وضوحا : الكامل ، طبعة بيروت ، ١٩٦٥ ، ج ٢ ، ص ٤٣٨ ـ ٤٤٠.

(٥) نسب كايتاني إلى سيف خطأ ، أنه روى خبرا عن عمر جاء فيه تأنيب للأنصار : Caetani ,Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,.p.٧٥٦

(٦) أضنى الخجل بعض أهل المدينة ، فلجأوا إلى البادية ، ورجع بعضهم الآخر إلى المدينة : الطبري ج ٣ ، ص

٢٤

وللمثنى في التغلب على صدمة الهزيمة ناسبا إياها إلى الخطأ لا إلى ضعف عسكري هيكلي.

ولو لا إصرار عمر ، ولو لا ما بذله المثنى من جهد تنظيمي حيث نراه دائما مستعدا لتصحيح أخطاء الآخرين ، خاضعا لتدخلات السلطة بالمدينة وعزمها على إبعاده عن القيادة ، لبدا فتح العراق بعد انهيار الجسر أمرا بعيد المنال بالنسبة للعرب. ومن يدري ، لعل فتح الشام أيضا ستهدده بعد ذلك وعلى المدى المتوسط الدولة الفارسية لو أتيح لها الوقت لاسترداد قواها.

٢) البويب

بقي المثنى وحيدا من جديد. وتعذر استغلال التقدم الذي اكتسبه الفرس في معركة الجسر ، لما كانوا عليه من خلافات داخلية (١). لكن المثنى احتاط وتراجع إلى الطفّ ، فبلغ إمّا أليس الصغرى ، أو أقام بين خفان والقادسية تاركا الحيرة. عند ذلك قرر عمر توسيع التجنيد ، وتجاوز الدائرة المدنية ـ القرشية ـ الثقفية من العرب المستقرين الأوفياء للسلطة الحاكمة ، وقرر تعبئة القبائل والعشائر داخل جزيرة العرب. كان هذا الانفتاح تدريجيا لا محالة ، يجري حسب نظام التطوع كالعادة وبمساعدة شيوخ العشائر ، ولم يتقرر ، بعد آنذاك استنفار العناصر التي أمعنت في الردة. كان عمر يقصد محو هزيمة الجسر وحمل العرب أيضا على قبول فكرة الهجرة إلى العراق (٢) ، فوجهت الدعوة إلى قبيلة بجيلة. وكانت بجيلة من أصل يمني ، وأقامت قبل ذلك بالسراة ثم دحرت وشتتت ، وتفرقت (تحت ضغط الأزد؟). وكان جرير بن عبد الله البجلي وهو من صحابة النبي ومن المقربين لعمر ، يسعى إلى جمع أفراد هذه القبيلة المتفرقين ، ويحاول أن يعيد تشكيل قبيلته فردا فردا (٣). فالتقى مشروع

__________________

٤٥٨. ولنذكر أن القرآن بعد وقعة أحد أنب المؤمنين الفارين من القتال ، إلّا إذا حصل تجمعهم لدى مؤمنين آخرين : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال ، ١٦. واعتمد عمر تفسيرا آخر للآية ليعيد لرجاله هيبتهم كما كانوا يتصورونها. وتحدث أيضا البلاذري عن تقتيل الأنصار ، ص ٢٥٣ ، لكن القصة التي أوردها عن معركة الجسر كانت موجزة ضعيفة التماسك في مجموعها.

(١) روى ذلك الطبري نقلا عن سيف قال : «وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف الفرس» ، ج ٣ ، ص ٤٥٨. وعاد بجيشه.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ص ٤٦٠ ـ ٤٦٤ ؛ الدينوري ، ص ١١٤. كان على عمر أن يقنع المتطوعين ، وأكثرهم من القادمين من اليمن ، باختيار الإقامة في العراق.

(٣) لعلّ بجيلة تفرقت بعد حرب الفجار : الجمهرة ، ص ٣٩٠ ، فاعتزم جرير جمعها في حياة الرسول حيث حصل على وعد منه في هذا المعنى ، فذكر أبا بكر بالأمر حين انضم إلى جيش الشام ، لكن أبا بكر أجّل المشروع إلى وقت لاحق لكثرة مشاغله : الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٦٥. والملاحظ أن نسبته لحمير لا لبجيلة في هذا الخبر. وتوجد هذه النسبة أسفل الوثائق التي يعتقد أنها أبرمت بين خالد وأهل الحيرة : المرجع نفسه ، ص ٣٦٨

٢٥

جرير بمشروع عمر : كان الأول في حاجة إلى فكرة وهدف جديد وطموح ، وكان الثاني محتاجا إلى مهاجرين ومحاربين مسلمين أوفياء ليدفع بهم إلى العراق. على أن جريرا لم يرض بمقترح عمر إلا مترددا ، لأن قومه كما العرب كافة ، باستثناء بكر دون شك ، كانوا يفضلون الشام على العراق. وتم الاتفاق ، بعد بذل الوعد لبجيلة أن تمنح هبات خاصة عند الانتصار وتقرر أن تأخذ ربع الخمس من الغنيمة كما جاء في أغلب المصادر (١) ، أو «الثلث بعد (أخذ؟) الخمس» ، كما أشار إلى ذلك البلاذري إشارة غامضة (٢) أو ربع البلدان المفتوحة كما كان محتملا كثيرا (٣). ويبقى الشك يسيطر على هذه المساومة ، نظرا لأن المرحلة التي بلغها الفتح في العراق لم تكن تؤهل للوعد بأي شيء. ومما له دلالة أن جريرا تخلى عن كل مطلب على السواد ، بعد الانتصار ، لأسباب معنوية صرف (٤). هذا وقد تحولت قبيلة بأكملها كانت تعد ٢٠٠٠ رجل ، إلى العراق بهدف الهجرة نهائيا ، مفتتحة بذلك الحركة الكبرى للهجرة اللاحقة.

وإلى جانب بجيلة ، أشير إلى تدفق الحشود من الأزد (٥) ، وكنانة ، وضبة ، وخثعم والرباب ، وبني سعد ، وبني عمرو (٦) ، وعبد القيس ، كما حضرت قبيلة النمر من ربيعة وقد كانت إلى جانب الفرس إلى ذلك الوقت ، تدور بدرجة متفاوتة في فلك الساسانيين ، وبعد أن سلط عليها خالد قمعا شديدا. لعل عناصر عبد القيس والنمر (٧) ، وحتى تغلب وقد شهدت البويب أدمجت من طرف المثنى فيما يمكن تسميته بجيشه الخاص أو القبلي ، طالما كان

__________________

و ٣٦٩. لكن سيف كان صريحا في أن جريرا لم يدخل العراق قبل معركة الجسر. أما عن تسميته بالحميري ، فإما انها تعود إلى أن مجمّع بجيلة كان غريب النسب عنها سواء كان أزديا أم حميريا ، واما انها اختلطت بمسألة عرفجة بن هرثمة منافس جرير. كان عرفجة أزديا من بارق ، ويبدو أنه قاد جانبا من بجيلة على أدنى تقدير وكان عمر يفضله على غيره ، لكن بجيلة تخلوا عنه والتفوا حول جرير : الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٦٢ وص ٤٧١.

(١) مثلا : الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٦٢.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٥٤ ، نقلا عن الشعبي.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٥٣ عن أبي مخنف ، وص ٢٦٧ عن ابن أبي حازم حيث قال أيضا أن بجيلة «كانت ربع الناس يوم القادسية».

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٦٧ ، وذكر خبرا آخر بالصفحة نفسها قال فيه «كان عمر أعطى بجيلة ربع السواد فأخذوه ثلاث سنين» وفي نهايتها طلب عمر منهم إرجاع الأموال ، والتساوي مع بقية المسلمين. ويوجد الخبر ذاته تقريبا في كتاب الخراج لأبي يوسف ، ص ٣٢.

(٥) مثلا الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٦٣ ، كانت الأغلبية لبارق بقيادة عرفجة لا مخنف بن سليم كما يقول الدينوري في الأخبار الطوال ، ص ١١٤.

(٦) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٦٤.

(٧) الطبري ، الموضع نفسه ، وقد مثلها أنس بن هلال النمري ، وكان شخصا مرموقا.

٢٦

استقلاله كبيرا بالنسبة للسلطة في المدينة. أما الآخرون فإن السلطة هي التي استحثتهم على التنقل والواقع أن منهم عشائر وقادة تورطوا في حروب الردة ، منهم عامر بن ربعي ، وعدي بن حاتم. وبما أن سيف بن عمر انفرد بذكرهم ، يمكن القول انه سبق الأحداث ، ويمكن التفكير كذلك أن عمر بتوجيهه هذه الفرق الصغيرة ، أراد اختبار صلاح أهل الردة. إن روايات سيف جيدة بصورة عامة ، فيما يخص القبائل وتركيب الجيش العربي ، وترتيب وصول الجيش وعدد المقاتلين (١) ، في حين أنها تخطىء في خصوص ضبط التواريخ. فما قولنا في كل ذلك سوى أن عمر قرر على الأرجح منذ مطلع سنة ١٤ ه‍ ، وربما حتى منذ أواخر سنة ١٣ ، الشروع في مسيرة القبائل الطويلة ، بهدف فتح العراق فتحا حقيقيا (٢) ، دون أن يترقب نتائج العملية الدائرة في الشام؟ ومن هذه الوجهة تمثل هجرة بجيلة ، ورحيل ضبة وخثعم وغيرهما ، التي تمت عن طواعية ، توطئة لما سيجدّ على صعيد أوسع بمشاركة سعد ، كما تمثل البويب معركة تدريبية تعد العدة لمعركة القادسية. كان ينبغي الانتصار لا محالة في البويب ، بلوغا لهذا المطلب.

سمي هذا الصدام بيوم مهران أيضا (٣) على اسم القائد الفارسي المهزوم والمقتول ، عند موقع الكوفة العتيدة ، فيما بين خطة السكون والفرات أو دار الرزق ـ وبني سليم (٤) ، حيث كان البويب بمثابة المصب العتيق للفرات (٥). ودارت المعركة وراء الفرات ، على مدى المجال الذي ستحتله مدينة الكوفة. المؤكد أن الرهان كان مهما. قد يتسبب انتصار للفرس بالبويب في دحر العرب ، كما أن انتصارا للعرب قد يجبر الفرس فعلا على خوض المجابهة النهائية لإنقاذ العراق والامبراطورية كافة أو التخلي عنهما. لا شك أن الفرس شعروا عند انهزامهم بالبويب ، بواقع الخطر العربي عند فوات الأوان ، أما العرب ، فقد استمدوا من نصرهم جسارة لا تقهر. بقي أن نتحدث الآن عن مشكل تأريخ الأحداث.

__________________

(١) معلوماته من الدقة والتماسك في هذا الموضوع بما يمنع التشكيك فيها بجملتها وقد استخدم الطبري كتاب الفتوح الكبير : راجع الفهرست ، طبعة بيروت ، ص ٩٤. أما عن الفتوحات فيراجع هيل ، Hill Termination of Hostilities ـ ـ ـ ، الذي استعرض ستا وثلاثين رواية كان أوردها سيف. ولنضف بخصوص فتح العراق ، أن الاسنادات المتواترة تعود إلى مجالد والشعبي ومحمد وطلحة.

(٢) نتفق كل الاتفاق في هذا الأمر مع السيدة فيشيا فاغلييري : Mme. Veccia ـ Vaglieri, E. ١ / ٢ Sub Verbo Kadisiyya ، ومن المفارقة أن سيفا أورد التاريخ نفسه : الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٧٨.

(٣) كان مهران أحد رؤساء العشائر السبع ، راجع : Christensen, L\'Iran sous les Sassanides. Copenhague,. ٦٣٩١, p. ٩٩

(٤) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٦٨.

(٥) «كان مغيضا للفرات في عصر الأكاسرة يصب في الجوف» ، حسب عبارة البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٤ ؛ وفي معجم البلدان ، لياقوت ، ج ١ ، ص ٥١٢ ، تفاصيل أخرى.

٢٧

رفض كايتاني بحق التأريخ الذي اقترحه سيف والذي جعل وقعة البويب تقوم بعد شهر من معركة الجسر ، يعني في رمضان ١٣ ه‍ / نوفمبر ٦٣٤ ، وحجته على ذلك جيدة (١). لقد قدم سيف تأريخ وقعة البويب لأنه قدّم تأريخ القادسية. وبما أنه أساء تأريخ اليرموك وفتح دمشق (٢) ، فقد أجبر على تنقيح كل التواريخ. ومن جهته أخذ كايتاني مؤشرين بعين الاعتبار صعودا ونزولا استمدهما من مدرسة المدينة ـ مدّة سنة بين معركة الجسر ومعركة البويب (٣) ، وثمانية عشر شهرا بين وقعة البويب والقادسية ـ فكان عليه أن يؤخر التواريخ كلها. وحيث اننا نلتزم بتأريخ معركة القادسية في رجب أو شعبان ١٥ ه‍ / ٦٣٦ م فإن تاريخ رمضان من سنة ١٤ ه‍ يبدو لنا تأريخا متأخرا جدا بالنسبة لوقعة البويب ، وقد فضلنا عليه تاريخ ذي الحجة من سنة ١٣ ه‍ أو محرم من سنة ١٤ ، وبذلك نكون قد احتفظنا بمدة الثمانية عشر شهرا التي تفصل بين المعركتين (٤).

على أن المهلة كانت نسبية تماما ، لأن العرب شرعوا في اكتساح السواد واستغلوا حيرة أعدائهم واضطراب أمورهم ، فشنوا الغارة فيما بين الحيرة وكسكر وسورا والصراة وفيما بين الفلّوجتين ، والنهرين ، وعين التمر. ثم أنهم نهبوا تكريت وسوق بغداد ، فانتزعوا أموال التجار الآراميين من الأعالي ، كما نهبوا حماتهم العرب ـ الخفراء ـ من قضاعة وربيعة (٥). لكن في الاثناء وبفاعل الضغط العربي أخذت السلطة الفارسية تعمل من أجل إعادة تنظيم صفوفها وقد تعالت الشكايات الصادرة عن دهاقين السواد المنهوك. وهكذا توّج يزدجرد

__________________

(١).Annali ـ ـ ـ ,Vol III ,p.٥٥٦ ff. وقد سبق لفيلهوزن أن رفض هذا التأريخ ، راجع : Prolegomena ـ ـ ـ in :. Skizzen und Vorarbeiten, VI, p. ٣٧

(٢) أرخهما في سنة ١٣ ه‍.

(٣) الواقع أن هذا الخبر ذكره أبو مخنف واستعاده البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٣ ، وهو عبارة عن قول منفرد ، نرفضه فيما يخصنا لادخاله البلبلة على تسلسل الأحداث.

(٤) أرخ البلاذري معركة الجسر في رمضان سنة ١٣ ه‍ ، ولم يذكر تاريخا دقيقا بشأن معركة البويب بل اكتفى بذكر مدة سنة حسب رواية أبي مخنف ، وبذلك تحدد تأريخ معركة البويب في رمضان من سنة ١٤ ه‍. وقد فصل محترزا بين معركة البويب والقادسية ، بمدة ١٨ شهرا وبذلك يكون تاريخ سنة ١٦ ه‍ معقولا ، وهو الذي اعتمده كايتاني. فيثق المستشرق الإيطالي في النهاية بالواقدي الذي اعتمده البلاذري. وقد أرخنا فيما يخصنا معركة القادسية في عام ١٥ ه‍. وسنبين ذلك ـ فوجب علينا إما إهمال السنة الفاصلة بين معركة الجسر ومعركة البويب أو مدة ١٨ شهرا التي تفصل بين معركة البويب والقادسية ، وقد فضلنا الحل الأول رغم أن سيفا أشار إلى أن المحاربين في البويب كانوا صائمين (الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦١) ، وفي رأيه أن الأمر يتعلق بعام ١٣ لكن رواية ابن عمرو الشيباني أرخت معركة البويب بالفعل في محرم سنة ١٤ ه‍ : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٣ ، وأرخ خليفة بن خياط وقعة البويب في صفر من سنة ١٤ ه‍ : التاريخ ، ج ١ ، ص ٩٨.

(٥) قتل المثنى جماعات من تغلب والنمر : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٧٣ ـ ٤٧٥ ، وحدثت أعمال نهب وأخذ بالثأر يعود طابعها إلى العصر الجاهلي.

٢٨

ملكا ، وقد كان حفيدا لكسرى أبرويز وأنهيت وصاية بوران ، وسلمت قيادة الجيش الموحدة إلى رستم. ووازن هذا التأهّب الفارسي من أجل المواجهة الحاسمة ، المسيرة الطويلة التي قادها سعد بن أبي وقّاص ، من المدينة إلى القادسية ، وتنظيم جيش عربي جديد تحت قيادته.

المسيرة العربية إلى العراق والتوطئة لوقعة القادسية

(محرم ١٤ ـ رجب ١٥)

إن فكرة كايتاني الرئيسية هي أن عمرا لم يكن يقدر حقا على أن يأخذ على عاتقه القضية العراقية إلا بعد أن يكون قد حسم الأمر مع البيزنطيين في اليرموك (رجب ١٥ / أغسطس ٦٣٦) (١). لكن هذا تأريخ مردود إذ يفسح وقتا قصيرا جدا لسعد لكي يجمع جيشا يعد ثلاثين ألف رجل. فلا موجب لإبداء الشك في الأرقام التي ذكرها سيف ، ولا للتقليل من أهمية المعركة ذاتها. يذكر كايتاني أن عمرا لم يكن ليقدر على «تقسيم قواته» ، لكن لم تكن هناك فوات لكي تقسم ، ذلك أننا لا نجد المادة البشرية نفسها هنا وهناك ، في الشام والعراق. إن تزامن العمل هو إحدى خاصيات الفتح العربي (مع استثناء تنقل صغير من الشام إلى العراق والعكس) وقد سبق ليوسف في بحث نشر منذ ثلاثين سنة ، أن لا حظ أن بطء مسيرة سعد كان يفترض مسبقا مدة طويلة فأرخ قرار عمر بداية سنة ١٣ ه‍ (٢).

الواقع أن عمر لم يحتج إلى أن يترقب معركة اليرموك للعودة إلى الهجوم على العراق ، ذلك أن عزمه على مواجهة الفرس كان واضحا من قبل ، حيث حثّ بجيلة وعربا آخرين من قلب الجزيرة على الهجرة. ولم يكن ليلقي بسعد في المغامرة النهائية بكل تأكيد قبل ظهور نتيجة إيجابية في واقعة البويب ، أي قبل محرم من سنة ١٤ ه‍ أو ذي الحجة ١٣ ه‍ / فبراير ـ مارس ٦٣٥ م.

ومما يدل على ذلك أن عمر اختار صحابيا قرشيا كبيرا مكلفا بجمع الجباية الشرعية من هوازن وهو سعد بن أبي وقاص (٣) لقيادة المجابهة الكبرى مع العلم بأن هوازن كانت مع أهل الردة (٤). الواقع أن مسيرة سعد بين المدينة والقادسية ، مرورا بصرار وزرود ،

__________________

(١) Caetani ,Annali ,p.٢٣٦.

(٢).» The Batle of Quadisiyya «, Islamic Culture, ٩١) ٥٤٩١ (, p. ٨٢ لكنه جارى كايتاني في بداية الأمر.

(٣) يبدو أن أبا بكر هو الذي ولّاه على صدقات هوازن في نجد : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٢.

(٤) الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٦١ وما بعدها ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ١٠٤ ، يذكر غطفان ، وفزارة ، وعبس وذبيان. لكن إلى أي حد تمثل هوازن قبيلة معينة بدل أن تكون نسبا يشمل عدة قبائل ، منها عامر بن معصمة وسلول وغيرهما ... : الجمهرة ، ص ٢٦٠ وما بعدها.

٢٩

وشراف ، والعذيب وهي آخر مرحلة في الطفّ قبل دخول السواد ، تبدو قبل كل شيء مسيرة لحشد قبائل معروفة مهمّة أصيلة في عروبتها ، كانت من الرّحل المشاركين في الردة (١). وهكذا تجاوزت السلطة الحاكمة في المدينة وكادت تتجاوز سياسة الاعتماد على جموع مستقلة (بكر) ، أو هامشية (بجيلة وكذا شظايا الأزد واليمن). كما لم يعد يمكنها توجيه فرق صغيرة مدنية صرف أو شغل القوات المقاتلة في الشام لكنها تولت قيادة الفتح والهجرة فاتحة الباب لجموع الردة الكبيرة القوية ، ووسعت دائرة الأطر البشرية والسياسية والعسكرية لصالح الاسلام الغازي. لقد عمل عمر بهذا على تطابق الدين الإسلامي وشبه جزيرة العرب ، فطرد من بلاد العرب كل من لم يكن إسلاميا (٢). وبذلك تغلب على الصّدع الذي دب في الهيكل العربي مع ظهور الإسلام ، وشحن الإسلام بمحتوى قومي ـ ثقافي لكنه في الآن نفسه طبعه بطابع البداوة والتسيّس مشكلا بذلك الهيكل المقبل للحضارة التي ستتحدد معالمها في الكوفة والبصرة.

خرج سعد من المدينة برفقة ٤٠٠٠ رجل ـ منهم ٣٠٠٠ يمني ومن السراة (٣) ، و ١٠٠٠ قيسي أكثرهم من بني هلال (٤) ـ وحين حط سعد الرحال أول مرة ، لحق به ٤٠٠٠ مقاتل منهم ٢٠٠٠ من غطفان (٥). ولما كان في زرود وهي من مراعي تميم وأسد اختار بنفسه ٧٠٠٠ رجل من هذه التجمعات القبلية. وتجمع ٣٠٠٠٠ رجل (٦) في الجملة في شراف والتحموا بجيش في تضخم مستمرّ منهم فيما بين ٧٤٠٠ إلى ٩٤٠٠ من اليمنيين ، ويرتبط تغيّر هذا العدد بحسب ما يلتصق بنسبة اليمني من تضييق أو توسيع. وعدت ربيعة ٨٠٠٠ رجل منهم ٦٠٠٠ من بكر و ٢٠٠٠ من قبائل أخرى (النمر ، أياد ، تغلب). وحضر بشراف ١١٠٠٠ رجل من مضر منهم ٤٠٠٠ من قيس ، و ٤٠٠٠ من تميم وحلفائها ، و ٣٠٠٠ من أسد فمالت النسبة لصالح مضر. لكن الأمر الأكثر دلالة أن نسبة العناصر التي

__________________

(١) منها أسد ، وتميم ، وغطفان.

(٢) الواقع أن طرد نجران وقع بعد مدة ، لكن منطق التماثل قام منذ عصر الرسول ، واكتسى كامل دلالته في خلافة أبي بكر ، واتخذ صفة عملية في خلافة عمر.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٤.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٤٨٣. المقصود هنا هم الألف رجل الذين جندهم سعد بنجد ؛ وما يمكن استنتاجه من أن واحدا من بني هلال قاد هذا الحشد الأول ، هو وجود أكثرية من بني هلال فقط ، لكنه استنتاج وليس بحجة قاطعة.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٤٨٦. لكن عمرا هو الذي وجه الرجال هذه المرة. المؤكد أن كلمة غطفان تشمل مجموعة من القبائل المتصاهرة مثل فزاره وأشجع وذبيان وسليم. فمثلا حضر المسيّب بن نجبة الفزاري القادسية مع أبناء قبيلته : الجمهرة ، ص ٢٥٨.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٧.

٣٠

حاربت من البداية لفتح العراق (من بكر وعجل وبجيلة) تقهقرت لصالح اللاحقين ، وضعفت نسبة المخلصين القدامى للإسلام لصالح المرتدين السابقين ، وأخيرا تناقصت أعداد العناصر المحتكّة بحضارة المدن المرتبطين من قديم بالخارج لصالح المجموعات البدوية الضاعنة الكبرى التي برزت من أعماق بلاد العرب. هذا ما يمكن استنتاجه على الأقل من شعور يوحي به الوصف المفضل الذي قدمه سيف بن عمر والذي عملنا على استكماله (راجع الجدول على ص ٣٢ ـ ٣٣).

لقد شكك كايتاني في هذا الوصف ، معتمدا روايات أهل المدينة فقط ، التي كانت قليلة الإسناد والمعلومات ، فألغى حضور المرتدين متهما سيفا بالمودة المتحيزة للبدو أجداد سكان مدينة الكوفة (١). صحيح أن سيفا يقدّم وقعة القادسية كأنها انتصار للموجات المتأخرة من البدو ، فلم يعد يتحدث عن بكر ، وهو على العكس يمجد القادة المرتدين الكبار ـ وهذا يبرر نقد كايتاني ـ لكن بخصوص سير المعركة لا غير. ذلك أن مصداقية سيف أكيدة في كل ما يتعلق بتجمع الجيش ، وتركيبه ، وهيكلته ، وكلّ ما يذكر من توافد الرجال من أسد وتميم ، والرباب ، وغطفان (٢). وكيف نقبل أنه لم يكن يوجد في القادسية سوى ٦٠٠٠ أو ٧٠٠٠ رجل في حين أن جيش المثنى وحده كان يعد العدد نفسه (٣).

كيف يتاح لنا فهم الكوفة العتيدة دون وجود جيش سعد في شراف كما وصفه سيف؟ لا مناص من التأكيد على أن كايتاني لم يفهم لا معنى ولا أهمية استخدام أهل الردّة في عملية الفتح ، وقد لفت شعبان Shaban فقط النظر إلى هذه الظاهرة منذ مدة قريبة (٤). ولنا مزيد من التدقيق فيما ذكره سيف بهذا الصدد (٥) ، إذ يقول : «استنفرهم عمر ولم يولّ منهم أحدا».

__________________

(١) Caetani ,Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,p.٧٥٦.

(٢) إن حسابات سيف دقيقة جدا ، فلا يمكن التشكيك فيها. وهي تتفق ومعلوماتنا عن الكوفة العتيدة وتؤيدها معلومات دقيقة وردت بالجمهرة لابن حزم : مثلا ص ١٩٤ ، حيث تعرضت لعشيرة بني الحارث بن ثعلبة بن دودان (أسد) التي لعبت دورا ما في القادسية. ورد ذكر تميم وبني عمرو ، ص ٢١٤ ، وبني رياح بن يربوع ، والأبناء ، وبني شيطان ص ٢٢٨ ، على أنها أقامت بالكوفة. وكانت فعلا عشائر قد شاركت في معركة القادسية ، خلافا لأكثر تميم البصرة. وصف ابن حزم بني الأعرج من الأبناء بأنهم ساهموا في المعركة ولذا يبدو عدد ٤٠٠٠ رجل من تميم معقولا ، ويجعل البقية محتملة.

(٣) يبدو لنا أن الأرقام التي ذكرها عوانة (٧٠٠٠) ، واليعقوبي (٨٠٠٠) ، وابن اسحاق (٦٠٠٠) ، وأوردها كايتاني (Annali ,III ,٢ ,p.٥٤٦ ff). غير صحيحة وكذلك الأمر بالنسبة للأرقام التي ذكرها الواقدي وأوردها البلاذري في فتوح البلدان ، ص ٢٥٦.

(٤) Shaban ,.Islamic History ,p.٦١ ff.

(٥) التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٨٩.

٣١

جدول القبائل العربية التي شهدت القادسية

٣٢

٣٣

الواقع أن الاحترازات بقيت عنيدة على مستوى المؤسسات ، ولن تبدأ في التبدد إلا بعد وقعة القادسية فعلا ، كأن القادسية كانت فرصة للتكفير عما سلف أو بوتقة للتوحيد. لقد صاحب القادة الكبار المرتدون ، منهم الأشعث بن قيس وطليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب ، قبائلهم إلى الحرب ، لكنهم لم يتحصلوا على أية صفة عسكرية قيادية في شراف. إن قادة الأعشار التي كانت عبارة عن وحدات كبيرة ـ والتي ستتحول بعد ذلك إلى أسباع ـ وكذلك الذين كانوا على رأس وحدات الجيش الكبرى المتأهبة للقتال ـ وهم أمراء التعبئة ـ سواء على الميمنة ، أو الميسرة ، أو القلب ، أو المشاة ، أو الفرسان ، قد اختيروا لولائهم للإسلام. وهكذا ، وقع تفضيل شرحبيل بن السمط الكندي ضمن قبيلة كندة ، على الأشعث الذي كان أكثر شرفا ، لكنه كان مرتدا شهيرا كما يذكره سيف الذي يشير إلى أن الأمور ستتغير بعد ذلك قائلا : «وكان قد غلب الأشعث على الشرف فيما بين المدينة إلى أن اختطت الكوفة» (١).

ويلاحظ الاتجاه الإسلامي ذاته في مستوى القيادات الصغرى ، نعني العرافات المتركبة من عشرة رجال ، على نمط عرافات الرسول والتي ستبقى بالكوفة والبصرة ، وبعد أن أعيد فيها النظر من وجهة الوظيفة والعدد. روي أنه «كان في الأعشار» ، سبعون رجلا بدريا ، وثلاثمائة وعشرة من الصحابة ممن ترجع صحبته إلى بيعة الرضوان ، وولي ثلاثمائة صحابي آخر شاركوا في فتح مكة وسبعمائة من أبناء الصحابة من كل القبائل (٢) ، لكن مفهوم الصحابي مرن ، وهو يشمل كل أولئك الذين كان لهم اتصال سابق بالرسول. وإذا صحت هذه الأرقام ، فلعلها تعني أنه لم يغادر المدينة عناصر كثيرة حيث لم تصلنا أسماء معروفة منهم (٣) لا في مرحلة التنظيم ولا في مرحلة المعركة لكنها تبرهن على أنه وقع تفضيل الأوفياء على غيرهم وأن التيار الإسلامي فضّل على التيار التقليدي ضمن عالم القبائل بالذات» (٤).

وخلافا لذلك ، كان أبناء كبار الصحابة حاضرين بالشام ، وقاتلوا بأجنادين كما في اليرموك ، حيث دفعوا ضريبة الدم التي كانت مرتفعة (٥). وعندما يرد ذكر بعض الأسماء منهم في القادسية فإن عدد الأنصار يربو على عدد القرشيين. ومن باب التناقض أن يلح

__________________

(١) المرجع السابق ، ج ٣ ، ص ٤٨٨.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٩٠.

(٣) لكن ورد ذكر اسم عبد الله بن المعتم : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٨.

(٤) من الأوفياء كان هناك أشراف. ولنذكر زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية الذي كان قائدا للطليعة (الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٨ وغيرها) ، وعاصم بن عمرو ، المرجع نفسه ، ص ٥٣٠).

(٥) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ١٤١.

٣٤

سيف في روايته المستندة في هذا المقام إلى مجالد بن سعيد والشعبي ، في آن واحد على متانة القيادة الإسلامية والطابع العربي القومي للمواجهة النفسانية ، وعلى الدور الفعلي المتفوق الذي لعبه القادة التقليديون المرتدون الذين صاروا يجسمون القيم الحربية العربية. وقد قلنا إن روايته للاستعدادات لمعركة القادسية لم تتجاهلهم ، بل يبدو أنها وضعتهم في المقدمة. لقد انتزعت من رؤساء القبائل القيادات الكبيرة كافة ، لكنهم لعبوا دورا حاسما في التعبئة النفسانية ، وأجروا المحادثات مع العدو وتولوا فعلا قيادة أفراد قبيلتهم في الهيجاء (١). فهل كان ذلك تشويها متحيزا عن وعي أو بدون وعي كما أكد كايتاني ، أم كان تحويلا طرأ على واقع الأمور ، أي تجسيما لعودة القوى الحقيقية ومحاولتها زعزعة الهيكل المؤسساتي؟ لا شك في تضافر الأمرين. إن روايات سيف دقيقة وملحمية في آن ، وهي مطبوعة بالشمولية والانتقائية على السواء ، فالدقة تحملها على عدم تجاهل إرادة عمر الجازمة على إقرار تأطير إسلامي على أوسع درجة وانتقائيتها تحملها على تناسي الرجال الذين كانوا دعامة لتلك القيادة. كما أن رواية سيف اتصفت بالملحمية لأن هذا المؤلف أعطى المرتبة الأولى لأعمال الذين أسسوا استمرارية تاريخية في العراق ولا سيما في الكوفة. لكن الصحيح من جهة أخرى أن جيش العراق باستثناء فترة خالد وأبي عبيد كان مركبا في الواقع وعلى الدوام من عناصر بدوية من خارج الحواضر الإسلامية ، وهي لعمري ظاهرة اتسعت مع سعد ، فلا عجب بعد ذلك أن يتناسى ويتجاوز قادة القبائل سلطة المدينة ؛ ومن يدري ، لعل عمرا اجتهد بغية محاربة الفرس ، من أجل النهوض بالقوى العربية الصرف ، شريطة أن تخضخ هذه القوى للمثل الإسلامية المطروحة كهدف أسمى؟

وقد روى سيف أن عمرا أراد مواجهة الفرس بأفضل العرب ، بمعنى أبطالهم وخطبائهم وشعرائهم. ولعله سمح لبعض قيم الجاهلية بالعودة إلى النشاط ولا سيما القيم التي لم تكن تعارض الإسلام إلا قليلا. كان ذلك نتيجة منطقية للانفتاح على الردة والاختيار الأساسي المتمثل في تفضيل الفتح الواسع على الفتح المحدود ، وتوسيع الإسلام بدل تعميقه. وقد لاحظ سيف وجود رجال من أهل الشجاعة ـ على رأسهم عمرو بن معديكرب وطليحة ، وقيس بن هبيرة ـ ورجال من أهل الرأي ـ كالمغيرة بن شعبة وحذيفة ، وعاصم ـ وشعراء ـ كالشماخ ، والحطيئة ، وأوس بن المغراء ، وعبدة بن الطبيب (٢).

__________________

(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٥١٤ ، ٥٣٢ ، ٥٣٣ ، ٥٣٧ ، حيث تنسب الروايات لعمرو بن معديكرب دورا بطوليا كان قام به في يوم أرماث ، وفي ص ٥٥٧ ، حيث نرى عودة عمرو وطليحة إلى الظهور يوم عماس ومبادرتهما بأعمال ظرفية في القتال.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٣. روى أن المغيرة جاء من الأبله : الدينوري ، ص ١١٨ ؛ والبلاذري ، ص ٢٥٦. ولعلّ وضع أبي محجن الشاعر يستند إلى عملية عصيان في وجه سعد ، وقد أفاضت المصادر في رواية موقف هذا

٣٥

أما عن الوفد الموجه إلى رستم ، فقد انتقى سعد قادة تقليديين من الرؤساء ، ولكنهم رجال الإسلام أيضا ، منهم ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة ، والنعمان بن مقرّن (١). وما له دلالة كبيرة رواية الحوار الذي دار مع رستم ، وهو حوار كان بمثابة المواجهة الإيديولوجية التي سبقت الصدام المسلح. من البديهي أن هذه الرواية أعدت بالكوفة ، لكن متى؟ هل تمت قبل انبثاق الشعوبية أم بعده؟ هل كانت تعبر عن وعي بالارتباط بعملية الفتح فقط ، لكونها أساسا للسيطرة العربية التي كانت قائمة في مجتمع الكوفة ، فيما بين سنة ١٠٠ و ١٣٠ من الهجرة؟ أم كانت تردّ ردّا غير مباشر على تشكيكات الشعوبية ، فقدمت صورة مرضية للعرب ، صورة شعب فتي متحمس يحتقر السهولة على طرفي نقيض مع صورة الفرس كشعب أبطره النعيم؟ إن رواية الصورة الذاتية المعروضة تؤيد الفرضية الأولى ، فضلا عن أن الرواية المذكورة تشمل ذكريات كثيرة مستمدة من العصر الجاهلي. هناك جانب كبير من البناء الإيديولوجي تضمنه وصف ربعي الخشن والفظ تقريبا ؛ لكن مجموعة أسلحة المقاتل العربي جديرة بالاهتمام : إنه السيف المغمد في الخرق ، والرمح ، والترس من جلد البقر ، والدرع ، وهو سلاح لم يكن جيدا إلا قليلا (٢). وكذلك الأمر بالنسبة للصورة الأخلاقية التي قدمها العرب عن أنفسهم إلى رستم ، إذ من المناسب أن نميز بين الإسقاطات الاسترجاعيةprojections re ? trospectives ، ومبررات الفتح ، ومتبقيات الماضي الحي. ذلك أن الدوافع الاقتصادية طرحت في الميزان دون تحفظ ، ولعل الأمر كان جرى تعتيمه لو وضع الخبر في وقت متأخر : الجوع والبحث عن الأراضي الجيدة ، واشتهاء القمح واللحم ، والرغبة في النساء والأطفال ، فوقع التعبير عن كل هذه العناصر بصراحة لا تدانى. اعتداء من شعب على شعب ، نية الاستقرار ، العزم على الخروج من الجاهلية. كلّ هذا الذي نستشفه لدى الطبري في ذكره رؤية فتح العراق من الجانب العربي يبدو مقبولا إذا أرجعناه إلى الفترة المبكرة حتى ولو دونت الروايات في القرن الثاني من الهجرة (٣) ، وهو وصف للعرب يظهرهم بأنهم كانوا على شعور من صلاتهم بالتاريخ. وما يبدو أيضا قابلا للاحتمال أن الدّعوة إلى اعتناق الإسلام قبل المعركة كانت فعلية (٤) ، لكن الأشخاص الذي وفدوا على

__________________

الشاعر : الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣١ : لكن الرواية التي شاعت كثيرا عزت حبسه إلى السكر : مثلا ابن اسحاق حسب رواية الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٧٣ ؛ والبلاذري ، ص ٢٥٨.

(١) لكن الوفد المذكور لم يشتمل على كبار رؤساء الردة ، رغم تكاثر روايات المحاورة مع رستم.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥١٩.

(٣) لا أقل من ١٣ خبرا في هذا الموضوع ، رواها سيف. ويبدو أن أكثر الأخبار استكمالا وطرافة هي أخبار محمد ، وطلحة ، وعمرو ، وزياد ، ص ٥١٨ ـ ٥٢١.

(٤) البلاذري ، فتوح ، ص ٢٥٧.

٣٦

رستم لم يقدموا الاسلام لحمل الغير على اعتناقه وإنما للتعريف بذاتيتهم الجديدة ومن أجل إفهام وشرح معجزة تلاحمهم. لقد أخلى المظهر الكوني المجال لصالح البعد القومي ، فكان إسلامهم إسلام البعث الاخلاقي للأمة أكثر مما كان وحيا بالمطلق. وواضح أن تأويل الإسلام في المنحى السياسي التاريخي لم يكن من سمات الخطاب المتأخر لعصر التصنيف المذهبي. فاما أنّه يعبّر عن مجتمع مهيمن قريب من تاريخه ، مستفهما مغامرته (كوفة سنة ١٠٠ ه‍) واما أنه يستعيد خاصيات عتيقة. والأمر الأكثر احتمالا أنه تمّ المزج بين هاتين اللحظتين في المجتمع العربي ، لحظة الفتح الحقيقي ولحظة رؤية هذا الفتح.

معركة القادسية

١) الاستعدادات النهائية

لقد تمت هذه المواجهة الايديولوجية عن طريق السفارات حين تواجه الجيشان قبيل القتال ، وحين احتلت الأطراف المتواجهة مواقعها. استقر العرب بعد مرحلة شراف ، في قلعة العذيب المهجورة حيث بقي سعد مريضا غير قادر على الحركة طيلة المعركة ، بينما خرج أكثر الجيش في اتجاه الفرات بين خندق سابور والعتيق ، الملاصق لقرية قادس أو قديس (١). ويحتمل أن كلمة قادسية لم تكن تدل في ذلك الوقت على اسم قرية بل على المنطقة التي حددها الخندق والعذيب والعتيق (٢). أما رستم ، فقد استقر في النجف أول الأمر ، ثم عسكر بين الحصن والعتيق : كان الجالينوس يوجد آنذاك إلى الجنوب ، بين النجف والسيلحين وعسكر ذو الحاجب بين رستم والجالينوس (٣). وسيدور القتال بين العرب والفرس وراء الفرات ، على حدود البادية العربية ، فيبقى للعرب إمكان الرجوع إلى صحرائهم. كان هؤلاء وأولئك يوجدون في أسفل منحدرات الطفّ ، بوادي الفرات. أما الفرس فقد انتشروا على ثلاثة عشر صفا حذو الفرات. وأما العرب فهم إلى الغرب وعلى ثلاثة صفوف فقط فرسانا ومشاة ونشّابة (٤) وكان العتيق يفرق بينهم.

وقد مر معنا أن الجيش العربي كان يعد ٣٠٠٠٠ رجل على أقل تقدير ، وربما تجاوز

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٩٤ الذي يقول : «ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم». وهذا يدلّ على أن قرية القادسية لم تكن موجودة في تلك الفترة. أما كلمة قادس التي يستعملها ابن اسحاق فيظهر أنها تعبر عن قرية قديس كما يذكرها سيف. ولعلّ التسمية الجماعية (قوادس) تشير إلى المنطقة كافة وهذا ما لا يراه صالح العلي. والملاحظ أن العتيق وصف بأنه كان مجرى قديما للفرات ، وكان يصب في الجوف ثم تحول إلى قناة.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥١٠.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٥٥٩ ، والدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١٢٢.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٥٥٩ ، والدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١٢٢.

٣٧

ذلك بقليل. وكانت الأرقام المتعلقة بالجيش الفارسي تتراوح بين ٦٠٠٠٠ و ١٢٠٠٠٠ رجل (١). والواقع أن نصف الجيش الفارسى اشتمل على الاتباع ، وعلى هذا فنحن نتمسك برقم ٦٠٠٠٠ مقاتل ، منهم ١٥٠٠٠ من الأشراف (٢) ، أي ضعف الجيش العربي. ولم يكن ذلك بالأمر المثبط قط لكن حضور الأتباع بكثرة ، ووجود ثلاثين من الفيلة ، وكون المقاتلين مترابطين بالسلاسل وكون مجال القتال محدودا نسبيا ، محصورا بين الفرات وقنواته وأعالي الطفّ ، كل ذلك جعل من الجيش الفارسي كتلة صعبة التحرك ، ثقيلة الحركات. ومما زاده تثاقلا أنه كان جيشا عظيم التجهيز مدرعا كله بالحديد ، مع أنه صار بذلك أداة حرب هائلة. وكان العرب تجاه أعدائهم قليلي العدة وقد روي أن المحاربين استخدموا سروج مطاياهم وأحزمتها بدل التروس والخوذات ، مما يوحي بالشعور أنه كان جيشا هشا (٣). لكن الرجال كانوا مسلحين ، وكانوا يمثلون نخبة القبائل حيث أمر سعد بألّا يجند إلا الرجال الممتلكون لأسلحتهم. وتمّ له ذلك بيسر ، وهو دليل على ما بلغته بلاد العرب من تطور في ذلك العصر. فلم يكن العرب برابرة بالمعنى المعهود للكلمة ، بل كانوا منفتحين على العالم الخارجي بما يكفي لكي يستطيعوا التسلح بصورة واسعة ، إما عن طريق التبادل وإما بفضل الإقتباسات التكنولوجية (٤).

ويبدو أن رستم قد فضل استراتيجية الاستنزاف على الهجوم الفوري (٥). ولا يحتمل أنه لم يدرك لحد ذلك الوقت طابع الغزو المنظم الذي اكتساه التدخل العربي في العراق ، نظرا للوضع الذي صارت عليه الأحداث : وبذلك فإن المقترحات التي عرضها على العرب والتي استهدفت العودة إلى ديارهم عودا مشرفا ، لا يمكن أن تؤوّل إلّا من باب الحرب النفسية (٦). فهل كان يريد حقا تلافي صدام مسلح لا يكون له غنم فيه إذا انتصر ، ويفقد فيه كل شيء لو هزم؟ لقد أشارت المصادر إلى حذره ، واعتماده المنجمين الذين توقعوا له

__________________

(١) ٢٠٠٠٠٠ ، مع أتباع الجيش ، كما ورد بخبر آخر : الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٠٥.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥١٠ : ٦٠٠٠٠ هو أدنى رقم يستمد من رقم ١٢٠٠٠٠ رجل المتداول وهو يشكل عدد المقاتلين الحقيقيين. وقد خفضه عوانة كما نقل عنه الطبري ، ص ٤٩٦ ، إلى ٣٠٠٠٠ ، مخفضا عدد العرب إلى ٧٠٠٠. وروى الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٧٣ ، عن ابن اسحاق أن عدد المقاتلين ٦٠٠٠٠. راجع أيضا : Wel ـ. Ihausen, Skizzen und Vorarbeiten, VI, p. ٧٧ أما البلاذري ، فتوح ، ص ٢٥٦ ، فيذكر رقم ١٢٠٠٠٠ مقاتل فارسي.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٣ (سيف) ، وص ٥٧٥ (ابن اسحاق).

(٤) وجد سعد أسلحة بقلعة العذيب. ولا بدّ أن الثلاث سنوات السابقة التي قضيت في شن الحملات ، مكنت العرب من الحصول على عدد من الأسلحة : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٩٢.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٥٠٩.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٥٢٣.

٣٨

كارثة ، إلا أن الملك حثه على القتال (١). كان هذا الملك قليل التروي ، وقد عيل صبر دهاقين الطفّ ، فغشوه لحمله على حسم الأمر مع العرب (٢). وضايق تريث رستم المبيّت الجيش العربي البعيد عن قواعده ، فاقتصر على شن غارات على السواد لضمان الغذاء للمقاتلين ، لكن تزايدت صعوبة مثل تلك الغارات (يوم الأباقير ، يوم الحيتان) (٣). فأراد العرب كسر الطوق ، والخروج من موقف الانتظار الذي أصبح دقيقا والذي قد يؤدي إلى تفتيت معنويات الجيش ، فتحدد بذلك اختيار وقت القتال أكثر مما لو كان الأمر يتعلق بنفاد صبر يزدجرد.

٢) قضية التأريخ :

أشرنا سابقا إلى هذه القضية عند الحديث عن وقعة البويب حيث أن توقيت المعارك المختلفة في العراق مترابط ، وقد بينا أن تأريخ سيف مردود في جملته ، وبذلك نكون متفقين في الرأي مع فلهاوزن ، وكايتاني ، ويوسف. وبخصوص القادسية بالذات ، لا يمكن قبول تاريخ محرم ١٤ / فبراير ومارس ٦٣٥. وقد اقترح ابن اسحاق آخر عام ١٥ (٤) واقترح خليفة بن خياط شوال من عام ١٥ ه‍ (٥). واقترح الواقدي أواخر عام ١٦ ه‍ (٦). وبعد أن قدم كايتاني الحجة بصورة متبحرة ودقيقة أيضا ، مع أنها لم تكن دائما مقنعة ، انتهى به الأمر إلى تأريخ حرب القادسية في ربيع سنة ٦٣٧ بعد الميلاد ، أي بين محرم وجمادى الأولى من سنة ١٦ ه‍ (٧). وأكد موافقته على التاريخ الذي اقترحته مدرسة أهل المدينة ، رغم فارق ستة أشهر على الأقل يفصله عن الواقدي ؛ لكن يبدو لنا أن التاريخ الذي اقترحه كايتاني ينبغي رفضه لأن شواهد شعرية وتاريخية كثيرة تحثنا على طرح تزامن وقعتي اليرموك (رجب

__________________

(١) الطبري ج ٣ ، ص ٥٠٩ و ٥٠٥.

(٢) «وعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار ، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلّا الحرب ... وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ، وليس فيما هنالك أنيس إلّا في الحصون ، وقد ذهب الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة ... وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف» : الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٠٣.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٤٩٥. كان ذلك لتغذية النساء والأطفال في العذيب وقادس حيث خرجت بعض القبائل بنسائها وأطفالها.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٥٧٢.

(٥) التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠١.

(٦) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٥٦ ، واعتمد ابن سعد تأريخ الواقدي ، طبقات ابن سعد ، تحقيق Sachau ، ج ٣ ، القسم الأول ، ص ٣٠.

(٧) Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٣٣٦.

٣٩

عام ١٥ ه‍) والقادسية أو على الأكثر أن نقبل فارقا ضئيلا لا يمكن أن يتجاوز شهرا (١). وقد تسمى أحد أيام القادسية بيوم أغواث ، مذكرا بالنجدات التي وردت من الشام بعد معركة اليرموك (٢).

وسواء أكان قيس بن مكشوح أول القادمين ، أم هاشم بن عتبة ، أم القعقاع بن عمرو فذلك لا يهم إلا قليلا ، كما أنه لا يهم إلا قليلا أن نعرف أن الامداد من مقاتلة اليرموك وصلوا قطعة واحدة خلال المعركة ، أم أنهم توافدوا جموعا متوالية أو فورا بعد القادسية لما انتهى كل شيء (٣). وبالفعل فإن الروايات مختلفة في هذا المقام. ورغم الفارق الكبير الذي صدر عن مدرسة أهل المدينة يسود الشعور بوجود تزامن تقريبا بين وقعة اليرموك ووقعة القادسية مع تأخر طفيف لمعركة القادسية ، وهذا يفسر في آن واقع الامداد والاضطراب الذي ساد الرواية التاريخية بصددها. فإذا وقعت حرب اليرموك في رجب سنة ١٥ ه‍ / أغسطس ٦٣٦ م ، فلا مراء أنه يجب تأريخ حرب القادسية في ذات التاريخ أو بعد شهر من ذلك ، أي في شعبان من سنة ١٥ ه‍ (٤). وتتكاثر الحجج المؤيدة لهذا الاختيار والمتمثلة في ضعف الامداد وفي الإشارة إلى أن العرب أقاموا وسيطروا على السواد طيلة ثلاثة أعوام (٥). ويفيد خبر آخر أنه مرت مدة زمنية تقدر بثمانية عشر شهرا تفصل بين معركة البويب وحرب القادسية ، وأخيرا هناك منطق الأحداث (اختيار عمر لوقت الغزو ، ومسيرة سعد ، ومرحلة الانتظار بالقادسية) ، وقد تضافرت كل هذه الأمور على تأييد هذا التسلسل الزمني الاجمالي (٦).

__________________

(١) سيف كما روى عنه الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٤٢ ـ ٥٤٣ ، الذي يصرّح بفارق شهر بين احتلال دمشق والقادسية ، مقترحا تزامنا مع وقعة اليرموك. وفي هذا الصدد لا مجال للحديث إلّا على الاستيلاء الثاني على دمشق. وقد ورد بقصائد كثيرة ذكرها الدينوري ص ١٢٤ ـ ١٢٥ ، منها قصيدة منسوبة إلى قيس بن هبيرة ، فارق شهر بصورة واضحة. ونسب البلاذري ، ص ٢٦١ ، القصيدة ذاتها إلى قيس بن مكشوح ، نقلا عن خبر لهشام بن الكلبي.

(٢) الحقيقة أن كلمة أغواث لم توجد سوى في روايات سيف وفي المقاطع الشعرية التي أوردها الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٤٥.

(٣) خاضت مصادر الفقه في الموضوع ؛ راجع أيضا قصيدة لبشر بن أبي ربيعة ، وردت في الأخبار الطوال ، للدينوري ، ص ١٢٥ ، بخصوص حضور هاشم وقيس.

(٤) ابن حبيش ، كتاب الغزوات ، مخطوطة القاهرة ، ورقة ٢١٦ وما بعدها ، يذكر سيفا مفصلا ويبدو أنه اطلع على كتابه ، وهو يؤرخ وقعة القادسية في شوال سنة ١٥ ه‍. وقد أورد تأريخا قريبا من تأريخنا بالنسبة لمجموع المعارك.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٢.

(٦) الأمر المسلم به الذي لا يتفق وتأريخنا والذي اعتمده كايتاني ، هو فارق سنة الذي فصل به أبو مخنف بين معركة الجسر ومعركة البويب. وقد اقترح Elias de Nisibe تاريخ جمادى الأولى سنة ١٦ ه‍ / يونيو ٦٣٧ م ، وجاراه Wellhausen في هذه النقطة :.Skizzen ـ ـ ـ ,VI ,p.٣٧

٤٠