نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

بمعنى أنه قوض الظلة («أراغ بنيانه») ، أي بعد تحديد موقعه نهائيا ، قرر سعد بناء المسجد بناء صلبا مصمما ، والمقصود حجرة الصلاة فقط (١). وهكذا وإلى حد الآن فإن نص سيف لا يتناقض مع نفسه إطلاقا. لا بد أن تكون الظلة وجدت منذ البداية ، ثم تحسن بناؤها بعد ذلك ، ويحتمل أنها بنيت بالآجر ، وألحق بها صحن سيء الغلق كان يفتح على الخلاء الخارجي ، لكنه كان لا محالة محدد الأبعاد. ولذا فإن مجال المسجد الأصلي لم يكن مجالا خاليا بل كان مفتوحا من ثلاثة جوانب وغير مستكمل. والمرجح أنه بني من جانب واحد بناء سيئا. وإني أقول «المرجح» لأنه افتراض لا تسمح به رواية سيف بصفة صريحة. بل بالعكس ، يحثنا على ذلك غموضه في هذه النقطة بالتحديد ، إلى جانب المقارنة بين مختلف المصادر المتاحة لدينا ، والمصداقية التاريخية. ومن هذه الوجهة ، يكون نص سيف متضاربا ، غير دقيق بصفة تامة. فقد أشار إلى الظلة الأولى قائلا :

«وكانت ظلته مائتي ذراع (نحو ١٠٨ أمتار) على أساطين رخام كانت للأكاسرة ، سماؤها كسماء الكنائس الرومية».

وأضاف بعد قليل أن زيادا جلب أعمدة من الأهواز ثقبت وحشيت بالرصاص. ثم تمّ تمتينها بسفافيد من حديد ارتبطت بها مع السقف ، هذا السقف المرتفع الذي حملته (٢).

وهو يتكلم تارة عن دهقان من همذان وتارة عن روزبه ذاك البنّاء المعماري الذي كثيرا ما يرد اسمه ، ويؤكد أن هذا الأخير استخدم عملة من عرب الحيرة النساطرة وهم العباد. إن الشبه بين هاتين الروايتين لمراحل متغايرة ليس بتمام الاكتمال ، لكنه ملفت للنظر. وهو يسمح لنا بتأويل المرحلتين الأوليين على أنهما إسقاط للمرحلة الأخيرة (فترة زياد). ذلك أن المصادر الأخرى ، وهي قليلة التعرض لهذا الموضوع ، تنسب حادثة استيراد أعمدة الأهواز إلى زياد ، لكنها لا تتكلم البتة عن أعمدة من رخام في خصوص عصر سعد (٣). يؤيد النص الموجود في الفتوح للبلاذري ، ما قاله غرابار ، وهو يتلخص في أنه يمكن للقبائل البناء من

__________________

وقد أكد كرسويل وجود النمط المعماري لبلاد الرافدين في البناء : Creswell ,op.cit.,pp.٧١ ـ ٨١ ويضيف أن سقف المسجد بالكوفة كان من خشب.

(١) لو أن الظلة بنيت بناء صلبا منذ البداية بسقف على النموذج الشامي البيزنطي ، لما كان من المتيسر هدمها وإعادة البناء على بعد ١٠٠ متر.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤ ـ ٤٦.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦ ؛ ياقوت ، معجم البلدان : ج ٤ ، ص ٤٩١ ، يؤكد أن زيادا كان أول من بنى بالآجر وأنه أتى بالاساطين من الأهواز. ويروي ياقوت في ص ٤٩٢ من الجزء نفسه ، أن عبيد الله بن زياد هو الذي بنى المسجد بناء صلبا ، وهي رواية تلتقي مع ما ورد في الأخبار عن ثورة مسلم بن عقيل حيث نرى جند ابن زياد يجوسون في ظلال المسجد على ضوء القناديل : راجع الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.

١٠١

وراء العلامات ، أما داخلها فإن سعدا ترك فناء (والمقصود خلاء عاريا) للمسجد والقصر (١). هناك إشارة وحيدة إلى الأعمدة وهي قول البلاذري في الكتاب نفسه : «وكان زياد يقول : أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة ومائة» (٢). لكن لا بد من الانتباه إلى أنه يذكر في رواية أخرى أن اقتطاع أساطين الحجر من جبل الأهواز جد من أجل مسجد البصرة وفي فترة متأخرة نسبيا (٣). أما ياقوت ، فكان واضحا في هذا الموضوع ، فقال إنه وقع جلب الأعمدة من الأهواز وصنعها ، في ولاية زياد (٤). إن كلّ ما أوردناه لا يناقض سيفا بصفة واضحة لا مراء فيها ، ويبقى نصّ سيف من أكمل مصادرنا ، إنّما يدب فينا الشعور بأن زيادا هو الذي منح المسجد جهازه المعلمي من كل الوجوه. أما العنصر الوحيد المؤيد لرواية سيف فهو أن المرحلة الأولى بالنسبة للمسجد كما بالنسبة للقصر كانت تحت تأثير الحيرة ، في حين أن مرحلة زياد كانت فارسية بدون ريب. لو أضفنا إلى كل هذا ما هو معروف عن البصرة ، وأن هناك شعورا ضعيفا بالهندسة المعمارية العظيمة عند العرب ، وهو افتراض صحيح ، لرجحنا ليس فكرة انعدام أي بناء للمسجد زمن سعد ، إنّما فقدان بناء شامل للمسجد يطمح إلى العظمة والاكتمال والانسجام المعماري.

القصر :

لنبدأ باستفهام علم الآثار. فهو يشهد بوضوح ، كما مر بنا ، على وجود مستوى سبق العصر الأموي ، دون أن نعلم هل أن العصر الأموي يبدأ مع زياد أو مع عبد الملك ، لأن المصادر المكتوبة تؤكد أن الخليفة عبد الملك هدم كل شيء وأعاد بناءه بعد ثورة مصعب (٥). فيمكن لذلك أن توافق الفترة الأولية ما قام به زياد كما قد توافق ما قام به السابقون له. لكن من هم؟ سعد أم المغيرة؟ لم يتحدث سيف عن المغيرة إطلاقا.

تؤكد الحفريات الأثرية أن المستوى الأول يشهد بآثار خاصة بأسس وحدة أصلية واحدة ، كانت مربعة الشكل بقياس ٩٥ ، ١١٣ مترا على ٨٦ ، ١١٣ مترا (٦). إنها أسس لاسوار مهدومة ، لكن يظهر أن البنائين اللاحقين عادوا إليها ليشيدوا فوقها أسوارا جديدة ،

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٧٥. لا يتكلّم البلاذري عن أساطين ولا عن أي بناء زمن سعد.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٧٦.

(٤) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٥) البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ٦٦ وما بعدها.

(٦) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٦٠.

١٠٢

لها الأبعاد نفسها تقريبا ، وهي توافق أبعاد الجدران الداخلية. وتوجد الأبراج وعددها عشرون بالمكان نفسه دائما ، وتنغمس في آثار الأبراج القديمة وقد تساوى عددها بالضبط (١). نتعرف بمساعدة على الآثار على هذه القلعة العظيمة بالنظر لهذا المستوى الأول ، إذ كان سمك جدرانها يتراوح بين متر وثمانين سم ، ومترين! أما المادة المستخدمة فهي الآجر بقياس ٣٦ سم* ٣٦ سم* ٩ سم ، لكن شكل اللبنات غير منتظم ، واستخدمت كذلك نصف الآجرة أو القطعة منها في بعض الأحيان ، والجبس كموثق للآجر ، أو أنه كان يمزج بقطع من الآجر لتبليط البناية. ولم تظهر في هذه الفترة أشياء أو مواضيع زخرفية (٢). وما نجده في الجملة هو هيكل وخطوط موجهة أساسية.

لكن ماذا تقول المصادر الكتابية في هذا الموضوع؟

يتحدث سيف والبلاذري فقط عن القصر. ولا نجد عند البلاذري خبرا عمّا قام به سعد من بناء لا في الموضع المحدد للمسجد ، ولا في الموضع المحدد للقصر داخل المساحة العمومية. وتنسب الرواية صراحة إلى زياد بناء القصر (٣). وقد ورد بخبر فرعي قصير وجدّي أن سعدا أحاط قصره بالقصب وجهزه بباب خشبي (٤) ، يحتمل أنه جلب مع أبواب أخرى من المدائن. فمن الممكن إذن أن يكون القصر بقي خلاء عراء ، ومعسكر خيام الأمير ، وأنه كان شبه مركز للقيادة على الطريقة البدوية. والأقرب إلى المعقول أنه ربما بني بالقصب بناء بدائيا ، فكان خصّا ضخما حتى زمن زياد ، بين خصاص الناس المقيمين الكثيرة. وفي هذه الصورة يبدو واضحا لا محالة أن الأسس التي سبقت العصر الأموي (٥) ، من المستوى الأول للحفريات يرجع تاريخها إلى زياد وتنتسب إذن إلى الفترة الأولى من الدولة الأموية. أما المستوى الأموي ذاته ، فيؤرخ فيما بعد سنة ٧٥ ه‍ / ٦٩٥ م.

كان سيف أكثر تفصيلا. وهو يميل بصورة واضحة إلى إعادة بناء الماضي بواسطة الحاضر. فقد أدخل فكرة قصر أول ارتبط بالمسجد بواسطة نفق طوله ٢٠٠ ذراع (ما يقرب من ١٠٨ أمتار) بني بالآجر أصلا ، وهو الآجر المنتزع من قصر ساساني كان يوجد

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٦١.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٦١.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦ ؛.Annali ,III ,٢ ,p.٠٥٨. الحقيقة أن الدينوري يتحدث في الأخبار الطوال ، ص ١٢٤ ، عن بناء القصر والجامع من طرف سعد. ولم يذكر خليفة بن خيّاط شيئا من ذلك ، ج ١ ، ص ١٠٩.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٧٧.

(٥) لا شيء يسمح لمحمد علي مصطفى بالتصريح أن المستوى الأول يعود تاريخه إلى ولاية سعد. لم يكن قوله سوى افتراض مستنبط انطلاقا من المصادر الكتابية. ألم يتحدث هو نفسه عن قصر أموي ثان ، لم تتحدث عنه المصادر التي بين أيدينا؟ مرجع مذكور ، ص ٤٧.

١٠٣

التخطيط الثاني للصحن حسب رواية سيف

١٠٤

بالحيرة (١) ، ولقد ذكرنا أن بيت المال كان ضمن هذا القصر. ثم طرأت سرقة هذا البيت ، فتقرر هدم المسجد وجعله قريبا من القصر ومحاذيا له (٢) ، فأعيد بناء المسجد والقصر مرّة أخرى انطلاقا من بقايا قصر ساساني بالحيرة (٣). يورد سيف ذلك وكأنه يذكره للمرة الأولى (٤).

الواقع أن المسجد الحالي ملاصق لميمنة القصر في اتجاه القبلة ، بالصورة التي بيّنها سيف ، كما بقيت آثار نفق من العصر الأموي ، إلا أن الوصل قد تم في المستوى الأموي المتأخر ، بالسور الخارجي للقصر ، ويمتد ضلعه على أكثر من ١٦٨ مترا (٥). ومن المفارقة أن الآثار الوحيدة التي تبقت من المستوى الأول للحفريات توجد من جهة المسجد ، لكن في الحوزة الداخلية التي كانت تحدد محيطا ضلعه ١١٤ مترا (٦) ، أي بتراجع يقدر ب ٣٠ مترا ، بالنسبة إلى حائط المسجد. ليس من شك في أن القصر الأصلي المشيد لم يكن يتجاوز الحزام الداخلي (٧). وبما أن الزوايا الأموية الملاصقة للمسجد ما زالت قائمة ، فمن المرجح أن حدود المسجد الحالي ، الذي تأخر بناء جدرانه ، تعود إلى العصر الأموي ، مع أنها تتراجع قليلا إلى الداخل بما قدره ٣ أمتار و ٦٠ سم. ولا تتوفر لدينا أية معلومات عن اتساع القصر على حساب المسجد ، بل بالعكس! لقد بني المسجد لاستقبال ٠٠٠ ، ٤٠ شخص في ولاية سعد ، وجرى توسيعه في إمارة زياد ، بحيث صار يحوي ٠٠٠ ، ٦٠ شخص (٨). ولإنقاذ رواية سيف ، يكمن الحل الوحيد في التفكير في اتساع القصر بين السورين وعلى حساب المسجد الذي امتد في اتجاه الشمال ، فعاد بذلك إلى موقعه السابق. وفي هذا المعنى ، هناك مؤشرات قليلة وكثيرة الغموض. لكن ألا يقرب من المعقول أن نفكر بخصوص ما يقوله سيف ، في عملية إعادة بناء ذهنية تمت في وقت لا حق؟ كانت مواد الحيرة موجودة فعلا ، لكن النمط المعروف بالنمط الحيري ينتمي إلى الطبقة الأثرية الشائعة في العصر العباسي

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٦. انظر الخرائط. ا

(٣) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٦. كايتاني يمرّ مرّ الكرام على هذه المراحل المتنوعة :.Annali ,III ,٢ ,p.٨٥٨. ولم يحتفظ إلّا بفكرة «الدار» كنواة للقصر العتيد المبني انطلاقا من آثار الحيرة. وقد شكك ريتميير بأقوال سيف :. Reitmeyer, op. cit., p. ٤٣

(٤) متناسيا أنه تحدث عن قصر سعد في اللحظة الأولى مما جعله يناقض نفسه.

(٥) الشكل الأول من دراسة محمد علي مصطفى وص ٣٨ ؛ الجنابي ص ١٣٨ ـ ١٣٩ ، وشكل ١٤.

(٦) بالضبط ٩٥ ، ١١٣ مترا من الشرق إلى الغرب و ٨٦ ، ١١٣ مترا من الشمال إلى الجنوب. انظر : محمد علي مصطفى ، ص ٦٠.

(٧) راجع تصميم الجنابي الذي نقل بالضبط تصميم محمد علي مصطفى.

(٨) ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ص ٤٩١.

١٠٥

الأول (١) ، الذي هو عصر سيف بالذات ، كما أن وجود الدهليز في واقع الأمر أمكن إسقاطه في الفترة الأولية. ويرجح كثيرا أن نقل المسجد لم يكن بعيدا من القصر ، عندما أعيد بناؤه ، ولكنه لم يتلاصق الجهازان المتقاربان إلا في العصر الأموي المتأخر ، وذلك بزيادة السور الخارجي للقصر ، وهذا ما يفسر وجود الدهليز الذي كان يمر منه الوالي (٢) ، وهذا أيضا إسقاط يرد إلى الماضي.

وتتفق النصوص الكتابية وعلم الآثار على تحديد موقع البنايتين وعلى أبعادهما الإجمالية (٣) ومحيطهما القريب (السوق والرحبة). ويتفق سيف والبلاذري على القول إنه ترتب عن المحاولات المترددة في العصر الأولي ، عمل منقوص تمثل في مسجد بدون أروقة ، وقاعة صلاة بسيطة للغاية (كانت مبنية إما بالقصب وإما باللبن). ولا يقل القصر بساطة عنها ، إذ بني بهذه المواد ذاتها. ولعل الاقتباسات المستمدة من قصور الحيرة القديمة قد أضيفت مع باب خشبي كبير. وما تبقى من الأسس السابقة للعصر الأموي يطرح مشكلة حقيقية : هل كان ذلك في عصر زياد أم في عصر سعد؟ لكنّ الإطار كان مسطّرا ، وكانت الفكرة واضحة ، فهي تتمثل في توأمة ممتازة بين المعبد والقصر ، وسط مساحة عمومية كبرى ما زالت منيعة عن البناءات الخاصة.

الرحبة والسوق والآري :

هناك ثلاثة عناصر أخرى تشكل المساحة المركزية. أولا الرحبة ، وهي كلمة بقيت شائعة في لغة المدينة العربية المعاصرة (٤) ، توحي بالاتساع ، والمكان الخالي ما عدا بعض المناسبات ، في المجال المدني. وهي ملاصقة هنا للقصر والمسجد من جهة اليمين ، في اتجاه القبلة (تقع في رسمنا يسارا). وقد بين سيف ذلك قائلا : «ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر يمنة على القبلة ثم مدّ به

__________________

(١) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٥٨.

(٢) الجنابي ، ص ١٤١.

(٣) بخصوص المسجد : سيف برواية الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ ، قدر طول الظلّة ب ٢٠٠ ذراع أي ما يزيد قليلا عن ١٠٨ أمتار. وهذا قياس لا علاقة له برمية السهم. لكنه مطابق لما توصلت إليه التنقيبات الأثرية من نتائج : ١١٠ أمتار لحائط القبلة ، و ١٠٩ م لحائط الشمال ، و ١١٦ م لحائطي الشرق والغرب. راجع في هذا الخصوص : وثائق مديرية الآثار ، بغداد ، ص ١٠. الذّراع هنا لا يمكن إلّا أن تكون الذراع السوداء المقدرة ب ٤٥ سم :.Hinz ,op.cit.,p.١٦.

(٤) قارن برحبة الغنم في تونس. وقد لاحظ البراقي أن في المدن العربية فسحات تسمّى صفوة ، أو صفاوة ، أو مناخة : التاريخ ، ص ١٢٠.

١٠٦

عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة علي بن أبي طالب عليه السلام والرّحبة قبلته ثم مد به فكانت قبلة المسجد إلى الرّحبة وميمنة القصر» (١).

وهذا يعني أنها تمتد إلى الجنوب الغربي من المسجد وإلى غرب القصر.

ماذا كانت تمثل الرّحبة؟ إذا ما صدقنا سيفا ، فلا بد أنها كانت تحتل الزاوية التي يحددها الحائط الجنوبي للمسجد والحائط الموجود غرب القصر. والرّحبة ظاهرة مدنية عادية تتمثل في ترك فضاء ما أمام البنايات العمومية. أمّا أن يقع الاختيار على مكان يتواجد فيه أو يتواصل المسجد والقصر ، بمعنى المكان الذي يشتركان فيه ، إن صح القول ، فهو أمر طبيعي جدّا.

إنه الخلاء المفتوح انفتاحا كاملا ، وهو يذكّر بالساحة العامةagora عند اليونان ، وبالميدان عند الفرس ، وبالساحة العامةForum عند الرّومان. ويمكن أن يذكّرنا كذلك بالساحة الحمراء أو بساحة تيان آن من : هذه ظاهرة عالمية مستمرة بصورة ملحوظة عبر الزمان. وقد ارتبطت الرّحبة في المصادر باسم عليّ ، لأن عليّا كان يسكن فيها (في بيت من قصب ، كما ذكرت إحدى الروايات) ، ولأنّه ترك القصر مدّة ، ليس لأنه أسس الرحبة التي كانت سابقة له. وقد جعل منها ماسينيون فرعا أو إفرازا للقصر ، وماثلها بالميدان ، «الميدان الذي كان يفتح عليه القصر غربا (بمصطبة مركزية كانت تعد خلال الاحتفالات الكبرى) ، وقد تسمى أيضا رحبة عليّ» (٢). والواقع إذا كان للرّحبة أن تلعب دور المكان المخصص للاحتفالات العسكرية ، واستعراض الجيوش ، فإنها تظهر بالأخص امتدادا للمسجد. ولعلها صارت كذلك ، لأن الشهادات التي وصلت إلى علمنا متأخرة. وبالفعل ، ظهرت رحاب المسجد في الحواضر الإسلامية الكبرى خلال القرنين الأول والثاني للهجرة. فكانت توجد بالمدينة رحبة القضاء للتحكيم الذي تم على يديّ عبد الرحمن بن عوف ، بين عثمان وعليّ سنة ٢٣ ه‍ / ٦٤٤ ، وقد كانت ملاصقة للمسجد (٣). وفي سنة ١٤٥ ه‍ / ٧٦٢ ، وقعت فتنة بالمدينة أيضا ، فأمر الوالي الرجال المسلحين الذين قدموا لنجدته بأن يترقبوا طلوع النهار ليشرعوا في قمع العصاة ، وأن يحطوا الرحال بالرّحبة (٤). وفي بغداد اجتمع بعض الأشخاص وقرروا الانتفاض في رحبة الجامع (٥) ، داخل المدينة التي تميزت عن الأرباض في

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦.

(٢) Massignon ,art.cit.,p.١٥.

(٣) الطبري ، التاريخ ، ج ٤ ، ص ٢٣٧.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ٥٥٤.

(٥) الطبري ، التاريخ ، ج ٩ ، ص ٣٥٨.

١٠٧

ذلك العصر (٢٥٢ / ٨٦٦). وقد أشير إلى وجود رحبة بني تميم (١) في البصرة أيضا ، ورحبة القصابين كذلك (٢). وما يهمّنا أكثر هو ما ورد عند الطبري من إشارات متفرقة عن رحبة الكوفة. إنّ الإشارتين الواردتين عنده إلى المصطبة (٣) تدلّان على أن هذه المنصة بناية ثابتة وأنّها قريبة من القصر ، لا على أنها تقع في الرّحبة وهو افتراض لا غير. أمّا الرّحبة فقد وقع التلميح إليها بكامل الوضوح عند دخول شبيب إلى الكوفة (٧٧ / ٦٩٦) ، لكن دون أي تحديد لموقعها. وخلافا لذلك ، يتوفر لدينا نص ينير لنا السبيل جيدا بالنسبة لعصر لاحق (٤) (١٥٩ / ٧٧٦). فماذا يقول؟ يفيدنا أنّ الرّحبة التي تسمّى رحبة المسجد ، كانت موجودة خارج المسجد ، لكن بعد الأبواب مباشرة (ولعلها امتدت آنذاك إلى الجانب الغربي ، لأننا لا نتصور أبوابا تفتح على حائط القبلة). كانت تستخدم كمصلى ، بمعنى أنها كانت موضعا للصلاة في الهواء الطلق. فظهرت بمظهر المكان الملحق ، وكامتداد للمسجد. ومع ذلك ، فقد بقيت مستقلة خارجية عن المسجد حقا. لم يكن لأحد حق إدخال رحائله إليها يوم الجمعة ، ما عدا عيسى بن موسى الذي أقلق من أجل هذا الأمر ، لكن لأسباب سياسية. ولا شك أن هذا النص يصوّر لنا فترة متأخرة ، وزمانا ضاق المسجد فيه كثيرا على السكان ، كما تغيرت فيه أمور عدّة في حياة الكوفة. والأرجح أن الرّحبة كانت ساحة واسعة في الأصل ، محيطة بالقصر والمسجد وكانت تقوم بدور غير واضح في بداية الأمر ، لكنها كانت لا محالة فضاء ضروريا للمرور بين المسجد وخطط القبائل البعيدة عنه. فالنص الذي بين أيدينا واضح وهو يذكر أن «أفواه السكك» كانت تبدأ حيث تنتهي الرّحبة (٥). هنا كانت تتقاطر أفواج الفرسان القادمين للصلاة ، من جهة المسجد. ولا شك أنهم كانوا يربطون بها أفراسهم قبل الدخول إلى المسجد ، ولعل سلوك عيسى بن موسى الذي ينمّ عن روح امتياز وتكبر ، أراد إحياء عمل قديم صار باليا بتطور الزمن. أما من جهة القصر ، علما بأنّ الرّحبة كانت تمتد إلى الجنوب الغربي ، فقد رجح المظهر العسكري السياسي ، ونشر جهاز الحكم مباهجه فيها. وعلى هذا ، يتمثل دور الرّحبة إجمالا في قطبين نفعيين جدا. ثم إن كفة المسجد رجحت بمرور الزمن ، فلم تبق سوى رحبة المسجد ، التي تحولت هي ذاتها إلى مسجد.

إن المقارنة بمدينة بغداد في عصر المنصور ، سوف تخولنا مزيدا من التدقيق في وظيفة الرّحبة ، بحيث نتجاوز نص سيف. نجد في هذا المجال معلومات دقيقة عند اليعقوبي (٦) ،

__________________

(١) المرجع نفسه ، ج ٥ ، ص ٥١٨.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٥ ، ص ٥٠٦.

(٣) الطبري ، التاريخ ، ج ٦ ، ص ٤٧ وج ٥ ، ص ٢٤١. أخطأ ماسينيون في المراجع.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٨ ، ص ١٢٢.

(٥) الطبري ، ج ٨ ، ص ١٢٢ ؛ وأنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٣٩.

(٦) كتاب البلدان ، ص ٢٤٠. يبدو أنه كان للرّحبة موضع مركزي ، وأنها كانت محاطة دائريا وعن بعد دون شك ،

١٠٨

والطبري (١) ، والخطيب البغدادي (٢) ، إضافة إلى بحثين كتبهما لاسنرLassner ) يظهر بوضوح أن «المدينة المدورة» جسدت تمييزا لمساحة مركزية كثيرة الاتساع ـ تشتمل على القصر والمسجد وعمارة للشرطة وحزامين للحماية والسكن ، مع سوق داخل الأروقة في البداية. إنّ الرّحبة تبرز كأحد العناصر الأساسية للمساحة المركزية لأنّها تتطابق مع كل الخلاء العاري الذي يحيط بالمسجد والقصر وتفصلهما عن الحزام السكني. وهكذا يصبح الشبه بالكوفة عجيبا ـ وسنعود إلى هذا الأمر ـ وهو يسمح بتسليط الضوء على وضع الكوفة ، انطلاقا من بغداد والعكس ، بفضل جملة من المقارنات. وبما أن تصميم الرّحبة كان أحسن ببغداد ، وبما أنّه وقع إقصاء الأسواق من المساحة المركزية (٤) ، فقد صارت أكثر اتساعا ، وأحاطت بفراغها ومن كلّ جانب بالمركّب المركزي. وقد مر بنا أنه كان ينبغي التفكير في مدها في الكوفة أيضا ، إلى كل الواجهة الغربية من المسجد ، حتى نهاية المساحة المركزية (٥) وتمتد بعدها الخطط أي قطائع السكن. على أن الأسواق في الكوفة تحتل جهة الشمال داخل المساحة المركزية ، فضلا عن أن القطائع السكنية ستقرض منها نوعا ما ، وهي قطائع استثنائية وشخصية اقطعت لأشراف الناس (٦) ، (اشترى عيسى بن موسى دار المختار ، التي كانت ملاصقة للمسجد ، وذلك لكي يتمادى في الذهاب إليه حسب مشيئته) (٧). وهناك نقطة أخرى تشكل وجه شبه : لم يمش الناس في رحبة المنصور إلا سيرا

__________________

بمساكن ودواوين. وكانت الشوارع بين الأروقة.

(١) التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٢ ـ ٦٥٤.

(٢) تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٧٤ وما بعدها.

(٣) The» Caliph\'s personal domain «, dans Islamic City,, pp. ٣٠١ ـ ٨١١. ومن المهم مقارنته بمقال جيد لصالح العلي نشر في المجموعة نفسها ، ص ٨٧ ـ ١٠١ ؛ انظر أيضا : The. Topography of Baghdad in The Early Middle Ages, Detroit, ٠٧٩١.

(٤) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٢. وضعت الأسواق في الأروقة الأربعة قبل أن يتمّ نقلها إلى الخارج بالكرخ. وقد أمر المنصور في العملية ذاتها بسد الأبواب التي تفتح على الرّحبة ، وفتح أبواب أخرى في الفصيلات بين الأروقة : المرجع نفسه ص ٦٥٢. راجع أيضا لاسنر ، art.cit.,p.٣١١ ، فالرسوم المصاحبة لبحثه تضمنت مواضع متفرقة للرّحاب داخل مركبات الأبواب ، بمثابة ساحات للخروج ، لا غير. وسمّى الرّحبة الكبرى» Inner court «مما يبعث على اللبس. وقد اقتبس هذه الرسوم عن كريسويل وهرزفيلد. (Herzfeld)

(٥) من الممكن تعريف الرحبة أولا بكل الخلاء غير المبني ولذا تكون محيطة تماما بالجامع والقصر ومحتوية على الأسواق قبل أن تبنى ويتحدّد مجالها. فهناك إشارات إلى أن السوق الأولية كانت بالرحبة بمعناها الأشمل.

(٦) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ؛ الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ بخصوص دار عمرو بن حريث.

(٧) الطبري ، ج ٨ ، ص ١٢٢. يفسر قرب دار المختار من المسجد موقف الشيعة المتأخرين الذين اعتبروا أن قبره كان موجودا في إحدى زوايا المسجد : البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ٦١. يظهر أن مسلم بن عقيل نزل في دار المختار : أنساب الأشراف ، ج ٦ ، ص ٢١٤.

١٠٩

على الأقدام. وقد روى الطبري (١) والخطيب أيضا (٢) حادثة وقعت لعيسى بن عليّ ، ومفادها أن هذا الشخص وهو أحد أقرباء الخليفة كان مريضا ، فلم يقدر على قطع الرّحبة على طولها مشيا على الأقدام ، لكي يصل إلى القصر. وتدل هذه الحادثة بوضوح على أن حظر الركوب بالرّحبة صادر عن المنصور ، وهو انطبق على الكوفة تبعا لبغداد ، وأن الركائب كانت تحطّ بالرّحبة في السابق فيما يخص الكوفة ، على الأقل يوم الجمعة. وأخيرا ، فقد تحولت بعد ذلك الرّحبة في بغداد إلى مصلى (٣) ، وقد تم ذلك منذ خلافة المهدي وربما قبل ذلك في الكوفة. وهكذا نلحظ تفاوتا في التطور ، لكنّنا نلحظ أيضا تماثلا عجيبا في هذا التطور ، وبذلك نكتشف كثيرا من الخاصيات للكوفة في بدايتها تظهر في بغداد في خلافة المنصور ، شكليا وعلى مستوى التصور (٤).

من الضروري أن نتساءل الآن عن مصدر الرّحبة. هل كانت من أصل بابلي أم هلينستي ، أم ساساني ، أم روماني بيزنطي ، أم من جنوب بلاد العرب؟

لقد رأينا أنّه تشكل قبل ظهور الإسلام ، نوع من الصورة المعممة للبنية المدنية حيث تجمعت كل التقاليد الخاصة. وهو أمر صالح أساسا للمساحة المركزية ، كما بالنسبة للعناصر المكونة لها (القصر والمعبد) ، ولا بد أنّ الأمر يكون كذلك بالنسبة لساحة المعبد والقصر. ومن المعلوم أنّ مثل هذه الساحة كانت ، بصورة أدق ، موجودة في المدن اليمنية ، وفي المدن الساسانية أيضا ، وقد تحدثنا سابقا عن البوميريوم pomerium وعن الساحة المركزية في المدن الرّومانيةforum ، مع أن المكان الأول يطابق بالأحرى فكرة الصحن. ومن المفيد التمعن في فكرة الأغوراagora التي انتشرت كثيرا في الشرق في ذلك العصر (٥). فماذا نجد في دمشق ، المدينة التي تفيد المؤرخ ، لأنّها تحملت الاستمرار في التقطع؟ نجد هنا أيضا ، في

__________________

(١) التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٢.

(٢) تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٧٧.

(٣) ليس الأمر بديهيا تماما في نص الطبري الذي يروي انتفاضة سنة ٢٥٢ : التاريخ ، ج ٩ ، ص ٣٥٨. وعلى كل فقد صارت الرحبة مرتبطة بالمسجد ارتباطا عضويا ، واستمدت اسمها منه ، وكانت واسعة جدا وشعورنا بعد قراءة متأنية أن الرّحبة استخدمت كمصلى. وقد شدد اليعقوبي تأكيده على هذه النقطة ، ولهذا الأمر اعتباره حيث ألف كتابه في الفترة ذاتها تقريبا. كتاب البلدان ، ص ٢٤٠.

(٤) سوف نعود إلى هذه النقطة الرئيسة ، إذ لا نوافق العليّ ولا لاسنر على رأيهما. ولنشر منذ الآن إلى نصيب أهل الكوفة في بناء الحاضرة الجديدة : أبو حنيفة الفقيه الكبير ، راجع الطبري ، ج ٧ ، ص ٦١٩ ؛ وابراهيم بن حبيش الكوفي ، المرجع نفسه ، ص ٦٥٣.

(٥) لنسجل فكرة لويس ممفورد عن انتشار النموذج الهلينستي حيث جرى تعميم الصبغة الهلينستية على الصعيد العالمي «كنموذج منمط للصناعة المسترسلة» :.Mumford ,op.cit.,p.٩٦٢. ولا بدّ أن الفرس قد استبطنوا هذا النموذج.

١١٠

قلب المدينة ، هذين العنصرين الحاسمين ، نعني المعبد والقصر. لكننا نجد أيضا الساحة العامة (الأغورا) التي غطتها البناءات الكثيرة ، فكادت تمحوها ، بسبب التغييرات الواسعة التي طرأت عليها. وما ذكره إليسييف Elisseef يدل دلالة عميقة على ذلك ، وقد اعتمد سوقاجي Sauvaget فيما قال : «يذكّر درب الرّحبة وهو السكة المنحرفة المجانبة لأسفل التل (الذي يغطي الأغورا) بوجود سابق قديم لساحة مستطيلة أو مربعة الشكل ، كانت تسمى رحبة خالد في العهد الوسيط. وقد احتفظ بذكراها إلى اليوم في ساحة الديوانة ....» (١). ولنلاحظ هذه الترجمة الممتازة التي ظهرت في اللغة والحجر في آن ، والتي حولت الأغورا إلى رحبة. ونسوق هذا على سبيل الإشارة والتلميح لا غير ، لأنّه لا يمكن القول إن دمشق أثرت في الكوفة في بداية نشوئها (٢). لقد أتيح لها ذلك كعاصمة للامبراطورية ، لكن في عصر لاحق ، خلال إمارة زياد ، وخلافة عبد الملك وولاية خالد القسري. لكن لو أردنا المضي بعيدا في عملية المطابقات ، فمن يقدر أن يدلل على أن رحبة الكوفة قد دعيت رحبة قبل العصر الأموي؟ أمّا في بلاد الرّافدين فالأحرى أن ينسب إلى التأثير الهلينستي على السلوقيين والبارتيين ، أمر تهيئة ساحة كبيرة حول القصر والمعبد على شاكلة الأغوار (٣). وهكذا تتتابع وتتشابه صور للعنصر الحضري ذاته ، ولا تتشابه في الوقت نفسه ، ولا سيما في غائيتها. لقد سبق لرحبة المنصور أن استهدفت الاتجاه المعلمي (٤) ، وكانت ترمز إلى المسافة التي لا تدانى والتي كانت تفصل السلطة عن الناس وتمثل الفراغ العميق الناتج عن خشية هذه السلطة ذاتها. في حين تقمّصت الرّحبه في الكوفة الأولى وظيفة الرّافد والمصب من الحزام السكني إلى المركز ، وشيئا فشيئا ، وبمقدار تعاظم السلطة المفارقة للوالي صارت لها وظيفة الحاجز في وجه الجماهير الغفيرة المقيمة بالمدينة. فما القول إذن في وظائف الأغورا

__________________

(١) Nikita Eliseeff,» Damas a ? la lumie ? re des the ? ories de Jean Sauvaget «, in The Islamic City, Ox ـ ford, ٠٧٩١, p. ٠٧١.

(٢) لا شك أن سيفا وصف الظلة الأولى (ظلّة سعد) بأنها كانت مسقوفة بسقف من النوع البيزنطي ، بمفعول اسقاط يعود إلى الماضي ويتجه اتجاها ثقافيا جامعا : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥. لكنه لم يكن يتصور ذلك أمرا مستحيلا ، عندما كان بصدد تأليف كتابه وهو الرّجل الذي شاهد عيانا الكوفة خلال العصر الأموي الأخير.

(٣) ذكر ممفورد اعتمادا على أعمال معروفة ، أنّه بالنسبة لليونان «كانت الأغورا منذ البداية ، مخصصة للعلائق اليومية المتنوعة ، وقد فصلت فصلا تاما عن سور المعبد ... وتمّ هذا الفصل بصورة أسرع مما كان عليه الأمر في بلاد الرافدين ، ذلك أنّه لم تجر أبدا ممارسة التجارة والصناعة بإشراف المعبد ، على الأقل بعد عصر هوميروس» : راجع : Mumford ,La Cite ? a ? travers l\'histoire ,p.٤٩١.

(٤) ينبغي تمييزها من الرحاب الصغرى الكثيرة المحددة مواضعها في مركبات الأبواب بخصوص الرّحبة المركزية في بغداد التي تكاد تماثل الساحة العامة كلها : راجع كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ؛ الطبري ، التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٤ ؛ وLassner ,The Topography of Baghdad ,p.٤٤١ ..

١١١

الكلاسيكية ، ووظائف الرّحبة الإسلامية ، إذا سلمنا بوجود اقتباس ما؟ كان للأغورا اليونانية في الفترة العتيقة وظيفة تجارية ، وأضافت الأغورا في الفترة الكلاسيكية إلى ذلك ، وظيفة سياسية. فأصبحت المجال الحيوي للعلاقة الاجتماعية ، ومكانا للمداولات والمناقشات. لكن رحبة الكوفة ، ورحبة بغداد بدرجة أقل ، لم تكن امتدادا للسوق ، ولا ساحة سياسية ، ولا حتى مكانا للمداولات : إنّ صمت المصادر العربية عن هذا الموضوع ناطق مبين. لقد كان القصر يجمع في قبضته قوة القمع والقرار ، فكان في بداية الأمر يوظف الرّحبة إما لجمع رجاله ، وإما لإظهار قوته عبر الاستعراضات العسكرية. أما المسجد ، فكان يجمع طيلة القرن الأول الهجري ، النقاش السياسي الديني ، لا كاختيار أصلي متجذر (١) ، إذ كان موكولا للتعبد قبل كل شيء ، بل كعادة مكتسبة. كان النقاش يدور في المسجد والقوم جلوس ، لا وقوفا أو متجولين في الرّحبة. ثم بعد ذلك وجد التحريض الكلامي والمسلّح نقطا للارتكاز في الجبانات (٢) ، تلك الأشكال الأخرى المنبثة للرّحبة ، كما في الكناسة ، ذلك المكان الرفيع الآخر لحرارة العلاقة الاجتماعية المستمرة.

السوق :

كانت السوق عنصرا أساسيا ثانيا في المساحة المركزية ، إلى جانب الرّحبة وكانت مثلها محيطة بالمركّب الأثري «المعلمي» المتكون من القصر والمسجد. وقد أسقطت منذ البداية على مخطط المدينة ، بعد أن استنبطتها مخيلة المخططين. إن السوق عنصر من الحياة الجماعية وجزء من المساحة العامة. كانت مستقلة وجهازا قائما بذاته متميزا عن المسجد ـ خلافا لتقاليد الشرق القديم. لكنها كانت قريبة منه وحدّد موقعها في الجوار المباشر للمسجد ، هذا الجوار الذي استمر في كل بنية مدنية إسلامية ، في حين أن القصر هاجر إلى القصبات الخارجية أو إلى محلات للإقامة في الضواحي. إن المهم في هذا المجال أن نؤكد تعمد تهيئة الموقع الخاص بالسوق (٣). فلم تنشأ السوق كإفراز لحاجات التبادل والاستهلاك في المدينة ، أي نشوء عفويا ، بل كان وجودها إراديا محدد الموقع. وأن تكون بسيطة جدا أو حتى غير متميزة داخليا في الأول ، فلا يزيد هذا على أن يكون أمرا طبيعيا. الحقيقة أن عالم التجار

__________________

(١) هذا رأي لامنس الذي أنكر صبغته الدينية. راجع : Lammens, Etudes sur le sie ? cle des Omayyades,. Beyrouth, ٠٣٩١.

(٢) راجع بحثي المذكور سابقا ، في مجلةJESHO ، وكذلك مادة «الكوفة» ، في.E.I / ٢

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١.

١١٢

كان موجودا منذ ابتداء الفتح ، متقفيا الجيش ، متصيدا الغنيمة (١). لكن هل نحن على يقين من إنشاء السوق لمثل هذا الصنف من المبادلات وحتى لهذا الصنف البشري ، أي لتاجر الجيش ، المضارب المغامر المتجول؟ إن السوق المركزية ، كما سيظهر ذلك من خلال تطورها اللاحق ، مكان للمبادلات ومكان للانتاج. وقد أنيطت بها خدمة جماعة في سبيل التمركز والاستجابة لحاجاتها الحيوية. وهنا أيضا ، كان عالم سوق الجيش مدعوا للاستقرار ، وتكييف نشاطاته مع نظام المدينة الجديدة ، تماما كما كان المقاتلون يتمصرون. اللهم إلا إذا كان تقاطر على السوق صنف آخر من التجار والصناع ، صنف من غير المضاربين في الجيش ، من المستقرّين الأصليين ، قدموا من المدائن أو من غيرها من البلاد ، مختصّين ، قنوعين بالربح القليل من نمط تجّار الدّكاكين. ونحن نعلم أنّ السوق ستمتلىء فيما بعد بالعبيد والموالي.

أما على صعيد التمصير ، فإن التحديد المجالي هو الذي يشد انتباهنا في الواقع. لم يهتم بالأمر سوى مصدرين فحسب : هما سيف (٢) واليعقوبي في كتاب المدائن (٣). فلم يذكر البلاذري شيئا بخصوص هذه الفترة التأسيسية ، لكن بالطبع وردت إشارات متفرقة عن العصر الأموي ، تأتي في سياق الخبر السياسي (٤) (الطبري) ، أو في طيّات التراجم لرجال الدين (ابن سعد) (٥).

وما يترتب عن كل هذه الأمور ويلفت نظرنا فورا ، أن السوق أو الأسواق لا بد أن موقعها كان إلى شمال المسجد وإلى شرقيه ، وأنها كانت محيطة بواجهته الشمالية ، وقاضمة من واجهته الشرقية ، غير بعيدة عن زاوية القصر الشمالية الشرقية. ويمكن أيضا التفكير مع الجنابي (٦) أنها كانت تقع شرقي المسجد وتبلغ الواجهة الشمالية للقصر. روى سيف خبرا جاء فيه أن صبر سعد قد نفد لتصاعد ضجيج السوق إليه وهو جالس في القصر يتحدث (٧). كما توفر خبران متكاملان ، أحدهما لسيف والثاني لليعقوبي ، القصد منهما تبرير امتداد السوق بجوار الجهة الشمالية للمسجد مباشرة ، حتى الحدود الشرقية الشمالية للصحن. وقد ذكرنا أن سيفا تحدث عن نقل المسجد في اتجاه الجنوب ، وبذلك توفر فراغ

__________________

(١) صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٢٦٣.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ وص ٣٠.

(٥) الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٣٦ وص ٢٢٦.

(٦) الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ٨٦.

(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧.

١١٣

احتله باعة الصابون والتمر آنذاك ، كما قال (١). ولا يعني ذلك حتما أن هذا المجال قد احتله الباعة في بداية الأمر. لكن هناك احتمالات وتخمينات في هذا المعنى. أما اليعقوبي فقد ذكر عبارة رئيسة (٢) أوردها حرفيا حفاظا على ما اكتنفها من لبس : «وجعلت السوق من القصر والمسجد إلى دار الوليد إلى القلّائين إلى دور ثقيف وأشجع».

وما نجهله في هذه المعادلة هو دار الوليد. وباستقراء النصوص ، تكون هذه الدار في قلب سوق القصارين (٣) ، كعلامة معروفة تكاد تكون استثنائية من حيث موقعها وضمن المساحة المركزية قطعا ، وقد أحاطت بها هذه السوق ، لكنها غير بعيدة عن سوق السراجين (٤). وباستثناء هذه الاعتبارات ، فأين يكون موقعها؟ هل يكون بين المسجد والحدود الشمالية للمساحة ، أم إلى الشرق ، أم إلى الزاوية الشمالية الشرقية ، أم إلى الشمال الغربي؟ لا يمكننا الاختيار بين هذه المواقع. على أن معرفتنا بأن «دور ثقيف وأشجع» تقع إلى شمال الصحن ، بالاعتماد على قائمة توزيع القبائل المنسوبة إلى سيف ، مع اتجاه إلى الشرق (ارجع إلى الخارطة) ، تجعل المشكلة تتمثل في معرفة ما إذا صممت السوق على شكل سوق ـ شارع حيث تتوالى الاختصاصات ، الواحد تلو الآخر ، أو على شكل مركّب متشعب ينتشر على مجال واسع. وبذلك تشكل العلامات التي وضعها اليعقوبي ـ وهي المسجد ودار الوليد والقلاؤون وخطط ثقيف ـ في الصورة الأولى مراحل تقع على الخط نفسه. ونحن نعلم أن السوق الكبيرة ، أو ما سيصبح كذلك تمتد على سكة مركزية طويلة ، وهذه خاصية أساسية تميزت بها حواضر إسلامية عديدة. أما الصورة الثانية التي تكتسي في نظرنا صبغة منطقية أكثر ، فتحدد بعلامات رسمها اليعقوبي وتتمخض عن مجال ممتد مثلث الشكل أو مستطيله. وقد اعتمد ماسينيون هذا الحل بالذات بصورة ضمنية (٥) ، وترجم قول اليعقوبي كما يلي : a ? partir du Qasr et du Ja ? mi, d\'un co ? te ? jusqu\'au Da ? r Wali ? d ـ b ـ Uqba, de l\'autre jusqu\'aux Qalla\' ? yin, et de l\'autre jusqu\'aux habitations des Tha ـ qif et Ashja».

وبما أن الخط الرابط بين المسجد والقصر وثقيف معروف (اتجاه شمال / شمال شرقي) ، فإن هناك نقطتين تتعارضان حتما ، الواحدة في الشمال الغربي والثانية في الجنوب الشرقي ،

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٣) صارت في العصر العباسي «دار القصارين» : ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٤ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٣٢ وج ٦ ، ص ٨٩.

(٤) أخبار الدولة العباسية ، ص ٢٦٠.

(٥) Massignon ,op.cit.,p.٩٤.

١١٤

لكن في مستوى مركز المساحة. فضلا عن أن كلمة أسواق في الجمع تدل على بنية متفرعة ممتدة واسعة متنوعة ، وهي لا تعبّر إلا بصعوبة عن بنية مطولة بسيطة. ومن المعلوم أن مثل هذه السكك المتجهة إلى شمال / شمال شرقي كانت موجودة في الكوفة ، وكانت تصل بين القصر والجسر ، ثم في اتجاه السواد ، مخترقة المساحة المركزية والخطط القبلية. ولعل السكة الرئيسية كانت «سكة البريد» ، وهي الطريق البريدية الأساسية للاتصال (١) ، قبل أن تكون سكة لحام جرير كذلك ، كما قال ماسينيون (٢). وأخيرا يؤكد سيف أنه لم يكن يوجد في بداية الأمر ، في الصحن ، سوى المسجد والقصر والأسواق (٣) بحيث تتساوى السوق والكتل المجالية الأخرى ، ويكون قوله مؤيدا للتصور الخاص بالأسواق المفتوحة الواسعة الممتدة ، أي الميدان المحيط بالمسجد ، الذي يتقدم حتى القصر ، ويتوغل حتى الشمال والغرب والشرق.

وكانت هذه الأسواق مغطاة بالحصر ، في بداية الأمر (٤). ولم يتمّ الشروع في بنائها إلا بعد مدة تناهز القرن (فترة خالد القسري) ، وكان ذلك على قواعد متينة جمالية. فهل بقيت على وضعها القديم قبل ذلك؟ يمكن ترجيح ذلك إلى حد بعيد لأن أبا مخنف يفوه بخصوص فترة المختار (٦٦ ه‍ / ٦٨٥ م) بما يفيد أن الأسواق لم يكن فيها بناء في ذلك الزمان (٥).

وعلى صعيد التنظيم وحسب ، من المعلوم أن أماكن الباعة لم يقر لها قرار. لكن إذا احتل البائع مكانا لأول مرة ، فإنه يستمر يشغله كامل يومه ، كما هو معمول به في المساجد (٦). وهذا أمر يحملنا على القول أن التنظيم والتخصص في الأسواق كانا معدومين. وسوف يتحقق هذا الأمر في العصر الأموي (٧).

الآري :

أما الآري ، فقد ذكره الطبري مرتين (٨) ، كما ذكره اليعقوبي (٩) ، بحيث أن اتحادهما في

__________________

(١) انظر لاحقا.

(٢) Massignon ,op.cit.,pp.٢٤ ,٥٤.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٥) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ ؛ ج ٦ ، ص ١٩ و ٣٠ و ١٠٦.

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٧) يبدو أن زيادا قد شجع على استقرار المواقع والتخصص في البصرة بصورة ما : أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٩.

(٨) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٢.

(٩) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

١١٥

القول يوحي بوقوعه في المساحة المركزية. الآري عبارة عن مرعى عمومي ، بمعنى أن الدولة تملكه وتشرف عليه ، وهو مخصص لخيل الجيش التي هي ملك للدولة لا محالة. وقد روى أنه توفرت ٤٠٠٠ فرس في خلافة عمر (هل كان بيت المال هو الذي وفرها؟) تأهبا لقتال محتمل. «كان يشتّيها في قبلة قصر الكوفة وميسرته ، ومن أجل ذلك يسمّي ذلك المكان الآري إلى اليوم ، ويربّعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة ممّا يلي العاقول فسمّته الأعاجم آخر الشاهجان يعنون معلف الأمراء» (١).

كان منتجع الكلأ هذا يمتد على بضعة كيلومترات كانت تفصل بين عالمين ، وكانت الكوفة تقع على الوصلة الرابطة بينهما ، هما عالم البر ، المتجه إلى الجنوب والغرب وكان عالما شبه صحراوي ، وعالم الرّيف القريب من الفرات والمتجه شرقا وشمالا. ولا بد أن العاقول كان يقع شمالي الكوفة ، من جهة الفرات ، وخارج محيط المدينة. لكن أين الآري أو مرعى الشتاء؟ يصعب علينا تصور حشر ٤٠٠٠ فرس في الزاوية الجنوبية الشرقية للمساحة العمومية ، داخل حيّز محدود جدا ترتفع مساحته إلى بضع مئات من الأمتار المربعة. وبمقارنته بالعاقول ، نميل في أوّل وهلة إلى نقله إلى الجنوب الغربي مما يلي دور السكن ، حيث أن المساحة المركزية أحيطت بخطط القبائل من كل جانب ، في اتجاه البادية المترامية حيث ترعى النوق التي شغلت اهتمام عمر كثيرا ، ونحن ما زلنا نشاهدها إلى اليوم. لكن أسبابا متعددة تدفعنا إلى اعتقاد خلاف ذلك : علما أن موضعا محدودا كان سببا في ظهور اسم مكان ، وكان ملاصقا للقصر ، ولم يجاور دور الكوفة مثل العاقول ـ الذي كان هو أيضا يمتد على مجال ضيق يحده الفرات ـ ويرجح اليعقوبي بالخصوص رأينا الأخير حول هذه النقطة بجملة أوضح ما تكون حيث يقول :

«وكان فضاء عند المسجد» (٢).

ثم يضيف :

«وهو فضاء كانت فيه خيل المسلمين» (٣).

وإذا ما صدقنا اليعقوبي ، فيبدو أن عمر أقطع نصفه إلى أبي موسى الأشعري والنصف الثاني إلى جماعة من عبس (٤). وهذا يعني أن الآري لم يستخدم لفائدة الخيل إلا خلال

__________________

(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٤ ، ص ٥٢.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٣١٠.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٣١٠. المراد بالذات عشيرة حذيفة بن اليمان.

١١٦

التخطيط الثاني للصحن حسب رواية سيف والشواهد الأثرية

١١٧

السنوات الأولى من تأسيس الكوفة حيث شاع عدم الاستقرار ، وحيث صمم كل شيء بالنظر للعمليات العسكرية في العراق والشام ، فلم يذكر الطبري الآري إلّا عندما تعرض للنجدات التي وجهها أهل الكوفة إلى حمص (١). وما هو ذو دلالة أيضا أن اليعقوبي رتب إقطاع الآري هذا بين جملة من الإقطاعات الأخرى التي وهبها عمر لكبار الصحابة ، وهي إقطاعات صالحة لبناء دور تقع داخل المساحة المركزية (٢). في الإمكان أن يدور النقاش حول واقعها التاريخي ، وفيما يخصني لا أعتقد أنه كان صحيحا ، نظرا لأن فكرة القطيعة تبدو استثنائية في خلافة عمر ، في حين أن اليعقوبي يتحدث عنها وكأنها ظاهرة عادية متصلة بالخطط القبلية ذاتها. ومن الواضح أيضا أن كل ما ينسبه اليعقوبي أو يكاد في هذا الميدان ، إلى المبادرة الشخصية وما يشبه الملكية عند عمر ، كان نتيجة لتطور طويل ظهر بعد ذلك. لكن الأهمية المتعلّقة بتحديد مكان الآري ضمن المساحة العمومية تكمن في كونه يرتبه عن خطأ أم لا ، ضمن مجموعة الإقطاعات التي تمت بدون استثناء في المساحة المركزية أو في المدينة. وبذلك يكون الآري في الصحن تماما ، بمكان ما جنوب القصر والمسجد (٣) ، يقع حسب المرجح في زاويتين بالجنوب الغربي والجنوب الشرقي ، وهو مقسوم إلى نصفين. على أنّه من الصعب أن نعرّف وظيفة الآري بأنّه مرعى مفتوح ، بل الأولى أن يكون مكانا لتجميع الخيل. الواقع أن سيفا لم يستخدم كلمة رعى بل استعمل (يشتّيها) لكي يكون دقيقا (٤) ، وقابلها بخصوص العاقول بكلمة «يربّعها». إنّ المعجم العربي مرتبط بنمط الحياة الرعوية ، فتمادى في واقع مغاير ، هو واقع الفضاء الضيق الثابت الموظف إلى أقصى حد. وبذلك يشكل الآري حظيرة للخيل تقع في المساحة المركزية كعنصر للتنظيم العسكري المدرج في المجال إدراجا تاما دقيقا (٥).

دلالة المركز :

قلنا إن الحركة الرمزية التي سطرت حدود المساحة المركزية لم تكن تتصف بشيء من القداسة ، بل بشيء عريق في القدم. وهي التي دحرت إلى ما وراء الصحن الحياة الدّنيوية

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٠ ـ ٥١.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ـ ٣١١.

(٣) هذا ما يمكن استنتاجه من التحديد اللاحق لدار أبي موسى الأشعري (إلى الجنوب الشرقي) ، ومسجد بني مخزوم من قبيلة عبس : الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٢.

(٥) كلمة آري مأخوذة عن الفارسية آريات التي تعني «الحبل الطويل الذي يربط الماشية على خطّ واحد. راجع :. Desmaisons, Dictionnaire Persan ـ franc ? ais, Paris, ٨٠٩١, I, p. ٠٦. ومن الواضح أن المقصود هنا هو الفسحة المسيّجة حيث تجمّع الخيل. وقد بقي اللّفظ في اللهجات المغربية ليعني الاصطبل.

١١٨

المأنوسة لأبناء القبائل. لكن هذه القبائل سرعان ما أعادت تشكيل المجالات الجماعية لها (الجبانات) ، داخل الخطط الترابية ، كما ابتنت مساجدها الخاصّة حيث كان يلتقي الأشخاص المنتمون إلى العشيرة نفسها. ذلك أن المركز يوحّد ، في حين أن الخطط تحافظ على التنوع العشائري والقبلي للنسيج العربي. ومن الصعب في الحقيقة إحداث معارضة تامة بين المركز الإسلامي والحزام العربي القبلي ، لأن مساجد العشائر تكاثرت (١) ، بفضل ما بلغه التدين الفردي من تطور سريع. على أن الفكرة تفرض وجودها في البداية. ذلك أنه لم يكن في الأوّل لهذه الجموع العربية من الإسلام إلا الاسم : فهي لا تشبه في شيء أمة المدينة التي استوعبت الروح والتعاليم الإسلامية. لقد تشكل ضميرها الإسلامي في الحرب وارتبط ارتباطا وثيقا بهويتها العرقية العامة ، كما ارتبط أيضا بمركز القرار في المدينة. فتمخض عن ذلك تأكيد الصلاة كمجموعة من الحركات التوحيدية التي تتجمع بفضلها أمة المقاتلين. وترتب عن ذلك أيضا طابعها كفريضة مطلقة ، لا لسبب ديني وحسب ، بل كفعالية سياسية واجتماعية للإبقاء على لحمة شعب مشتّت في الأصل ، ولا سيما أنه استسلم للدعة نسبيا بعد وقعة القادسية. كان المركز موطنيا بفضل المسجد ، لأن الدين كان معاشا كظاهرة جماعية أكثر منه كجملة من المضمّنات الماورائية ، وكان الحكم يدفع به دفعا لكن الحكم كان سلطة تنظيم لا غير. إن انفصال المركز عن عالم السكن القبلي لا ينبغي فهمه بمعنى الحفاظ على سر من أسرار المعبد ، ذلك أنه لم يكن في خدمة المعبد طبقة من الكهان تسيطر على شعب خانع. بل كلّ ما حصل أن هيىء للمقاتلة مكان للاتصال إما في الصلاة وإما بالتجارة والمكان الذي نظم لهم فيه إطار وجودهم برضاهم. وبما أن المسجد هو ملك للجميع ، فقد كان مركزا أسمى ، ومكانا للالتقاء ، فتحتم أن يبتعد عن المجالات ذات الخصوصية المتمثلة في خطط القبائل.

لا شك أن تجاوزات لحرمة المركز قد وقعت. من ذلك إقطاعات منحت للأفراد ، ولم تمنح للقبائل أبدا. ولم يحدث ذلك في البداية قطعا ، كما كان يريد اليعقوبي أن يحملنا على الاعتقاد به (٢) ، ولم يفعل ذلك عمر يقينا ، لكن لعل بعض ولاته في نهاية خلافته قاموا بذلك بصورة استثنائية. لقد بنيت دور في المساحة المركزية وهو أمر ثابت أو يكاد ، ومما يزيد يقيننا بخصوص بعضها ، أنها وجدت فيما بعد داخل الأسواق. وقد أشير إلى دار الوليد بن عقبة (٣) ولعلها بنيت خلال ولايته [٢٥ ـ ٣٠ ه‍ / ٦٤٥ ـ ٦٥٠] في خلافة عثمان. كما نجد

__________________

(١) Grabar ,op.cit.,p.٤٣.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١٨. لم يكن ذلك يكتسي صبغة عظيمة. ولم تزدد الظاهرة اتساعا إلّا في ولاية زياد : انظر لاحقا.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ و ٣٤٦. يمكن التساؤل إذا هي لا ترجع إلى عصر زياد.

١١٩

أيضا دار عمرو بن حريث (١) ، وعبد الله بن مسعود (٢) ، وأبي موسى الأشعري (٣) وغيرهم. وكانوا جميعا من القرشيين أو من الصحابة ، بمعنى أنهم كانوا يدعون الناس إلى اعتناق الإسلام ، وكانوا رسلا لحكام المدينة يميلون للاتجاه المركزي ويعيشون خارج الخطط الجماعية ، بفضل نسق القطائع الفردية ، أكثر من نسق الخطط.

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٨٩ ؛ ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٢٤ ، يتكلّم عن دار كبيرة ؛ أخبار الدّولة العباسية ، ص ٢٦٠.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ؛ ابن سعد ، ج ٦ ، ص ١٦.

١٢٠