نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

كان المسجد مربع الشكل تقريبا ، لأن الحفريات الأثرية المتعلقة بأسسه حددت ١١٠ من الأمتار لحائط القبلة ، و ١٠٩ من الأمتار للشمال ، و ١١٦ مترا للضلع الغربي والشرقي. كان المسجد محصنا مسورا ، وكانت أبراج نصف دائرية تتخلل الحزام ، وقد تمكن في بعض الأوقات من استقبال كل المقاتلة أي حوالى ٠٠٠ ، ٦٠ شخص. ومن المفروغ منه أن الفتحات التي تصورها كرسويل ، وناقش في عددها الجنابي معتبرا مع ذلك أنها موجودة فعلا ، وهي ٥ شمالا و ٤ جنوبا و ٣ شرقا وغربا ، كانت تقوم على فرضية خاطئة تماثل بين الصحن المرسوم برمية السهم منذ التخطيط الأول ، وبين مساحة المسجد ، وهي لا تطابق الواقع في شيء. ويمكن إحصاء ثلاثة أبواب في المسجد على أقل تقدير ، هي باب الفيل شمالا ، وباب كندة جنوبا أو غربا ، وباب آخر يربط بين القصر وحجرة الصلاة ، وهو ما أثبته التنقيب ، ولعله باب السدّة الذي تحدث عنه البراقي بالاعتماد على مصادر الشيعة. وقد ذكر أيضا باب الأنماط الذي يفتح على السوق أي من جهة الشرق (١). وبذلك تكون أربعة أبواب على الأقل منها ثلاثة للعموم. ويحيط الشك بخصوص باب كندة الذي يكتب أحيانا بصيغة الجمع (أبواب كندة) وبذلك نستبعد ما ذكره كرسويل من فتحات كما نستبعد الفتحات الثماني التي ذكرها أحمد فكري واقتبسها عنه الجنابي (٢).

ومن المحتمل أن يكون المسجد الحالي موجودا على أرض المسجد القديم. إن مظهره المحصن المهيب يوحي بصورة المسجد الذي كان قائما في القرن الأول ، إذا ما نظرنا إليه من الخارج فقط. الواقع أنه مسجد متأخر أعيد بناؤه بواسطة مواد مأخوذة من القصر. والرأي السائد أن مستوى المسجد القديم ربما كان يطابق آثار «السفينة» الموجودة تحت الأرض ، على عمق عدة أمتار من المستوى الحالي (٣). وبذلك لعل المسجد القديم ، على الأقل مسجد العصر العباسي ، مدفون تحت المربع الحالي الذي يشغله المسجد إلا أن مكانته الدينية ربما تحول دون التنقيب الأثري المنسق كما حصل في القصر.

قصر زياد

كشفت التنقيبات عن ثلاثة مستويات : مستوى أول مطابق للعصر الأول (دار سعد؟) عمق أسسه ٩٠ سنتمترا على أرض عراء ، ومستوى ثان من العصر الأموي وهو الأهم ، وأخيرا المستوى العباسي الذي لم يكن سوى ترميم للقصر الأموي (٤). وبذلك فما

__________________

(١) البراقي ، ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) Creswell ,ouvr.cit.,pp.٧٢١ ـ ٨٢١.

(٣) Ibid.,p.٨١١.

(٤) M.A.Mustafa ,Art.cit.,p.٧٣.

٢٢١

تبقى من القصر يطابق القصر الأموي أصلا ، أي ما أنجزه زياد. قام زياد بعمل جليل عظيم شمل عناصر ثلاثة هي الحزام الخارجي والجدار الداخلي وعدة بنايات. لا يقل قياس الحزام الخارجي عن ٢٠ ، ١٦٨ مترا ، للضلع الشمالي الجنوبي ، و ٦٨ ، ١٦٩ مترا للضلع الشرقي الغربي (١). كان بناء من آجر ، ولم يتجاوز سمكه ٤ أمتار ، وقد أحيط ب ٢٣ برجا ، علما أن عبيد الله بن زياد تحصن فيه مع الأشراف ، وأن المختار واجه فيه الحصار. كان حزاما تحصنت وراءه السلطة. فقام بدور رئيسي لصد الانتفاضات. وهناك خصائص مماثلة في الحزام الداخلي منها شكله المربع ومتانة بنائه وقدرته على الصمود. لقد أثبت قصر الكوفة ذاته كحصن منيع ، في حين أن قصر البصرة وتمّ تخريبه وهدمه بسرعة ثم أهمله الولاة ، مع أنه لم يكن موجودا في بداية الأمر أو يكاد ، وزياد نفسه هو الذي بناه من لبن ، فما سبب ذلك؟ (٢) لقد تطابقت هذه الأسوار المتجبرة ومصير الكوفة ، مجهضة بدون تردد كل الثورات ، وأصبحت بمثابة الشخص المركزي في تاريخ مدينة الكوفة.

وفي حين أن القصر الأول ـ قصر سعد ـ تشكل من وحدة واحدة ، انتشر القصر الأموي كمجموعة مركّبة وهو يشتمل على عدة وحدات وبكلام أدق ثلاث مجموعات طولية يشكل مستطيلها المركزي نواة معلمية ، ولم نقدر إلا على الجزم بأن المادة التي أعيد استخدامها تنتمي إلى العصر الأموي الأول (٣). وحتى في هذا المستوى ، لا يمكننا حسم الشيء الذي يعود إلى العصر الأول والشيء الذي يستند إلى العصر الثاني. لكن في مقدورنا تكوين فكرة دقيقة نسبيا عما كان عليه القصر الأموي. يتميّز هذا القصر في الوقت نفسه بانسجام هيئته ـ ولا سيما في المركز ـ وبما كان له من مظهر هو عبارة عن متاهة ملتوية. نجد حجرات كبرى للاستقبال (أبهاء) وإيوانات ألحقت بها أجنحة ، ودورا ، وغرفا مربعة للسكن ، وغرفا طولية ومعابر ، ومداخل ، تشكل معظم هيكليته المعمارية (٤). وتستقطب الانتباه القاعة الكبرى بالمركز ، وكذلك صفوف الأعمدة التي تتصل بها وتنفتح على حجرة مقببة. إنها لتشابهات عجيبة تلك التي تظهر بين إيوان القصر ، ما هو موجود بالاخيضر ، بين الفرع الجنوبي وقصر المشتى (٥). ويسود الرأي أن أسلوب الحيرة هو الذي احتل المرتبة الأولى ، في حين أن بعض العناصر من العصر العباسي الأول مثل الترصيف العمودي

__________________

(١) Ibid.,p.٨٣.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٣٤٤.

(٣) M.A.Mustafa ,Art.cit.,p.٣٥.

(٤) Ibid.,pp.١٤ ـ ٨٤ ,٨٥.

(٥) Ibid.,p.٢٤.

٢٢٢

للآجر ، لعله يعود إلى الزمان الغابر (العصر الأكادي والقسي) (١). ومن جهة أخرى نجد الزخرف العباسي شبيها بما وجد في قصر الحير الغربي ، والمشتى (٢) والمفجر (٣) ـ وهو زخرف الدهن بالألوان المائية والنحوت ، ذو الإتجاه الطبيعي والحيواني ـ في حين أن ما تبقى من الزخرف الأموي يتجه إلى مزيد من التجريد والهندسة ، فاحتفظ بالخطوط الأساسية لتطور الزخرف الإسلامي الذي جد فيما بعد. ولا يكتسب ذلك أي تناقض في واقع الحال ، فقد جرت الأمور وكأن العصر العباسي الأول أشع بكل ما ورد عليه من مؤثرات عديدة. فاتجه الزخرف إلى التمثيل الطبيعي وأتى دور الحذف والندم والعودة فيما بعد إلى البساطة الأولى. غير أننا لم نطلع كثيرا على الزخرف الأموي الذي امحى. ومع ذلك علينا أن نفترض وجود أعمال مرسومة ، ومواضيع حيوانية وبشرية (٤).

على الرغم من جهلنا مختلف التحويرات التي قام بها الولاة الأمويون في القصر ، والتي وجدنا منها بعض أصداء باهتة في المصادر المكتوبة ، فالمؤكد أن ما عمله زياد بالكوفة يمثل تحولا كبيرا في تشكيل المدينة وفي المعمار الإسلامي معا. لم يكن القصر حصنا وحسب ، بل كان قصرا كبيرا واسعا حيث تظهر أبهة السلطة. وفي هذا المجال يدعم علم الآثار ما تصدره المصادر من أحكام تقريظية. فمن اللازم أن نتصور صحونه المربعة الكبيرة وأبهاءه وايواناته وكواته المعمدة التي تنفتح على منظر صفّي الرواق المركزي (٥). وعلينا تخيل زخرف جدرانه وملاطاته وأنواع زينته. كما لنا أن نتخيل الخلية البشرية الكبرى التي كانت تعمر البنايات الملحقة به. إن المظهر الجمالي موجود ونحن نشعر به ونتوقعه وهو الذي أوحى به علم الآثار.

__________________

(١) Ibid.,p.٥٤.

(٢) Ibid.,p.٥٤.

(٣) Ibid.,pp.٥٥ ـ ٧٥.

(٤) Ibid.,p.٥٥ ؛ والجنابي ، ص ٢٨.

(٥): M.A.Mustafa ,art.cit.,p.١٤ يظهر أن بنية القاعة المركزية المعمدة تعود إلى آخر العصر الأموي ، وهناك فضلا عن ذلك ، شبه بشكل الكنيسة الملكية. ارجع أيضا إلى الرسم في المقال المذكور.

٢٢٣

ـ ١٦ ـ

التمدّن والتنظيم

الأمر المؤكد أن زيادا أعطى الكوفة نواة معمارية لكننا لا نكاد نعلم شيئا عن عمله فيما يتعلق بالطوبوغرافيا المدنية خاصة ، والمرجح أن الكوفة بدأت تشكل مركزا مدنيا حقيقيا ابتداء من المغيرة وزياد. وكانت النواة المعمارية عنصرا يدفع بالكيان المدني إلى الأمام ، ويطبعه بنموذجه المعماري والزخرفي. وقد أشار البلاذري (١) من جهة أخرى إلى أن العمال غمروا المركز العمومي ببناءاتهم الخاصة مضيقين بذلك من رقعة الأماكن الشاغرة ، وقد جرى ذلك في بداية العصر المذكور وبمبادرة من عمرو بن حريث ـ الذي تولى الكوفة نيابة عن زياد. واتخذ زياد آخر الأمر مقررات مهمة فيما يتعلق بمراجعة التنظيم العسكري والإداري للمصر. واعتنى ذلك التنظيم بإعادة تجميع الوحدات القبلية. وليس مستبعدا أنه كان لتلك المقررات تأثير على طوبوغرافية الخطط. تمثل عمل زياد ، وبصفة عامة ما جدّ خلال العشرين سنة التي قضاها معاوية في الخلافة (٤١ ـ ٦٠) ، في تحديد أسس الترتيب العام ، وإشاعة الاستقرار وإدخال التحويرات الضرورية أكثر مما تمثل في اتخاذ قرارات واضحة وأعمال معينة كتلك التي اهتمت بإعادة بناء القصر والمسجد وتلك التي نسبت بعد ذلك إلى خالد القسري (١٠٥ ـ ١٢٠ ه‍) بخصوص بناء الأسواق بناء منظما. وقد تحقق التحول الطارىء على الكوفة بين سنة ٥٠ و ١٠٠ أو ١٢٠ ه‍ ، فكان تحولا صامتا بصفة عامة ، وقد تميز بمراحل بارزة منها ولاية زياد تحديدا ، ولا ريب أن الأمر كان كذلك في ولاية الحجاج والقسري. ومن المعلوم أن الأمر مؤكد لا مراء فيه بالنسبة للنواة ، لكن المرجّح أن الأمر كان كذلك بالنسبة لبقية المدينة.

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٢٢٤

الطموح المعماري والجمالي

كان هذا الطموح موجودا منذ البداية حين افتتن العرب بفخامة المدائن. لكن الحسرة انتابتهم لما غادروها ، لأنها كانت غريبة عن عالمهم ، وقد نقلوا معهم «مصاريع الأبواب» (١) زيادة عن جملة من التصورات ، وتكرر ذكر «الأبواب» كثيرا. ولما شيد سعد قصره المتواضع من قصب أو لبن وهو أمر كثير الترجيح ركب له بابا ضخما من خشب ـ لعله هو أيضا منقول (٢). فبدا الباب رمزا من رموز عظمة الحكم الجديد ، وانفعل لذلك عمر ووجه رسولا لحرق هذا الباب (٣). وقد روي أنه عبّر عن امتعاضه قائلا (٤) : «ليس بقصرك ولكنه قصر الخبال». كان عمر يبذل قصارى جهده للحفاظ على البساطة الأولى ، وروح الأصالة الكامنة في الأمة وهويتها الثقافية. هذا ولا يمكن القول إن العرب لم يستجيبوا لهذا الطلب أو أنهم افتتنوا بسهولة بهذه الحضارة المادية الرفيعة. كان نقل الأبواب واحتمال حرق باب القصر بالكوفة ، عبارة عن مواقف مؤثرة لو كانت حقيقية. الذي يهمنا هنا أنها تستند إلى الرمزية الشرقية الصرف الموجودة في الباب. وهناك شواهد على نقل الأبواب وأسكفاتها من مدينة إلى أخرى في العصر الساساني ، كما توجد شواهد أخرى على أن هناك أسكافات أبواب من آجر كانت تشكل واجهات لمعالم مبنية من لبن ، وهو أمر خاص بالحضارة الشرقية الفارسية (٥).

فماذا كان موقف سكان الكوفة بعد أن أدخل زياد الآجر في بناء المسجد والقصر؟ «بنوا أبواب الآجر فلم يكن بالكوفة أكثر أبواب الآجر من مراد والخزرج» (٦). لا يمكن فهم هذه الإشارة دون اعتماد كامل خلفية الحضارة الفارسية البابلية التي ذكرنا. وهي تعني أيضا دخول الآجر إلى البناءات الخاصة منذ ولاية زياد ـ ولا شك أن الآجر بدأ يظهر في دور الطبقة الأرستقراطية أول الأمر ـ لكن بخصوص أسكفات الأبواب وحسب. أما خلف ذلك ، فقد استمر القوم في بناء منازلهم باللبن (٧). وهكذا وقع تخطي المرحلة الأولى ، والمفروض أن الأغنياء ما لبثوا أن أعادوا بناء دورهم بالآجر ، وزخرفوها بالملاط ، وأضافوا

__________________

(١).Streck ,art.» Mada in «,E.I. / ١. لعل هذا المؤلف يشير إلى واسط فحسب.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٧.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٧٧.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧.

(٥). Ghirshman, L\'Iran des origines a ? l\'Islam, pp. ٤٦١ ـ ٥٦١ لقصر داريوس في برسيبوليس (اصطخر) جدران من لبن «لكن أبوابه ونوافذه كانت منحوتة كتلا كاملة من حجر».

(٦) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٧) فتوح البلدان ، ص ٢٨١.

٢٢٥

الطوابق وركبوا النوافذ على هيئة شبابيك (١). ولا تتوافر لدينا معلومات صريحة بهذا الخصوص إلا ما روي عن عمر ، بطريق غير مباشر ... وقد كانت رغبته ألا يقوم سكان الكوفة بالمبالغة في رفع دورهم وألا يتجاوزوا ثلاث حجرات في كل دار. ويعني ذلك أن الأمر كان معمولا به فعلا ، لكن في وقت لاحق كما هو واضح. ونجد في أقوال ياقوت ما ينير لنا السبيل حيث قال : «فلما كان في أيام المغيرة بن شعبة بنت القبائل باللبن من غير ارتفاع ولم يكن لهم غرف» (٢). ثم تحدث بعد ذلك مباشرة عن بناء الأبواب من آجر في ولاية زيادة.

ويفيد ذلك أن الدور كانت من لبن في عصر زياد (٣) باستثناء أسكفات الأبواب. ويعني ذلك أيضا أنه تمّ الشروع في رفع البناءات في وقت ما ، وتقسيم الدور إلى حجرات (تجاوز عددها ثلاث غرف في دور الأغنياء). أما بخصوص الآجر ، فلا مجال للقول إن دور الأشراف أدخلت استخدام الآجر على كامل البناية حيث كان الآجر يستخدم حتى ذلك الحين كعنصر لزخرفة الواجهة. ولا يمكن الجزم في هذا الشأن وفي هذه النقطة بالذات ، بل خلافا لذلك ، تضافرت كل القرائن على جعل التفكير يتجه إلى القول إن اللبن كان مستخدما في أكثر الدور خلال العصر الأموي ، لأنه كان أمتن مما يظن وقادرا تماما على تحمل الدور الجميلة المرتفعة ، كما تشهد بذلك دور اليمن في الزمن المعاصر.

وقد اتجهت كل هذه التغييرات في اتجاه تمدّن أكثر أصالة ، كان يتمثل في البحث عن المتانة والجمالية والطموح إلى الطابع المعماري بحيث يرتفع المسكن عن الأرض ، وإلى بناء المجال الداخلي ، علما أن هذه التحويرات لم تبدأ بالحراك إلا عند شروع زياد في تنفيذ مرحلة جديدة. وقد أصر زياد على طموحه المعماري الذي لم يخضع للشاغل السياسي وحسب ، بل لإرادة العظمة والبحث عن مظهر جمالي ينمّ عن اتجاه اختيار شخصي جدا ، وعن مصير حضاري (٤). ولا شك أن ما سنه قد سرى داخل الكوفة ، ولعله أوحى شخصيا بمبادرات من هذا القبيل. كانت السلطة في عصر عمر وسعد قد خططت تصميم المدينة وأمسكت بزمامه ، لكنها بقيت قريبة من أمة الفاتحين. وخلافا لذلك ، فقد أكدت تعاليها في ولاية

__________________

(١) أنساب الأشراف. ج ٥ ، ص ٢٢٦ ـ ٢٢٨.

(٢) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٣) ذكر الطبري ذلك صراحة : ج ٦ ، ص ٦٦ ، في عصر المختار ، ومن باب أولى في ولاية زياد ، فقد أمر المختار بهدم دار محمد بن الأشعث وبنى «بلبنها وطينها» دار حجر بن عدي.

(٤) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٢ وما بعدها ، بخصوص النظام الصارم في الحياة اليومية والسياسية الذي سنه زياد في البصرة والكوفة دون شك ، وانشغاله بنظافة المدينة ، وتنظيمها الجيد الذي دفعت ثمنه حكما مطلقا راسخا.

٢٢٦

زياد (١) وبذلك فمن المفروض أنها استبعدت المحاكاة وأرادت القطيعة والانفصال ، مما أدى إلى إقامة قلعة عظيمة تمثلت في القصر وضخامته. وتبدو المفارقة في كون هذه السلطة المترفعة المتكبرة قد تسببت بمحاكاة معينة وشجعتها بشرط احترام ناموسها. فتكاثرت بذلك القصور في محيط الكوفة (قصر مقاتل مثلا) (٢) ، كما تكاثرت دور الأشراف في قلب الكوفة. والمعتقد أن فن العمارة الذي ظهر داخل قصر زياد أثر على تصميم الدور ، لأن القصر باستثناء قاعات الاستقبال التي كانت تتوسطه والإيوانات والقباب والأبهاء ، التي تؤكد قوة الحكم بالذات ووظيفته ، كان يتركب مما أقيم بأجنحته من دور قسمت إلى حجرات (٣). ورأيي أن دور الكوفة اقتبست بناءها من دور القصر.

البنايات الخاصة تضيّق على المركز

ورد خبر جلي عند سيف بن عمر ضمن تاريخ الطبري ، مفاده كما نعلم أن المساحة المركزية التي حددها الخندق كان البناء فيها ممنوعا أثناء خلافة عمر (٤). فلم تتضمن إلا المسجد والقصر المحاطين بساحة واسعة ـ هي الرحبة ـ وموضع الأسواق وما يشبه الاصطبلات في الهواء الطلق ـ الآري ـ وكان هذا المجال شاسعا يغطي ما يناهز ٢٣ هكتارا (٥) لكن لم يلبث أن اكتسحته القطائع الخاصة والخطط الفردية. فمنذ متى حصل ذلك؟ من عهد الخليفة عثمان (٦) الذي أفاض في إقطاع بعض الصحابة القطائع العقارية وأيضا بعض رؤساء القبائل التقليديين (طلحة والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي ، الخ ...) ، في قلب السواد أم منذ بداية ولاية زياد؟ من المعروف أن الوليد بن عقبة والي الكوفة في خلافة عثمان ، كان يملك دارا تقع في وسط السوق (٧) ، كانت بمثابة العلامة الأساسية في طوبوغرافيا الكوفة. وقد ذهب الأمر باليعقوبي إلى أن عزا لعمر توزيع الدور على أهم الصحابة (٨) ، ولا يمكن قبول هذا القول على أنه ظاهرة عامة شاملة. على أنه

__________________

(١) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٨١ ، بخصوص تكاثر القصور ، في إقليم الكوفة ، وراجع صالح العلي ، «منطقة الحيرة ...» ، مقال مذكور ، ولا سيما الخارطة.

(٣) M.A.Mustafa ,Art.cit.,p.٤٤.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٥) انظر ما سبق.

(٦) فتوح البلدان ، ص ٢٧٣ ، يجزم البلاذري بأن عثمان هو أول من شرع في إعطاء القطائع العقارية الفردية.

(٧) ابن سعد ، الطبقات ، ص ٢١ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٣٢ ، وج ٦ ، ص ٨٩.

(٨) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

٢٢٧

يحتمل أن ذلك كان على سبيل الهبة الاستثنائية لبعض الصحابة. وقد تضارب في القول بهذا الخصوص البلاذري واليعقوبي عندما ذكرا قائمة الدور.

يقول البلاذري : «وبنى فيها عمرو بن حريث المخزومي بناء ، وكان زياد يستخلفه على الكوفة إذا شخص إلى البصرة ثم بنى العمال فيها فضيقوا رحابها وأفنيتها» (١). كان المقصود بالذات الكوفة عامة لا المركز بصورة خاصة ، ويظهر أن الأمر لم يكن يعدو تمليك الأراضي العراء بصفة متفرقة ، وفارق الطرق والرحاب ـ الكثيرة كما هو معلوم ـ التي كانت توسع المجموعة السكنية. الواقع أن قول البلاذري يكتسي مدلولا آخر بمقارنته وتعليقه بما ورد في كتب أخرى ، سواء كانت روايات أبي مخنف (٢) أم قائمة اليعقوبي ، وهو يفيد في فهم البقية.

توجد دار عمرو بن حريث فعلا في الوسط تماما (٣) ، غير بعيدة عن القصر ، ومن المرجح أنها كانت تقع في الرحبة. كان ابن حريث من أكبر أغنياء الكوفة ، وكان قرشيا مقربا من السلطة ، وكان بالفعل يساعد زيادا ثم ابنه عبيد الله فليس مستبعدا أن يصير قدوة بخصوص البناء في المركز. لكن ما ينبغي التدليل عليه أنه كان أول من فعل ذلك ، وأن الوليد بن عقبة الذي كان واليا في خلافة عثمان ، لم ينتزع هذا الامتياز قبله ، فضلا عن أن الدور التي روى أنها كانت تقع في المركز العمومي ، قرب المسجد والقصر ، أو في الرحبة والأسواق ، كانت مملوكة لصفوة المسلمين بالمعنى الواسع أكثر مما كانت للعمال أنفسهم.

وبذلك نجد اليعقوبي يتحدث عن دار عبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن حريث «حول المسجد» ، وغير بعيد عنه توجد دار سلمان بن ربيعة الباهلي والمسيب بن نجبة وهو أحد قادة حركة التوابين (٤). ويبدو أن خالد بن عرفطة أحد حلفاء سعد بن أبي وقاص وقد كان من كبار القادة في فتح العراق كان يملك مع سعد نفسه دارا في هذا المركز (٥). هذه عودة إلى الماضي. لكن روي أن دار المختار بن أبي عبيد كانت أيضا ملاصقة لحائط المسجد (٦). ويمكن التساؤل بخصوص دار الأشعث بن قيس ، لكن الثابت

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) انظر لاحقا.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ يروى عن أبي مخنف أنها تقع في «وسط السوق» لا في الرحبة.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ؛ بخصوص المسيب بن نجبة ، راجع الطبري ، ج ٥ ، ص ٥٥٢ و ٥٥٣ و ٥٦٢ و ٥٨٤ و ٥٩٠ و ٥٩٣ و ٥٩٤ و ٥٩٦ و ٦٠٠.

(٥) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ؛ وأنساب الأشراف ج ٥ ، ص ٢٣٧ ـ ٢٧٦. والطبري ، ج ٦ ، ص ٤٧ و ٦١ وج ٧ ، ص ٤١٧ : ذكر دار عمر بن سعد ، التي لا بد أنها ورثت عن سعد.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٦٩ ؛ ولا سيما معجم البلدان الذي ذكر الأمر بوضوح ، ج ٤ ، ص ٤٩٣.

٢٢٨

أن دار حكيم كانت داخل السوق (١). كما نتساءل عما إذا لم تكن توجد بالساحة العمومية كل أو أكثر ما ورد بقائمة الثلاثين مسكنا للأشراف والمتمتعة بتسمية الدار بصفتها اقطاعا شخصيا يقع خارج الخطط؟ وبذلك لا يكون زياد هو الذي اتجه هذا الاتجاه بل إن عمرا هو الذي شرع فيه بصفة طفيفة وتوسع فيه عثمان ، ثم علي وزياد أخيرا. ويكون سمح هذا الوالي (زياد) باستكمال تضييق المركز من جهة الشمال والغرب والجنوب بالخصوص ـ حيث كان موضع الأسواق بقي كما هو في الأكثر ـ ، لكن هذا التضييق لم يعمل أيضا على ابتلاع الرحبة كلها وهو أمر لا مراء فيه (٢). ونوافق البلاذري حين يقول إنه جرى تصدير ظاهرة المركز إلى المواضع الخالية في الخطط. كما نوافق على أن الشكل المعماري للإقامة الخاصة قد تجسم بشدة في الجو الذي أشاعه زياد ، ولعله تشكل كما تشكل عنصر آخر لا يقل صبغة أساسية عنه ، نعني الحمام الذي سيظهر في المستقبل (٣). هناك تضييق وتعمير الفراغات ، وتكثيف العمران ، يضاف إلى نقل بعض القبائل : كل ذلك اكتسى أبعادا مهمة قطعا.

لم يبدأ كل شيء في ولاية زياد كما تدل على ذلك أسماء المكان (٤) علما أنها ترجع إلى أشخاص برزوا في تاريخ المدينة ، سواء كان في فتراته الخاملة أو النيّرة ، بداية من خلافة علي حتى نهاية ثورة ابن الزبير (٣٧ ـ ٧٣ ه‍) ـ أي خلال جيل (٥) ، وسوف نعود إلى هذه النقطة الهامة. لا مفر من التأكيد على ما قام به زياد من عمل حاسم وسريع إحقاقا للحق ، إنما ينبغي إدماجه في مرحلة تاريخية تميزت بالاستمرار في البناء الذاتي للمدينة. ولا يمكن أن ننسب قطعا لزياد المناهج الكبرى المفتوحة ، كما قيل دون أية حجة (٦). ولذا فإن العمل الكبير الذي قام به زياد بقي مرتبطا أصلا بتشييد المسجد والقصر ، وقد تمادى في حركة تمصير الكوفة في مجموعها ، لصالح الأشراف خاصة ، وبذلك يكون قد استمر في العمل بسياسة عثمان.

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٨١ : كانت هذه الدار تقع عند «أصحاب الأنماط» (صناع السجاجيد).

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٨ : حيث أمر زياد بنقل حجر ورفاقه على النوق ، إلى الرحبة.

(٣) لا شك أن زيادا لم ينشىء الحمامات ، ولم يشجع عليها إلا أنه أذن في بنائها وفرض تضييقات على ذلك : أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٢٣ ؛ فتوح البلدان ، ص ٣٤٨.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ـ ٢٨٧ : اعتمد الكلام الخاص بالكوفة على دراسة في أسماء المكان.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٧٧ ـ ٢٨٧ : تحدث البلاذري فعلا عن زقاق عمرو بن حريث ص ٢٧٥ ، وباب فيل مولى زياد. لكن أسماء كثيرة تشير إما إلى مشاركين في الفتح ، وإما حول ذلك إلى أهالي الحيرة وإياد وعاش كثيرون حتى عصر الحجاج وبعده : أعين وشبث وابن محرز وعمر بن سعد ، ولم يكونوا من أتباع علي أو زياد. كانوا أناسا وسموا المدينة بحضورهم البارز أو المتستر ، وكانوا من الأشراف.

(٦) Reitemeyer ,p.٨٥.

٢٢٩

تحوير الهياكل العسكرية والإدارية

لا تشغل بالنا الهياكل العسكرية والإدارية والمالية بصفتها تلك ، في هذا القسم من الدراسة لأنها تتعلق أصلا بالعمران والتنظيم البشري والسياسي ، لكن علينا الإشارة إليها نوعا ما لفهم المظهر الحضري والطوبوغرافيا وتوزيع القطائع وتطورها ، والظروف التي مكّنت الناس من الاستقرار والعيش. وإذا ما فكرنا من جهة أخرى أن هيكلة المدينة ارتبطت ارتباطا عميقا بالمنشآت القبلية والعشائرية في شكل قطائع متميزة في الحزام وخارج المركز ، فإننا سنجبر حقا على الرجوع إلى كل ما يتصل بتنظيم الجموع القبلية ضمن دراسة حضرية صرف.

وقد بيّنا كيف وزّعت الخطط في بداية الأمر ـ أي منذ حلول سنة ١٧ ه‍ ـ ولا يمكن تجاهل هذا الإستقرار الأول ، حتى لو فرضنا أن تغييرات ناتجة عن تدفق جموع المهاجرين المسترسلة قد طرأت عليه بسرعة كبيرة وتسببت في مصاعب. كان التنظيم الأول يتضمن منطقيا قوة الجمود ، إذ كان دقيقا وملزما لا محالة ، وقد اتضح أن المصادر التاريخية التالية ، ومنها روايات الثورات التي نقلت عن أبي مخنف ، أكدت الأمر إلى حد بعيد. مثلا مر علي بمواقع عشائر همدان (١) التي كانت في الشمال كما قال سيف (٢) ، وهو في طريق العودة من الجزيرة والشام ، بعد وقعة صفين ، أي من الشمال الغربي ؛ وخلال ثورة المختار عبر ابراهيم بن الأشتر المركز للحاق بالمختار وكان الأول مقيما بالنخع في الجنوب. والمرجح أن الثاني كان يقيم بشمال المسجد : كان وصفا ملحميا وغامضا أيضا عند أبي مخنف (٣) ذاك الذي خصّصه لهذه الرحلة عبر المركز. هذه حجة أن النخع كانت تشكل مجموعة معتبرة ضمن قبيلة مذحج ، كانت تقيم باستمرار في الجنوب حسب ما رسمه سيف أول مرة لخارطة القبائل. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع ، على أن التصميم الأول يمكن أيضا ألا يطابق تحركات الجيوش التي تابعها أبو مخنف.

نجد في هذا الصدد التواء ينبغي تعليله قدر المستطاع ويعني ذلك أنه يصعب التغاضي عن التصور الشامل الأول ، ومن المهم تكييفه بصفة أو بأخرى مع روايات أبي مخنف. أما كتاب اليعقوبي ، فهو قليل الفائدة بخصوص العصر الأموي إلا أنه يوضح توضيحا مهما التحويرات المتأخرة التي جرت في العصر العباسي (٤). ولنذكر أن النقص الرئيسي الذي

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٢. مر بثور ثم فائش وأخيرا شبام.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ ـ ٢٢.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١١ : يقول «انتشرت همدان في الكوفة». كما أقامت تميم ، بكر وأسد «في الأطراف».

٢٣٠

اعترى مخطط ماسينيون مصدره أنه وضع خارطة للكوفة تكون صالحة في آن للعصر الأموي والعصر العباسي ، وقد استمد ماسينيون معلوماته من روايات ثورات الشيعة وأيضا من القائمة المتأخرة التي أعدها اليعقوبي. لقد برع في إضفاء الصبغة التركيبية على هذين المصدرين وأسقطهما على خارطته (١) ، ثم أراد تجاهل التصور الأول الذي ذكره سيف والذي يبقى على الرغم من بعض التناقضات التي اعترته ، هيكلا وأصلا انطلقت منه التغييرات المقبلة كلها.

يقول ماسينيون إن الأرباع التي أنشأها زياد ، تندرج في مجال المدينة ، خلافا للأسباع التي كانت سابقة لها (٢) ، فتحدث في هذا الموضع عن «تجمع المناطق العسكرية التي تحولت إلى أحياء ، وقد تمّ الأمر في وقت مبكر جدا في البصرة ، وتمّ في الكوفة سنة ٥٠ ه‍» (٣). هذا أمر قابل للنقاش تماما ، لكنه يطرح قضية العلاقات أو الترابطات بين الخطط بصفتها فكرة طبوغرافية وإطارا للحياة البشرية من جهة وبين تلك المؤسسات العسكرية الجبائية التي تسمت على التوالي ، في الكوفة ، أعشارا وأسباعا وأرباعا ، واستمرت تسمى أخماسا في البصرة من جهة أخرى. وقد تبسّطت القضية في البصرة لوجود احتمال مؤكد في المطابقة بين الخطة والقبيلة (أهل العالية وبكر وتميم والأزد وعبد القيس) ، والخمس وهو مؤسسة للتعبئة العسكرية وتوزيع العطاء الذي فرضته السلطة وأشرفت عليه (٤). فيمكن التأكيد في الجملة أن الوحدة السكنية طابقت وحدة التضامن البشري المتمثلة في القبيلة. وبإلقاء نظرة خاطفة على خارطة الاستقرار الأولي المحددة بالاعتماد على معلومات رواها سيف ، نتبين فعلا أن الخطط أسندت بصفة عامة إلى قبيلة واحدة أو قبيلتين أحيانا (٥). وبالنظر في روايات أبي مخنف والإشارات المتفرقة التي تضمنتها مصادر أخرى يتأكد لدينا أن أراضي الخطط كانت ملكا للقبائل. وكثيرا ما ذكرت طيلة القرن الأول (٦) عبارات من نوع «من جهة جهينة» أو «مر بثقيف» وأيضا «دخل دور همدان وكندة» وهلم جرا ... عاد اليعقوبي إلى الماضي فقال إن كل قبيلة استقرت في خطتها (ـ اختطت) في بداية الأمر ، برئاسة شيخها وحول جبّانة

__________________

ولا سيما هذه العبارة الحاسمة : «تحوّرت الخطط ويعلمها اليوم أولئك الذين اشتروا فيها وعمّروا».

(١) راجع مخطط ماسينيون.

(٢) Massignon ,op.cit.,p.٤٤.

(٣) Ibid.,p.٤٤.

(٤) Massignon,» Explication du plan de Basra «, Westlo ? stiche Abhandlungen h. Taschudi, Wies ـ baden ٤٥٩١, pp. ٤٥١ ـ ٤٧١ ؛ وصالح العلي ، مرجع مذكور ، ص ٣١٧ ـ ٣٢٥ الذي وضع قائمة مفصلة للأخماس ولم يشر قط إليها ضمن دراسته.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٦) انظر ما سبق.

٢٣١

خاصة بها (١). كان عدد القبائل والعشائر مهما في الكوفة منذ البداية : من هنا تنافر الكيان القبلي ، الذي تضخم بتدفق الروادف المهاجرين بصورة مستمرة (٢) ، فأصبحت الكوفة لذلك إسقاطا ، على مجال صغير ، لبلاد العرب قاطبة. فضلا عن وجود البنية الموروثة عن جيش القادسية وربما السرعة الكبيرة التي بها تم الاستقرار الأول ، وبذلك تشعبت القضية.

كان جيش القادسية مقسما أعشارا بالفعل (٣) ، بمعنى أنه تجمّع في عشر وحدات ويرجح أنه اقتبس تنظيمه ذاك من النسق الفارسي الذي اعتمد الفرق العشرية أي عشرة ومائة وألف. كانت تلك الوحدات تشمل عددا متساويا من المقاتلين في كل وحدة ، فكانت وحدات للتجنيد قبل كل شيء حافظت على الكيانات القبلية. وبما أن أعداد الحشود كانت غير متساوية (٤٠٠٠ من تميم ورباب و ٣٠٠٠ من أسد و ١٣٠٠ فقط من الازد وبضع مئات من ثقيف) ، فقد وجب التجميع بصفة منسجمة بحيث لا ينال القبائل أي تشتت. إذا كانت الجماعة القبلية كافية في حد ذاتها ، كان يمكن تشكيل العشر وجلب الحشود إليه من ذوي القربى. ولا شك أن نسق الأعشار كان الأساس في أنساق التجمعات التالية. فهل تدخل هذه الظاهرة ضمن ما رواه سيف عن الاستقرار الأول؟ توزّعت الخطط حسب الجهات الأربع حيث تلاحظ مطابقة الخطة لقبيلة وحيدة في أكثر الأحوال وكان يتجمع حول القبيلة المهيمنة الأخلاط (٤) وهي عشائر من قبائل مختلفة ، وتوجد أخيرا حالات نادرة بحيث يستقر ثنائي قبلي (بجلة وبجالة ، الأنصار ومزينة ، تميم ومحارب) (٥). ويقول المؤلف بصراحة (٦) : «وجعل هذه الطرقات من وراء الصحن ونزل فيها الأعشار من أهل الأيام والقوادس». ماذا يقصد بقوله هذا سوى أن الجماعات المقيمة بالخطط كانت تطابق الأعشار ، وأنه يمكن التأكيد في هذه المرحلة الأولية على تطابق المبدأين؟ بل نجدها الفترة الوحيدة التي تطابقت فيها بصورة مجملة الخطة والقبيلة والإطار العسكري الإداري الذي كان يجسمه العشر ، وسوف تؤثر نهائيا على مظهر الكوفة. فلا الأسباع الوريثة للأعشار ولا أرباع زياد غيّرت أصلا مواقع القبائل كما تمّ تحديدها ، بمعنى تغيير تنظيم المجال بالكوفة.

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٢). الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٤ ، وج ٤ ص ٤٥.

(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٨ لا يمكن أن يكون ذلك متطابقا مع فرق العشرة جنود الرومانية كما ذكر كايتاني. ويقول ابن حبيش ، كتاب الغزوات ، ورقة ٢١٦. إن أمراء الأعشار يأتون في المرتبة الثانية بعد أمراء التعبئة وقبل أمراء الرايات ورؤساء القبائل. وكل النسق يأتي ضد فكرة أن الأعشار هي عشر عرافات أي مائة رجل كما يرى ذلك ع. م. السامرائي ، مقال منشور في المورد ، ١٩٨٤ ، ص ١٠.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٥.

٢٣٢

وبقيت همدان وكندة وثقيف وبجيلة ومذحج والأزد وجهينة وتميم وأسد ، في مواقعها الأولى قطعا كما ذكرها سيف ومهما قال ماسينيون (١).

وبما ان الأعشار ـ القبائل أقامت ، بموجب القرعة ، بأماكن قررتها الصدفة ، وبما أن الاختلال العددي الواضح بينهما ظهر من وقت مبكر جدا (٢) ، وجب أن يعاد النظر في هيكلة التنظيم العسكري الجبائي وعقلنته : فظهرت الأسباع التي أقامها عمر (٣) ، وحوّرها علي ، والتي بقيت حتى ولاية زياد. ولم يكن الأمر متعلقا «بمناطق عسكرية» بل بوحدات لتجنيد المقاتلة بإمرة رؤساء ولّتهم السلطة وبوحدات لتوزيع العطاء الذي يسلّم للقادة جملة ، وكانوا يسلّمونه بدورهم إلى العرفاء (٤). الواضح أن الانطلاقة لم تبدأ من المعطيات المكانية ، يعني من توزيع الخطط التي كثيرا ما كانت تتحاور فيها قبائل لا يربط بينها ماض مشترك في سكنها السابق وكانت متباعدة جدا ، في عملية إنشاء الأسباع. فحصل التجميع ، بمقتضى علاقات النسب. كان المقصود من ذلك المحافظة على التلاحم في التجنيد والقتال وبالتالي فإن السبع لم يحقق جوارا أو أي تقارب مكاني إلا في بعض الأحيان وفي بعض الأماكن : ربما في الجبّانات أو خارج الكوفة في «نقط التجمع» بالنسبة للكوفة (٥). على أن مؤثرات هذا الأمر على جغرافيا الخطط لم تكن في رأينا منعدمة ، ولا سيما أن القبائل الكبرى قد عملت أحيانا على جذب قبائل صغرى قريبة النسب وضعيفة العدد ، فترجم الانتساب إلى السبع ذاته عن طريق الاندماج في الخطة مكانيا. ولنذكر على سبيل المثال كندة وحضرموت (٦) وهمدان وحمير (٧) وتميم وهوازن.

كانت الخطة تعني تضامنا بشريا واعيا حيا يستمر فيه ويدوم الكيان القبلي القديم ، وذلك باعتماد القبيلة في واقع الأمر ، لكن السبع كان تصورا مؤسساتيا حافظ لا محالة على صلات الدم الأكثر اتساعا. وفي عهد زياد أدخل الربع (٨) تبسيطات أقوى مما كان للخارطة القبلية لأسباب سياسية ، فكان يجاور بين مجموعة قبلية متشاحنة (تميم وهمدان وأيضا كندة

__________________

(١) Massignon ,art.cit.,p.٤٤.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٨.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٨ ؛.Massignon ,p.٤٤ لكن المؤكد أن السبع السابع الناقص لا يخصّ طيئا ، إنه يخصّ بكرا.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٩.

(٥) Massignon ,p.٩٣ ؛ وراجع لا حقا.

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

(٧) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٤٧.

(٨) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٨ وج ٥ ، ص ٢٦٨.

٢٣٣

وأسد مثلا) ، نظرا لما كان لها من ماض في شبه الجزيرة ، بل بين عناصر يمكن أن تكون متجاورة أو متباعدة في الكوفة ذاتها. ولا تتوافر لدينا أية إشارة في المصادر إلى انتقال تميم إلى الغرب في سنة ٣٧ ه‍ كما أكد ذلك ماسينيون بالضبط. كما أنه لا يوجد ما يسمح بالتأكيد القطعي كما فعل صالح أحمد العلي وجاراه آخرون ، على أن العشيرة أصبحت وحدة الأساس في التنظيم الإداري (١). والأرباع ، أكثر في ذلك من الأسباع ، لم يكن لها أدنى مفعول على جغرافيا الخطط وبالتالي على بنية الحزام السكني بالكوفة خلافا للأعشار المتجسمة في المجال بفضل توليفها توليفا قويا بين الواقع البشري والإثنولوجي للقبيلة وبين تنظيم المؤسسات ، ولأنها وجدت في لحظة التأسيس الحاسمة.

__________________

(١) مرجع مذكور ، ص ٤٩ ؛ لكن الشعبي [في الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٤٩] سمي صراحة عريفا لقومه ولا يعني ذلك القبيلة بل العشيرة. وينطبق هذا الأمر أيضا على سعيد بن وهب المتوفى سنة ٨٦ ه‍ : المرجع نفسه ، ص ١٧٠. والمرجح كثيرا أن زيادا هو الذي دبّر مثل هذا التبسيط.

٢٣٤

ـ ١٧ ـ

الكشف عن الكوفة :

ثورة المختار

(٦٦ ـ ٦٧ ه‍ / ٦٨٥ ـ ٦٨٦ م)

وجدت لحظات قوية سابقة أثرت على الكوفة (١٧ ه‍ و ٣٧ ه‍ و ٥٠ ـ ٥٣ ه‍) وظهرت أوقات أخرى في فترة لا حقة ، استكملت غرضها نسبيا ، أو أنها اتسعت خارج المجال المدني ذاته ، خلال ولاية ابن هبيرة والقسري خاصة. لكن يبدو أن هذه الفترة التي أتت بعد زياد إلى ثورة ابن الأشعث والتي استمرت خمسا وعشرين سنة (من ٥٣ إلى ٨٠ ه‍) حيث استقر النسق الاجتماعي على الرغم من الأزمات السياسية ، كانت فترة طويلة صلّبت خلالها المدينة خاصياتها واكتست مظهر الرشد. فقد تشكلت فيها الكوفة الأموية بصورة جعلت خاصياتها معروفة مدة طويلة ، باستثناء بعض الجزئيات.

سدّت الثلمات في كل مكان دون أن تمحى البنية الأصلية لطرق المرور وبالمحافظة على المجالات الخالية. فتكثف السكن وضاقت الشوارع الكثيرة ونزعت إلى أسلوب المتاهة ، وأقرّت الجموع القبلية التي أغفلها التخطيط الأول ، ولم تمنع كل هذه الأمور أن تبقى الطرق الكبرى الأولى ، كما استمرت الخطط ، فبقيت في الجملة الكوفة الهندسية وبنيتها الثنائية. فما هي أجهزتها الأصلية؟ الجامع والقصر المحصن ، حيث اتجه كل شيء إليهما ، والرحبة التي تمّ تجاوزها بصفة متفاوتة في الشمال والغرب ، والأسواق المختصة نسبيا والمستقرة شرقي المساحة المركزية والتي لم تكن مبنية بل كانت قائمة بصورة مؤقتة وقد غطتها الحصر التي كانت على قضبان أو أنابيب من حديد أو من قصب ، وقد عمرت الدور المجال الجنوبي. وخلف ذلك تبدأ الطرق الكبرى الفاصلة بين الخطط التي كانت الشوارع تخترقها. كان الحرص يتمثل في الاحتفاظ بعدة مجالات تقع بمركز الخطط أو بطرفها : إنها الجبّانات والصحاري. وقامت الأجهزة الكبرى بالكوفة حيث كانت تسير الحياة العامة : الجامع والقصر والرحبة والسوق ودور الإشراف والسكك المستقيمة أو الملتوية التي تنفتح على الطرق ، والجبانات والصحاري والخطط والكناسة والسبخة. وقبل تحديد مواقعها على

٢٣٥

الخارطة يحسن بنا عبور الكوفة كما وصفها أبو مخنف ، لّما روى ثورة المختار (٦٦ ه‍). ستكون جولة غامضة تمدنا ببعض العلامات ، لكنها تسمح خاصة بإحياء الجو الذي كان سائدا في ذلك العصر.

كانت حركة المختار وشيكة ، فاحتاط الأمير وعجّل بالأحداث. فوجّه صاحب الشرطة «حول السوق» (١) الذي أرسل بدوره ابنه برفقة الجند إلى الكناسة (٢). ولا ننس أن قائدي الثورة كانا المختار نفسه المقيم بالمركز كما هو معلوم إلى جانب الجامع ، وكان من ثقيف فتقع إذن قطيعته في الشمال ، وقد عوّل بالخصوص على جيران ثقيف من همدان. والرأس الثاني هو الأشتر النخعي من مذحج المقيمة في جنوب المساحة المركزية التي ينبغي عبورها لكي يتصل الجمعان ، وقد تحدد موقع القائد الثاني ومذحج بالاعتماد على خارطة سيف.

طلب صاحب الشرطة أياس بن مضارب من الأمير أن يعين في كل «جبّانة عظيمة» رجلا ثقة برفقة رجال مسلحين. وهذا يعني :

أ) أن هناك تطابقا وحتى تماثلا في دور الكناسة والجبانات.

ب) أن الجبانة كانت مكانا للتجمع داخل الخطط ، وموقعا استراتيجيا بالنسبة لقبيلة أو مجموعة من القبائل.

ثم أورد أبو مخنف قائمة الأشراف الذين توجهوا إلى الجبانات الرئيسة لكي يصدوا أفراد قبائلهم عن الخروج ويحتلوا الشوارع الكبرى في آن واحد ، منعا لكل تنقل. وقد ورد ذكر الجبانات الآتية : السبيع (همدان) وبشر (خثعم) وكندة وسالم (قيس) والصائديين (أسد؟) ومراد (مراد ومذحج) (٣). وذكرت جبانة الصائديين وجبانة كندة أيضا في الرواية المتعلقة بثورة حجر ، على أنهما متجاورتان (٤). والملاحظ أيضا أن جبانة مراد ورد ذكرها منذ عصر علي (٥) ولذا يبدو أننا بإزاء أقدم الجبانات وأهمها ، والمهم أنها ملك للقبائل اليمنية ،

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨. كان الوالي ابن مطيع ، وقد ولاه ابن الزبير.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٨ ، وأنساب الأشراف. ج ٥ ، ص ٢٢٤. سوف نعتمد الطبري باستمرار في هذا الصدد ، ج ٦ المطابق للجزء الثاني ص ٦٠٠ وما بعدها من طبعة ليدن. وقد جارت روايته كثيرا رواية أبي مخنف وجاءت مفصلة ؛ وكتاب البلاذري أوضح وأوجز وأقل جزئيات. إن مخطوطة برلين المنسوبة إلى أبي مخنف وعنوانها : كتاب خبر المختار وابن زياد ، مزيفة وليس لها أهمية.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨.

(٤) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦١.

(٥) انظر لا حقا.

٢٣٦

باستثناء جبانة واحدة. ولم يكن لتميم جبانة فأمر رئيسهم شبث بن ربيع بأن يعسكر في السبخة التي قامت هي أيضا بدور مكان التجمع مثل الكناسة وحلّت محل الجبانة. «وخرج ابراهيم من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار وقد بلغه أن الجبابين قد حشيت رجالا ، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر» (١).

مسير ابراهيم بن الأشتر :

المرجع أن الفرقة الصغيرة التي صاحبت ابراهيم مرت من الجهة الغربية للمساحة المركزية فمرت بدار سعيد بن قيس الهمداني (هل كانت بالمركز أم بآخر خطة همدان حيث كانت أقرب ما يمكن من المركز؟) ثم بدار أسامة. طلبت من قائدها تجنب الجهة الشمالية الشرقية أي دار عمرو بن حريث «إلى جانب القصر وسط السوق» (٢) وخلافا لذلك ، اقترحت المرور من قطيعة بجيلة ، واختراق الدور وصولا إلى دار مختار ، عبر الممر الجانبي دون شك (٣). وهنا ينجم مشكل صغير ـ إذ ينبغي الافتراض مسبقا أن خطة بجيلة توجد إلى جانب خطة ثقيف ، وأن خطة همدان توجد إلى الغرب. فينشب الخلاف مع التصميم الذي حددناه بالاعتماد على المعلومات الأولى التي ذكرها سيف. لكن ابراهيم أصر على الاستخفاف بالخصم أمام باب فيل (شمال المسجد) ، وعزم على الاقتراب من دار عمرو بن حريث (إلى اليمين ، كما ذكر بالنص) (٤) ، فوقعت مناوشة لم ينج منها صاحب الشرطة فاندلعت الانتفاضة. وشعورنا أن المنطقة الموجودة شمالي المسجد والمنفصلة عن خطط القبائل كانت فيها مسالك إجبارية ، لا ساحة واسعة مفتوحة ، كأن البناء متراص لا ينفتح إلا على بعض الشوارع. ومن المعلوم أن المسجد اتسع في ولاية زياد بزيادة الثلث على الأقل ولم يقع ذلك إلا من جهة الشمال. وقيل أيضا إن بعض الدور شيّدت في المساحة المركزية. هذا إذن هو الانطباع الأول.

ثم نشبت الثورة (٥) ، فعاد ابن الأشتر إلى قبيلته للتعبئة (٦). «إن هؤلاء الرؤوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا ويضيقون عليهم ، فلو أني خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتي قومي ، فيأتيني كل من بايعني من قومي ثم سرت بهم في نواحي الكوفة» (٧). المقصود هو حمل راية الثورة في كل مكان ، وتجميع الأنصار حيثما

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٩.

(٣) المرجع نفسه ، ص ١٩.

(٤) المرجع نفسه ، ص ١٩.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٠ : بعد اغتيال اياس بن مضارب صاحب الشرطة ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٢٥.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢١ ؛ ابن الأثير ، الكامل ، ج ٤ ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٧) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٠.

٢٣٧

وجدوا بالكوفة. كانت جولة مهمة جدا ومحيرة حقا ، إذ لم نقدر على تتبعها أحيانا ، بل ضعنا في متاهاتها.

كانت العودة إذن إلى النخع ، ثم بدأ التجمع من هناك ، فكان مسير ذو منعرجات «وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء» (١) ، أي طرق المرور التي تمسك بها الجبانات ، وهي الطرق الكبرى التي ورد ذكرها في هذا الصدد. وتتحول هذه المناهج إلى طرق كبرى متجهة إلى الحيرة ، عند مغادرة الكوفة ، كما أنها تتجه إلى مكة ودمشق والمدائن والبصرة ، وكانت تسمح في الداخل بتوجيه القبائل إلى المسجد. لا شك أن الجبانات كانت تقفل منافذها وتراقب منها المرور ، بكيفية أو بأخرى ، ونضيف أنه ربما لم يتبق منها إلا طرق قليلة لا كل الطرق التي خطّت في البداية. وسينتهي المسير ، في مرحلة ابراهيم هذه ضمن الخطط ، وينتهي باللحاق بالمختار. كان مسلكا مستفزا متسترا في آن ، حسب الوضع.

أ) لقد انطلق من النخع واتجه إلى مسجد السكون (٢) ، وهي عشيرة مهمّة من كندة.

ومن سيف عرفنا أن خطة كندة كانت مجاورة لخطة مذحج.

ب) ثم دخل المسلك قسرا إلى جبانة كندة التي لا شك أنها كانت غير بعيدة.

ج) تمثل جبانة أثير المرحلة الثالثة (٣). لكن أثيرا رجل من أسد والمعتقد لا محالة أنها كانت تقع بخطة أسد ، إلى جنوبي الجنوب الغربي لا في خطة مذحج كما جاء بخارطة ماسينيون ، وقد سمى البلاذري هذه الجبانة صحراء (٤) ، أما أبو مخنف فقد حار بين الاسمين. وما يميّز الجبانة من الصحراء أن الأولى كانت مخصصة للدفن كما للتجمعات من النوع العسكري ، في حين أن الثانية خصّصت للاحتفالات (٥). لكن يبدو أن صحراء أثير كانت صورة مزدوجة ، كما الأمر في جبانة سليم.

د) دحر إبراهيم خصومه تدريجيا ، من صحراء أثير إلى الكناسة (٦). وقد اعتمد ماسينيون مصدرا شيعيا ليجعل منها مزبلة لأسد (٧) ، وحدد موقعها بالباب الغربي في الكوفة. يمكن ويرجح أن هذه الساحة الكبرى كانت تقع في خطة أسد في بداية الأمر ، أي

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢١.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢١.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢١.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨٠.

(٥) انظر لا حقا.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢.

(٧): Massignon ,Art.cit.,p.٣٥. هو نفس الرحمان للطبرسي النوري وقد انفرد بذكر هذا الخبر.

٢٣٨

إلى الجنوب الغربي من الكوفة. كانت هذه الخطة تنفتح على الغرب ، وكانت غير محددة ، فاتسعت الكناسة ونجت من هيمنة أسد المقيمة هناك. ثم أصبحت فيما بعد ، وبصورة سريعة جدا سوقا للبغال ومكانا لحط الأحمال عن قوافل الجمال القادمة من بلاد العرب ، فوجب تحديدها على الطريق الرابطة بين الحيرة ومكة إلى الجنوب الغربي ، وإبعادها من المركز إلى أقصى حد. لم تدمج الكناسة في المدينة خلال العصر العباسي حين أقيم الحزام ، وهذا ما يوضح القول الذي كثيرا ما ورد في تأليف أبي مخنف : «يدخل الكوفة من قبل الكناسة» (١). وكان المقدسي واضحا جدا فقال إن الكناسة كانت موجودة من جهة البادية أي من جهة البادية العربية (٢).

ه) سيطر ابراهيم على المنطقة الجنوبية ، فعجل الخطى إلى المختار معيدا المسير في الإتجاه المعاكس ، مر بأسد والنخع وكندة ، وبالمسجد الصغير للأشعث بن قيس ، ودخل الساحة المركزية فبلغ المختار من جهة القصر ، كما ذكر (٣).

وقائع المختار ، مشاكل تحديد المواضع

كان علينا متابعة تطور الثورة خطوة خطوة لكي نزداد إحاطة بمظهر المدينة والأماكن الرئيسة التي ينبغي التعرف عليها. ستبقى بعض هذه الأماكن يكتنفها الغموض إلى الأبد في حين أن بعض الأماكن الأخرى ستتضح معالمها بتقدم البحث. والواجب أن نميّز بين المعارك التي قادها المختار في الكوفة ، أي الثورة على السلطة التي أقامها ابن الزبير ـ نعني ابن مطيع الوالي وشرطته وحشود القبائل الخاضعة له ـ والثورة التي قادها الأشراف بعد مدة على حكمه ، وأخيرا مقاومته لغزو الكوفة بقيادة مصعب بن الزبير انطلاقا من البصرة. هذه إذن ثلاث مراحل سنجتازها بخطى وئيدة ونتقدم بفضلها في معرفة الكوفة.

المرحلة الأولى : ثورة المختار

لقد سبق أن قلنا إن ابراهيم لحق به شمال المسجد. وما يلفت النظر أن المختار أقام معسكره بالسبخة ، وهو موضع سيجري فيه القتال ضدّ شبيب وزيد بن علي. وكلمة سبخة تعني منطقة جافة مالحة وهي صفة تنطبق على النجاف تلك البحيرة المالحة القديمة الواقعة

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٩ مثلا.

(٢) أحسن التقاسيم ... ، ص ١١٧ : جاء بالكتاب «من جهة البادية» وهي عبارة غامضة لكنها ترجح الاتجاه إلى الجنوب الغربي ، لأن الغرب يعني الاتجاه إلى النجف تماما.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢.

٢٣٩

بين الحيرة والنجف المقبل. لكن النجاف ليس السبخة ، السبخة التي أرادت بعض المصادر الشيعية المتأخرة المزيفة إلى حد بعيد ، أن تجعل منها مكانا لا ماء فيه. بل خلافا لذلك ، تبدو السبخة بمعناها الثاني والمرجح أنه هو القديم ، وهو الغيضة التي أتخمت ماء في بعض الفصول ، حيث ينبت القصب الرديء. ولا شك أنها كانت منطقة يفيض فيها الفرات لكن بموضع من أرض أجاج ، يحدّ دور الكوفة إلى الشرق. ويؤيد هذا الأمر خبر واضح لا غبار عليه ورد ذكره في تاريخ الطبري ، بخصوص ثورة شبيب ، «السبخة بين الكوفة والفرات» (١) قبل الجسر. واعتمد ماسينيون هذا الأمر فعين موقعها على مخططه شرقي الكوفة تماما خارج المدينة طبعا ، لكن في اتجاه الشمال. إلا أنه يمكن التساؤل عمّا إذا لم يكن من المناسب التقدم بموقعها أكثر إلى الشمال ، وذلك اعتمادا للرواية المتعلقة بثورة المختار. وخلافا لذلك ، تميل الأخبار الخاصة بمجيء مصعب من البصرة إلى تحديد موضعها في الجنوب الشرقي في اتجاه البصرة (٢) أي حيث تبدأ البطائح في الظهور. وينبغي في كل حال تحديد موقعها بصفة واضحة خارج الكوفة بحيث يكون لها مجال معين تنفتح عليه ، لا أن يكون لها موقع محصور حيث يقترب الفرات أكثر ما يكون من المدينة.

ولنمعن النظر في النص الذي اهتم بهذا الموضوع لكي نستمد منه ما أمكن بخصوص السبخة كما بخصوص عناصر طوبوغرافية أخرى كالجبانة وبعض الخطط. كان المختار قريبا من ثقيف كما هو مفروض ، أي إلى الشمال الشرقي من المساحة المركزية وقد انتقل إلى السبخة مع رجاله ورجال ابراهيم ، شعورا منه بقرب المواجهة الشاملة بين جنوده وجند السلطة (٣) ، وقد كان محقا في تخمينه هذا. الواقع أن الأمير عمل بنصيحة شبث (٤) فجمع كل القادة الذين كانوا قبل ذلك متفرقين في الجبانات والكناسة. كانت ليلة ترقب وتأهب للقتال من الجانبين ، ولا سيما أن عشيرتين كبيرتين من همدان : شاكر وشبام قد لحقتا بالمختار ، ووصلتا إليه بعد أن مرّت شاكر بجبّانة بشر ، ومر الآخرون بجبّانة مراد (٥). وقد اجتهدوا في تجنب جبّانة السبيع كأن الجبّانات كانت تتحكم كلها في نقط الخروج ، فكادت أن تكون ممرا إجباريا. تمركز المختار بالسبخة مع ٣٨٠٠ رجل (٦) وكان يواجهه ٢٠٠٠ رجل أو يزيد ، حشدهم الأمير ، بمكان له من السعة ما كان يسمح باحتواء هذا الجمع ويخول

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٢٧٥.

(٢) انظر لا حقا.

(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٢.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٣.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٩.

٢٤٠