نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

ـ ٨ ـ

بنية المجال الداخلي :

الحزام السكني أو الخطط

إن نص سيف هو المصدر الوحيد الذي بين أيدينا (١) ، وهو نص يصعب تأويله لكنه ثري. والغريب في الأمر أن ماسينيون أشار إليه (٢) ، واصفا إياه بأنه «القائمة الوحيدة المتوفرة لدينا عن صفوف المساكن» ، ومع ذلك فلم يعتمده في مخططه القائم أصلا على ما رواه أبو مخنف بخصوص ثورة المختار (٦٦ ـ ٦٧ ه‍ / ٦٨٥ ـ ٦٨٦) وثورة زيد بن علي ، فيبدو مخططه وكأنه مخطط سبري للعصر الأموي. هناك مشكل محير يفرض وجوده على النظر : بما ان المصادر لا تتحدث إلا قليلا عن تحوّل الخطط في العصر الأموي (أشهر التحوّلات جدت عند عبس (٣) وتميم (٤)) ، فمن المعقول أن نجد هيكل الكوفة في أول نشأتها من خلال صورة مقتطعة من العصر الأموي. لكن روايات أبي مخنف تتركنا في حيرة من أمر هذا التناقض الأساسي الموجود بين وفرة الجزئيات الطوبوغرافية وغموض الاتجاه ، وحتى غيابه. وما يخشى أن مواقع القبائل التي ذكرها تتعارض أحيانا بصفة تامة والتصور الذي طرحه سيف. فإما أن يكون هذا التصور خاطئا ، وإما أن تكون رواية أبي مخنف خاطئة. ونلاحظ الشيء نفسه عند مقارنة هذا النص أو ذاك بكتاب البلدان. إن التطابق إن وجد نادر قليل ، وتتراكم الصعوبات في أكثر الأحوال.

ولا تنشأ هذه المصاعب عند المقارنة بين المصادر والعصور فقط. بل إن نص سيف

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) Massignon ,op.cit.,p.٤٤.

(٣) أكد سيف أن سعدا ترك عبسا بالمدائن ، وأنه خصّ أفراد الحاميات والثغور بمواضع خلال فترة الاختطاط ، ولا سيما عبس والحمراء : الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٤ و ٤٥. أما اليعقوبي فقد عين مواقع عبس «إلى جانب المسجد» : كتاب البلدان ، ص ٣١٠. لم يكن المقصود إدخال تغيير على الإقامة داخل الكوفة ، بل هو حضور متأخر.

(٤) أشار ماسينيون إلى هذا الانتقال وأرخه في ٣٧ ه‍ :.Massignon ,op.cit.,p.٧٤. الواقع أن سيفا حدد موقع تميم في سنة ١٧ في الناحية الشرقية ، ونحن نجدهم بناحية الكناسة في أخبار أبي مخنف.

١٢١

ذاته يتضمن شيئا منها ، فيما يرويه وما لم يروه ، في صميم الخطاب وفي خلفيته. لنبدأ بالتمعن فيه. وجدير بنا أن نورد الجمل الأساسية في حرفيتها :

«لما أجمعوا على أن يضعوا بنيان الكوفة أرسل سعد إلى أبي الهياج فأخبره بكتاب عمر في الطرق أنه أمر بالمناهج أربعين ذراعا مما يليها ثلاثين ذراعا وما بين ذلك عشرين وبالأزقة سبع أذرع ليس دون ذلك شيء وفي القطائع ستين ذراعا إلا الذي لبني ضبة» (١).

«ونهج في الودعة من الصحن خمسة مناهج وفي قبلته أربعة مناهج وفي شرقيه ثلاثة مناهج وعلّمها. فأنزل في ودعة الصحن سليما وثقيفا مما يلي الصحن على طريقين وهمدان على طريق وبجيلة على طريق آخر وتيم اللات على آخرهم وتغلب ، وأنزل في قبلة الصحن بني أسد على طريق وبين بني أسد والنخع طريق وبين النخع وكندة طريق وبين كندة والازد طريق ، وأنزل في شرقي الصحن الأنصار ومزينة على طريق وتميم ومحارب على طريق وأسد وعامر على طريق ، وأنزل في غربي الصحن بجالة وبجلة على طريق وجديلة وأخلاط على طريق وجهينة وأخلاط على طريق.

«فكان هؤلاء الذين يلون الصحن وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك واقتسمت على السهمان فهذه مناهجها العظمى. وبنوا مناهج دونها تحاذي هذه ثم تلاقيها وأخر تتبعها وهي دونها في الذرع والمحال فيما بينها ومن ورائها وجعل هذه الطرقات من وراء الصحن» (٢).

إنها لصفحة كثيفة مهمة ، وهي تتطلب شرحا ضافيا. وسنعمل على توضيح عدة نقاط ، لكن هناك نقاطا أخرى ستبقى غامضة إلى الأبد. لقد استخدمت كلمة طريق في معناها العام بداية ، أي منهج ، وفتحة ، وسكة بما في ذلك المناهج الواسعة ، والمناهج الأخرى الأقل اتساعا ، إلى أن نصل إلى السكك الصغرى. ثم إن الأمر تعلق بمقام القبائل ، فدلت الكلمة ذاتها على المناهج العريضة. وقد تحدث أبو مخنف في رواية ثورة المختار ، عن «الطرق العظمى (٣) بالكوفة ، ويبدو أنها كانت المنافذ الكبرى التي أقامت بها القبائل على امتدادها. فأصبحت الكلمتان (مناهج وطرق) مترادفتين (٤). وهذا لا يعني ما

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢١. كلمة تتضمن درجة أسمى بالنسبة للسكك.

(٤) تدل طريق على سكة حيث تصطف الدور وما هو منتظم «من بين الأزقّة» : الزبيدي ، تاج العروس ، ج ١٠ ، ص ٤٣. يبدو أن كلمة طريق عامة وأن المنهج يرتب بالمرتبة الأولى بالنظر للعرض ، ثم تدل السكة على صفوف النخيل. وأخيرا فالزقاق أضيقها جميعا ، لكنه سكة صالحة للمرور : المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ٣٤٧.

١٢٢

قصده ماسينيون من أنها صفوف المساكن ، وهو معنى غير شائع (١). المقصود بالذات هي شوارع معلمة تفصل بين خطط القبائل بأنواعها ، وتسمح لكل قبيلة بالتحول إلى المركز ، عبر طريق خاصة بها حددت لها مسبقا. وما جعل ماسينيون يخطىء في هذا الأمر اعتقاده أن الاستقرار الأول تمّ طبق النموذج البدوي المتمثل في اصطفاف الخيام ، وهو نموذج بقي معمولا به في موسم الحج. لكن لا نجد شيئا من ذلك في الصورة التي نحن بصددها ، ولو كان ذلك لفقد نص سيف كل تماسك. ونجد هذه الطرق ، سواء طابقت السكك أم لا ، مذكورة بالنسبة لفترات لاحقة وبوصفها شرايين للاتصال البشري ولتنقل الجنود الثائرين أو المؤيدين للحكومة داخل المدينة. بل نجدها أيضا مذكورة في بغداد الجديدة ، مع اتساع يمتد من ٤٠ إلى ٥٠ ذراعا ، محفوفة بالدكاكين والدور. وقد روي أن المنصور أمر بهدم بعض منها ، محافظة على عرض الطريق المحدد مسبقا (٢). كان لتخطيط الطرق الكبرى أهميته إضافة إلى ترتيبه التنازلي من ٤٠ ذراعا (٣) (قرابة ١٦ ، ٢١ مترا) إلى ٣٠ ثم ٢٠ ثم ٦ ، ما جعل سيفا يعرض الأمور وكأن هذا التخطيط كان أول أمر صادرا عن عمر في شكل توصية شديدة الخطورة. أن يكون لعمر في هذا الموضوع آراء بمثل هذا الوضوح فهو أمر يصعب تصديقه ، ولعل سيفا أسقط على عمر العمل الذي أنجزه المنصور بشأن بناء بغداد. لكن علينا أن نتذكر أن مخططي الكوفة ـ نعني سعدا وأبا الهياج ، ومستشاريهم من الحيرة أو من فارس أو من النبط ـ صمموا المدينة في شكل مجموعة هندسية عقلانية منفتحة. لكن هل خططوا لذلك مسبقا؟ ألا يليق أن نعتبر ذلك إسقاطا حيث تحدث المؤلف عن شوارع متوازية ، تخترق الطرق الرئيسية وعن شوارع أخرى «تتبعها» ، وحتى عن أزقة ومناهج صغرى لا يمكن أن يخطط لها بالطبع مسبقا. وهي تبرز بالذات في التراص المشط ، وفي فوضى التطور المقبل. ولا ننسى أن سيفا مات فيما بين سنة ١٧٠ / ٧٨٦ و ١٩٣ / ٨٠٩ ، بحيث يكون ألّف كتابه بعد سنة ١٥٠ / ٧٦٧ (٤). هذا ويجب أن لا يبقى أي شك عن فتح شوارع عريضة في حزام السكن منذ البداية ، سواء صاحبتها طرق ثانوية أم لا ، بصفتها

__________________

(١) مرجع مذكور ، ص ٤٥.

(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤ : كتاب البلدان ، ص ٢٤٢ ؛ قال الطبري إنها ٤٠ ذراعا ، وذكر اليعقوبي أنها ٥٠ ذراعا. وقد استخدم الطبري كلمة طريق ، واستعمل اليعقوبي كلمة شارع وهو يقصد المناهج الكبرى.

(٣) من البديهي أن الأمر يتعلق بالذراع السوداء التي تساوي ٤ ، ٥٤ سنتمترا : Hinz, Arabische Masse Und. Gewichte, p. ٤٦.

(٤) لا نعلم إلّا القليل عن حياة سيف : فؤاد سزكين ، مرجع مذكور ، ج ١ ، ص ٤٩٨ ؛ وذكر عبد العزيز الدوري سنة ١٨٠ ه‍ / ٧٩٦ تاريخا لوفاته : علم التاريخ عند العرب ، ص ١٢١. وانظر ما سبق حول تقييم ما قدمه سيف.

١٢٣

العنصر الأساسي ، والعمود الفقري لنسق الخطط ، يمكن بفضله تحديدها وتعريفها ، وأيضا بصفتها الصلة المثلى للاتصال بين الصحن والخطط ، والمركز المشترك حيث تهيؤ الحياة الاجتماعية العربية الاسلامية الجديدة وخطط الوجود القبلي القديم ، وحتى الوجود العشائري.

كانت الشوارع الواسعة المستقيمة تنطلق من المركز المربع نفسه ، وهو الذي يحوي ذاته مربعين هما المسجد والقصر. ونحن نميل إلى الاعتقاد أن شكل المدينة كلها كان مربعا ، على شاكلة بابل (١) ، مع الفارق أننا إزاء مدينة مفتوحة وبدون سور عن قصد ، ولا نعرف شيئا عن نهاية المناهج مع أننا نعرف بدايتها. وقد أسقط ماسينيون على مخططه شكلا دائريا أحيط بخندق دفاعي. وإذا ما كان هذا الشكل موجودا أبدا ، فلا يمكن أن يكون قد أقيم إلا في وقت متأخر ، لما تدخل المنصور وأمر بتشييد السور وحفر الخندق ، فضلا عن أنه بعث النموذج الساساني الدائري.

الواقع أننا نتقدم في البحث بواسطة اللمسات والانطباعات وإقامة ما نزعم على الاحتمالات ، ولن يكون ذلك على أساس اليقين أبدا. هكذا ندرك أن التماثل ليس كاملا في تصور سيف. لماذا توجد خمس فتحات في الشمال ، وأربع في الجنوب ، وثلاث في الشرق ، وكذلك في الغرب؟ وهل أن المسافة نفسها تفصل نقاط انطلاق المناهج؟ وإذا حددنا خطة إحدى القبائل بكونها تقع بين طريقين ، فستظهر إلى الشمال مجالات ضيقة مستطيلة ، وخطط واسعة عريضة شرقا وغربا. لكن بجيلة وهمدان موجودتان في «الشمال» بالودعة ، كما أن دور وطلبات بجيلة (٢) معروفة ، وقد ذكر اليعقوبي أن بجيلة كانت تستغل اقتطاعا مهمّا (٣) ، جعلت منه كل روايات أبي مخنف النقطة المرجع بالنسبة للمنطقة الشمالية (٤). قلنا المنطقة الشمالية؟ هل نحن على يقين من ذلك؟ إن مشكل الوجهة مطروح حيث ينبغي أن تكون القبلة هي المرجع ، علما أنها تتجه إلى الجنوب الغربي ، لكن هذا الاتجاه لم يحسب حسابا صحيحا (يقدر انحرافها ب ١٧ درجة). إن المسافر الذي يعبر اليوم الفرع الغربي للفرات ،

__________________

(١) هذا على الأقل ما قاله هيرودوتس : «كانت مدينة مربّعة الشكل ، تعد مائة وعشرين غلوة من كل وجه» ، وقد أورده ممفورد ، L.Mumford ,op.cit.,p.٣٠١ ؛ أما أوبنهايم Oppenheim ,op.cit.,p.٦٤١ فهو يميل إلى شكل المعين ؛ وتصرّح مرغريت روتن أن كل المؤلفين اتفقوا على أن شكل المدينة كان مربع الزواياM.Rutten ,.Babylone ,p.٤٣

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٥٣.

(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٦ ـ ٤٨.

١٢٤

يسلك طريقا تتجه إلى الجنوب الغربي (١) ، فيصطدم في الصميم بالجدار الشمال الشرقي للمسجد ، ووراءه القبلة ، أي بشمال شرقي يكاد يكون شرقا. ويمكن التساؤل عما إذا كان مربع المركز لا يقع موقع القطر بالنسبة للفرات وكذلك بالنسبة للخطط القبلية؟ وفي هذه الصورة ، الاتجاه الذي يكون واقعا إلى الشمال على سبيل الافتراض ، يصبح اتجاهه إلى الشرق ، وتكون القبلة غربا ، والشرق شمالا ، والغرب جنوبا. فهل هذا الذي حمل البلاذري على القول إن اليمن (يعني بجيلة والازد) استقرت في اتجاه الشرق ، وقد جاء ذلك الخبر في فتوح البلدان (٢) ، ورواه كل المؤلفين تقريبا (٣)؟ هذا افتراض يصعب اعتماده حقا ، لأن مؤشرات كثيرة جدا وردت في رواية الأحداث التالية تبدو مناقضة له (٤). وحسبنا أن نعتمد الفكرة التي تقول إن المحور المركزي الذي تشكلت حوله المدينة في جملتها ، كان يتجه بصفة بارزة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي ، حيث كان الفرات إلى الشرق بصفة واضحة (٥) ، وقام مقام الحد الوحيد المعرّف للكوفة.

وانطلاقا من ذلك ، يمكن أن نتصور مخططا نجوميا ومخططا مربعا تماما على السواء. فمن جهة ، تنتهي الطرق وتنفصل ، تاركة المجال للمساكن ، ثم تتوقف في مكان ما ، ومن مزايا هذا المخطط سد الزوايا الفارغة التي اكتست أهمية نسبية. أما في الافتراض الثاني فإننا سنجد شوارع متوازية فيما بينها ، شاقولية بالنسبة لجوانب الصحن ، أي شكلا يكتسي كمالا هندسيا كبيرا. واعتقادي أن روح النص الذي نعتمده ، تؤيد الصورة الثانية ، بمعنى البنية البسيطة. ونصل إلى حل مشكل الزوايا نصف الحل بفضل العبارة التالية : «فكان هؤلاء (أي القبائل التي تم تعدادها) الذين يلون الصحن وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك». فماذا يعني هذا سوى أن الفراغات التي خلفتها الزوايا قد جرى سدها؟ متى؟ هل تم الأمر فورا وبصورة عشوائية ، أم بعد مدة من ذلك ، لما تبين أن المخطط الأول غير ملائم ، فوجب تكييفه؟ ليس الأمر مهمّا الآن ، بل المهم أن المناهج لم تسطر لكل الناس ، وأن المناهج

__________________

(١) الجنابي ، خارطة رقم ١١.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.

(٣) مثلا ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.

(٤) انظر فيما بعد تحاليل للروايات عن ثورة المختار وشبيب. لكن مفهوم أهل اليمن يرتبط بالأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وقضاعة وخزاعة ، في رواية أبي مخنف بخصوص ثورة حجر : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦١. لكن ينبغي تحديد موقع الأنصار والأزد وربما خزاعة وقضاعة إلى الشرق والجنوب الشرقي.

(٥) من الملاحظ على كل أن البلاذري وياقوت لم يحددا المنطقة الشرقية بصفتها منطقة تجانب الفرات. وحدد ياقوت خلافا لذلك ، في معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢ ، موقع ثقيف «بين الماء ودار الامارة». ولعلّ الفرات اعتبر حدا يقع إلى الشمال الشرقي ، لوجود الجسر وطريق المشرق ، العابرين للنهر.

١٢٥

والخطط المرتبطة بها كانت تشكل حزاما أول ، سيتم من ورائه استقرار موجات الروادف ، في حين استقرت قبائل أخرى في الفجوات.

والغريب أن سيفا لم يذكر هذه القبائل في نصه في بداية الأمر : كانت تلك حال بكر وحال طي بالخصوص. كأن الأمر متعلق بامتياز يرتبط بالمنتفعين الأولين بالخطط بصورة نظامية ، ثم ألم تشر مصادرنا إليهم فسمتهم أهل الخطط (١) ، بمعنى الناس الذين حصلوا على الأراضي بصورة قانونية ومعهم أولئك الذين أقاموا قريبا من المساحة المركزية؟

إن هذه الخطط مهيّأة لأن تتحول إلى أشكال طوبوغرافية على أقل تقدير ، وربما إلى أحياء حضرية بالمعنى الدقيق ، وإلى أن تسمى مختلف الأماكن في المدينة بأسماء القبائل (فيقال : ذهبت إلى كندة وجهينة) (٢). فصار مهما جدا ذكر مواقعها على خريطة. لكن هنا تعترض سبيلنا صعوبات هائلة. فما هو الترتيب الذي رتب عليه سيف القبائل التي روى أسماءها؟ وهل ينبغي البدء يمينا أم يسارا ، أم من الوسط؟ وعلى فرض أن نبدأ من اليمين ، وهو العنصر الخيّر بصورة تقليدية ، عنصر اليمن الذي يصطبغ بصبغة دينية ، فعلينا أن نتصور عند ذلك أن المخطط الذي حدد للقبائل أماكنها ، كان يدور سريعا وعلى التوالي إلى القبلة ، وإلى الشمال الشرقي ، والشمال الغربي ، والجنوب الغربي ، وهو يواجه الوجهة المقصودة في كل مرة ، وهذا هو الأمر الأكثر ترجيحا لأنه يجسم الطريقة التي بها يفكر سيف. لنعد إلى طريقته في الحديث عن الرامي الذي يبدأ يمينا ، ووصف وجهة المسجد : ...

«ووضع المسجد يمنة على القبلة ثم مدّ به إلى منقطع رحبة علي والرحبة قبلته». ثم : «فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر» (٣). نجد ميمنة القصر من جديد ، لأن العلامة المرجع ترتبط باتجاه الصلاة. وهكذا يقع الاستناد إلى عنصر الميمنة بصفة واضحة. هل كانت الميمنة متنقلة ، تواجه الشخص الذي يطلق النبل ، ويأمر ، ويوزع كما ينبغي ، أم كانت ثابتة بالنسبة للقبلة ثباتا ضمنيا؟ (٤). هذان الافتراضان كلاهما راجح ، ويترتب عنهما

__________________

(١) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٢٢١ ، في ترجمة صعصعة بن صوحان ، من رفاق عليّ. وقد تحدثت كتب متأخرة في فقه الحنفية عن أهل الخطة واعتمدت روايات قديمة : السرخسي ، ج ٢٦ ، ص ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١١٢ ؛ والسمرقندي ، ج ٣ ، ص ١٧٥.

(٢) مثلا ابن سعد ، ج ٦ ، ص ١٨ ، ٢٦ ، العبارة واضحة جدا في فتوح البلدان ، ص ٢٧٩ : «ويقولون جئت من حمراء ديلم كقولهم جئت من جهينة». راجع أيضا : الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٨ ؛ وكيع ، أخبار القضاة ، ج ٢ ، ص ٤٢٤ حيث نرى الشعبي يقطع جهينة ليقوم بجولته اليومية.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦.

(٤) لا يمكن اعتماد القبلة بالنسبة للشمال ، بل يمين الشخص المكلّف بإقرار القبائل الذي يواجه الشمال ، أي من الشرق إلى الغرب ، سليم وثقيف وهمدان وبجيلة ، الخ .. وخلافا لذلك ، يكون الأمر كذلك بالنظر للجنوب ،

١٢٦

مخططان مختلفان يمسّان بالخصوص مواقع سليم وثقيف. وهناك فرضيات أخرى منها أن القبائل التي ترد أسماؤها بالأول تحتل الموقع المركزي ، وأن الآخرين يقيمون على التوالي إلى اليمين واليسار ، وهذا مخطط ثالث ممكن. وأخيرا ، ماذا تعني العبارة التي هي أساسية والتي تؤيدها رواية من البلاذري : «واقتسمت على السهمان؟».

هل تعني إسناد خطتها لكل قبيلة ، بعد أن تحدد موضعها الأساسي في الشمال أو الغرب أو الجنوب؟ وفي هذه الصورة ، لن نقدر أبدا على رسمها بدقة على خارطة. وكل ما نعلمه أن هناك طريقا كانت تفصل بين أسد والنخع ، وأن كندة مجاورة للنخع والازد أيضا. هذا كل ما لدينا من معلومات واضحة إلى حد ما بخصوص الرقعة الجنوبية حيث نحس بنوع من التنظيم والتصفيف ، أما دون ذلك ، إذا اعتمدنا فرضية تمليك الخطط عن طريق القرعة ، فإن الترتيب الذي ذكره سيف يفقد كل دلالة ، فنكون مجبرين على التمادي في ملاحقة الصدفة.

الواقع أن من الراجح كثيرا ـ وهذا من حسن حظنا ـ أن القرعة لم تفد القبائل ذاتها بقدر ما أفادت في توزيع العشائر والحسم بينها داخل الخطة القبلية ذاتها (١) ، وربما توزيع الأفراد أيضا. إن بنية الجملة والسياق العام تحثنا على إعتقاد هذا الأمر : «واقتسمت (الخطط) على السهمان».

وبذلك يتشكل لدينا على أية حال تنظيم قبلي. وقد ذكرنا أن أفضل طريقة لتحديد مواقع القبائل ، هي أن توضع جنبا إلى جنب ، انطلاقا من المركز ، وفي مواجهة كل جانب من اليمين إلى اليسار إلا في خصوص جانبي الشرق والغرب ، ففي اتجاه القبلة :

ـ جهة الشمال ، من الشرق إلى الغرب : سليم ، ثقيف ، همدان ، بجيلة ، تيم اللات ، تغلب.

ـ جهة الجنوب ، والشرق إلى الغرب : الأزد ، كندة ، النخع ، أسد.

ـ جهة الشرق ، من الشمال إلى الجنوب : الأنصار ومزينة ، تميم ومحارب ، أسد وعامر.

__________________

ولذا ينبغي وضع أسد يمينا في اتجاه القبلة بداية. وبالنسبة للشرق والغرب ، يكون المبدأ في وضع القبائل نزولا في اتجاه القبلة. فمن المرجح أن هناك مزجا بين هذين المرجعين (الميمنة والقبلة). إلّا أنه لا يمكن التأكد من الأمر بصورة قاطعة ، على الرغم من مطابقة مثل هذا التصور بصفة مجملة مع ما يمكن استنتاجه من روايات أبي مخنف (راجع الرسم).

(١) ولا سيما أن اليعقوبي أيد في كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ، بما لا يدع مجالا للشك ، الرأي القائل أن كل قبيلة اختطت خططها بحضور قائدها.

١٢٧

الخطط القبلية حسب رواية سيف

١٢٨

ـ جهة الغرب ، من الشمال إلى الجنوب : بجالة وبجلة ، جديلة وجهينة.

الحقيقة أن هذه الصورة للجغرافيا القبلية تفيد من بعض المعلومات التي ذكرتها المصادر الأخرى ، على الرغم من أنها تطرح مشاكل تخص رصف الواجهة الغربية. فسليم مثلا غير بعيدة عن السبخة ، كما جاء في رواية أبي مخنف بخصوص المختار ، والسبخة غير بعيدة عن الفرات (١). وتتجاور ثقيف وهمدان وبجيلة بصورة واضحة جدا (٢) ، اعتمادا لرواية ثورة المختار كذلك.

وكانت تميم تقيم شرقا قبل أن تتحول إلى الغرب. لكن إمعان النظر في أخبار أبي مخنف الخاصة بثورة حجر بن عدي يحمل على الاعتقاد أن هذه القبيلة لم تبتعد كثيرا عن كندة (٣) : هناك انحراف طفيف ... أما بخصوص الجنوب فتتوفر معلومات رواها اليعقوبي (٤) وهي تؤكد وتنكر في آن الترتيب القبلي كما رواه سيف. لكن كتاب اليعقوبي يخلط التغييرات التي طرأت منذ قرنين ونصف القرن ، بروايات قديمة ، متعلقة بالطوبوغرافيا الأولية للكوفة ، ولذا ، يجب الاحتياط عند استعماله. فقد حدد موقع كندة بين جهينة وبني أود (من مذحج ، أي أقرباء النخع) ، وهو ما يطابق مخططنا (٥) ، مع العلم أن أسدا تقع بينهم. ليس هذا الأمر محيرا ، كما أنه غير محير أن يخص بجيلة باقتطاع كبير ، حيث يماثل غلطا بين بجيلة وبجلة واسم بجالة. وعلى النقيض من ذلك ، يحدد اليعقوبي مكان الازد بين بجيلة وكندة ، وكأن الأمر ظاهرة أصلية ، أي في اتجاه الغرب (٦) أو بالركن الجنوبي الغربي (٧) ، أي في موضع أسد. وهو الأمر الذي قد لا يتفق وتصور سيف ، ولا وروايته السابقة ، ولا تؤيده روايات أبي مخنف الذي أفاض في الحديث عن الأزد ، لكن بدون أي تدقيق بخصوص مواضع دورهم. ولم ينج ماسينيون من اللبس والغموض ، على الرغم مما

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ و ٤٨.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ ، يقيم بنو العنبر إلى جانب كندة والنخع.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٥) لو لم يحدد اليعقوبي نفسه مكان الأود في المركز برحبة عليّ ، بصفة استثنائية : كتاب البلدان ، ص ٣١٠ ، لوجب قلب التصور وتحديد موقع مذحج شرقي كندة ، وهذا احتمال لا ينبغي استبعاده بأية صورة كانت. ولذا وضعنا مخططا ثانيا للقبائل (انظر الخارطة).

(٦) ورد خبر عند ابن الكلبي مفاده أن قسما من الأزد أقاموا عند أبناء أختهم من بجلة : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٣٧٤.

(٧) نشعر بالضيق عند قراءة ما رواه أبو مخنف عن زيد حيث نستشفّ أن جبانة مخنف (الأزد) لا تبعد كثيرا عن كندة ، إلى الجنوب الغربي : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٣. وفي هذه الصورة يجب اعتماد المخطط الثاني أو الثالث. وهذان المخططان يتوافقان أكثر من المخطّط الأول مع ما عند أبي مخنف واليعقوبي.

١٢٩

بذله من جهد عظيم لتخيل الأمور وتجميعها وذلك لأنه حاول التوفيق بين هذه المصادر المتنوعة وتوحيد العصور ملحا مع هذا على العصر الأموي. ولنقتصر فيما يخصنا على القاعدة الصلبة الواضحة لرواية سيف ، تضاف إليها الاستفهامات والشكوك التي أحاطت بها والتي تبرر وضع أكثر من مخطط لمواقع القبائل ، على أن تتمّ مواجهتها بعد ذلك بالتغييرات الحاصلة.

قطائع العشائر والتقلبات الأولى

إن ما رواه سيف هو مخطط أساسي دام قرنين. لكن ما هي تفاصيله؟

لقد مر بنا أن هناك خططا كانت على شكل قطائع تفصل بينها سكك واسعة وتجمع بكل خطة قبيلة واحدة أو مجموعة متكونة من فرعين تابعين للقبيلة. وحدد تنظيم التخطيط الخطط وسلمها إلى أصحابها. هذا التنظيم من عمل السلطة ومستشاريها ، إذ لا يمكن مجاراة اليعقوبي حين يقول : «فاختطت كل قبيلة مع رئيسها» (١) عادة حول جبانة ما ، بصفتها نقطة مركزية للوجود القبلي ، وهي نقطة ماء أيضا كما يظهر. وعلى النقيض من ذلك ، لا بد أن تدخل رؤساء القبائل كان نشيطا ، لتهيئة الخطط من الداخل ، وتحديد مكان كل عشيرة ضمن المجموعة. وقد لعبت القرعة دورا في هذا الموضوع وكذلك تحكيم الرؤساء. لا شك أن الخطط الفرعية العشائرية هي التي أشار إليها النص باسم القطائع (٢) ، وفرضت السلطة أبعادها على شكلية واحدة فيما يبدو (باستثناء بني ضبّة ونجهل سبب ذلك). ومن الواضح أن الستين ذراعا المذكورة تخص العرض والأمر نفسه بالنسبة للسكك والمناهج والأزقة ، وقد صنف المؤلف القطائع في المرتبة نفسها (٣).

تتسع إذن قطيعة كل عشيرة إلى عرض ٤٦ ، ٣٢ مترا ، في حين أن طولها غير محدد ، وهي محاطة بنسق كامل من السكك والأزقة التي يتضاءل عرضها تدريجيا والتي تقسم كل طريدة قبيلة. ولنتابع مرة أخرى سيفا حيث يقول :

«فهذه مناهجها العظمى وبنوا مناهج دونها تحاذي (٤) هذه ثم تلاقيها ، وأخر تتبعها

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ : لم تجر الأمور على هذا النحو إلّا بعد أن سلمت السلطة الخطط.

(٢) لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٣٨١ : يحدّد الشافعي الطابع الوقتي للقطائع ويضاهيها بالأسواق بحيث أنه عندما يغادر شخص الموقع ، يمكن لغيره أن يستقر بالمكان «كأبنية العرب وفساطيطهم فإذا انتجعوا لم يملكوا بها». القطيعة إذن هبة من السلطة لكن مرتبطة بالاقامة ، ويمكن أن تصير دائمة في واقع الأمر. راجع أيضا الزبيدي ، تاج العروس ، ج ٥ ، ص ٤٧٤ وما بعدها.

(٣) سيف في تاريخ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥. هذه كلمة جوهرية اطلاقا ، وهي تتحكم في فهم نسق الطرق وبنية الخطط القبلية.

١٣٠

وهي دونها في الذرع والمحال من ورائها وفيما بينها».

كيف يتجسم كل ذلك في الواقع الملموس؟

لنفرض بداية أن كل طريق قبلية كبرى منطلقة من طرف المساحة المركزية ، كان طولها ٤ / ٣ كم تقريبا ، فالمسافة من الفرات إلى المسجد الحالي تعادل كيلومترا وربع الكيلومتر. وبما أن منطقة الفيضانات القريبة من الفرات لم تكن مأهولة ـ وعلى هذا يكون موقع السبخة بهذا المكان ـ فينبغي حذف قطيعتين إحداهما تقدر ب ٢٥٠ مترا وتكون للصحن ، والثانية للسبخة ، وبذلك يكون العمق مساويا ل ٧٥٠ مترا ـ إذ إن الكوفة في بدايتها لا يمكن إلا أن تكون مربعة الشكل وتماثلية ، كما كانت البصرة مدة طويلة (١) ، وكما ستكون المدينة المستديرة التي بناها المنصور للمرة الأولى (٢). وعلى هذا ، كان يحيط بكل قبيلة طريقان طويلتان عرضهما ٤٠ ، ٢١ مترا ، وطولهما ٤ / ٣ كم وكانت القبيلة تقيم على قطيعة يختلف عرضها بحسب عدد المناهج (٥ شمالا و ٣ شرقا). فعلى وجه التدقيق ، لم يكن لخطة همدان مثلا أن تتجاوز عرض ٩٣ مترا في حين أن خطة تميم كان يمكنها أن تبلغ ٢٠٨ من الأمتار (٣). وبالنظر في هذا المثال الأخير فإننا نتصور سكة من الفئة الثانية (١٦ مترا) تقسم القطيعة قسمين في وسطها ، وتوازي تقريبا المناهج على طول الخطة ، أي

__________________

وقد صاغ سيف جملته على النحو التالي : «وبنوا مناهج دونها تحاذي هذه ثم تلاقيها». حاذى (جذر ح ذ ى) تطرح عليها مشكلا صغيرا في فقه اللغة. وهي تعني أصلا (لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ١٦٩ ، ١٧٠): «حذا النعل : قطعها على مثال».

ثم يذكر لسان العرب كمرادف آزى وقابل ، وكذلك عند الزبيدي الذي أورد أزى ، ج ١٠ ، ص ٨٥. لكن إذا عبرت فكرة الموازاة بوضوح عن مقصودها ، فليس الأمر كذلك بالنسبة لكلمة مقابلة المعبرة عن التواجه. وقد استعمل لسان العرب آزى وإزاء ، ودعمه بفعلين هما حاذى وقابل : ج ١٤ ، ص ٣٢. فمن جهة نتبين في الموازاة معنى المجانبة ، لأن المثال الذي يقدمه ابن منظور خاص بشخصين يتماشيان جنبا لجنب. لكنه من جهة أخرى بخصوص إزاء وموازاة ، يقدم أمثلة عن المقابلة التي تتجسم مثلا في مواجهة العدو. لكن عندما تحدّد المعجم العربي بوضوح أكثر بفضل تقدم العلوم ، لم يحتفظ المهندسون إلّا بفكرة المجانبة في الكلمتين. راجع : Serre ـ Schmidt, Lexique technique franc ? ais ـ arabe, II, p. ٠٦٦١ ؛ وكذلك Blache ? re ,Chone ? mi ,De ـ nizeau ,I ,p.٢٠١ ؛ والمعجم الوسيط ، القاهرة ١٩٧٢ ، ج ٢ ، ص ١٠٣٠. على أن الأمر يتعلق هنا بتطور في الدلالة من المفروض أن سيفا كان يجهله. والمرجّح إذن أن مؤلّفنا أراد التعبير عن الموازاة بالمعنى المقبول حديثا. لكن شكا طفيفا ما زال قائما بخصوص وضعية عمودية ممكنة.

(١) ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٣٤. كانت أبعاد البصرة في ولاية خالد القسري (١٠٥ ـ ١٢٠) فرسخين على فرسخين ، أي ١٢ كيلومترا على ١٢ كيلومترا.

(٢) من حيث تساوي المسافة بالنظر للمركز.

(٣) ٢٠٨ أمتار بالضبط ، نحصل عليها بطرح ٤٠ ، ٢١ مترا* ٣ من ٤٨٠ مترا (ضلع الصحن) ، فتكون النتيجة ٤١٦ ، ثم يقسم هذا الرقم على ٢.

١٣١

٧٥٠ مترا ، ثم تنعرج حسب زاوية قائمة لتلتقي بمنهج تميم. فيتشكل أمامنا مستطيل طوله فقط يكون اعتباطا ، لكن عرضه يساوي ٨٥ مترا (١). ولنستمر في تصورنا معتمدين سيفا إلى أبعد حد. نكون بذلك في حاجة إلى سكة يكون عرضها عشرين ذراعا ـ أي ١١ مترا ـ بمعنى سكة من الصنف الثالث تقع بعد المنهج والسكة المركزية. هذه السكة تقسم المستطيل قسمين في اتجاه الطول ، وتفتح على حزام الوصل بين السكة الرئيسية والمنهج. إن القطيعة تتحدّد بهذه السكّة الثالثة وعلى هذا النحو تمتد قطيعتان ضمن المستطيل على عرض يقارب ٣٧ مترا ، وهو يتجاوز قليلا ما وقع تقريره (٢). وتتجدد البنية ذاتها من الجانب الثاني من السكة المركزية. هنا أيضا نجد قطيعتين ، دون أن نعلم ما إذا كان الاتصال يتم في اتجاه المنهج المسند فقط أو أنه يرتبط بمنهج القبيلة المجاورة التي هي أقرب. وبذلك يصبح نص سيف واضحا حيث تقع الدور «من وراء» شبكة السكة وفيما بينها ، أي على جانبي السكك الثانوية (٣). يبقى مطروحا على النظر مشكل أخير هو مشكل الأزقة وعرضها ٧ أذرعة أي ٨٠ ، ٣ أمتار. لم يتحدث سيف عنها إلا في البداية ضمن قائمة المصطلحات التي قررتها السلطة مسبقا ، لا في بقية النص ، لكنّا نعلم من الروايات اللاحقة عن الثورات أن الأزقة كانت كثيرة. لكن هل كانت موجودة فعلا من البداية؟ أم هي انبعثت من كثافة المساكن وتراكمها ، وتضييق السكك ، كي يوسع المجال الضروري للاتصال بالنسبة لكل مجموعة من الدور؟ الاتجاه النقدي الصارم يوجب علينا قبول فكرة تهيئة الأزقة من الأوّل ، حيث أننا رضينا بكل أقوال سيف. لكن على أية صورة تكون هذه الأزقة؟ هل كانت عمودية بالنظر لسلسلة المناهج الرئيسية ، أو منحرفة ، مشكّلة بذلك مخططا في هيئة رقعة ، أم كانت موازية لها تنظم وتشق صفوف الدور المتواجهة أو كليهما في آن؟ لن نعرف ذلك أبدا ، لكننا نتكهن أن هذه المدينة الكاملة الهندسة ، الواسعة التهوية ، سوف تتحول انطلاقا من نقطة الضعف هذه ، إلى مدينة ملتوية غصّت بأهلها ، وقد حصل ذلك جزئيا حين كان أبو مخنف يؤلف كتبه (٤) (فيما بين سنة ١٣٠ و ١٥٠ / ٧٤٨ ـ ٧٦٧). على أننا نعلم أن دور الفترة المبكرة

__________________

(١) نحصل على هذا الرقم بطرح ١٦ مترا من الشارع الثانوي المنتصف ، من ٢٠٨ أمتار ، ثم تقسم النتيجة على ٢. يطابق هذا الرقم على سبيل التقريب ضعف عرض القطيعة كما ضبطها سيف ، أي ٦٠ ذراعا ، على أن تتمّ إضافة الزقاق.

(٢) لا شك أن هناك فارقا قدره ٥ أمتار وزيادة. فلا بدّ أن قطائع قسم الجنوب كانت أكثر مطابقة للحجم المقرر من القطائع الأخرى. ولا بدّ أنها كانت خلافا لذلك ، أكثر ضيقا في الشمال.

(٣) الواقع أن الأمر غير ثابت. فماذا يعني بقوله «من ورائها وفيما بينها»؟ لا يمكن أن يكون ذلك خلف المناهج الكبرى ، بل وراء وبين السكك الثانوية المتقاطعة ، بحيث تكون في شكل مستطيلات.

(٤) هذا واضح تماما في الرواية المتعلقة بثورة حجر بن عدي المزعومة : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٥٢. كان حجر

١٣٢

كانت صغيرة (لم تتجاوز ثلاث حجرات) فليس من المعقول أن تتكدس الدور في قطيعة لا يزيد عرضها عن ٣٢ مترا. كان للعرب تقليد المعسكر ، وقد لاحظ فوق ذلك مخططوهم وعايشوا في عين المكان بنية المدائن المجالية. فبعد قبول فكرة هندسية المظهر الأولى ، يبقى من المرجح أن الزقاق كان يقسم القطائع قسمين في اتجاه الطول ، مثله في ذلك مثل سلسلة السكك السابق وصفها. لكن ليس من شك في وجود أزقة عمودية لضمان الاتصال (١).

وبذلك نصل أخيرا إلى نسق حقيقي مرتب من المناهج الطولية التي عليها رصفت الدّور ، كما كانت الخيام تصف في مخيمات البدو ، الواحدة تلو الأخرى. وفي أدق قطيعة من قطائع السكنى ، بمعنى نصف القطيعة عرضا بعد طرح الزقاق ، لا شك أن الدور أقيمت أزواجا ، مع خلاء طفيف فاصل ، أو أنها كانت متلاصقة لا غير. نجد الشيء نفسه من وراء الزقاق ، وعلى النصف الثاني من القطيعة ، وقد ذكر الشيخ علي الشرقي في دراسته المنشورة بمجلة الاعتدال لعام ١٩٣٢ ما يلي :

«وكان العرب أول هبوطهم إلى العراق ينزلون الشواطىء من الريف والسواد ويبنون بشكل هندسي مكون من خيمتين خيمتين وإذا طغى النهر ارتفعوا عن الشواطىء ملتجئين إلى المخيمين الكبيرين البصرة والكوفة» (٢).

إنه خبر ثمين مستمد على الأرجح من مدونة شيعية مجهولة لدينا. وقد نقله هذا الرجل النجفي الأصيل والمطلع على العوائد البدوية. ونحن نقتبس منه البنية التماثلية المتزاوجة للدور. ولنضف أنه كان لماسينيون تخمين باصطفاف الخيام ، لكنه افترض أنها كانت تراكب المناهج أو حتى تكونها ، وهو أمر لا يمكن قبوله (٣). وبخصوص عشائر همدان

__________________

مطاردا ، فكان الفتيان «يدلونه» عبر الأزقة لبلوغ النخع. هذا في سنة ٥١ ه‍. لكن القضية برمتها ترمي إلى معرفة ما إذا كان أبو مخنف لم يعكس رؤيته للكوفة العتيدة.

(١) لا بد أن تقاطع المناهج كان يتم على شكل زاوية قائمة لأن البناء كان من آجر ، كما في المدن القديمة في بلاد الرافدين. وعلى هذا النحو ، نصل إلى مخطط شبيه بالشبكة.

(٢) ذكره البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ١١٨. هل أن «قرار البناء» الممهد لتخطيط المدينة الذي تحدث عنه سيف شمل كافة الدور في واقع الأمر؟ ألم يكن بالأحرى قرارا عاما انطبق على القصر والمسجد ودور الطبقة الارستقراطية ، لا على جمهرة المهاجرين؟ المرجح أن هؤلاء قد استمروا على العيش تحت الخيام وفي خصاص من قصب. يذكر ابن سعد بكل تأكيد أن في خلافة علي (٣٦ ـ ٤٠ ه‍) «عامة الكوفة يومئذ لأخصاص» ج ٦ ، ص ٢٣٨.

(٣).op.cit.,p.٨٣ كانت المناهج مبنية باللبن كما ذكر ماسينيون نفسه وعلي الشرقي ، وكما أكده سيف خاصة ، فذكر عبارة «بنوا مناهج». إن عبارة «جدران صغيرة من آجر» صالحة ، لكنها توحي بفكرة الفصل الدقيق بين الخطط القبلية ، وأن الخطط ذاتها محصورة بين المناهج.

١٣٣

فقد تصورها الواحدة تلو الأخرى في المنهج نفسه. أما تصورنا ، كما تمليه علينا صرامة نص سيف ذاتها فهو أن العشائر كانت تتوالى ، لكنها كانت تتواجه أيضا. كانت الدور تتوالى ضمن القطيعة الواحدة ، لكنها كانت تراكب ممرا ، هذا الممر هو الزقاق ، وهو أصغر الطرق ، وكانت الدور تقع على جانبي كل نسق الطريق قطعا ، كما هو الحال في كل مكان. لكنها لا تقيم عليها ، ولا سيما الطريق الكبرى أو المنهج ، وهو عبارة عن أرض خلاء صالحة للفصل والمرور.

ما هو عدد قطائع العشائر في الخطة القبلية نفسها؟ يرتبط هذا الأمر بعدد العشائر التي جاءت مع القبيلة ، في بداية الفتح ، وبعدد الأفراد داخل كل عشيرة. وقد طرأت تحويرات بالهيكل الشامل فور تنصيبه. ومن المعلوم ـ دائما بصورة تقريبية ـ أن ٤٠٠٠ رجل من قيس حضروا وقعة القادسية (ضبة ، هلال ، سليم ، غطفان ، ثقيف) : فتوزعوا على عدة خطط قبلية. وجاء ٣٠٠٠ من أسد والعدد نفسه من تميم ، و ٢٣٠٠ من مذحج وحضرموت ، و ٢٠٠٠ من بجيلة (١). لكن يتشعب المشكل برحيل عناصر من بكر وضبة (٢) إلى البصرة. والذي حصل بالكوفة هو هجرة أجزاء من قبائل متفاوتة الأهمية فلم تقع هجرة وحدات قبلية كاملة. لكن هل حصل ذلك بأقسام آتية من كل العشائر أم من بعض العشائر المتجانسة؟ لكي تكون لنا فكرة عن هذه المسألة ، أحصينا وجود ١٠ عشائر من همدان في بداية نشوء الكوفة (٣). وللاطلاع ، راجعنا كتب الأنساب فوجدنا أن بمذحج ١٧ عشيرة معروفة (٤) (لا بالكوفة ، بل بصورة عامة) ، وبكندة (٥) ٩ عشائر حسب المصادر المعهودة وما يفوق ال ٢٠ عشيرة مستقرّة بالكوفة حسب ابن الكلبي. وتحصي بجيلة ٤ أو ٥ عشائر (٦) ، خلافا لتميم التي تألفت من أربعين عشيرة (٧). وهكذا نرى أن النسب مختلفة جدا. فهل

__________________

(١) راجع جدولنا على ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) كان رجال ضبّة حاضرين بكثرة في وقعة الجمل إلى جانب أهل البصرة ، الطبري ، ج ٤ ، ص ٥١٦ ـ ٥١٨.

(٣). H. Djai ? t,» Les Yamanites a ? Kufa «: art. cit., pp. ٨٥١ ـ ٩٥١. الواقع أنه كان يوجد ١٥ عشيرة.

(٤) ابن حزم ، الجمهرة ، ص ٤٧٦ ـ ٤٧٧. كانوا حاضرين جميعا تقريبا في الكوفة.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٤٧٧ ، منها ست أو سبع حاضرة بالكوفة. لكن ابن الكلبي في كتاب النسب نسخة الاسكوريال ، بالخصوص ورقة ٢٤ إلى ٢٨ يحصى ١٤ مسجدا لعشائر كندة سوى المعروض منها في المصادر الأخرى ، وإذا زدنا على هذا العدد العشائر التي لم يذكر لها مسجدا بالكوفة وتقرر وجودها فيها ، فإنا نصل إلى رقم يجاوز العشرين ، علما بأن هذا الرقم يعبر عن حالة القرن الثاني.

(٦) الجمهرة ، ص ٤٧٤ : هناك تردد بسبب وجود عشائر فرعية. ابن الكلبي يحصي ٩ عشائر ، المصدر نفسه ، ورقة ٥٢ و ٥٣.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧. كانت بين تميم والرباب أوثق الصّلات. وحضرت سبع عشرة عشيرة بالكوفة ، وأكثر من ذلك قليلا بالبصرة (صالح العلي ، ص ٣٢٠ ـ ٣٢١). لكن الأمر لا يتعلق دائما بالعشائر نفسها.

١٣٤

سنجد قطائع كبرى وقليلة العدد عند بجيلة (١) وكثيرا من القطائع الصغرى عند تميم ، وقطائع متوسطة عند مذحج وهمدان؟ إذا خضع جميعهم لمبدأ الهيكلة الطولية ، في شكل شرائط ، مع تحديد مسبق لعرض القطيعة ، فمن المعقول أن تحتل القبائل الكثيرة العشائر ، أوسع الخطط (خطط الشرق والغرب) ولعل المواقع المفتوحة من جهة أيضا ، حيث كان يتيسر التوسع الجانبي. ولا بد أن طول خطط العشائر بالخصوص كان متنوعا ، وقد بقي غير محدد ربما بسبب تنوع العشائر. وبما أن بجيلة تفرعت إلى عشائر قليلة ، فقد يكون من نصيبها ست أو سبع قطائع ضخمة ، وستحافظ هذه القبيلة أكثر من غيرها على نسق طرقها (وكثيرا ما ورد ذكره في الروايات السياسية اللاحقة). وخلافا لذلك ، لقد استقرت تميم في خطة عريضة لكي تكون اقتطعت قطائع قليلة الطول وفي إمكانها تصفيف أربع قطائع جنبا لجنب ، في حين أنها لو استقرت شمالا ، فلن تتمكن إلا من تصفيف قطيعتين قطيعتين. هذا ولم تكن كل عشائر تميم حاضرة بالكوفة ، ولا كل الذين شاركوا في وقعة القادسية ، ولا سيما بنو حنظلة الذين كانت عشائرهم كثيرة. فمنذ أن جرى التحول إلى المدائن ، اختاروا الإقامة بالبصرة (٢). بقيت زيد مناة ومنها سعد ، وتفريعاتها الكبيرة بصفة مذهلة إذ تحوي في الجملة خمس عشرة عشيرة على أقل تقدير. ثمّ إن خطة تميم تشتمل على محارب. كلّ هذا يحفزنا على قبول تقسيم قصير للقطائع (٢٠٠ متر طولا فقط) ، أي قبول تراكم معين ، وذلك يفسر أنه لم يكن لتميم جبانة معروفة ، مما يبرر تنقلهم إلى غرب الكوفة في بداية العصر الأموي (٣). إن هذه الجولة في قضايا التعمير ترمي إلى تسليط الضوء على البنية الطوبوغرافية لمحيط الإقامة. يزيد ذلك من تشبثنا بفكرة أن توزيع خطط القبائل لم يتم صدفة ولا بواسطة قانون القرعة القديم ، بل هو تعبير وكشف لمنطق كان سيئا أحيانا. أما تخطيط القطائع فكان يخضع لقاعدة صلبة ، بخصوص تحديد العرض وحسب ، مثله في ذلك مثل نسق المناهج ، فارضا تشكيلا وبنية ومظهرا عاما. إنه التشكيل الطولي ، تشكيل البدو لصفوف الخيام ، الذي انتقل إلى الكوفة وتكيف مع الكثافة البشرية ، وانضغط على نفسه في المجال الضيق ، فكان في آخر الأمر تنظيما بديعا.

على أن هناك نقاطا هي محل شك بخصوص هذه النتائج. فمثلا ليس ثابتا لدينا أن الزّقاق كان دائما الخط القاسم داخل القطيعة ، أو أنه كان كذلك أبدا. ففي وضعية مثل

__________________

(١) هذا ما أكده اليعقوبي بالنسبة لبجيلة : كتاب البلدان ، ص ٣١٠. والملاحظ أن أحمس الكوفة انفصلت عن أكثر بجيلة ، من الوجوه كلها.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩٠ ؛ صالح العلي ، مرجع مذكور ، ص ٨٦.

(٣) نظرا لكثرة عددهم ، فقد هاجروا من الشرق إلى الغرب والجنوب الغربي مع ضبة. وقد ضايقت السبخة والفرات تطور المنطقة الشرقية في حين أن الغرب ولا سيما الجنوب الغربي ، تضمن إمكانات أكبر للتوسع.

١٣٥

وضعية بجيلة القليلة العشائر ذات القطائع الكبرى المترامية في الطول والمكتسبة لخطة قبلية قليلة العرض (واقعة في الشمال) ، يكفي المنهج الطولي من الصنف الثالث (٢٠ ذراعا ـ ٨ ، ١٠ أمتار) لرسم الخط القاسم بين قطيعتين متواجهتين. ولن يكون الزقاق الإضافي في الاتجاه نفسه زائدا عن الحاجة فقط ، بل يكون غير قابل للبقاء. لكن أزقة بجيلة ، كما أزقة ثقيف ، وأزقة منطقة الشمال عامة ، نجدها حاضرة كل الحضور في الروايات اللاحقة عن الثورات حيث توحي لنا بشعور بالضيق والغموض. إضافة إلى أن هذه الروايات توحي ببنية عارضة للأزقة في اتجاه شرق ـ غرب تصل المناهج فيما بينها (١) : فلا يمكن لهذا ، التخلي عن فرضية الأزقة العمودية في صنفي الخطط ، الخطط ذات القطائع المتعددة حيث تدخل الأزقة ضمن النسق الطولي للمناهج كما الخطط قليلة القطائع حيث تكون الأزقة عارضة فحسب. فهل نتوصل من جديد إلى مخطط مشبّك؟ لا ، قطعا ، لأن المخطط المشبّك يفرض مسبقا وجود وحدات ذات بعد متساو. لكن تشكيلة الكوفة في بدايتها تعارضه كل المعارضة. لا نجد في هذا المقام جزرا سكنية على الطريقة الرومانية ، ولا كتلا من العمارات على الطريقة الهلنستية. بل هناك تصفيف من صنف عربي (٢). ولنبين أنه لم يكن يعوزه الفكر الهندسي ، ولا عقلانية التصور المتأثرة بالتقليد البدوي بلا ريب. يظهر الفكر الهندسي في الخطط ومتفرعاتها ، وفي القطائع ، ويبرز في أهمية نسق الطرق التي اتسعت بصورة ممتازة ، وانتظمت ، واتجهت كلها إلى المركز ، والتي يصب بعضها في البعض الآخر ، والمنظمة لسيل البشر. وتلتزم العقلانية بإرادة التنظيم ، وتبرز في توزيع الفضاء الصالح للسكن على الأضلع الأربعة لمربع المركز ، وإسناد الخطط للقبائل ، وحتى توأمة القبائل ضمن خطة واحدة ، وتفصيل القطائع. هنا نجد كل شيء يخالف المدينة العفوية : إنها مدينة منظمة تنظيما مفرطا ، كأنها رسمت على الورق ، لكن هذه العقلانية تتحقق في آن وتتقهقر في تشكيلة الخطط السّكنية الممفصلة تمفصلا شديدا ، هذه التشكيلة تخضع لروح شعب ، وتقليد حضاري أصيل. وهي تكشف لنا عن عقلانية سياسية ـ ومعمارية ـ قصوى ، لأنها تعتبر العنصر البشري على علاته. إذ كيف تمكن العرب البدو من التكيف مع التعايش الدائم في حين أنهم تعودوا الرحاب الفسيحة ، لو لم يعيدوا تشكيل بنية مأنوسة لديهم عربية صرف؟ لكن هذه البنية التي كانت نواة للتطور القادم ، كانت تقع تحت عبء ضيق المجال الصالح

__________________

(١) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ ؛ وج ٦ ، ص ٢١.

(٢) قارن بخصوص خطط القبائل وقطائع العشائر في الكوفة المخطط الذي أورده ايفانز ـ بريتشارد عن أوطان قبائل بنغازي لكن هنا بصورة مكبرة ، Evans ـ Pritchard, The Sanu ? si ? of Cyrenaica, Oxford, ٩٤٩١,. p. ٥٥.

١٣٦

للسكن ، وما طرأ من تصلب على ترتيب القطائع ، وهو ما يتضارب مع نسق الطرق المهوى جيدا ما عدا الأزقة مما أدى إلى ظهور مصاعب فورية.

روى سيف أن الأعشار استقروا في هذا الحزام السكني (١) ، أي الوحدات الكبرى في معركة القادسية ، في حين أن «مواضع» خصصت للمقاتلين الذين كانوا يحرسون الثغور ، وقد غابوا عن الكوفة (ولا سيما عبس) (٢). لكن ها أن الروادف بدأوا يتوافدون ، وقد كانوا من المهاجرين الذين جاؤوا حديثا ، على دفعتين متواليتين ، منذ خلافة عمر (٣). وضاق المكان على المقيمين الأوائل في الحال ، وذلك دليل على أن الخطط حددت بصفة كبيسة ، وأن مجال السكن كان كثيفا عموما إلى حد الشطط. وقد تبين فورا أنه كان لا يكفي ، وما عقّد الوضع كثيرا أن العرب لم يكونوا يتصورون أي تجمع للسكن خارج إطار العشيرة والقبيلة عموما. وأدى هذا إلى إدخال التحويرات والتنقلات والمبادلات ، في مستوى العشيرة والقبيلة. فإذا ما تكاثر المهاجرون الجدد المنتمون إلى عشيرة أو مجموعة من العشائر المستقرة سابقا ، فإنهم يجذبون إليهم أبناء عمومتهم الذين يتخلون عن دورهم ويلحقون بهم حيث يقيمون (٤) ، أي خارج مجال الخطط ، وربما بالأطراف أو في الفجوات الكبيرة. من البديهي أن هذا قد حصل لاستحالة توسيع مجال السكن وقد حصره نسق الطرق ولأنّ عرضه محدود ، ولأنّه يتفرع إلى قطائع أو خطط غير قابلة للاتساع ـ نظرا لوجود عشائر أو قبائل أخرى مجاورة وهي بصورة قسرية محددة ـ فتظهر بمظهر الوحدات الثابتة الصلبة أو الأراضي القبلية التي لا يمكن عبورها. وخلافا لذلك ، حيث يكون الروادف قليلي العدد ، فإن رجال عشيرتهم يجلبونهم إليهم ، ويفسحون لهم المجال ولو أدى ذلك إلى الضيق ، بعد مراجعة تهيئة مجالهم ، وإما بإقرارهم في مكان المغادرين إذا أسعفهم الحظ وكانوا من أجوارهم (٥). فهل كانت تنقلات من الصنف الأول تبين سبب إقامة أحمس ، إحدى عشائر بجيلة الكبرى ، قريبا من الجبانة (٦) ، بحيث أقاموا بعيدا عن مجموع القبيلة ، وأنّ تميما وأسدا وعبسا تجمعوا في الطرف الغربي (٧) ، أي من جهة الكناسة (٨) ، حيث يوجد مجال أوسع

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٦) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٣١١.

(٨) كتاب الأغاني ، ج ١٥ ، ص ١١٠ ؛.Massignon ,op.cit.,p.٣٥ ;

١٣٧

للانتشار؟ نحن نجهل قطعا تفاصيل هذه التحركات التي يمكن أن تفسر الخلاف المحير جدا ، بين بنية الاستقرار الأولى كما رواها سيف ، والطوبوغرافيا غير المباشرة التي جاء ذكرها في تواريخ الثورات اللاحقة. لكن على الرغم من التغييرات الطارئة ، فإن المخطط الأول في روحه كما في إسقاطه المجالي ، بقي الإطار الأساسي لوجود الكوفة وتطورها ، والرّسم الذي انطلق منه بناء المدينة ونشوؤها.

١٣٨

ـ ٩ ـ

التخطيط والتطور اللاحق

ستنمو الكوفة فعلا وسيكون نموها موفقا. كان التخطيط الأول بمثابة النواة التي عملت على إملاء الاتجاه الذي سيكون عليه التطور المقبل. إلا أنها كانت نواة شديدة الهيكلة. أن تكون الكوفة نموذجا للأمصار فهذا مما لا يدخله الشك : الأمصار أي ذاك الجيل الأوّل من التجمعات العربية التي قامت خارج بلاد العرب ، فقامت بدور المراكز العسكرية والسكنية الكثيفة ، وكانت قطبا للتعريب في البلاد التي أقيمت بها كما للأسلحة ، ولأسلمة العرب قبل غيرهم. ولكن وفوق هذا ، هل كانت الكوفة نموذجا للمدينة الإسلامية المقبلة كما شكلت مظهرها في العصور التالية ، وكما حافظت عليه إلى حدود زمن قريب منا؟ أي ذلك النمط الأصلي المتعلق بخصوصية المدينة الإسلامية من وراء تنوعها في المكان والزمان؟ هذا سؤال ينبغي طرحه لا محالة بمتضمناته المتعددة. وهذا واحد منها يخص إلى حد بعيد بنية المجال الذي نجتهد محاولين الإحاطة به. لقد أتيح لشكل المدينة العربية المعهود في العصر الذهبي وما تلاه ، أن يظهر بصفة مكثفة وغير منتظمة وملتوية وفوضوية. كان مكتظا بالأزقة والسكك الصغرى الضيقة. فمن كان يتحمل أعظم مسؤولية في هذا التغيير ، أهو التطور التاريخي اللاحق ، أم البنية الأصلية المجالية في المدينة العربية؟ إن ما يهمنا في هذا المقام هو التخطيط الأولي ، فما عسى أن تكون اختلالاته الممكنة؟

الأمر الثابت أن هذا التخطيط كان منتظما أكثر ما يكون الانتظام وكان بمقدوره أن يخلّف حاضرة منشرحة ، هندسية الشكل ، لو وقع الاستمرار في مراقبتها خلال نموها ، كما كان الأمر عند نشأتها ، ولو استمرت تنمو بموجب اتجاهها الأول ، وهو اتجاه الطول ، بمعنى أن يكون هناك امتداد لا نهاية له ، لا أن يكون هناك تكديس. ولا نستبعد أن يكون حدث التطور بالطريقتين معا. فقد تطورت الكوفة في اتجاه الغرب على امتداد كيلومترات كثيرة ، مع العلم أن الناس انهمكوا في ملء النواة الأصلية (المركز والخطط) إلى حد الضغط. ومع

١٣٩

هذا لا يمكن أن تتسبب ظروف النمو المقبل وأسلوبه وحدها في التطور الفوضوي ، إذا ما حصل مثل هذا في الكوفة. رأيي أنه ينبغي العودة بصفة مطلقة إلى هذين العنصرين الأوليين ، نعني وجود الأزقة وما كان من نقص هيكلي في المساحة الصالحة للسكن. يشكل الزقاق ، قطعا ، جزءا من جهاز المناهج ، إلا أنه كان أكثر اندماجا بالمجال الصالح للسكن ، لأنه ينفتح على الدور ويقسم القطيعة قسمين. فكان دوره مهمّا فيما سيكون للكوفة من مظهر بحيث صار بمثابة السكة المعهودة التي اندمجت حقا بالنسيج السكني ، ولعله بقي العنصر الوحيد من جهاز المناهج ، باستثناء المنهج الكبير. لكن الزقاق لما كان عليه من ضيق ، كان مع هذا منتظما وغير قابل للضغط. وعلى ذلك ، فقد استمر قائما ، في حين أن المناهج الأخرى الطولية قضمت وألحقت إلى أقصى حد بالمجال السكني. ومن المعلوم أن المنصور قمع هذه النزعة في بغداد ، أي نزوع الأهالي إلى تجاوز المناهج الكبرى ، فهدم الدور التي خرجت عن الطرق (١). ولذا ، هناك اندفاع طبيعي أو ما يشبه ذلك يتجه من مناطق السكن إلى مجالات الاتصال. وسبب ذلك رقة القطيعة والخطة بصورة عامة ، وكذلك ما فرض من تحديد على عرض القطيعة ، مقتبس من عرض المناهج. وهذا جعل منها نوعا من الطريق التي لم تتسع إلا قليلا ، وجعل من الخطة القبلية بتمامها بنية تتناوب فيها السيور الخالية والسيور العامرة. وبقدر ما كانت النظرة كبيرة في نسق الطرق ، فإنها كانت قد صغرت في نسق القطائع ، كأن الطرق تفوقت على القطائع ، كما تفوق المجال العمومي على المجال الخاص : هذا تعبير عن استخدام جماعي للمجال من مجموعة تنشر حياتها خارج البيوت. ولا أعتقد أنه يجب اعتبار تصور الحزام السكني بمثابة ثنائية معينة ، بين نسق الطرق المستمد من أشكال هلينستية من جهة ، ونسق المساكن الذي يكون بذلك عربيا صرفا ، حيث أن أسلوب الحياة بالذات يوجب وجود التنقل وتحقيقه بصفة ميسرة.

لقد اتضح لنا أن القطيعة لا تكفي لقبول مزيد من السكان. فهي مصممة لإيواء وحدة بشرية هي العشيرة ، ولذا كانت إقطاعا جماعيا يستبعد الملكية الفردية ، فانتصبت إطارا ملزما لاستقرار كل فرد من أفراد العشيرة. كان إذن المجال الاجتماعي ، كما المجال المادي للقطيعة ، يضغط عليها في سبيل الضيق. ومن هنا نجد في الأساس البذرة لكي يتجه التطور المقبل إلى صنف مدني ضاق ضيقا مشطا ، بسبب تطور انعكاسي تماما ابتلع فيه المجال السكني نسق الطرق فارضا وجهه المعتم في كل مكان. ويمثل هذا الأمر انتقاما موجها إلى المنهج ، مصدره القطيعة. لم يتحول الزقاق إلى طريق مسدودة أو إلى سكة ملتوية ، بل إن نقص الفتحات العرضية وأحيانا مجرد فقدانها في التصميم الأصلي ، هو الذي

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤.

١٤٠