نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

لا شك أن شخصية حاضرة ما ولا سيما اختياراتها الإيديولوجية تؤثر في بنية مجالها وأكثر من ذلك في رؤية هذا المجال ، وقد أجاد ماسينيون عرض التصور الشيعي اللاحق (القرن الرابع ه / العاشر م.) للكوفة (١). لكن تصور المدينة الشيعية المتميزة بطابعها الفارسي وذات الخصوصية الكبيرة ، لا يطابق في الجملة واقع القرن الأول والثاني من الهجرة ، حيث شاركت الكوفة بقسطها في التاريخ العربي الصميم وفي صميم مشاكل الامبراطورية. فكانت مسرحا لأعظم الحركات على اختلافها وكانت نقطة تجذر فيها الفاتحون العرب الأوائل ، وبوتقة لأسلمتهم.

عند ذلك تبرز على صعيد الجغرافيا التاريخية أربعة خطوط للبحث : قضية مدنية تهمّ تنظيم المجال الداخلي ، وقضية تعمير واستيطان ، وقضية بيئة ، وأخيرا قضية وظائف الكوفة.

من الواضح أن هذه المستويات تتشابك فيما بينها ، فيكون الفصل بينها مفتعلا.

إن تاريخ الكوفة غطته فعلا كتابات كثيرة (٢). كتب ماسينيون بحثا ثريا جاء طابعه طبوغرافيا أصلا ، وهو كذلك دون شك ، لكن الأمر يكون متيسرا بصورة غير لائقة لو استرجعنا هذا البحث على علاته وتوسعنا فيه لا غير ، كما فعل الجنابي (٣). أما التعمير فإنه يفترض دراسة علاقاته بالمجال وضبطا لقائمة القبائل ، وهو يطرح مشكلا سكنيا ، مشكل التعايش الإنساني ومشكل العلائق بالتنظيم العسكري الجبائي. وفي المقام الثالث يستدعي المحيط التفكير فيه من زاوية المواصلات والاقتصاد والإطار الطبيعي وأسماء المواضع المشكّلة لدائرة الكوفة ، والحركة المزدوجة التي تدفع الكوفة نحو السواد ونحو بلاد العرب على السواء. وأخيرا فإن قضية وظائف الكوفة العسكرية والسياسية والإدارية تثير من جديد القضايا السابقة لكنها تتشكل أساسا حول الروابط بالعالم الإيراني. هذا ويواجهنا عائق التحديد الزمني وكذلك العائق التوثيقي حيثما كان (٤).

__________________

(١) op.cit.,pp.٢٥ ,٤٥ ؛ راجع أيضا بشأن مفهوم المسجد المبارك ، والمسجد الملعون : ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، ص ١٧٣ ، وخاصة البراقي ، التاريخ ، ص ٤٤ وما بعدها.

(٢) باستثناء الدراسة المعروفة لماسينيون المنقولة نقلا سيئا إلى العربية ، ينبغي ذكر كتاب الجنابي وعنوانه تخطيط مدينة الكوفة عن المصادر التاريخية والأثرية ، بغداد ١٩٦٧ ، ١٩٧ صفحة ورسوم وخرائط كثيرة. وقد اهتم صالح العلي بمنطقة الكوفة : سومر ، عدد ١٩ ، ١٩٦٥ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٥٢ ، ومجلة كلية الآداب ، عدد ٥ ، ١٩٦٢ ، ص ١٧ ـ ٤٤. وهناك أعمال أخرى كثيرة عن الحياة الاقتصادية والثقافية : راجع بحثنا ، مادة «الكوفة» ، في.E.I. / ٢

(٣) امتاز عمل الجنابي باستعراض نتائج الحفريات الأثرية التي تمت في القصر وحواليه.

(٤) المصادر مشتتة وجزئية. أما بخصوص مصادر تاريخ الكوفة فيعود الرجوع بنفع كبير ، فضلا عن بحث ماسينيون المذكور آنفا ، إلى دراسة صالح العلي : «مصادر دراسة تاريخ الكوفة في القرون الاسلامية الأولى ، في مجلة

٨١

الإطار الزمني

عمليا شيدت مدينة الكوفة على مراحل ، وأكثر المراحل بداهة بعد تحليل أولي هي : خلافة عمر (١٧ ـ ٢٣ ه‍ / ٦٣٨ ـ ٦٤٣) وولاية زياد (٥٠ ـ ٥٣ ه‍ / ٦٧٠ ـ ٦٧٢) ـ وكانتا فترتين رئيسيتين ـ وولاية خالد القسري (١٠٥ ـ ١٢٠ ه‍ / ٧٢٣ ـ ٧٣٧) ، والعصر العباسي الأول (١٣٢ ـ ١٩٧ ه‍ / ٧٤٩ ـ ٨١٣) ، والعصر العباسي الثاني وهو فترة زمنية شاسعة (١٩٧ ـ ٣٣٤ ه‍ / ٨١٣ ـ ٩٤٥). توحي دراسة المصادر المكتوبة بهذا التقسيم الزمني أنها مؤيدة تماما بما توصل إليه علم الآثار من نتائج ، فالحفريات الجدية التي جرت في القصر (١) أتاحت بلوغ مستوى أولي ، ومستوى أموي (يمتد على فترتين) ومستوى عباسي (يمتد أيضا على فترتين). والأهم من ذلك أن القصر الأموي المشيد والذي أعيد بناؤه ، يشكل إلى حد بعيد أهم عنصر في العمارة من جهة الهيكل كما من جهة المظهر (٢). فجاء علم الآثار مؤيدا للتاريخ في اصطفاء العصر الأموي عصرا أساسيا في وجود الكوفة ، ولم يكن ذلك على الصعيد المعماري فحسب ، إذ لم يقم الولاة العباسيون بغير ترميم القصر الأموي لصلاحه على وضعه القائم ، لكن أيضا لأن التغيير شمل كل شيء في الكوفة فلم يعد هناك مجال للخلق ، بل للتدعيم انطلاقا من البنية الموروثة ، إذ لم تعد الكوفة عسكريا وسياسيا ، أحد المراكز الحيوية للامبراطورية. وليس من باب الصدفة كذلك أن تكاثرت الجزئيات بالنسبة للعصر الأموي في ما لدينا من مصادر حيث كانت الأحداث متوفرة عندئذ ، وقد جدّت أمور وأمور. هذا ولا يمكن أن يكون الترابط عفويا بين ما اصطبغ به المستوى الأموي من مركزية كشف عنها علم الآثار ، وما اكتسته الأحداث التاريخية من أهمية ، وإسهاب الاخباريين في الكلام عنها. حقّا لا يستبعد أن تكون الكوفة أفادت في العصر العباسي من نماء دار الخلافة بصورة عامة وأنها امتدت في الفضاء في الوقت ذاته الذي رقت خلاله الحضارة أي إطار الحياة ، ويشهد على ذلك اتساع حقل الآثار (٣) وإشارات متفرقة إلى

__________________

المجمع العلمي العراقي ، عدد ٢٤ ، ١٩٧٤ ، ص ١٣٧ ـ ١٧١ ، لكن هذا العمل المتين المفصل أهمل المصادر الشيعية. ومن المؤسف أننا لم نتمكن مؤخرا من الاطلاع على كتاب النسب لابن الكلبي ، وتوجد منه نسختان متكاملتان في المتحف البريطاني ومكتبة الاسكوريال. وقد ذكر صالح العلي أنه لا شك في قيمته بخصوص خطط القبائل.

(١) محمد علي مصطفى «تقرير أولي عن التنقيب في الكوفة» ، مجلة سومر ، عدد ١٠ ، ١٢ ، ١٣ (١٩٥٤ ، ١٩٥٦ ، ١٩٥٧) : استخدمنا خاصة الترجمة الانجليزية بالنسبة للنتائج الحاصلة سنة ١٩٥٦ ، والتي نشرت بعنوان» Preliminary Report on the Excavations in Kufa during the third season «في مجلة سومر ، عدد ١٩ (١٩٦٣) ، ص ٣٦ ـ ٦٤.

(٢).» Preliminary Report ـ ـ ـ «,op.cit.,pp.٧٣ ,١٤ ,٧٥ والمخطّط المرقم ناطق بذاته.

(٣) الجنابي ، ص ٤١ ، ١٧٢ : كان أقصى امتداد يعادل ١٥ كم في الطول و ٩ كم في العرض.

٨٢

فساحة المدينة (١) ، ومظهر الفترة الأولى من المستوى العباسي بالضبط (٢). لكن المعلوم أيضا أن القوى الحية ـ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ـ هاجرت من الكوفة إلى بغداد (٣) وأن الكوفة وقع الحط من مركزيتها على صعيد المؤسسات (٤) ، وصار وضعها هشا بصورة متزايدة. فإذا وجد نموّ ما في الفترة العباسية فينبغي إكساؤه صفة النسبية وإدراجه في الحركة العامة للعالم الإسلامي الكلاسيكي (القرن التاسع والقرن العاشر).

وخلافا لذلك ، كان العصر الأول المتفرع إلى ثلاث فترات هي الفترات التي تولى خلالها الخلفاء الثلاثة (عمر وعثمان وعلي) يبدو بدائيا من الوجهة المعمارية ، لكن ذلك العصر كان القاعدة والأس ، ويمثله مستوى الأسس في هندسة القصر (٥). لقد رسم هذا العصر من جميع الوجوه بنية وجود الكوفة ، فخطط في خلافة عمر لهندسة المدينة واستنبط تنظيمها ، واستعمل ذلك من عدة وجوه في خلافة عثمان ، وأضفيت في خلافة علي الصيغة التاريخية ذات الدلالة الرفيعة بالنسبة للقرون التالية.

كانت الكوفة الأولى تاريخية أكثر من الكوفة الأموية التي صارت مهمشة في ما بعد ، وكانت الكوفة في العصر الأموي أكثر تاريخية منها في العصر العباسي. لكن لا شك أنه ينبغي عكس الحركة على صعيد الحضارة المادية. ومصدر الطابع المميز للعصر الأموي أنه جمع في آن عنصر الحضارة وعنصر الدلالة التاريخية. فالكوفة تشكلت عندئذ بوصفها مدينة ، وأفرزت الحدث بصورة صاخبة بصفتها موضع تاريخ ، ولذا يستدعي هذا القرن قطعا عموديا عميقا. لكن لا يمكن تناسي الإطار الزمني ، وكله انفصامات وقفزات ووثبات ، ضمن أية دراسة بنيوية ذلك أنه هو الذي يسمح بصفة خاصة بتجميع وتركيب جمهرة الأحداث التي تخترق حياة المصر.

__________________

(١) ذكر ياقوت رقم ١٦ ميلا وثلث (هل كانت أميالا مربعة؟) بالنسبة لسنة ٢٦٤ ه‍ : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢ ؛ وتحدث المستوفي القزويني بعد مدة طويلة جدا عن دائرة محيطها ٠٠٠ ، ١٨ خطوة وهذا أمر له معناه : Le Strange.op.cit.,p.٥٧.

(٢) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٣٨ ـ ٤٨.

(٣) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٤ ؛ راجع بخصوص العلماء الكثيرين الذين هاجروا من الكوفة منذ إنشاء بغداد : ابن سعد ، الطبقات ، ج ٧ ، ص ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، ٣٢٦ ، ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، الخ. وقد تشكلت أغلبية المهاجرين إلى بغداد من العلماء من أهل الكوفة.

(٤) منذ أن تولى العباسيون الحكم ، وقعت مراجعة وضع الأعمال أي الولايات. فبقي الطبري يتحدث في سنة ١٣١ ه‍. عن والي العراق : التاريخ ، ج ٧ ، ص ٤١١. ولكن في سنة ١٣٢ تعدّد الولاة : الكوفة وسوادها إلى جانب البصرة وفارس والجزيرة والموصل الخ ، كل على حدة ، ص ٤٥٨. وبداية من سنة ١٣٣ ، كان الحديث عن الكوفة ومنطقتها ، ج ٧ ، ص ٤٦٠. راجع أيضا قدامة بن جعفر ، كتاب الخراج ، ص ٣٣٤ ـ ٣٣٨.

(٥) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٦٣.

٨٣

ـ ٦ ـ

الكوفة الأولى (١٧ ـ ٢٤ ه‍ / ٦٣٨ ـ ٦٤٤)

هل كانت مجرد معسكر أم مدينة حقيقية؟

يكون انطلاقنا من نص رئيس كتبه لويس ماسينيون (١) ، واستعرض فيه مراحل التمصير معرفا إياه بأنه «الانتقال من مرحلة تجمع المعسكرات إلى مرحلة التوزيع على حارات في المدن». ثم أضاف : «من المعلوم أن الكوفة ، بعد سنة ١٧ ه‍ (ـ ٦٣٨ م) ، لم تكن خلال السنوات الخمس الأولى من إنشائها ، سوى مجرد تجمع من خصاص القصب (ـ أكواخ منطقة وهران) ، يقام بين حملتين بصورة مؤقتة (استمرت النساء في مصاحبة الرجال إلى الحرب). وأثناء ولاية المغيرة (التي امتدت من ٢٢ ه‍ إلى ٢٤ ه‍) ، ظهرت مواقع الخيام المصففة ، بصورة دائمة ، في شكل حيطان صغيرة من لبن. وبداية من سنة ٥٠ ه‍ / ٦٧٠ م) وقع أخيرا الشروع في بناء دور حقيقية من آجر ، وكان ذلك في ولاية زياد».

فالأمر واضح لا مراء في ذلك : يرى ماسينيون أنها كانت إقامة عسكرية في البداية ، غير مستقرة ، ويفسّر ضعف الاستقرار كذلك بأن الكوفيين بذلوا نشاطا واسعا في منطقة الجبال. واستقر القوم بعد معركة نهاوند تماما (٢١ ه‍ / ٦٤٢ م) ، وبذلك عوضت الخيام ببيوت من لبن. ويمكن أن تكون «المناهج» وحدها هي التي ابتنيت فحدّدت بحيطان صغيرة

__________________

(١).op.cit.,pp.٨٣ ـ ٩٣. لقد اعتمد ماسينيون ياقوتا واقترح عبارة «جدران صغيرة من لبن». لكن لا نجد لها ذكرا عند هذا المؤلف (معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١). وخلافا لذلك ، لعلّه اقتبس هذا الرأي من الشيخ علي الشرقي الذي نشر سنة ١٩٣٢ ، مقالا عنوانه «عروبة المتنبي» ، في مجلة الاعتدال الصادرة في النجف. وقد اقتطف منه البراقي نتفا ، ص ١١٧ وما بعدها. وتتفق هذه المقتطفات اتفاقا واضحا مع رأي ماسينيون على الأقل بالنسبة لهذا القسم ، مما يحمل على الاعتقاد أن ماسينيون قد اطلع عليه بالرغم من تأكيده العكس. ويمكن أيضا التساؤل في خصوص نقاط أخرى كثيرة ، فيما إذا كان ماسينيون اقتبس منه الكثير. وإلّا فإن البراقي يكون قد اقتبس عن بحث ماسينيون ، المؤرخ في ١٩٣٤ دون ذكر اسمه ، علما أن مؤلّف البراقي نشر سنة ١٩٣٨.

٨٤

من لبن ، على أنّ ماسينيون يماثلها بصفوف الخيام (١). وأخيرا ، لم تشيد الكوفة حقا إلا في العصر الأموي ، خلال ولاية زياد ، حيث استخدم الآجر المعهود في بلاد الرافدين. هذا التصور جذاب حقّا وهو تصوّر تحتل فيه لوازم البناء مكانا مهما في بلورة الكوفة وتحولها إلى مدينة ، كما أن واقع الترحال العسكري يخول إضفاء صفة المعسكر والمدينة ـ المعسكر على الكوفة. وتؤيد هذا التصور القريب من المعقول إشارة وردت لدى البلاذري وجاء فيها أن أهل البصرة ، كانوا في بداية الأمر يقلعون خصاص القصب قبل الخروج إلى القتال (٢) ، ويتحدث ابن سعد من جهته في خصوص الكوفة عن الخيام وأهل الخيام كما ورد أنّ أغلب سكان الكوفة كانوا يسكنون بيوت القصب (٣). إلّا أننا لا نعثر على أي أثر في أقدم النصوص ، نعني سيفا كما رواه الطبري (٤) ، لوصف مثل هذه الطريقة البطيئة المتسقة المتبعة في بناء الكوفة قبل ولاية زياد ، أي الكوفة كما كانت في خلافة عمر ، ولم نجد أثرا لذلك في فتوح البلدان للبلاذري (٥). وتعتمد هذه الصورة تماما على خبر عارض رواه ياقوت وانفرد بروايته (القرن السابع / القرن الثالث عشر (٦). يتحدث ياقوت بالخصوص عن خصاص من قصب كانت تقتلع في كل حملة ، حين كانت النساء ترافق المقاتلة إلى الحرب ، كما يتحدث عما سنه الوالي المغيرة بن شعبة من تغيير (دون تحديد للتاريخ ، ٢٢ ـ ٢٤ ه‍. أو ٤١ ـ ٥٠ ه‍ في خلافة معاوية؟) (٧) لكن مقولة ياقوت عن الكوفة ، ومقولته عن البصرة أيضا ، اقتبستا أغلب موادهما عن البلاذري. فما هو مصدر هذه الزيادات؟ سبق لصالح العلي أن لاحظ أن مصدر الفروق الطفيفة الموجودة بين البلاذري وياقوت بخصوص البصرة ، يتمثل في تآليف مفقودة ، منها كتاب الساجي خاصة (٨). لكن ما الرأي بشأن

__________________

(١) يتحدث ماسينيون بعد ذلك عما ذكره سيف من مناهج ورواه الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ ، وسنرى ذلك ، فيقول إنها عبارة عن صفوف من الخيام. ثم يقول : «إن القائمة الوحيدة المتوفرة بخصوص صفوف المساكن يرجع عهدها إلى الفترة الأولى. كان التصفيف ينطلق من الجامع. ويشمل خمسة عشر منهجا (يعني صفوف الخيام) كما حددها سعد للقبائل» :.Massignon.pp.٤٤ ـ ٥٤. وقد أكد الشيخ علي الشرقي الشيء نفسه ، واقتبس عنه البراقي ، ص ١١٧.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٣٤٢.

(٣) الطبقات ، ج ٦ ، ص ٦ و ٧.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠ ـ ٤٨.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ـ ٢٧٧.

(٦) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٧) يقع اختيار علي الشرقي وماسينيون على الفترة الأولى :.Massignon ,op.cit.,p.٨٣.

(٨) التنظيمات ، ص ٢٣ ؛ أعاد العلي إلى الأذهان ضمن ما ذكره من مصادر ، مرجع مذكور ، ص ١٥٠ ، أن مصدر البلاذري الرئيسي في خصوص الكوفة هو أبو مسعود الكوفي الذي لم يعثر له على ترجمة في أي كتاب ، لكن يبدو أنّه عاش في بداية القرن الثاث الهجري. ويعود الخبر الذي رواه ياقوت إلى إبن عباس ، دون سند وسيط : انظر

٨٥

الكوفة؟ لم يصل إلى علمنا شيء من ذلك. يبدو الخبر الذي أورده ياقوت دقيقا جدا ، فلا شك أنه مستمد من مصدر معين. على أنه غير مستبعد أن يكون ما تجمع من خبر عن البصرة قد أسقط على الكوفة ، وهو ما يوحي به كتاب فتوح البلدان عند الحديث عن اقتلاع الخصاص.

وما لا يقبل الجدال أن ماسينيون اعتمد نصا متأخرا ـ هو نصّ ياقوت ـ انفرد بالخبر لرسم مسار الكوفة في أول عهدها ، باستثناء ما أمكننا الإطلاع عليه من وثائق. وبدا هذا الوصف مستندا إلى تحديد زمني لم يعد ثابتا تبعا لذلك. ولنكرر ما قلنا : الثابت في كل المصادر أنه تمّ استخدام القصب ثم اللبن ، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر محل نقاش. وعلى النقيض من ذلك ، يتفق البلاذري والطبري على عدم التحدث بتاتا عن تفكك المعسكر عند بدء الحملة. ويأخذ كلاهما بعين الاعتبار التخطيط بمثابة الأمر الأساسي ، أي التصور الشامل المخطوط على الأرض ، الذي كاد يظهر بسرعة فائقة ، من أول وهلة ، مواكبا للبناء بالمواد الصلبة ، كما روى سيف بن عمر هذا الأمر.

مشكلة المراحل حسب البلاذري وسيف بن عمر :

إنّ لهذا النقاش أهميته كما هو واضح. ذلك أن الأمر يتعلق بالتحقق من وجود إرادة تمصيرية ظهرت منذ البداية ، وصدرت عن السلطة كما عن أهل الكوفة. ولنتساءل هل كانوا يشعرون بكنه مدينة جديدة ، وهل طرح على النظر مشكل الاستقرار ، في بداية الأمر؟ ويطرح أيضا مشكل الموازاة بين الكوفة والبصرة.

البلاذري :

نبدأ باعتماد البلاذري. فقد ذكر روايات سبعا ، تهمنا منها مباشرة روايتان ، الأولى مقتضبة وهي مدنية (عن الواقدي) (١) ، والثانية مطوّلة وهي عراقية بصرية (عن أبي عبيدة) وكوفية (عن هشام بن الكلبي) (٢) في آن واحد. وينسب الواقدي كل شيء إلى ما قام به

__________________

مجددا صالح أحمد العلي ، «مصادر دراسة تاريخ الكوفة في القرون الإسلامية الأولى» ، مجلّة المجمّع العلمي العراقي ، ٢٤ / ١٩٧٤ ، ص ١٣٧ ـ ١٧١.

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ؛ : Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٧٤٨. أورد كايتاني رواية الواقدي من خلال الطبري وابن الأثير ؛ راجع أيضا صالح العلي ، مرجع مذكور ، ص ١٤٧. لقد ألف الواقدي كتاب الفتوح ، وبقيت منه مقاطع : Fuat Sezgin, Geschichte des arabischen Schrifttums, Leyde, ٧٦٩١. ، الترجمة العربية ، القاهرة ، ١٩٧٧ ، ج ١ ، ص ٤٧٤ ـ ٤٧٦.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ـ ٢٧٦.

٨٦

سعد في سنة ١٧ ه‍ ، أي الاختطاط ، وتوزيع الخطط على القبائل ، وبناء المسجد.

ولا يتحدث هشام بن الكلبي ولا من روى عنهم من أهل الكوفة (١) ، عن الخيام أو خصاص القصب. وهم يلحون على العملية الأساسية الأولى المتمثلة في تحديد مجال مركزي وقع برمي السهام ، ويضم المسجد والقصر. وخلف هذا المجال المحدد بعلامات جعلته منيعا ، وهب سعد خطتين كبيرتين ، واحدة لقبائل اليمن كافة في اتجاه الشرق ، والأخرى لمضر في اتجاه الغرب. وهما تظهران بمظهر المجموعتين الموحدتين ، لكنّ الخطط وزعت على القبائل في صلب كل مجموعة (٢) ، ولم يجر الحديث عن البناء في هذه المرحلة. بل خلافا لذلك ، يحدونا الشعور أن المجال المركزي ، هو الذي يسميه غرابارGrabar ) «الفوروم» Forum ، (٣) قد وقع الإقتصار على تحديده. لكن هناك فراغا في الرّواية إذ هي تقفز إلى المغيرة وتنسب إليه توسيع المسجد ثمّ إلى زياد الذي ابتناه (٤). وتقترب هذه الرواية مما رواه ياقوت واعتمده ماسينيون ، لكنها تفترض فكرة التخطيط الفوري النهائي ، مع أنها لم تتحدث عن بناء المسجد قبل ذلك ، حتّى ولو كان باللبن. وتشير هذه الرواية إلى دور المغيرة ، وقد أكّدت على هذا الدور كذلك رواية ثالثة أوردها البلاذري (عن المدائني) ، فنسب إليه صراحة فضل بناء المسجد الذي لم يعمل زياد إلا على توسيعه. علما بأن المسجد هو ما يضفي الطابع العمراني على المدينة ، فإنه يمكن أن نستنتج من ذلك أن البناء بالمواد الصلبة ظهر في ولاية المغيرة. لكن هاتين الرّوايتين الأخيرتين توحيان بأن العمل كان منقوصا ، إذ كيف كان المسجد والقصر في ولاية سعد؟ يصعب الإعتقاد أن الأمر يتعلق بمجرد مجال خال. لقد روى البلاذري نفسه أخبارا أخرى (٥) ذكرت ما أحدثه محمد بن مسلمة بالكوفة ، وقد أرسله عمر لإحراق بوابة القصر الخشبي الشامخة التي كان الوالي يحتجب خلفها عن الرعية. فهل كان قصرا مبنيا من قصب وكان بابه من خشب؟ (٦). لا نرجع ذلك ، وإلّا كان علينا رفض الرواية

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ يستعمل عبارة «منذ أبيه (محمد) ومشايخ الكوفة».

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ : من المعلوم أن ياقوتا أورد في معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١ ، هذه الرواية وسنرى أن هذا التسكين لليمنية شرقا والمضرية غربا ، لا يطابق التصور الخاص بالاستقرار الأول كما وصفه سيف ، ولا بالمتضمنات الأرضية لروايات الثورات التي جدت في القرن الأول الهجري. ويمكن على النقيض من ذلك ترجمة هذا الاستقطاب الثنائي عن وضع جديد نشأ في العصر العباسي حوالى عام ٢٠٠ ه‍ : راجع اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١ ، وقد ورد فيه تحديد لموقع مضر إلى الغرب ، ضمن تحركات القبائل. ولم يرو الرواية الثانية الكلبي وحسب ، بل أبو عبيدة معمر بن المثنّى أيضا :.Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٧٤٨

(٣) عند لابيدوس ،. Lapidus, Middle Eastern Cities, Berkeley and Los Angeles, ٩٦٩١, p. ٤٣

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٧٧. هذا خبر جدي سنده يعود إلى أبي مخنف وهشام الكلبي.

(٦) هذا ما أكده بوضوح الخبر الذي رواه أبو مخنف.

٨٧

القائلة بأن سعدا بنى باللبن ، وقد أيد سيف بشدة هذه الرواية (١) ، وكذلك الواقدي (٢) ، واليعقوبي (٣).

وفيما كانت الروايات التاريخية العربية واضحة بالنسبة للبصرة ، في خصوص استخدام القصب لبناء حجرة الصلاة والقصر في المرحلة الأولى (٤) ، فإنّا لا نجد ما يقابل هذا بالنسبة للكوفة. ولعل ذلك لا يرجع إلى قضية التوثيق وحسب ، بل إلى ما أحاط بنشوء المدينتين من ظروف متنوعة سوف نعود إليها.

سيف بن عمر :

يتوفر لدينا نص وحيد مفصل بخصوص بداية التخطيط (٥). يحدد هذا النص بوضوح المراحل ويؤرخها خلال سنة ١٧ ، مضيفا بعض العلامات الزمنية (٦). ويستعرض بمزيد من الوضوح القبائل المستقرة ومواقعها ، وذلك ثمين بالنسبة لكل دراسة تخص الجغرافيا القبلية. إلا أنه يتبين بعد قراءة النصوص التي تروي الأحداث السياسية اللاحقة (٧) ، أن توزيعه الطوبوغرافي للقبائل أصح من الروايات التي أقرت المضرية غربا واليمنية شرقا. الحقيقة أن قيمة سيف في هذا الباب جيدة كما نعلم. يبقى أن أخباره المليئة بالمعلومات توحي بضعفها من الوجهة الزمنية. وهو ما لا يفيد في حل مشكل المراحل. ذلك أنه يتحول تحولا غير معقول من ولاية سعد إلى ولاية زياد (٨). وتجري الأمور كما لو أراد سيف تقديم صورة متقصاة لنشأة الكوفة وتطورها ، متجاوزا مجرد الإطار الزمني المحدد إلى عام ١٧ ، فتجاوز بذلك صيغة الحولية التاريخية (٩). لكن ما يقوله عن بناء المسجد في ولاية زياد يشبه كثيرا ما يقوله عن ذلك في ولاية سعد (١٠). يحتفظ نص الطبري بثرائه الإخباري

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧ : التبكير بالعمل لا يستثني وجود مرحلة أولى ، قصيرة حسب سيف ، حيث كان البناء من قصب ، لكن هل كان القصر أيضا من قصب؟

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥ ؛ Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٧٤٨

(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٤) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٤١ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٣٢ ؛ صالح العلي «خطط البصرة» ، في سومر العدد ٨ ، ١٩٥٢ ، ص ٧٢.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠ ـ ٤٨. نقدم المرجع لهذا النص في طبعةLeyde ، ج ١ ، ص ٢٤٨٢ ـ ٢٤٩٥ ، حيث أنه يكتسي مزيدا من الأهمية ومكانا في ثنايا دراستنا.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٢ و ٤٤.

(٧) ثورة حجر بن عدي : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٥٣ ـ ٢٨٦ ؛ ثورة المختار : الطبري ، ج ٦ ، ص ٧ ـ ١١٦ ؛ ثورة شبيب : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢٤ ؛ ثورة زيد بن علي : الطبري ، ج ١ ، ص ١٦٠ ـ ١٧٣ و ١٨٠ ـ ١٩١.

(٨) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٦.

(٩) يتضمن تحليل كايتاني عمليا ، نصّ سيف بتمامه :.Caetani ,Annali ,III ,٢ ,pp.٣٥٨ ـ ٣٦٨

(١٠) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ و ٤٦.

٨٨

الاستثنائي بعد إبداء هذه الاحترازات ، وعلينا أن نعتمده من جميع الوجوه. ولنستعرض الأحداث في تسلسلها. فحالما استقر أهل الكوفة ، طلبوا من عمر الإذن في البناء بالقصب.

لم يرفض عمر ذلك مع أنه كان يفضل البقاء بالمعسكرات ، ولا شك أنه كان يؤيد نصب الخيام (١). ثم شب حريق في شهر شوال ، فقضى على كل شيء ، وحصل ذلك بعد عشرة أشهر من استقرار العرب (في محرم). وطالب أهل الكوفة عندئذ بأن يؤذن لهم في البناء الصلب ، يعني باللبن. فكان ذلك منطلق التخطيط ، أي أن التخطيط تزامن مع قرار البناء باللبن. إن نصّ سيف واضح كل الوضوح في هذا الشأن.

الرواية الأولى :

«فبعث سعد منهم نفرا إلى عمر يستأذنون في البناء باللبن فقدموا عليه بالخبر عن الحريق وما بلغ منهم وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلا وآمروه فيه فقال افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان ...» (٢).

الرواية الثانية :

«لّما أجمعوا على أن يضعوا بنيان الكوفة أرسل سعد إلى أبي الهياج فأخبره بكتاب عمر في الطرق أنه أمر بالمناهج أربعين ذراعا وما يليها ثلاثين ذراعا وما بين ذلك عشرين وبالأزقة سبع أذرع ...» (٣).

ثم يبدأ الوصف المفصل للأجهزة الأساسية المقامة ، والخطط القبلية ، والسكك ، طبق ترتيب دقيق. فتم في آن التخطيط والتمصير في الجملة. ولقد تحدد الفضاء المركزي (Temenos ـ) بالخصوص في هذا الوقت بالذات الذي يلي تخطيط المسجد : «فأوّل شيء خطّ بالكوفة وبني حين عزموا على البناء المسجد» (٤).

ويستنتج من نص سيف أنه :

أ) في فترة أولى دامت عشرة أشهر وهي فترة التنزيل ، برزت إلى الوجود بصفة

__________________

(١) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٣.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٤ : يمكن أن نستنتج أن بيوت الكوفة العادية لم تتجاوز ثلاث حجرات في القرن الأول ه. ويندر أن تكون بيوت ذات طوابق.

(٣) تابع للخبر الأول بالاسناد ذاته : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤. لاWellhausen في Skizzen ,VI ,p.٥٥١ ، ولاCaetani في Annali ,III ,٢ ,p.٧٥٨. ، ولاCreswell في Early Muslim Architecture ,I ,pp.٨١ ff ، لا أحد منهم أدرك الصلة بين قرار البناء بالصلب وتخطيط المدينة. فأخطأوا جميعا في مدلول الأشغال الأولى التي تحددت بفضلها مساحة مركزية لم يكن المسجد إلّا مركزها هي ، فاعتقدوا أنّ المناهج الفاصلة للخطط القبلية تنطلق من المسجد. لعلّ الوحيد الذي اشتمّ مثل هذا الاحتمال هو ريتميير (Reitemeyer ,op.cit.,pp.١٢ ,٢٣) ، لكنّه يرى أنّ مخطّط سيف يعبر عن هندسة معمارية من الصنف العباسي :.op.cit.,p.٥٣.

٨٩

فوضوية وبدون تخطيط مسبق نواة مدينة ثابتة ومبنية ، بيوتها من قصب ، وهي متميزة عن المعسكر العادي لكنها لا تبتعد عنه كثيرا.

ب) الرغبة في البناء الصلب ، أي في إنشاء مدينة حقيقية ، ظهرت بقوة وكانت سببا في كافة العمليات التي تؤدي إلى تحقيق هذا المشروع ، مشروع (التخطيط) بالذات. ولم يتم البناء على الأرجح إذن ، انطلاقا من مجال وقع توزيعه وتقسيمه وتم فصله إلى أجزائه المتنوعة ، بل إن البناء هو الذي يكون فرض تحديد هذا المجال.

ولا شك أن سيفا يعرض علينا في هذا المقام مثلا تمصيريا إراديا ، عقلانيا ، سريعا بصورة عجيبة ، مبتعدا عن التصور الذي اعتمده ماسينيون والذي مفاده أن المدينة نشأت نشوء بطيئا ، وهو تصوّر لا يتفق كذلك والأخبار التي رواها البلاذري فيما يخص وجود تخطيط تلاه البناء في مرحلة لاحقة.

الواقع أن علم الآثار يقدم لنا يد المساعدة في هذا المجال ، شواهده تؤكد على وجود قصر شيد تشييدا صلبا في الفترة الأولى (١). فمن بنى هذا القصر؟ هل بناه سعد أو المغيرة؟ هل بني بعد ولايتهما؟. (٢) لا يمكننا الفصل في هذا الأمر. لكن ذلك دليل على وجود مركز أثري قبل العصر الأموي. ويتبين من قراءة المصادر الكتابية وجود عدة أصناف من مواد البناء في اللحظة التاريخية الواحدة. فقد ظهرت في آن واحد وتعايشت في فترة متأخرة جدا من العصر الأموي ، خصاص القصب ، ومساكن من لبن ، وبناءات من آجر (٣) ، لأن مرحلة معينة لا تمحو المرحلة التي سبقتها.

ما من شك في أن التردد ساد في بداية الأمر ، كما أن الاستقرار استتب بصفة فوضوية. على أنّ هذه المرحلة لم تكن لتدوم طويلا ومن المؤكد على كلّ حال أنها لم تدم خمس سنوات (تلك التي ارتآها ماسينيون). ظهرت في الأوّل الخصاص عفويا على وجه أرض

__________________

(١) مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٧٣ : يحدد المؤلف المستوى الأول من الحفريات بدار الامارة التي بناها سعد أو بمبنى قبل إسلامي.

(٢) بني المستوى الأول السابق للعصر الأموي بالآجر ، ولا أثر للزخرفة فيه : محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٦١. وبذلك يؤيد علم الآثار أقوال سيف الذي روى أن روزبه بنى دارا لسعد هي «قصر الكوفة اليوم» ، مستخدما آجر القصور الساسانية في الحيرة : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٣) لو تبعنا حرفيا نص سيف بن عمر حيث التخطيط مرهون بالبناء باللّبن ، لقلنا أنّ أغلب مساكن الكوفة كانت من لبن إبان التخطيط ، وليس من شكّ في أن دور الأشراف كانت كذلك زمن زياد : على أن ابن سعد ، طبقات ، ج ٦ ، ص ٢٣٨ ، يؤكد «أن عامة الكوفة يومئذ لخصائص» يعني زمن علي بن أبي طالب. ورد في تاريخ الطبري وفي خصوص ثورة ابن المهلب بالبصرة ، ج ٦ ، ص ٥٩٤ ، إن دار الحسن البصري كانت من «خصّ القصب». وهذا يثير تساؤلات محيرة.

٩٠

الكوفة ، معبّرة عن الرغبة الجامحة في الاستقرار عليها ، فشكلت ما يشبه القرية العظيمة. وجاء دور التخطيط والتمصير سريعا جدا بإشراف سعد ـ هذا أمر ثابت لدينا ـ لكن ربما بصفة مستقلة عن المادة البنائية المستخدمة. فانتصب على الأرض شكل لمدينة مقبلة قادرة على حمل وجود إسلامي جماعي (وهذا هو المعنى الصحيح لكلمة مصرّ) وجود دائم مدني وحضري. لعل القصب كان المادة المهيمنة في ولاية سعد ، باستثناء المسجد والقصر ، خلافا لما قاله سيف ، وأن المغيرة هو الذي أدخل اللبن (١). لكن ليس هذا أمرا ثابتا ، فضلا عن أن تغيير المواد لو وقع زمن المغيرة ، لدخل على بنية مدينة سابقة الوجود فلم يكن له أن يغير من تنظيم المجال الداخلي ، وكذلك كان الأمر في عهد زياد بعد ذلك. كانت نية التمصير حاضرة منذ البداية ، وكذلك الجانب الإرادي في ظهور مدينة الكوفة. هذا ما سنحتفظ به أساسا من النص المهم جدا المنسوب إلى سيف بن عمر.

__________________

(١) هذا كما بينا رأي ماسينيون والشيخ علي الشرقي. ولا يعتمد إلّا نص ياقوت الذي حللناه سابقا ، وتاليا ، يظل الشكّ قائما.

٩١

ـ ٧ ـ

بنية المجال الداخلي :

المدار المركزي

يورد سيف بالذات تفاصيل ممتازة عن المخطط المدني الأولي الذي ستتقيد به بنية الحاضرة المقبلة وطوبوغرافيتها. يتشكل مجال الكوفة الأولى من عناصر ثلاثة : مساحة مركزية كبرى سياسية ودينية تشمل المسجد والقصر ، وهي عبارة عن مكان القيادة وتجمّع الناس ، ثم تأتي الخطط القبلية للسكن ، وهي تشع انطلاقا من هذه النواة المحددة من أعلى قسرا ، والمحصورة ، والمرسومة بمثابة المجال المقدس ، ثالثا : هناك عنصر للفصل والمرور في آن ، وهي المناهج التي تمكن من تفريد الخطط القبلية وجمع المقاتلة في أسرع وقت داخل المجال المركزي الكبير. ومن المناسب قطعا أن نتساءل عن أصل هذا التصور ودلالته أيضا. لكن ينبغي قبل ذلك تقرير وجوده وواقعه تقريرا حازما. ذلك أن سيفا خلف لنا نصا صعبا ، كثيرا ما أسيئت قراءته ووقع التسرع في استيعابه.

المجال المركزي :

وعلى هذا فإن قراءة مستعجلة أدت (١) وتؤدي إلى حملنا على الظن أن هناك تخطيطا أولا للمسجد أنجز برمي السهام ، وأن شوارع مستقيمة انطلقت من المسجد ، وأن هذه الشوارع كانت بمثابة صفوف للخيام (٢) ، بمعنى أنها كانت الخطط القبلية ذاتها.

أما القصر ، فلعله كان يقع (من ذا الذي حدد موقعه؟ كيف؟) إلى الجنوب الشرقي من المسجد. وقد ذهب الأمر بكرسويل Creswell إلى أن استنتج أن رمية السهم تساوي ما

__________________

(١) Creswell, Early Muslim Architecture, I, pp. ٨١ ff.; Welhausen, Skizzen, VI, p. ٥٥١ ، وبحثه» Architecture «في.E.١ / ٢ وقد جاراه الجنابي في رأيه دون نقاش : مرجع مذكور ، ص ١٢٤ ـ ١٢٧ ، أو ناقشه بالأحرى نقاشا متضاربا. يرى هذا المؤلف أنه لا وجود لفتحات أربع جنوب المسجد ، حيث أن علم الحفريات لم يؤكد سوى فتحة واحدة. لكنه استمر يعتقد أنها فتحات بجدران المسجد. ونقل (ص ١٢٨) رسما لفكري به فتحة في الشمال ، وأخرى في الجنوب ، وثلاث فتحات في الشرق والغرب ، فكان مجرد تصحيح لرسم كرسويل.

(٢) Massignon ، انظر ما سبق.

٩٢

يقرب من ٥٥ مترا ، في حين أنه من المعلوم تمام العلم أن كل ضلع من الأضلاع التي يشكلها المسجد ، كان يساوي قرابة ١١٠ من الأمتار. ثم أضاف قائلا : إن نقاط انطلاق المناهج كانت تشكل الأبواب وفتحات المسجد (١). ولم يصل أي باحث إلى استنتاج فكرة المساحة المركزية التي قصدها المخططون العرب ، وأيضا الوظيفة الثلاثية للعناصر المدنية بالكوفة الذي كان مخططها موحدا. وتبدو الفكرة الأولى حاسمة إذا أمعنا النظر في نص سيف الوارد عند الطبري (٢).

ـ تحدد موقع المسجد في مرحلة أولى. كيف؟ لم يصلنا من أمره شيء. لكن ذلك لم يتحقق بواسطة رمية السهام قطعا.

ـ ثم جرى استدعاء الرامي في المرحلة الثانية فقط ، وهو رام قوي «شديد النزع» ، كما يقول سيف. ولعله انتدب من بين أساورة القادسية. ويطرح لا محالة في هذا الموضوع مشكل فيما إذا كان هذا فعلا شعائريا ، أو كان تقنية لإنشاء الحواضر ، وفيما إذا كان من أصل عربي أو ساساني (الأحرى أنه كان ساسانيا). وقف الرامي في وسط المسجد المحدد شرعا ، وأطلق القوس في اتجاهات أربعة مطابقة تقريبا للجهات الجغرافية الأربع (٣). إلا أن القبلة وهي إلى الجنوب الغربي تعتبر المرجع الأول.

وبذلك تحددت مساحة مربعة الشكل ضلعها غلوتان ـ وهو المصطلح الصريح الذي إعتمده سيف والطبري ـ وتعني الغلوة «مسافة رمية السهم» (٤). وقد أصبحت قياسا يعادل ٢٥ / ١ من الفرسخ ، أي ٢٤٠ مترا (٥). فيكون ضلع المربع مساويا بذلك ٤٨٠ مترا ، أي ما يقرب من نصف كلم ، وتساوي مساحته ٢٣٠٤٠٠ متر مربع ، أي ٤ ، ٢٣ هكتارا بالضبط. هذا مجال مهم كما نرى. ومن المعلوم أن مساحة مدينة أور كانت تساوي مائة هكتار ، وأن بابل في عصر هيرودوتس كانت على شكل مربع ضلعه يساوي ١٢٠ غلوة (بابلية) (٦) (أي أكثر من ٢٣ كلم) وهو مقدار عظيم لا يمكن مقارنته إلا بأبعاد سامراء. على

__________________

(١) Creswell ,» Architecture «,E.I. / ٢.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤. الجملة هي : «وترك المسجد في مربّعة غلوة من كل جوانبه».

(٤) ابن منظور ، لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٣٢ وهو يعادل ٢٥ غلوة بفرسخ.

(٥) يساوي الفرسخ ٣ أميال ، أي ٥٩٨٥ مترا. بذلك تساوي الغلوة ٢٤٠ مترا. راجع مادة «فرسخ» (Parasange) في E.I / ٢ ، بقلم W.Hinz ؛ راجع أيضا كتابه : Islamische Masse und gewichte, Leyde,. ٥٥٩١, pp. ٢٦ ـ ٣٦

(٦) الملاحظ أن «ستاد» هيرودوتس لم يكن «الستاد» الأتّيكي بل البابلي ، أي ما يعادل ٩٨ مترا. : Stade غلوة ، ملعب المدرج.

٩٣

أن ضلع معبدها وهو عنصر مركزي ، كان قياسه غلوتين (قرابة ٤٠٠ متر). أما مساحة ميسان Myce ? nes ، فكانت خمسة هكتارات.

إن هذا الفضاء الواسع الذي خلف القلعة القديمة لبلاد الرافدين ، سيشمل المسجد ذاته ، وقصر الوالي ، والأسواق ، وخصص خلاء لساحة كبرى استخدمت للاجتماعات وعرفت بالميدان أو الرحبة. فلا عجب إن كان لهذا المجال مثل هذه الأبعاد ، ولا سيما أن أفراد الطبقة الارستقراطية تمكنوا من قضمه بعد ذلك ، مع العلم أنه صح العزم على أن يبقى خارج كل نية تروم بناء المساكن الخاصة.

من أول نظرة يبدو نص سيف مبهما ومغلطا ، لكنه صريح في كل ما سبق قوله. إذ لم تكن هناك حاجة إلى أن ترسم أولا الخطوط الأولية لمحيط المسجد ، إذا وجب بعد ذلك دعوة الرامي الماهر لتحديد المسجد ذاته.

يقول سيف :

«فأول شيء خطّ بالكوفة وبني حين عزموا على بناء المسجد ، فوضع في موضع أصحاب الصابون والتمّارين من السوق فاختطوه. ثم قام رجل في وسطه رام شديد النزع فرمى عن يمينه فأمر من شاء أن يبني وراء موقع ذلك السهم ورمى من بين يديه ومن خلفه وأمر من شاء أن يبني وراء موقع السهمين» (١).

وهذه الآن الجملة الحاسمة : «وترك المسجد في مربعة غلوة من كل جوانبه». إنها جملة غامضة في تركيبها. لكنها واضحة بما يكفي لاستخلاص الاستنتاجات الآتية :

أ) لا يدل لفظ مسجد على فضاء ما ، بل على الجهاز الديني المعروف (٢).

ب) أقحم هذا المسجد المربع الشكل في محيط مربع أيضا أوسع منه ، تحددت أبعاده بالغلوة فعلا. هذا وإن رمية السهم تفصل مركز المسجد عن أقصى نقطة في المحيط ، مع وجوب مضاعفة ضلع المحيط. وهو ما يدل عليه معنى الجملة التي ذكرها : «فترك المسجد في مربعة غلوة من كل جوانبه» (٣). ما هو الاسم الذي سمى به المؤلف هذه المساحة المركزية ، إذا كان علينا أن نفهم كلمة مسجد في خصوصيتها الدينية الضيقة؟ استخدم لذلك كلمة صحن عدة مرات بعد ذلك ، علما أنه لا ينبغي فهمها بالمعنى المتأخر أي أنها ساحة مكشوفة

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٢) ذلك ما أدركه Grabar جيدا ، خلافا لما أبداه لامنس من رأي : Lammens ,Middle Eastern Cities ,.p.٢٣. ولا سيما ماسينيون ؛.Massignon ,op.cit.,p.٢٥.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

٩٤

في المساجد ، تقابل بيت الصلاة المغطّى (ظلّة) ، بل يجب فهمها بمعناها الأول المرادف للفناء أي للساحة المركزية بأرض منبسطة. عرّف «لسان العرب» الكلمة بمعناها المتأخر (وتعني حرفيا ساحة ، صحن لمركز البيت) ، وأورد التعريف الآتي (١) :

«المستوي من الأرض مثل عرصة المربد ، صحن».

والملاحظ أن اعتماد مربد البصرة يبدو مرجعا رئيسا ، وهو المجال الكبير المستخدم كسوق للدواب ، وكملتقى للشعراء ، وهو ما يقابل الكناسة في الكوفة. ولنلاحظ أيضا أن مفاهيم الفلاة ، والأرض المنبسطة ، والمركز بالخصوص والتي نجدها عند ابن منظور للتعريف بالصحن ، تعبّر بصورة عجيبة عن الجوانب المتنوعة للمساحة المركزية ، الموجودة فعلا في أرض منبسطة كما في مجال صحراوي.

وقد أحيط هذا الصحن بخندق (٢) فورا ، لكي لا يقع اقتحامه ببناية ما ، وبذلك يكاد يكتسي مناعة مقدسة ، ينبغي التساؤل عن كنهها. ومن هذا الصحن بالذات ـ وهي الكلمة التي اعتمدها سيف ـ تشع المناهج الخمسة عشر. وقد تحدد مفهوم الصحن بوضوح أخيرا ، فكان يشمل المسجد والقصر والأسواق :

«فكان الصحن على حاله زمان عمر كله لا تطمع فيه القبائل ليس فيه إلا المسجد والقصر والأسواق في غير بنيان ولا اعلام» (٣).

إن إقامة هذه المساحة المركزية كمركز للسلطة والدين ، وللتجارة بصفة ثانوية ، لدليل على وجود نية تمدنية واضحة عند الحكام العرب ، لكنها تدل أيضا على وجود خط متصل يرجع إلى العصور السالفة ، فيما يخص تاريخ إنشاء الحواضر. إن لويس ممفورد (٤) محق في رأيه حين يقول : «إن المعسكر المحصن (يعني القصر) ، والمعبد داخل موقع يفصله حد مقدس عن الدنيا ، يشكل سمة مميزة لإنشاء مدينة من المدن». هذا ولا يمكن القول ، ونحن نتكلم على الكوفة تحديدا ، إن حدود المساحة تكتسي طابعا مقدسا ، لأن الأمر يتعلق بمجرد منع سلطاني للبناء الخاص.

عموما كان هذا المكان يتّخذ شكل القلعة المحصّنة أو المدينة ـ الحصن في التقليد المديني ماضيا ـ وتبرز هذه الظاهرة عند العراقيين القدامى بتواتر أكبر ممّا عند المصريين (٥)

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٢٤٤.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٤) Lewis Mumford, La Cite ? a ? travers l\'histoire, Paris, ٤٦٩١, p. ٣٥.

(٥) Ibid.,pp.٦٠١ ـ ٩٠١.

٩٥

وعند الرومان ممّا عند اليونان. هنا ، لا هذه المساحة ولا الكوفة بمجملها حتى عهد المنصور (١٥٥ ه‍ / ٧٧٢) لم تحاطا بأسوار ، على أن الجامع والقصر حصّنا في الفترة الأموية. لكن المرء يميل إلى أن يجد في الطقوسية التي واكبت نشأة الكوفة وفي الوظيفة الثلاثية للمركز وأخيرا في رمزية التفرقة بينه وبين المدينة الأهلية ، أقدم التصورات للنواة السياسية ـ الدينية التي عرفتها الإنسانية ولبقايا شكلية ملفتة للنظر.

لقد كان لمكّة مركزها وهو الحرم المحتوي على الكعبة. وكانت له حدود (الانصاب) لا يمكن خرقها بل أضيفت عليها صفة القداسة والتحريم وقد جدّدها عمر وثبتها في مكانها. ومن جهة أخرى الطقوسية التي حفّت بامتلاك موقع الكوفة (التنزيل) والتي تجسدت في تلاوة كلمات قدسية ذات طابع جاهلي ، نجدها منسوبة إلى النبي عندما حلّ بقباء وأصلها العربي واضح. لذا يمكن أن نعتبر أن العرب قبل الإسلام كانوا متملكين للأساليب الأساسية المعهودة بزمانهم التي بفضلها تؤسس المدن ، وهي مفهوم المجال المقدس ومفهوم المعبد (ـ المسجد) وعملية التخطيط والطقوسية الملائمة. إن هذه الأساليب العتيقة شاعت في كل العالم القديم. ولنضرب أمثلة عن مقدرة النماذج المدنية في التنقل والانبثاث من مناخ حضاري إلى آخر. لقد قيل إن العمارات ذات الطوابق من خاصيات النموذج الهلنستي بينما نجدها في بابل كما وصفها هيرودوتس ولربما استلف منها هذا الشكل المعماري ثم وقع استرجاعه من طرف الشرق. إن روما القديمة عرفت البوميريوم ـ pomerium وهو المجال المقدس الذي حجّر عليه البناء (١) ، أما الفوروم forum ـ المركزي فهو إلى حد بعيد مماثل للآغوراagora ـ التي تعتبر عنصرا معماريا منبثقا عن الحضارة اليونانية الآسيوية وعن مدرسة ميلي Milet بالتحديد (٢). ولا بدّ أن يكون النموذج الهلنستي قد أشاع البعض من مكوناته في الشرق القديم الخاضع للفرس آنذاك ، وكذلك فإن النموذج الروماني ، وهو الآخذ عن تقليده الذاتي العتيق وعن الاشكال الهلنستية في آن ، قد انبثّ في العالم الروماني وبث بطبيعة الحال هذه الأشكال (٣).

سيكون لنا رجوع إلى مشكلة التأثيرات على التصور الأولي للكوفة بمجملها ، لكن في خصوص المساحة المركزية الكوفية يبدو لنا أن صيغة معممة ومعمول بها قد وجدت في كل مكان للتأسيس الإرادي للمدينة ، وأنها تبتدىء بتحديد المجال المركزي العمومي (٤) ، سواء

__________________

(١) Ibid.,pp.٧٦٢.

(٢) Roland Martin, Recherches sur l\'agora grecque, Paris, ١٥٩١.

(٣) في خصوص التأثير اليوناني والرّوماني على الفرس في مجال المعمار ، انظر : Ghirshman, L\'Iran des origines a ?. l\'Islam, p. ٩٠٣.

(٤) Oppenheim ,pp.٦٤١ ـ ٧٤١ ;Mumford ,p.٧٦٢.

٩٦

كان قلعة أم لا. وهذا التقليد لا يمكن أن يقال عنه إنه بابلي أو هلنستي أو روماني أو ساساني ، إلا أن العرب استبطنوه قبل الإسلام وزاد استيعابهم له بعد أربع سنوات قضوها بالعراق ، منها سنة بالمدائن نفسها.

لكن المدائن كانت حاضرة مشيّدة ، فلا تقدر على أن تكون أنموذجا في هذه المرحلة الأصلية ، على أرض خلاء. فإذا كان المشيدون الفرس الساسانيون كروزبه (١) حاضرين ، فلا يوجد سبب لاستبعاد حضور خبراء في التمصير معهم. والأهم من ذلك هو الدور الذي قام به بعض أشراف الحيرة في هذه المرحلة الأولى من ظهور الكوفة. فقد روى أن ما قدموه من نصائح كان حاسما لاختيار الموقع (٢). وكما تأكد في علم الآثار ، وخلافا لما ورد في المصادر الكتابية ، فإذا صح أن المواد والتأثير المعماري الذي جاء من الحيرة ، كان قليل الأهمية ، فإن البذل الحيري كان مهما على صعيد التصور المعماري. وهو ما يمكن أن نسميه اللحظة الحيرية في تاريخ الكوفة (٣). كان التصور الأولي عربيا إذا وتغذى بالزاد العربي الأولي كما تغذى بالتقاليد التمدينية القديمة الغامضة التي تسربت من قبل إلى شبه الجزيرة. ووجد أيضا وعلى الأرجح تأثير فارسي ، وهو يتلون بلون غرب بلاد الرافدين ، بمعنى أن بابل أثرت فيه. وكان للحيرة أخيرا دور الوسيط فنقلت نظرة معمارية مزدوجة تركبت من عناصر هلنستية وفارسية ومن بلاد الرافدين وعناصر عربية (٤). مما لا مراء فيه أن كل هذه العوامل مع إضافة التأثير اليمني (٥) ، تضافرت لتنير سبيل المنشئين وتزودهم قبل كل شيء بصورة المساحة المركزية. هذا وإن الظروف الموضوعية التي كان يعيشها المهاجرون العرب يسرت الأمور. كانوا يمتلكون دولة عسكرية مركزية كانت تستلزم وجود مجال للقيادة ، ومكان لممارسة السلطة ، وهو أمر لم يكن معمولا به في مكة خلال العصر الجاهلي. وهم أيضا مكتسبون لدين ، كان جوهريا لوجودهم كأمة ، وهو يدخل في علاقة شبه عضوية بالقيادة السياسية العسكرية. لكن ، بما ان الإسلام حظر الخلط بين التجارة والصلاة ، فلن يكون المسجد معبدا متاجرا ، حسب التقليد العتيق ، وستتميز عنه السوق على الرغم من وقوعها في المركز (٦). وهكذا ندرك المستقبل الذي كان يترقب هذه البنية الثلاثية للنواة المدنية ، التي

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥ ؛.Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٠٦٨.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.

(٣) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٤٥.

(٤) راجع في خصوص الحيرة صالح أحمد العلي ، مرجع مذكور ، ص ٢٨ ـ ٤٤.

(٥) راجع بحثنا بعنوان» Les Yamanites a ? Kufa au ١ er sie ? cle de l\'Hegire «في : JESHO ,XIX ,٢ ,٦٧٩١ ,.p.٧٧١.

(٦) Wirth,» Zum Problem des Bazars) suq, carsi («, Der Islam, ١٥) ٤٧٩١ (, pp. ٣٠٢ ـ ٠٦٢, et ٢٥) ٥٧٩١ (, pp. ٦ ـ ٦٤.

٩٧

ستحدد مورفولوجيا المدينة الاسلامية العتيدة بأكملها.

المسجد الأصلي :

لا فائدة من التذكير بالمناقشات التي دارت بين المستشرقين والمؤرخين المسلمين بخصوص فكرة المسجد ، طالما كانت المواقف مطبوعة هنا وهناك بالعجز عن استقراء النصوص وإمعان النظر فيها. أما في العصر الحديث ، فقد اهتم غرابار بقضية مولد المسجد الاسلامي وتطوره (١). وقد يعاب على غرابار أيضا ، أن بحثه عن «نمط مثالي» ، جعله يتنقل دون حرج وبنوع من الخفة ، من القرآن إلى ابن خلدون. إن أقواله يمكن أن تعتبر في آن صحيحة وخاطئة ، من وجهة دراستنا المونوغرافية ، كما من وجهة المنطق التاريخي المجرد ، من جهة أخرى. فمن البديهي أن القرآن يماثل بين فكرة المسجد وفكرة المعبد ، لأن المعبد كان المرجع العالمي في ذلك العصر. لكن ما لا يقل بداهة أن الإسلام الذي عرّف بنفسه كدين جديد ، لم يكن له منذ البداية ، إلا أن يضفي على «المعبد» الاسلامي خصوصيته الاكثر صرامة. ويتحدث غرابار من جهة أخرى (٢) عن ظهور «مركز» مدني / موطني ـ civic center بالكوفة والبصرة والفسطاط ، وهو أمر صحيح. لكنه لا يكاد يدرك فيه الجانب التقليدي والعادي ، لأن مركز النشاط الموطني لا يتعارض مع الخطط القبلية ، كما لا يتعارض المسجد المركزي مع مساجد العشائر إلا بقدر ما يتعلق الأمر بدين جديد وجب غرسه ، ولربما وجد معبد ومركز للسلطة أيضا ، لو تعلق الأمر بدين قديم. والنقطة الثالثة والواجب دحضها إطلاقا هي أن المركز وهو الشبيه بالفوروم forum كما يقول غرابار عن حكمة (٣) ، لا يماثل المسجد لا من حيث المجال ولا من حيث الوظيفة (وهذه فكرة أخذها عن لامنس. (Lammens بل هو يتطابق مع الصحن كافة ، كما ذكرنا آنفا. وأخيرا فرأيه القائل إن المسجد ذاته بقي مدة طويلة خلاء ، أو إنه لم يصبح بناية قائمة إلا في العصر الأموي ، هو رأي صحيح ، إذا اعتمدنا بعض الاشارات الواردة في النصوص التي بين أيدينا ، وهو ليس كذلك حسب بعض الروايات الأخرى (٤). فما تقوله هذه النصوص فيما

__________________

(١) Grabar,» The Architecture of the Middle Eastern Cities from the past to present : The case of the Mosque «in Middle Eastern Cities, pp. ٦٢ ـ ٦٤.

(٢) Ibid.,pp.٣٣ ff.

(٣) Ibid.,p.٤٣. «عادة يسمّى هذا الميدان مسجدا وسمّي مصلّى مرّة واحدة» يقول غرابار ذلك بالاستناد إلى الخطوات الأولى التي قطعتها الكوفة والبصرة والفسطاط.

(٤): Ibid.,p.٥٣. «تحول المسجد إلى بناء بعد أن كان خلاء». وكان ذلك بين ٦٥٠ و ٧٥٠ ، وهي المرحلة الثانية من تاريخ المساجد.

٩٨

يتعلق بالكوفة؟

تقول إن المسجد كان بدون أروقة على كل جوانبه ، قبل إمارة زياد ، باستثناء جانب القبلة. فكان ممكنا مشاهدة دير هند من الصحن ، وباب الجسر في اتجاه الفرات (١) ، وهذا يعني أنه لم تكن هناك جدران مرتفعة كفاية ، لكن لعله وجد سياج من قصب أو جدار صغير من لبن على أكثر تقدير. إن الطابع البدائي للمسجد أي انعدام البناء أو قلته ، نستدل عليه أيضا من أن سعدا هدمه بسرعة كبيرة ونقله إلى الجنوب قرب القصر ، بسبب سرقة بيت المال الذي كان ملحقا بالقصر (٢). أما عن تعليل عملية تقريب المسجد من القصر ، فهو أنه تقوم على المسجد حراسة تكون بالليل والنهار ، وأن حضور الحراس من شأنه أن يمنع تكرار مثل هذه الحادثة العارضة ، مما يفسر أن المسجد يلاصق القصر ، فشكّلا بنايتين متلاصقتين. وسيحتل الموضع الأولي للمسجد بعد ذلك جانبا من السوق ، ويكون من نصيب باعة الصابون والتمر. وهذا ما يفسر عبارة سيف في هذا المضمار الذي أراني أعود إليها :

«فأول شيء خطّ بالكوفة وبني حين عزموا على البناء المسجد ، فوضع في موضع أصحاب الصابون والتّمارين من السوق» (٣).

إن هذه المقولة عن تفتح المسجد ، وسرعة انتقاله بالفعل ، توجهنا إلى فكرة الخلاء غير المشيد ، ومن المعلوم أن المصادر تحدثت بخصوص البصرة عن مسجد مشيد بالقصب (٤). لكن ذلك لا يمنع ، لا محالة ، وجود قاعة مسقفة للصلاة (وهذا هو المعنى الذي تؤديه كلمة ظلة) تتجه إلى القبلة (٥) ـ مع العلم أنها حادت عنها قليلا (٦) ـ. إن المصادر التي بين أيدينا لا تتكلم إلا عن الصحن وتصفه بأنه صحن غير مسيج أو قليل التسييج ، مما يتيح الإشراف على الجسر ودير هند. لكن الارجح أن هذه الظلة كانت موجودة منذ البداية ، وقد شيدت تشييدا خفيفا بالقصب وحتى باللبن (٧). وبعد أن وقع نقل المسجد ، وهدمه سعد ،

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧. وجاء في روايات أبي مخنف المتعلقة بدير هند أنه يقع إلى الشمال الشرقي ، قرب الجسر بالذات : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢ مثلا. والشابشتي صريح في تحديد موقعه بالحيرة : الديارات ، ص ٢٢٤ ـ ٢٤٥ ؛ وياقوت أيضا : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٥٤١.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦ : صار المسجد ملاصقا للقصر وكانت من قبل تفصلهما مسافة مائتي ذراع ـ ١٠٨ أمتار.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٣٤١ ، على الأقل أثناء الفترة الأولى ، في عهد عتبة.

(٥) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤ ؛.Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٨٥٨.

(٦) بما قدره ١٧٠ درجة : الجنابي ، ص ١٤٤ ، الذي اعتمد التنقيبات الأثرية لعام ١٩٣٨.

(٧) في عام ١٦ أو ١٧ ه‍. بنى أبو موسى في البصرة المسجد باللّبن وغطاه بالقصب : فتوح البلدان ، ص ٣٤٢.

٩٩

التخطيط الأول للصحن حسب رواية سيف

١٠٠