نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

مثل مكة والطائف (١) وسدوم (٢) ونينوى (٣) أيّ مدينة أخرى كبيرة أو صغيرة. أما في أقدم الروايات التاريخية العربية فقد حافظت هذه الكلمة على هذا المعنى : فالقرية هي المدينة (٤) ، وأهل القرى هم سكان المدن ولا سيما مكة ويثرب والطائف ويقابل القاري بالبادي (٥). وحتى نعت قروي كان يعني مدنيا في الأصل (٦).

أما كلمة مدينة ، فقد وردت في القرآن بصيغة مدائن في الجمع واستعملت مفردا دلالة على يثرب (٧) ، وقد وردت أيضا اسما للجنس (٨). وينبغي ترقب القرن الثاني لكي تعود إلى السطح التسمية في عبارة مدينة السلام ، ونهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث ، لكي يبرز بوضوح مفهوم المدينة ، في بغداد كما في الكوفة ، بصفتها تمييزا للمركز المدني الأصلي المحاط بسور عن الأرباض ، وعن الامتدادات خارج السور (٩). وباستقراء معاجم الفصحى التي دوّنت الأصول القديمة ، نجد أن كلمة مدينة لا تطابق قطعا تصور المدينة الحديث ، بل لها مفهوم «الحصن الذي يبنى في أصطمة الأرض» (١٠). وهي كلمة تشمل أيضا الأرض نفسها. ورأيي أن كلمة مدينة ربّما تعني حصنا أو بصورة أدق المدينة ـ الحصن ، وكذلك فهي مدينة بها حصن أو بناءات محصنة. كانت تلك صفة المدينة المستديرة ، وكذلك وضع يثرب المدرعة في داخلها بالأطم. ولم يكن الوضع كذلك بالطائف وهي «قرية» وعرفت بهذا النعت ، لكنها أحيطت بسور. ولذا فإن قرية ومدينة لم تتميزا من حيث الحجم ، بل بالوظيفة ونمط التمدن ؛ فللمدينة اتجاه دفاعي ، وهذه هي نوعيتها ودورها ، خلافا للقرية التي تجسم الخيار المدني المعتاد ، ولا سيما الخيار المدني والتجاري والديني وخيار التجمع البشري الكثيف. وهنا تكمن مفارقة نظرا لقلب الدلالة في الكلمتين ، مع أن كلمة

__________________

(١) «القريتين» : القرآن ، سورة الزخرف ، ٣٠.

(٢) القرآن ، سورة الأنبياء ، ٧٤.

(٣) القرآن ، سورة يونس ، ٩٨.

(٤) راجع الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٩٨.

(٥) لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.

(٦) المرجع نفسه ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.

(٧) القرآن ، سورة التوبة ، ١٠١ ـ ١٢٠ ؛ وسورة الأحزاب ، ٦٠.

(٨) بالمعنى نفسه ، الذي «لقرية» فيما يظهر ، وهو المعنى الوارد بالآية ١٣ والدال على المكان عينه : القرآن ، سورة يس ، ٦٠. وقد سها بوهل عن ذلك ، كما سها عنه أن القرآن استعمل مرارا لفظة يثرب وليس مرة واحدة كما يقول :.F.Buhl ,art.» Al ـ Madina «,E.I. / ١

(٩) راجع فيما بعد ، ص ٣١٢.

(١٠) لسان العرب ، تحت مادة «مدينة» ج ٥ ، ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣ حيث ذكر ما يلي : «الحصن في أصطمّة الأرض» ، «كل أرض يبنى بها حصن في أصطمّاتها فهي مدينة». بخصوص أصطمّة راجع تاج العروس ، ج ٨ ، ص ٣٦٧.

٢٠١

«مدينة» ارتبطت دائما بفكرة المركزية والدفاع. لقد سمحت تجربة العرب الفاتحين في العراق بأن يكتشفوا مفهوم القرية كتجمّع ريفي حيث تطور معنى كلمة قرية من مفهوم المدينة إلى مفهوم القرية ، ويحتمل أن يكون ذلك قد وقع منذ القرن الأول. هذا وأن الحجاج نفسه الذي وصف باللغة البدوية العتيقة الصميمة بأنه كان أفصح «قروي» بمعنى مدني ، لأنه كان ينتسب إلى الطائف أو لأنه أقام في مصري الكوفة والبصرة (١) ، روي عنه أنه خاطب الأعلاج المهاجرين إلى الأمصار عندما طردهم منها قائلا : «من كان له أصل في قرية فليخرج إليها» (٢). المقصود في هذا المقام بالذات قرى السواد ، وقد عرّفت بهذا المعنى في مصنّفات الفقه (٣) والروايات التاريخية التي ظهرت في القرن الأول (٤). وقد اكتست هذه الكلمة صبغة تعميمية بداية من القرن الثالث (٥). وعلى هذا فإنّ مصطلح مصر المستمد بالذات من التجربة التي مرت بها أمصار العراق ، أصبح يدل على المدينة ولا سيما المدينة الكبيرة (٦) التي كانت تدرك كوحدة شاملة ، في حين أن كلمة «مدينة» حافظت على معنى تحديدي. فما هو السر في هذا الانزلاق في الدلالة من معنى قرية ـ مدينة إلى معنى قرية ـ بلدة؟ هل ينبغي اعتبار ذلك بمثابة تأثير للغة الأرامية التي كانت شائعة بالعراق في ذلك العصر والشرق كافة ، أم أن الأمر يتعلق بما هو أشد عمقا؟ هل فكر العرب أن أبعاد مدنهم الموجودة في العصر الجاهلي كانت تعادل أبعاد قرى البلدان المفتوحة ، وأن تصورهم للمجال المدني قد تضخم. وأخيرا أن تجربتهم المدنية في شبه الجزيرة أصبحت لاغية؟ ليس ذلك بأمر مستحيل إذا ما فكرنا في ما كان عليه التمصير في المدينة العربية الجاهلية من ضعف. كانت يثرب ركاما من القرى ـ الواحات ، وكانت الطائف متشبعة بالزراعة الجبلية ، وحتى مكة نفسها كانت تمارس الرعي. لكنه مع هذا كان لهذه المنشآت خاصيات مدنية واضحة من جهة أخرى. فضلا عن أن اليمن عاش التمييز بين المدينة والقرية التي كانت تسمى بيتا (٧). ولكن كان لتسمية بيت دلالة مخالفة تماما في شمال بلاد العرب ، إذ كانت ترمز إلى

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١٥ ، ١٧٨.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٣٨١.

(٣) أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ١٠٢.

(٤) الطبري ، ج ٥ ، ص ٨٣ وج ٦ ، ص ٦٦ و ٣٦٤.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٨ ، ص ٥٤٧ وج ٩ ص ٥٢٣ ، ٥٣٦ ؛ البلاذري ، فتوح ... ، ص ٢٨١ ؛ لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.

(٦) ابن خلدون ، المقدمة ، ص ٦٤٠ ، ٦٤١ ، ٧١٦ ، ٧١٩ ، وقد سبق لأبي يوسف أن استخدم الكلمة في معنى مدينة عموما : كتاب الخراج ، ص ١٠٦.

(٧) Beeston ، وقد استشهد به] ouvr.cit.,p.٠٣ [J.Cheldod

٢٠٢

الخيمة المقدسة سواء أكانت متنقلة أم ثابتة (١) ، أو كانت تعني المعبد المقدس كما في الكعبة أو الأسرة خاصة الحاكمة بمعناها الواسع. لكن هذه الدلالة لا يمكن اعتبارها دلّا على واقع القرية الجديد ، نظرا للتفوق الساحق الذي كان لتصورات شمال بلاد العرب. الواقع أن العرب في القرن الأول قد أسقطوا مفهوم القرية على عالم العجم. مع استنقاصهم له ، واستعانوا بمصطلحات مغايرة تماما هي المصر في العراق ، والفسطاط في مصر ، والقيروان في أفريقية ، للدلالة على التجمعات العربية المحضة خارج بلاد العرب ، التي كانت تعبر عن واقع جديد بالنسبة لما كان عندهم ، ولما وجدوه ، وبالنظر لبنى تصوراتهم. وكانوا يتمسكون في كل مرة بلبس بين الاسم النكرة والاسم العلم ، كما هو الأمر بالنسبة للمدينة. الحقيقة أن القرآن بقي الوثيقة العربية الأولية الوحيدة التي تمكنت من الارتفاع إلى مستوى المفهوم والتعميم في جميع الأمور ، ليس بالنظر للواقع المدني فحسب. كان القرآن يعمم دائما الخصوصي ، وهذا ما يكسبه قيمة وتأثيرا دائما كنص مقدس كوني الاتجاه : فهو يسمو عن الملموس بكل عليائه. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للفكر العربي العادي في العصر الجاهلي الذي كان خاضعا للخصوصي.

ينبغي أن يضاف إلى ذلك دون شك بروز أمرين مستجدّين بخصوص ظاهرة المدينة في فترة الفتوحات ، يتمثلان في الاتجاه العسكري الواسع المدى وادماج الرحّل. لقد كانت المدينة لحد ذلك العصر في نظر العرب ، زراعية وتجارية ودينية ومدنية بالتالي ، حتى ولو كانت قاعدة للدولة في اليمن. والمحتمل أنّ يثرب لما كسبت هذا النهج الهجومي كان ذلك مدعاة لأن تسمى ب «المدينة». وكانت من جهة أخرى المدينة بالمفهوم الحديث في الجاهلية تواجه بقوة عالم الرحل ، رغم التلاحمات ، أي عالم العرب أو الأعراب كما جاء في القرآن نفسه الذي ميز في آية واحدة أهل المدينة والأعراب (٢). وقد انفتحت المدينة «للعرب» بعملية الفتح ، إلى درجة أن الأمصار صممت لصالحهم أساسا ، وهذا ما يفسر ازدواجية المعنى وصعوبة الاحتفاظ بكلمة «قرية» التي امتزجت مدة طويلة في الماضي بانفصام وجب التغلب عليه.

الميراث المدني

ترى ، ما الذي انتقل إلى الكوفة من التجارب المدنية المتعددة التي جرت في بلاد العرب؟ يجب التذكير هنا بأن الصفوة الحاكمة كانت من الحجاز الذي توفر لديه التقليد

__________________

(١) كما هو شأن سندار بالنسبة لبكر ، غير بعيد من الكوفة العتيدة :.Art.» Ka\'ba «,E.I. / ٢

(٢) القرآن ، سورة التوبة ، ١٠١.

٢٠٣

الأحدث والأشد حيوية أيضا ، والمنفتح فوق ذلك انفتاحا واسعا على مؤثرات الشام. وكان اليمنيون كثيرين بالكوفة. حقا لقد انقرضت حضارتهم ، لكنها خلّفت آثارا واضحة ، فضلا عن المدن الحديثة التطور كصنعاء ونجران. وأخيرا ، عرف البدو أنفسهم أشكالا من التجمع مثل المحلّة التي لا يستبعد أن تكون قد انتقلت إلى المحيط المدني. وقد تبيّن أن المصادر كانت تفضل مؤثرات الحيرة وفارس عندما تتصدى لشرح التمصير المدني النابع بصفة إرادية من النخبة الحاكمة. وسوف ننظر في ما اقتبسه اليمنيون بوضوح من تراثهم مثلا فيما يتعلق بالجبّانات. لكن عندما نعتبر الطابع الشديد الذي طبع به العرب كل المجالات الحضارة العربية الإسلامية ، لا يسعنا إلا البحث عنه في الكوفة الناشئة ، دون أن نقدر على قياس مداه مسبقا.

اليمن

كان اليمن القديم قد عرف هندسة معمارية متطورة بصورة ممتازة وقد قيل إنها برزت تامة الصفات ، مكتملة منذ البداية (١). فكانت السدود والأسوار والمعابد بحجرها الجميل المربع منتثرة على الجانب الشرقي المتجه إلى الصحراء ، في آن في مأرب ومعين وصرواح وشبوة. كان بالمعبد الكبير (معبد اشتر) في معين مدخل فخم بأعمدة رفيعة زواياها مربعة (القرن الثالث قبل الميلاد) (٢). وكان بمعبد صرواح شكل مستطيل للسور وأبراج كبيرة في الزوايا (٣). وقد وصفت الدار اليمنية بأنها كانت تتركب من دكة قوية بنيت بالحجر ، قد أقيم عليها بناية من عدة طوابق ، متركبة من هيكل له روافد من خشب قد عبىء باللّبن (٤). وهي تتميز من الدار التي ظهرت شمال بلاد العرب والتي كانت واطئة وممتدة ومنفتحة على الداخل (٥). وقد وردت إشارات في خصوص الكوفة إلى مساكن بنيت مرتفعة (٦) ، وإلى أن المسجد والقصر كانا يستندان إلى أبراج كبيرة عند الزوايا. لا نزاع في أن الشغف بالبناء كان موجودا في اليمن القديم ، شغف الخلق والتشييد الذي لم يكن ليفقد تماما ، حتى لو ارتبط برمزية السلطة القائمة على التملك ، ولم يفقد هذا الشغف باليمن ذاته في الفترة الحديثة من تاريخه حيث يشهد مساكن جميلة مرتفعة من اللبن. ومن باب أولى فقد استمر ذلك

__________________

(١) G.Garbini ,ouvr.cit.,p.٨٢٢.

(٢) Ibid.,p.٢٣٢.

(٣) Ibid.,p.٣٣٢.

(٤) C.Robin ,ouvr.cit.,p.٨١٢.

(٥) Lammens ,La Cite ? arabe de Ta\'if ,p.٤٨١.

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

٢٠٤

في صنعاء خلال الفترة التي سبقت الإسلام مباشرة.

كانت صنعاء مدينة قائمة بذاتها آنذاك وكانت عاصمة «للأبناء» ولهمدان وأنصارهم أو حلفائهم (١). كانت صنعاء مبنية بالحجر أصلا (٢). ولها حصن عظيم هو غمدان (٣) الذي هدمه الفاتحون المسلمون. وقد ورد ذكر جبّانتها وبيعتها وأسواقها وقصورها (هل كانت قصورا بالمعنى المعهود الآن أم حصونا؟) وكذا رحبتها (٤). لقد أنشأها السبئيون في البداية عندما كانوا على قاب قوسين من الأفول (٥). لكن لا شك أنها احتفظت بما يمكن الاحتفاظ به من الطموح التمدني والمعماري لليمن القديم ، وأن هذا الإرث انتقل إلى الكوفة ، الإرث الذي اقتبس الحجاز قسطا منه فيما بعد. وزيادة على اقتباس الجبّانات لا شك في أن دور طبقة الأشراف قد استوعبت النموذج اليمني مع أن اليمن قلّد في العصر الإسلامي الكلاسيكي النموذج العراقي المتكامل بعملية مد حضاري يستند إلى فكرة الوحدة الثقافية المنبثقة عن المركز أي دار الخلافة ، كما حصل في صنعاء باستبدال الحجر بالآجر المطبوخ والجبس (٦). بداية من أي تاريخ قامت دور الأشراف بهذا الاسترجاع الحضاري؟ منذ عصر زياد وما تلاه وعلى الأرجح في زمن الجيل الثاني من المهاجرين ، حين بدأت ترتسم استعادة الهوية اليمنية ، تلك الهوية التي اصطبغت بالطابع الخرافي والتي ضوعفت بميل جديد إلى الطلاوة. وبينما رمت العاطفة اليمنية المشوبة بالشعور النّضاح بالعز بقواها ، خلال النصف الثاني من القرن الأول في النزاعات السياسية التي نشبت في الشام بالقيام ضد قيس والتي كانت السلطة الأموية تحركها (٧) ، فقد اندفعت هذه العاطفة بالكوفة في المشروع الشيعي الناشىء ، كما أنها عبّرت عن ذاتها في الأعماق وبصفة خجولة من خلال وعي حضاري مواجه للجفاء البدوي ، جفاء تميم وأسد (٨). وهكذا عاد الإنشقاق القديم إلى السطح بقوة.

__________________

(١) الرازي ، مرجع مذكور ، ص ٣٧.

(٢) ابن رسته ، الأعلاق ، ص ١٠٩ ، وهو يقول بالحرف الواحد : «أكثر بنائها بالجص والآجر وسائرها حجارة منهدمة» وواضح أن الحجارة المنهدمة هذه من بقايا الماضي بينما يكون الجص والآجر مستوردا من الأنماط السائدة في الحضارة العربية الإسلامية بدءا من القرن الثاني ومرجعها العراق.

(٣) الرازي ، ص ٢٠ ـ ٢٦ ؛ مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٢٠٨.

(٤) الرازي ، ص ٧٧ ، ٧٩ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ٥٩ ، ٣٥.

(٥) C.Robin ,ouvr.cit.,p.٢١٢.

(٦) ابن رسته ، الأعلاق ، ص ١٠٩.

(٧) H.Kjai ? t ,art.cit.,pp.١٧١ ff.

(٨) المرجع نفسه ، ص ١٧٤ وما بعدها ؛ الرازي ، ص ٦ ؛ ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٧٨ ، الذي ذكر أن ابراهيم النخعي كان يستنكف من بقاء العادة البدوية بالكوفة التي أبقت على الشعر الطويل المكشوف والمضفور ـ وكان يتحدّث إبراهيم عن جفاء أسد وتميم. ونرى على العكس أن الشعبي ، المرجع نفسه ، ص ٢٥٢ ، كان يتعمم «بعمامة حمراء» من صنع يمني. ويجب التذكير بأهمية الصناعة اليمنية خاصة في السلاح والنسيج وبقائها باليمن وخارجه في الكوفة مثلا ـ مدة طويلة ، مثلا في القرن الرابع : البغدادي ، الخزانة ج ١ ، ص ٣٨٢. وهو دليل على استمرار إحدى قواعد الحضارة اليمنية القديمة. إن هذه الحضارة لم تتغذ من تجارة البخور فحسب ، لكن من الصناعة والزراعة المائية أيضا. إنما من الممكن أن تكون الصناعة نتاج تطوّر متأخر بالنسبة للتجارة.

٢٠٥

مكة

كانت مكة «أم القرى» (١) ويعني ذلك حرفيا أم المدن. وقد سميت يثرب كذلك «أم القرى» الملتصقة بها (٢). ويدل هذا المفهوم على المركزية والتفوق. من الممكن أن تكون مكة قد مثلت نواة لتجمع تجاورت فيه البلدات والأرباض والمنشآت المستقرة المحيطة المرتبطة بالمعابد. ومن الممكن أيضا أن عبارة «أم القرى» ترمز إلى التفوق على مدن غربي بلاد العرب وتدل على فكرة المركز الذي يتجه إليه الجميع (٣).

هناك عدة خاصيات ترسم فورا شخصية مكة. فهي حرم أو بالأحرى تقع في حرم. وهي مقر للكعبة. وتتم شعائر الحج المقدس حولها لا بداخلها وهي الشعائر التي يجب تفريقها عن العبادة المخصصة للبيت (٤) المكّي الصرف والمركّز على الكعبة. هذا اتجاه ديني مميز مهم ومؤثر ، ولا شك أنه يسبق البقية ويسيطر عليها ، أي الإقامة المدنية والنشاط التجاري. والملاحظ أن مكة بصفتها مدينة ، أنشئت حقا أو تشكلت مع بروز دور القرشيين وبفضل ما قام به قصيّ من عمل ، وهو شخصية تقع بين الأسطورة والواقع التاريخي. إن قريشا بصفتها مجموعة بشرية شديدة التماسك ، وكشخص جماعي ـ لا يقال بنو قريش أبدا ـ تمثل روح هذه المدينة. فإذا كان الحرم المكان المقدس الواسع ـ ٦٠ كيلومترا في ٢٠ كيلومترا في أقصى امتداد له ـ (٥) هو الذي يسيطر على المجموع ويحيط به ، فإن مكة بالذات تمثل مجالا مدنيا ماديا متميزا ، مع بيتها الخاص بها أي الكعبة. وقد منحت قريش لمكة الشخصية المعنوية ، فجعلت منها مدينة بالمعنى المؤسسي ، ذات هوية متميزة بقوة فائقة.

لقد كتبت أبحاث مفيدة جدا منذ عشرين سنة عن مفهوم الحرم (٦) والمقصود به أرض

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.

(٢) السمهودي ، وفاء ، ج ١ ، ص ٨ وما بعدها.

(٣) لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٧٨ ، يفسر ذلك بأن «أهل القرى يؤمونها أي يتجهون إليها». لكن عبارة «أم الكتاب» تعني في القرآن ، سورة الزخرف ، ٤ ، نواة الكتاب وقلبه.

(٤) الأزرقي ، ج ١ ، ص ١٢٦ ؛ ياقوت ج ٥ ، ص ١٨١ ؛.Kister ,Mecca and Tamim ,p.٩٣١.

(٥) الأزرقي ، ج ٢ ، ص ٦٢ ، ١٣٠ ؛ السيرة ، ص ١١٨ ؛ معجم البلدان ج ٢ ، ص ٢٤٤ وما بعدها.

(٦) انظر ما سبق : أبحاث Kister ,Serjeant و.Nagel

٢٠٦

مقدسة محرمة ينتفي عنها العنف إزاء كل ما هو حي فهو أرض سلام مهيأة لاستقبال القبائل للحج والأسواق ، سلام ينقذ مكة من كل عداء حربي. إن الحرم مؤسسة لبلاد العرب بقيت حية حتى عصر الرسول ، وهو ليس مكيا فحسب : فقد جعل الرسول نفسه من يثرب حرما (١) كما أن مسيلمة متنبيء بني حنيفة «ضرب حرما باليمامة» (٢). إنها مؤسسة مرتبطة بدين الوثنية في أعمق مظاهرها ، وفعاليتها واضحة في بروز المدن وحمايتها ونموها طالما هي تبعدها بالذات عن العنف. إنما للحرم المكي وضع ممتاز لأنه متجذر في الزمن الغابر ، وزاده قداسة إجماع كاد يشمل الناس كافة في بلاد العرب ، وقد فخّم قدسيته عنصران متميّزان تمثلا في الحج والبيت.

كانت مكة حقا المدينة العربية بالمعنى الممتاز ، وهي مهد الوثنية والإسلام على السواء ونواة النخبة المقبلة. لكنها كانت أيضا المدينة الاستثنائية التي لا تدانى ، وقد جعل منها التاريخ المدون اللاحق المتأخر ، نموذجا إلهيا يعود إلى الزمن الكوني (٣). حتى أننا نجد شخصا مثل سيف ، وهو الإخباري المتقدم الذي يصف الكوفة في نشأتها فيقول في هذا الصّدد : «وكذلك كانت المساجد ما خلا المسجد الحرام ، فكانوا لا يشبّهون به المساجد تعظيما لحرمته» (٤).

هذا وما من شك في أن اللاشعور الجماعي للنخبة الحاكمة الإسلامية الأولى قد استبطن البنى والأشكال وكل ما حدث قديما سواء في ذلك من تجربتها المكية أو من مقامها فيما بعد بالمدينة. صحيح أن القرشيين كانوا قلة بالكوفة ذاتها لكن المؤسس سعد بن أبي وقاص كان نفسه قرشيا مكي الأصل مهاجرا إلى المدينة كما كان عمر ، المدبر الرئيس لتخطيط الكوفة حسب ما ورد في الروايات. فماذا عسى أن ينعكس من ذلك على الكوفة؟ لقد ورد مثلا أن صحن الكوفة حدّد برمي السهام ونحن هنا نلحظ أن في حياة قريش الجماعية المشحونة بالمقدسات كثيرا ما كان يعتمد على القداح ، وهو رمي شعائري للسهام (٥) وإذا كان القرآن نهى عن ذلك من وجهة المقصد الديني ، فقد استمرّ الفعل كحركة مجرّدة بصفته تقنية لتحديد المجال وقياسه. ولا بد أيضا من التفكير في أن المجال المركزي ذاته ، قد حدّد بهذه

__________________

(١) حراما حسب عبارة السيرة ، ص ٣٤٣ ؛ Serjeant ,art.cit.,p.٠٥ ؛ وقد جعل ناجل من الحرم ظاهرة مؤسساتية انطلقت منها الأمة ،.Nagel ,Art.cit.,p.٠٨١

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٨٣.

(٣) الأزرقي ، ج ١ ، ص ٣١ وما بعدها.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٥) الأزرقي ، ج ١ ، ص ١١٧ ـ ١١٩.

٢٠٧

الصيغة ومنع تسلل القبائل. وهو الآخر مجال عمومي ديني قد يكون اقتبس هذه الصفة من الحرم والمسجد الحرام في آن.

لقد طرح عمل التحريم الجاهلي قبل كل شيء كعمل لتحديد الأرض والنهي عن العنف (١). صحيح أنه نزع المظهر القدسي عن الكوفة وكان الصحن مجالا متقلّصا ، ولم يكن واسعا محيطا كما كان الحرم في العصر الجاهلي ، لكن الحركة الأولية بقيت محافظة على صفائها والمسجد الأصلي بصفته مجالا مركزيا غير محاط يسترجع معا الانفتاح (٢) ومركزية المسجد الحرام المكي. أما بخصوص مجال السكن ، فلا بد من التذكير بما لفكرة الاختطاط ذاتها من أهمية. ويبدو أنها مسعى شرع فيه قصيّ بمكة وهو الجد الممدّن ، وقد استكمل ذلك أبناؤه (٣). إنه مسعى إرادي للتصميم والإنشاء وتوزيع وتنظيم للمجال الذي قسم إلى أرباع هي أرباع مكة (٤) ، وهو المسعى الذي نجده بالكوفة كعمل يبدو وكأنه شيء معهود مأنوس. ولا بد أن الدار أي المسكن الخاص قد اقتبست في وقت ما ، كما قلنا ، شيئا من النموذج اليمني المطبوع بالترف والمبني في اتجاه الارتفاع. لكن من الأرجح أن الدار الأكثر شيوعا وانتشارا في الكوفة ، كانت في البداية وفي أكثر الأحوال ، نسخة عن المثال الموجود في شمال بلاد العرب بمكة ، وهو مجال مربع مفتوح في وسطه (٥) ، ينفتح على حجرات وهو المثال الموجود بالطائف ، والذي نجده على شكل أوسع وكحصن في أطم يثرب ، وهو يتّصل فوق هذا بأقدم نموذج للدار ببلاد الرافدين.

الطائف

كانت الدور بالطائف أيضا مسطحة حسب ياقوت (٦) ، بينما يصفها لا مانس بأنها بيوت مرتفعة دون تقديم الدليل ، وهو يقابل بين «ضعف المعمار في مكة» والحصون السميكة المتنوعة بالطائف (٧). الواقع أن يميّز هذه المدينة هو سورها (٨). لكن لعل الطابع المدني

__________________

(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٨٣ : «ضرب مسيلمة حرما باليمامة ونهى عنه».

(٢) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٥٨ ؛ الأزرقي ، ج ٢ ، ص ٦٨.

(٣) السيرة ، ص ٨٤.

(٤) الأزرقي ، ج ٢ ، ص ٢٣٣ ـ ٢٦٥ ؛ السيرة ، ص ٨٠.

(٥): Kister ,» Mecca and Tamim «,p.٦٢١. كان مثالا دائرا ثم صار مربّعا ، ولم يظهر هذا الشكل الأخير إلا في النصف الثاني من القرن السادس م.

(٦) معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٩ : «بيوتها لاطئة».

(٧) La cite ? arabe de Taif ,pp.٣٨١ ـ ٤٨١.

(٨) فتوح البلدان ، ص ٦٦ ـ ٦٧ ؛ معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٨.

٢٠٨

كان أكثر استكمالا وأكثر تطورا بالطائف مما كان عليه بمكة. فضلا عن أن الطائف تميزت من مكة بزراعتها الجبلية الغنية (١) ، الأمر الذي حمل قريشا على جعلها تدور في فلكها إلى حدّ ما (٢).

ومن المعلوم أن زيادا كان من ثقيف. وأنه من أكبر المشيدين في البصرة والكوفة (٣). وهذا لا يعني إطلاقا أنه استوحى ذلك من مدينته الأصلية ، لكن لعله احتفظ منها بهذا الميل إلى التمدن يضاف إليه تجربته في فارس. ولنضف : إذا اعتمدت الطائف ، خلافا لمكة ، على الزراعة ، فقد كانت تمارس أيضا التجارة والربا (٤) ، وعلاقتها في ذلك وثيقة بقريش (٥) ، وكانت تساهم في الأسواق مساهمة نشيطة (٦). والطائف مدينة دينية أيضا ومقر لعبادة اللات ، قد كانت أدمجت في نسق الحمس المكي لكن لا يبدو أنها كانت حرما لأن الرسول هو الذي منحها هذه الدرجة في العهد الذي أعطاه لأهل الطائف (٧) ، ولأنها إذا اتخذت سورا فلكي تعد أسباب الدفاع المادية عن كيانها لانعدام الحرمة عنها بالذات.

المدينة :

كانت «المدينة» واحة متنوعة المساكن منتثرتها (٨). ومصدر اسم يثرب (٩) يرجع إلى النواة المدمجة (١٠) التي امتدت إلى المجموع كافة وارتدت بعد ذلك إلى مجرد مكان معروف (١١). ولم يكن المظهر المدني بارزا قبل مجيء الرسول ، ويبدو جيدا أن دوره

__________________

(١) ياقوت ، ج ٤ ، ص ٩ ـ ١٠ ؛ Lammens ,art.» Taif «,E.I. / ١

(٢) فتوح البلدان ، ص ٦٧ ؛ Kister ,ouvr.cit.,p.٩ ..

(٣) لا ننس أن ثقيفا كان لها خطة هامة بالكوفة حيث كانت تقيم ذرية الدمون النسيب المؤسس : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٨ الذي روى هذا عن ابن الكلبي.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٦٧ : «كان أهل الطائف أصحاب ربا». M. Watt, Mahomet a ? la Mecque,. pp. ٧٧١ ـ ٠٨١

(٥) المرجع نفسه ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، لا سيما مع مخزوم ، يمكن أن يكون أشد اعتداء تعرض له الرسول قد وقع بعد أن زار الطائف ولأن تشابك المصالح جعل من دعوته خطرا. يشير كيستر إلى ادماج ثقيف في الحمس :) Kister, art. cit., p. ٩ (

(٦) Lammens ,ouvr.cit.,pp.٦٠٢ ff.

(٧) Kister ,art.cit.,p.٦.

(٨) M.Watt ,II ,p.٣١. ؛ وفاء ، ج ١ ، ص ١٩٠.

(٩) تسمية قديمة :.Fr.Buhl ,art.» al ـ Madina «,E.I. / ١.

(١٠) وفاء ، ج ١ ، ص ٨ ـ ١٠. لم نتمكن من الرجوع إلى كتاب أخبار المدينة لعمر بن شبة الذي نشر مؤخرا بالمدينة.

(١١) المرجع نفسه ، ج ١ ، ص ١٩١ وج ٢ ، ص ٧٤٧.

٢٠٩

التمديني كان حاسما. فحيثما استقرّ في أرض خلاء خواء (١) برز المركز وصار فيما بعد «المدينة» ذاتها خصوصا بالمعنى الحديث (٢). وكان اليعقوبي صريحا في هذه النقطة حيث بيّن أن الرسول جمع حوله «الناس» الذين كانوا قبل ذلك «متفرّقين». فأصبحت المساكن متلاصقة بحيث أصبح ذلك مدينة (٣) أي مكانا يتّسم بتلاصق الأبنية وبكثافة السكن ، ومفهوم «الناس» هنا يعني المهاجرين أولا وبالذات (٤). إلا أنا نجد أيضا عناصر من الأنصار تطوعوا للانتقال تقربا من الرسول (٥) وكانت النقطة المحورية لهذا المركز الجديد ، المسجد وداره الخاصة وقد تشكل منهما مركّب متلاصق (٦) هو مكان التجمع الدائم والمقر الديني وقلب السلطة كلما زادت بروزا ونموا ، حتى أصبح المركز روح هذا التجمع البشري الذي كان مائعا في السابق. لقد حدد هذا المركّب بالخصوص نموذجا لكل الحضارة الإسلامية. إنه نموذج المسجد أولا ، الذي سيخطط طبق المثال النبوي مع بعض التغييرات ، لكن المهم أيضا بالنسبة للكوفة أنه سيلعب دورا نموذجيا للتجاور بين مقر الحكم (الذي عرف بدار الإمارة بعد ذلك) والمسجد ، أي مكان العبادة وتجمع المؤمنين. والملاحظ أن الأمر يتعلق بوحدتين مكانيتين متميزتين لكنهما متلاصقتان ، وبوظيفتين مختلفتين لكنهما متصلتان اتصالا عميقا ، إنما الصّلة في عصر الرسول كانت أشد قوة. وأما في الكوفة والبصرة ودمشق ، فقد صار التمييز بين القصر والمسجد أكثر وضوحا. لقد استقر مركز الحكم في عهد الرسول بالمسجد ذاته وكانت الدار متوجهة إلى الحياة الخاصة للنبي بينما كان الحكم بالكوفة يمارس أيضا في المسجد ، لكن بصفة أهم في القصر حيث تتجمع الأموال والقوى. وهكذا تواجد بالكوفة العامل السياسي والديني في نوع من جدلية التواصل والانفصال في حين أن الوحدة كانت تامة زمن الرسول ، مع تفوق المسجد على الدار. وعلى كل فإن التسلسل من «المدينة» إلى الكوفة يظهر بوضوح كبير ، ويبدو هكذا أن الاستناد إلى عصر الإنشاء «بالمدينة» أكثر بلاغة وقطعا أكثر وضوحا ، من الاستشهاد بالمثال البابلي ـ الجديد الذي يبرز بصفة خاصة في التحصينات وفي الشعور بالقوة والرفعة ، وليس أبدا في عنصر التصور الأساسي.

وعلى هذا ، لا يندرج تأثير «المدينة» في المدينة الإسلامية خارج بلاد العرب وبالتالي في

__________________

(١) يستعمل السمهودي كلمة «مربد» : وفاء ، ج ١ ، ص ٣٢٢ وما بعدها.

(٢) اليعقوبي ، البلدان ، ص ٣١٣ ؛.F.Buhl ,art.cit.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٤) وفاء ، ج ١ ، ص ٧٣٤ وج ٢ ص ٧١٧.

(٥) أو من المسجد كما فعل بنو سلمة الذين رحلوا بطلب من الرسول : وفاء ، ج ١ ، ص ٢٠٣.

(٦) السيرة ص ٣٣٦ ـ ٣٣٨ : كان المسكن من طابقين : فتوح البلدان ، ص ٢٠ ؛ وفاء ، ج ١ ، ص ٣٣٥ ـ ٣٤٠ ؛.M.Watt ,II ,p.٣١.

٢١٠

الكوفة ، إلا اندراجا قليلا في خط يثرب الجاهلية ، التي كانت عبارة عن سلسلة من الواحات المبعثرة. بل يندرج أساسا في عمل الرسول ذاته ، المؤسس لدلالات حاسمة ولأعمق رمزية للمدينة المسلمة التي جعل منها هيكلا إسلاميا مؤسّساتيا لا مدينة فحسب ، بل مدينة بالمعنى السياسي. (Politeia)

وإتماما لهذا التصور ، يحسن بنا الإشارة إلى أن أسواق «المدينة» التي نقلها الرسول ونظمها ، كانت هي النموذج لأسواق الكوفة ، وليس الأسواق المحيطة بمكة التي كانت بمثابة معارض. ويصعب في هذا المقام تقييم العمل التجديدي الذي قام به الرسول : فلعل نقل سوق بني قينقاع (١) قد جرى في اتجاه المركزية ، لكن الأرجح هو وجود عزيمة تنظيمية ستبقى فيما بعد ، وقد ظهرت في مأسسة سوق يثرب القديم (٢). والملاحظ أيضا وجود تعددية الأسواق (٣) بيثرب وهي ظاهرة ستبقى في أية مدينة إسلامية ، ووجود تقليد واضح لعله تأتىّ من الحضور اليهودي بخصوص ظاهرة السوق المدنية كمؤسسة دائمة تغذي الحياة الإنسانية اليومية. صحيح أنه وجدت سوق داخل مكة ، لكن الأمر الأهم هو قيام السوق ـ المعرض خارج مكة والتي لها دور كبير في اقتصاد القوافل العابرة لبلاد العرب. والذي لا يقبل الشك أن الرسول فرّق بوضوح بين التجارة (٤) والصلاة أي بين السوق والمعبد قاطعا بذلك مع تقليد الشرق كله. فضلا عن أن الإسلام مدّن السوق العربية بأن أقامها في قلب المدينة ذاتها ، مع العلم أن السوق المحيطة بالمدينة الجاهلية قد بقيت ، كما سنرى ، بالكناسة في الكوفة وبالمربد في البصرة.

وهكذا نرى كيف أن الحضارة العربية التي شكلت المدينة فيها المحور المشع ، تدين للإرث العربي الخاص الذي توفرت فيه التقاليد المدنية والتراكيب المتينة المقاومة ، مثلما تدين للعمل الخلاق الذي قام به الرسول. هذا العمل النبوي الذي استمد بدوره كثيرا من ثقافته الحيوية ، ثقافة قريش أولا ، وكذلك ثقافة كل الجهات في بلاد العرب. إن القرآن نفسه يشكل الذاكرة الرائعة للأمة العربية. إذ استرد الماضي كله ، ماضي سبأ وماضي الحجر لكنه تجاوزه برؤية كونية وإلهية لتاريخ البشرية.

وهكذا ندرك ظهور إرادة عنيدة في الوجود وجهدا يتجه إلى الحضارة وتيارا توحيديا ،

__________________

(١) وفاء ، ج ٢ ، ص ٧٤٧.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٧٤٧ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٨.

(٣) وفاء ، ج ٢ ، ص ٧٤٧. كانت هناك بطحاء أيضا ، وهي عبارة عن سوق للدواب على شاكلة الكناسة : المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٧٥٤.

(٤) W.Heffening ,art.» tidjara «,E.I. / ١. ، ولعل هذا التمييز يرجع إلى الفرس.

٢١١

من العرب الأوائل إلى اليمنيين ، ومن اليمنيين إلى عرب الجاهلية. صحيح أن هذا العالم مثله مثل العالم اليهودي من قبل ، كان هامشيا بالنظر لمراكز القوة في الشرق ، وربما أضفى لذلك حرمانه على السماء ، فصعّد هذه القوة الشرقية ليضعها بعد ذلك بين يدى الله (١). ثم أعادها إلى الأرض لكي يعيد صوغ مدينته الأرضية انطلاقا من تلك السماء وذلك في الأماكن نفسها ، غير البعيدة من بابل وآشور والمدائن ، حيث امتدّ طويلا ودام كبرياء الامبراطورية.

__________________

(١) لقد فهم ماكس فيبر جيدا هذا الإشكال. انظر : Max Weber, Sociologie de la Religion, in Economie et. Socie ? te ? , I, p. ٦٤٤.

٢١٢

الباب الخامس

التمدن والاستقرار.

الذروة التاريخية

٥٠ ـ ٨٠ ه‍ / ٦٧٠ ـ ٧٠٠

٢١٣

اكتسبت الكوفة وجهها الحقيقي في العصر الأموي ، وجه المدينة التي تشكلت بشكل ورثته عن أول بادرة للتخطيط. هذا ولم تتسرب إلا أشياء قليلة جدا من العصر السابق الذي دام عشرين سنة بعد موت عمر (١). المعلوم أن الضغط الديمغرافي قد استفحل أمره وأن المدينة ـ المعسكر عاشت فترة من الغليان والاضطراب (٢) ، فشاركت مشاركة نشيطة في مقتل عثمان وفي معركتين عظيمتين هما وقعة الجمل ووقعة صفين. لكن لا شيء أو تقريبا لا شيء يمكن استشفافه في المستوى المدني.

وخلافا لذلك ، فقد تشكل القصر والجامع بشكلهما النهائي ، خلال ولاية المغيرة وإمارة زياد. هذا أمر ثابت بالنسبة للقصر بحيث إن إعادة بنائه خلال العصر العباسي لم تكن في واقع الأمر سوى عملية تجميلية أو ترميمية. وقد أكد علم الآثار الأمر ، مميزا بالخصوص فترتين في خلال العصر الأموي (٣) ، بحيث يبدو أن الكوفة قد تطورت على مرحلتين متواليتين قبل سنة ١٠٠ وبعدها (٤). كما يمكن أن نتساءل عما إذا كان القرن الطويل الممتد من سنة ٤٠ ه‍. إلى ١٥٥ من الهجرة ـ وهو تاريخ إقامة الخندق والحزام (٥) ـ

__________________

(١) راجع بحثنا : H.Djai ? t ,art.cit.,p.٨٤١ ff وart» Ku fa «,E.I. / ٢. بخصوص الأخبار القليلة عن الطوبوغرافيا. كما توجد معلومات متفرقة في تاريخ الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٧٣ مثلا ، وج ٥ ، ص ٦٠ و ٦١ و ٨٣ و ٩١.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٧٩ وما بعدها ؛M. Minds» Ku ran political; Shaban, Ouvr, cit., pp. ٠٦ ـ ٨٧ alignements and their background in the mid ـ seventh century A. D «. International Journal of Middle Eastern Studies, ٢) ١٧٩١ (, pp. ٥٤٣ ـ ٧٦٣.

(٣) M. A. Mustafa,» Preliminary report on the excavations in Ku fa during the third, Season «Sumer, ٣٦٩١, p. ٧٣ ff.

(٤) Ibid.,p.٧٥.

(٥) الطبري ، ج ٨ ، ص ٤٦ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٨٧ ، لم يذكر سوى الخندق.

٢١٤

لم يشكل وحدة زمنية كبيرة لأن الأجهزة الأساسية لم تتغير ولأن المناخ الحضاري نفسه كان يحيط بالمدينة. لكن أدخل العباسيون الأوائل تغييرات جزئية كثيرة تبرر لا محالة الانفصام الذي أكده علم الآثار بالنسبة للقصر ، على الرغم من استحالة تقديم تاريخ دقيق يحدد بداية الطور العباسي (١).

أصبحت الكوفة بعد هذه التغييرات ، مجموعة مدن أميرية تحيط بحاضرة مدنية مركزية كبرى : مدينة ابن هبيرة ، والهاشمية شرقا ، والرصافة إلى الجنوب الغربي ، والكوفة الحقيقية بالمركز (٢) ، في حين أن الكوفة بقيت وحدة مدنية إلى نهاية العصر الأموي.

ومن المعلوم أن أوائل المؤرخين الذين تحدثوا عن الكوفة ، ألفوا كتبهم في العصر العباسي ، سواء كان سيف أو أبو مخنف (٣) ، أو اليعقوبي والبلاذري بعد ذلك. وقد داخلتنا الحيرة مما كتبه المؤلفان الأولان (٤) إذ كانا مخضرمين عاشا العصرين ، واعتمدا أحيانا التغييرات الطارئة على الطوبوغرافيا وذكرا ذلك (٥) ، وشعورنا مع ذلك أنهما يصفان الكوفة العباسية (٦) بعد أن اقتصرا على زيادة بعض الاحتياطات حتى يكون الأمر مقبولا.

يبقى الموضوع صعبا إلى أقصى حد لو رمنا التوفيق بين ما ذكرته هذه المصادر الأربعة الرئيسة ، نعني سيفا والتخطيط الأولي الذي عرضه علينا ، وأبا مخنف الذي يرسم إطارا

__________________

(١) يمكن تحديد نهاية العصر العباسي الأول بسنة ٢٠٠ ه‍. تقريبا :: Mustafa ,art.cit.,p.٣٦ شيد القصر العباسي بعد هدم القصر الأموي.

(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦١٤ وما بعدها ؛ البلاذري ، ص ٢٨٥.

(٣) مات أبو مخنف في ١٥٧ ه‍. ويرى ماسينيون ، art.cit.,p.٥٤ ، أن روايات أبي مخنف تشتمل على أسماء مكان صبغتها إيرانية (مثلا لحّام جرير). وتؤرخ هذه الصبغة إلى ما بعد عام ١٣٢ ه‍. «كتب أبو مخنف رواية الأحداث بعد سنة ١٣٢ ه‍ ، بعد أن نقح أسماء المكان».

(٤) اتهم ريتميير سيفا بأنه أسقط على الماضي معلومات من عصره الذي هو العصر العباسي : ouvr.cit.,pp.٤٣ ـ ٥٣ ؛ راجع أيضا :.Wellhausen ,Skizzen ـ ـ ـ VI ,pp.٣ ـ ٧

(٥) مثلا : «تركناه قد نزل عند مسجد القصّاص ، يعنون مسجد أبي داود في وادعة ، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصّون فيه». أبو مخنف في تاريخ الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٨. يقصد عصر المختار بقوله : «في ذلك الزمان».

(٦) أشار أبو مخنف إلى سكة البريد خلال ثورة زيد حيث قال إنها كانت تمر قرب ديار أرحب وشاكر ، وعشائر همدان التي أقامت في الشمال : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٦. فهل كان يعني سكة البريد المتجهة إلى دمشق أم تلك التي وجهتها بغداد؟ أما البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٨٤ ، فيحدد موضع السكة بالكنيسة القديمة الراجعة لأم خالد القسري ، وكأن الأمر يتعلق بفتح سكة جديدة. يمكن القول إن أبا مخنف يشير إلى السكة العباسية. ثم لماذا يستخدم كثيرا عبارة «دخل الكوفة» أو «خرج من الكوفة»؟ كما ورد عند الطبري مثلا ، ج ٦ ، ٢٩ : «حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة» ، كأن الكوفة محاطة بحزام وكأن الكناسة كانت تقع خارج هذا الحزام في عصر المختار.

٢١٥

طوبوغرافيا ثريا وغامضا في آن ، يصف من خلاله ثورة المختار (١) (٦٦ ـ ٦٧ / ٦٨٥ ـ ٦٨٦) ، وثورة زيد بن علي (٢) ، إضافة إلى البلاذري في فتوح البلدان (٣) ، واليعقوبي في كتاب البلدان (٤) الذي مزج بين القديم والحديث ، وخلط بين الأخبار التاريخية والملاحظات المقتضبة. أما مخطط ماسينيون ، فإنه يورد أصلا رواية أبي مخنف بخصوص المختار ، متيحا بذلك اقتفاء أثره عبر الثنايا التي مر بها ، ودامجا أيضا عناصر اقتبسها من اليعقوبي ، وهو يخلط بين العصر الأموي والعصر العباسي. فضلا عن أنه لم يأخذ بعين الاعتبار التصور الأولي الذي وضعه سيف ، فالتبس عليه موضوع التعريف بالقبائل ، كما غابت في مخططه أسماء السكك والشوارع ، وتحددت مواقع الجبّانات تحديدا تقريبيا ، لم يبعد كثيرا عن المعقول. الحقيقة أن ضبط تخطيط دقيق للكوفة على خارطة نعتبره من الوجهة العملية أمرا مستحيلا ، أي الكوفة في العصر الأموي ، لغموض المعلومات الواردة في المصادر. على أن محاولة ماسينيون تبقى صالحة نسبيا ومفيدة. يمكن أن نحاول استكمالها وتصحيحها أيضا دون أي أمل في الوصول إلى وضع رسم ناجز نهائي يقترب ولو قليلا من المخطط النهائي الواضح.

لقد تم كل شيء وكأن الروايات استخدمت مجموعة من العلامات المكانيّة التي هي القصر والجامع والسبخة والفرات والكناسة والجبّانات الرئيسة ، لاستعراض الجو الحضري وبث الحياة في المدينة وإعادة إحيائها ، أكثر مما كانت لتوجيهنا أو إرشادنا. فإما أن يكون أبو مخنف قد ألف لأناس كانوا على معرفة جيدة بالكوفة ، فأغفل لذلك عدة أمور ، وإما أنه كان يضلّل القارىء. فوزع في نصوصه علامات طوبوغرافية على طريقة القصّاص ـ حتى يضفي مصداقية أكبر على ما يكتب. وشعورنا أن هذه العلامات نفسها كانت تتكرر دون تغيير ، في كنف الغموض دائما ، واستمر الأمر قرنا ونصف القرن ـ منذ ثورة المختار إلى ثورة ابن طباطبا (٥) (١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٨١٥ ـ ٨١٦). فترتب عن ذلك توفّر قائمة لا يستهان بها من أسماء المكان ـ ذكر ماسينيون ١٢٥ إسما (٦) ـ وتمكيننا من استكشاف ووصف الوظائف

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ١١ ـ ٦٦ وص ١٠٤ ـ ١٠٧.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ١٨٠ ـ ١٩١.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ـ ٢٨٧.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣٠٩ ـ ٣١١ : عرض (ص ٣١٠) خطط الكوفة وكأنها متأتية من خلافة عمر. لكن يسود الشعور بأنه يسقط ملاحظاته الراهنة ويوضحها أحيانا ، وقد فعل ذلك بخصوص همدان فقال عنهم تفرقوا في الكوفة.

(٥) الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٢٨ وما بعدها.

(٦).Massignon ,Art.cit.,p.٧٥ يؤكد ماسينيون أن الطبري ذكر ١٢٥ اسما في الكوفة وذكر البلاذري ٥٠ إسما ، ووردت ١٠ أسماء في كتاب الأغاني وحده. لكن ماسينيون لا يذكر كل أسماء المكان في بحثه.

٢١٦

الخاصة بالأجهزة الرئيسة في المدينة ، وتخيّل الجو الذي كان سائدا فيها ، لكن ليس تحديد مخطط محكم مفيد. ومع هذا فقد كانت هذه المدينة تطفح بالحياة في الماضي ، وهو ما يحثنا على إعادة بنائها دارا دارا وسكة سكة ، على مستوى الفكر متحدّين الزمان ومستبدلين بعلم الآثار الميداني علم الآثار المستمد من التآليف المروية. هذا ويتكون ميداننا مثل ميدان الواقع من شظايا ممزّقة وعلينا الاقتناع بالقليل.

٢١٧

ـ ١٥ ـ

المجهود المعماري في عهد زياد

٥٠ ـ ٥٣ ه‍ / ٦٧٠ ـ ٦٧٣

بناء القصر والمسجد

كشف علم الآثار عن العصر الأموي الأول الذي بدأ في أمارة زياد ، وقد تضافرت المصادر الأدبية للتأكيد على الجهود التي بذلها في مجال التمصير والتنظيم. إنما حين نتمعن في تاريخ الطبري بين سنة ٤٥ و ٥٣ / ٦٦٥ ـ ٦٧٣ (١) ، لا نجد أبدا أثرا لتشييد مسجد البصرة والكوفة ، ولا حتى أثرا لبناء القصر. لكن نجد فيه كل ما يساعد على إدراك ذلك ، بمعنى أن هناك مسعى لتأكيد السلطة وهيبة الدولة. وهنا ينبغي اعتماد كتاب فتوح البلدان للبلاذري (٢) ، والروايات القديمة التي ذكرها سيف والمتعلقة بالكوفة في بداية أمرها (٣) ، وياقوت (٤) ، حيث أشارت هذه المصادر جميعا إلى ما يتعلق بالمسجد ، مهملة القصر بصفة واضحة. حتى بخصوص الجامع ، فقد دار الحديث عن إدخال تحسينات بزيادة الأعمدة ونشر الحصى في الصحن ، والتوسيع فيه ، أكثر ممّا دار الحديث عن البناء الصلب ، ونستثني من ذلك إشارة قيمة وردت عند البلاذري : «ثم إن المغيرة بن شعبة وسّعه وبناه زياد فأحكمه وبنى دار الامارة» (٥). ولم يذكر الطبري شيئا بخصوص القصر ، ولم يقل ياقوت شيئا أيضا. وباستثناء الخبر العابر الذي جاء ذكره عند البلاذري ، فقد أيّد السياق التاريخي كله خبر إعادة بناء زياد مركّب القصر والمسجد بصفة شاملة. لقد وسع زياد بالفعل مسجد

__________________

(١) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢١٦ ـ ٢٩٠.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ ، وما بعدها ؛ المرجع نفسه ، بخصوص البصرة ، ص ٣٤١ وما بعدها.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ : تشير كل الدلائل إلى أن ذلك جرى خلال ولاية المغيرة الثانية (٤١ ـ ٤٥) كما يؤيده السياق ، لا خلال الولاية الأولى ، كما ظن ماسينيون.

٢١٨

البصرة توسيعا عظيما فبناه بالآجر والجبس ، وغطى السقف بالخشب الثمين (١). وبعد أن نقل موضع القصر من الدهناء إلى أن جعله ملاصقا للمسجد ، بناه كذلك بناء صلبا لكن باللبن فقط (٢). ولا يتحدث أي خبر موثوق به عن إعادة بناء قصر أو مسجد الكوفة بعد زياد ، واستمر الوضع كذلك حتى نهاية العصر الأموي. روى البراقي دون غيره أخبارا متأخرة وأكّد أن عبد الملك هدم القصر في سنة ٧١ ه‍. (مما يثبت أنّ القصر كان موجودا) ، وبنى قصرا آخر مكانه (٣) واعتمد في قوله على الدياربكري (٤) ، وعلى سبط ابن الجوزي (٥). تعرض الطبري (٦) والبلاذري (٧) مطولا لمقام عبد الملك في الكوفة ، ولم يذكرا ولو كلمة عن هذا الهدم الذي لا يصدق. وتؤيد الأمور الرأي القائل إن مسجد الكوفة وقصرها سواء بسواء كانا من عمل زياد ، وقد اتصفا بمظهر معماري متكامل حين شاهدهما الناس في القرن الثاني الهجري (سيف مثلا) (٨) ، إلى أن بقيا في عصر متأخر على تلك الحال ، باستثناء القصر الذي تم ترميمه في العصر العباسي. والغريب أن ابن بطوطة قدم وصفا لقاعة الصلاة بمسجد الكوفة قريبة بصفة ملفتة للنظر مما قاله سيف بن عمر فتحدث عن سقف مرتفع يقوم مباشرة على الأعمدة (٩). وعلى هذا الأساس يجب التنويه بعمل زياد ، الذي اكتسى مظهرا مكتملا وعظيما ، وهذه ظاهرة ممتازة ولا سيما أنها وجدت في عصر الإسلام المبكّر.

مسجد زياد

على الرغم من اقتضاب قول البلاذري ، فقد تضمن عناصر أساسية تخص عمل زياد هي التوسيع وبناء حجرة الصلاة ، ورفع السقف على أعمدة عالية ، وأرض مغطاة بالحصى المعير ، وتشييد المقصورة (١٠). وهكذا ، فقد تميّز مسجد الكوفة بالخاصيات الرئيسة المعروفة

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٣٤٢. وقد روى عنه ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٣٣.

(٢) المرجع نفسه ، الصفحة نفسها ، وبنى الجسر بعد ذلك خلافا لما وقع بالكوفة.

(٣) البراقي ، ص ٦٦ وما بعدها.

(٤) مات في ٩٦٦ ه‍ ، وألف تاريخ الخميس ، ج ٢ ، ص ٣٤٥.

(٥) تذكرة الخواص ؛ أشار المسعودي في مروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٣١٢ ، لا إلى تهديم القصر بل إلى الطاق الذي كان يجلس تحته عبد الملك لا غير.

(٦) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٦٢ ـ ١٦٥.

(٧) أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥٤.

(٨) تحدث سيف عن إعادة بناء المسجد من قبل زياد ، لا عن بناء القصر : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦. وقال بخصوص المسجد : «فلم يزل على ذلك حتى بني أزمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم على يدي زياد». والملاحظ أنه لم يتمكن من مشاهدة سقوف الفسيفساء المنسوبة إلى سعد ، خلافا لما قال ريتميير.Reitemeyer

(٩) رحلة ، طبعة بيروت ١٩٦٠ ، ج ١ ، ص ٢١٩ ؛ ابن جبير ، رحلة ، ص ١٨٨.

(١٠) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦. الملاحظ أن البلاذري لا يذكر ارتفاع السقوف. وإن تحدث عن جبال الأهواز

٢١٩

في المسجد الإسلامي واعتبر مع مسجد البصرة نموذجا له (١).

ذكرنا أن سيفا كان يقول بوجود مسجد مبني في ولاية سعد ومنذ البداية ، كانت سقوفه ذات فسيفساء بيزنطية ، ومحمولة على أعمدة من رخام انتزعت من أحد القصور الساسانية. فماذا فعل زياد؟ قيل إنه أعاد بناء المسجد بأعمدة وردت من الأهواز ـ «تنقر ثم تثقب ثم تحشى بالرصاص وسفافيد الحديد» ـ وقيل إنه أضاف له الأروقة (٢). وجملة القول إن الأمر تعلق هنا بتحسينات أدخلت في مخطط سعد ، بأن تمّ رفع السقف ، واستبدل بالخليط المقتبس شكلا هندسيا مبتكرا متصورا. فلم توجد في كل حال أقواس بل سقف مرتفع جدا تحمله أعمدة من حجر مغطاة بتيجان على شكل ورق الأقنثة (٣) لكنها فارسية الطابع ، وبفضلها تم رفع السقف. وبعد مدة ، تعجب ابن جبير من ذلك ، متحدثا عن خمسة أبلطة موازية للقبلة وبلاطين في كل جناح من الأجنحة الجانبية (٤). لا فائدة من الدخول في نقاش أثاره كرسويل بشأن منطلق مثل هذا التصور للمكان (٥). لا شك قطعا أن التأثير الفارسي موجود وهو يتمثل في نحت الأعمدة العالية وهي خاصية فارسية أصيلة (٦) وأيضا الزيادة في ارتفاع السقوف (مثلا الإيوان بالمدائن). لكن ينبغي التأكد من الصلة بين العنصرين في المعمار الساساني قبل الاعلان عن وجود تسلسل ما ، يعود إلى «الابدانا» (٧). وإلّا وقعنا مجدّدا في حضريّة سطحية وتحكميّة في آن.

__________________

كمصدر لحجر ـ لا رخام ـ الأعمدة ، فذلك خاص بالبصرة ، خلافا لقول سيف.

(١) هذا هو مشكل الأسبقية : هل كان البدء في البصرة أم في الكوفة؟

(٢) الطبري ج ٤ ، ص ٤٦. ورد ذكر ارتفاع ٣٠ ذراعا ـ ويحتمل أنها كانت سوداء ـ يعني أكثر من ١٥ مترا ، وكذلك المجنبات والمواخير ، وهي كلمة يعسر التدقيق في معناها في هذا المجال : راجع في هذا الموضوع الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ١٢٠. وتقديرا للتوسيع ، نذكر رقما اقترحه ياقوت في معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٩١ ، أي ما يسع ٦٠٠٠٠ شخص بدل ٤٠٠٠٠ في ولاية سعد.

(٣) استخرج عمودان بفضل الحفريات : الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ١٢٢.

(٤) رحلة ، ص ١٨٨ وما بعدها ، أكد بالخصوص على مواد البناء ونوعها وهي تتركب من حجر ، وعلى الارتفاع الاستثنائي الذي كان للأعمدة ، وغياب القباب ، راجع المقدسي أيضا : أحسن التقاسيم ، ص ١١٦ وما بعدها.

(٥) Art.» Architecture «,E.I. / ٢. ، وراجع خاصة : Early Muslin Architecture ,I ,p.٤٤.

(٦) أليست برسيبوليس هي التي تحتوي على أعلى عمود في معمار العصور القديمة : راجع Roman Ghirshman. L\'Iran des origines a ? l\'Islam, p. ٥٧١ كان التأثير الشامي الروماني في عصر الساسانيين قد تسرب إلى الزخرف وهو عبارة عن نقش على شكل الأغصان ، وأوراق الأقنثة (قصر بيشابور):.Ibid.,p.٥١٣ انظر بتوسع :.Ghirshman ,L\'Univers des Formes ,II

(٧) يعني إنكار كل تأثير فارسي ، كما فعل أحمد فكري ، التعبير عن سوء النية : الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ١٢٥.

٢٢٠