نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

الواضح أن هذه السكك لم تكن مبلطة بل حافظت على وضعها خلافا لما كان عليه الأمر في مدينة أخرى هي حمص (١). لكن حمص كانت تابعة للمملكة الرومانية البيزنطية التي يعترف كتّاب عرب كالجاحظ بتفوقها على مجال وادي الرافدين ما عدا بغداد التي فاقت في نظره مدن «الشامات» فعلا (٢). ومن المعلوم أن موضوع نظافة السكك والرحاب تدقيقا ، تجسم في بغداد حيث كانت السكك تكنس وتزال أوساخها كل يوم (٣). لكن المحتمل أنها لم تكن مبلطة في بادىء الأمر ، لأن التبليط كان في الحقيقة ابتكارا رومانيا لم يدخل كل مكان.

أشرنا سابقا إلى السور والخندق ولنوجز القول بشأنهما. لقد فرضهما أبو جعفر المنصور على السكان فحمّلهم النفقات سنة ١٥٥ ه‍ عقابا لهم على نزعاتهم المتشيعة لعليّ ، وإحصاء لعددهم ـ كما جاء في الروايات (٤). والواقع أن ما قام به أبو جعفر يعبّر عن ظهور تصور كامل جديد للمدينة. هذا التصور إنما ترمز إليه بغداد تماما ، إذ كان جهازها الأساسي السور ومركبات الأبواب. وهكذا تعود التقاليد البابلية إلى سالف قوتها ، بعد أن اختفت إلى حين. وقد أراد المنصور توسيع هذا التصور إلى عاصمته القديمة حيث ارتجف لفكرة هجمة يقوم بها جيش ابراهيم بن عبد الله العلوي الثائر في البصرة. ليس هناك أي شىء؟؟؟ في أن الجهد التمصيري الذي قام به المنصور في بغداد والكوفة وغيرهما ، قد داخله شاغل الاحتماء من الثورات الداخلية. إنها لمفارقة أنه فكر في الأمر بعد أن استتب النظام. وينبغي أن نضيف لهذه الأسباب سببا آخر هو أن الكوفة لم تعد مصرا للمقاتلة بل أصبحت بلدا تابعا ، ومدينة من مدن الخليفة. فكان السور استجابة «لتمدين» الكوفة تمدينا كاملا شاملا ، وللتحول الطارىء على اتجاهها ، والمسيرة التي قطعتها طيلة قرن ونصف منتقلة من وضع المصر المسلح المهاجم المضطرب المهيمن ، أحد منابع القوة العربية ، إلى وضع مدينة الثقافة والصناعة المنزوعة السلاح والهشة. فكان ينبغي حمايتها من العالم الخارجي.

لعب السور بصورة ملموسة دورا أقل أهمية من الخندق الذي كان قناة حقيقية محصنة ، وكان متضمنا للجسور بأبوابها (٥) ، وكانت الأفلاك والمراكب تعبره. كانت الكوفة في الماضي مدينة مليئة بغبار وبرائحة الصحراء فأضحت مدينة الماء. كانت محاصرة بين النهر والصحراء ، فمالت إلى جهة النهر ، وجلبت مياهه وسيطرت عليه وعبرته وجعلت منه حزاما

__________________

(١) البلاذري في فتوح البلدان ، ص ١٤٠ : «إنها مفروشة بالصخر».

(٢) الخطيب ، في :.Lassner ,p.٦٥

(٣) Ibid.,p.٧٥.

(٤) لم يتحدث البلاذري إلا عن الخندق. انظر : فتوح البلدان ، ص ٢٧٨.

(٥) البراقي ، ص ١٢٠.

٣٢١

تحتمي به. فكان سور الكوفة الحقيقي الخندق ـ القنال ، أي ما عرف بالخندق. وقد أشار إليه الطبري عند حديثه عن ثورة شقيق أبي السرايا سنة ٢٠٢ ه‍ (١). ومن نتف الأخبار التي يمكن اقتباسها من هذا الحدث يتبين أن الربض كان موجودا بالخارج ، وهو ربض عيسى بن موسى ، وكذلك الكناسة التي أصبحت ربضا مبنيّا. وبذلك فقد أحاط السور (٢) «بالمدينة» أي بالمركز والخطط ، وحدودها القديمة التي أمحت (٣) وتحولت إلى أحياء حضرية مع ما تبقى من الجبانات. وهكذا تحولت الكوفة إلى مدينة إسلامية كلاسيكية ، لها بنية مزدوجة تتركب من «المدينة» والأرباض ، وحيث كان الخندق والسور يحددان «المدينة» أكثر مما يحميانها ، وقد رسما الحد الفاصل بالضبط بينها وبين الأرباض.

__________________

(١) الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٦١.

(٢) المستوفي القزويني تحدث عن الكوفة على أساس أنها كانت محاطة بأسوار دائرتها ١٨٠٠٠ قدم : Le Strange ,.p.٥٧

(٣) ما عدا خطّة كندة التي اتسعت وتمددت باتجاه الجنوب الغربي من الكوفة مع أنها تحوّلت بدورها إلى حارة في القرن الثالث : عبد القادر البغدادي ، خزانة الأدب ، ج ١ ، ص ٣٨٢ ؛ H. R. Blache ? re, Un poe ? te arabe du IVe sie ? cle, de L\'he ? gire, p. ٤٢

٣٢٢

الباب السابع

الكوفة كنموذج للمدينة

الاسلامية؟

٣٢٣

ـ ٢٤ ـ

الكوفة والمدن المنشأة بالعراق قبل بغداد

إذا ما وافقنا على أن الكوفة كانت منذ البداية حاضرة ، اختطت تخطيطا كاملا ، ووافقنا على وجود الثنائية بين المساحة العمومية المتركبة من القصر والمسجد والأسواق من جهة والحزام السكني المخصص لخطط القبائل من جهة ثانية ، فإنه يمكن التساؤل تساؤلا مشروعا عن النموذج الذي جسمته الكوفة بالنسبة لكل مدينة إسلامية مقبلة. ويزداد المشكل دقة بقدر ما ندخل في العصر الأموي حيث امتلكت أسلوبا معماريا يبدو أن واسط قلدته ، وبغداد ، ولو تجاوزنا منطقة وادي الرافدين ، قصور الشام. ويكون النموذج إذن نموذجا للتخطيط وأيضا للتمصير في المرحلة الأولية ونموذجا معماريا جاء بعده لما تبلور الفن الأموي في وادي الرافدين.

ولذا ، لنا أن نستفهم في هذا الموضوع المؤلفات القديمة والحديثة. جاء في أحد المصادر بخصوص البصرة ما مفاده أنها اتبعت مثال التخطيط كما كان بالكوفة : «واختطت على نحو من خطط الكوفة» (١). كذلك فقد أقر ماسينيون مركزية الأسواق كأساس في بنية الحاضرة الإسلامية ، فعرض افتراضا يقول أن أسواق بغداد قلدت أسواق الكوفة من حيث الهندسة المعمارية والوظائف (٢). وأوضح صالح أحمد العلي بدوره (٣) ما هنالك من تشابه ملفت للنظر بين الامصار وبين بغداد في عصر المنصور لا بسبب المحافظة على البساطة العربية القديمة وحسب ، بل بما كان عليه المسجد من طابع مركزي مدمج وكذلك القصر والدواوين ، فقال متحدثا عن بغداد «إن الأمر كان تماما على نحو الأمصار الأولى».

__________________

(١) سيف ، في : تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩٣.

(٢) Massignon ,Art.cit.,p.٩٤ ; وكذلك :» Mission en Me ? sopotamie «,p.١٩.

(٣)» The foundation of Baghdad «في : Stern ـ Hourani ,ouvr.cit.,pp.٧٨ ـ ١٠١

٣٢٤

وذهب التفكير بغرابارO.Grabar ) في بحث مهم ، تجاوز فيه مؤلفه الأفكار الشائعة نوعا ما ، إلى أن قصر المنصور في بغداد كان مقتبسا من العصر الأموي وأنه كثيرا ما جرى تجاهل وجود أسلوب معماري أموي في وادي الرافدين ، الذي جسمته واسط والكوفة ، ولعله انتقل إلى الشام. وتساءل فعلا عن دور الكوفة ، وكان سؤاله عما إذا كانت نموذجا للبناءات الأموية (في واسط) كما العباسية (في بغداد) (٢). ينبغي العودة للبحث في هذا المشكل ، لأن المؤلف بقي على سطح الاتجاه إلى المقارنة الهندسية الصرف ، ولم تشمل افتراضاته المجموعات المدنية ، لكن الأمر يتعلق بمؤشر لا مراء فيه. وقد مر بنا أن لاسنرLassner كان يلح على فكرة الأصالة في المدينة المستديرة ، وقد رأينا أن تصوره كان خاطئا بشأن كيفية إنشاء الأمصار وتطورها. وبالرغم من ذلك فقد تحدث عن «التشابهات العجيبة» بين مركز بغداد من جهة ، يعني «المجال الشخصي» للخليفة ، وبين مركز الكوفة وواسط من جهة أخرى (٣). وقد لاحظ وجود مركب القصر والمسجد في الموقعين وطابعهما الاتصالي وأن المسجد كان أصغر من القصر. أما فيما يتعلق بالعلاقة المادية الجوهرية بين القصر والمسجد فقد نسب وجودها في الكوفة الأولية (٤) ، وظهورها من جديد في بغداد إلى الإرث الساساني المشترك الذي ينبغي التدليل عليه ، في حين أنه كان أكثر معقولية وأكثر مصداقية أيضا أن تعتبر تأثيرا من الكوفة على بغداد.

من المناسب أن نقول إن هذه الانطباعات المتفرقة تأتي لدعم فرضيتنا القائلة بأن الكوفة نموذج ، أو على الأقل أن الكوفة لعبت دورا بارزا في توضيح التصور الحضري الإسلامي. فقد استند المؤلفون السابقون إما إلى تشكيلة المركز وإما إلى هندسة القصر. لكن سبق أن أشرنا إلى عنصرين للمشكل هما ثنائية المساحة العامة ومساحة السكنى ، وبنية الخطط ذاتها التي تحدد إمكانية أصلية للتطور نحو حاضرة متشعبة ملتوية المظهر ، فكان ذلك سبقا للنموذجية التي كان عليها وضع الكوفة ، وأيضا طرحا لقضية الاستمرارية في مشروع الاسلام الحضاري.

الكوفة والبصرة :

تفقد هذه النموذجية كل حدتها إذا رضينا بما ورد في الروايات التاريخية بخصوص

__________________

(١) al ـ Mushtta, Baghdad and Wasit «, in The World of Islam, Studies in honour of Philip Hitti, London, ٠٦٩١, pp. ٩٩ ـ ٨٠١.

(٢) Ibid.,p.٤٠١.

(٣) Lassner ,The Topography of Baghdad ,pp.٣٣١ ff.

(٤) لا في البصرة ، كما قال خطأ : ص ١٣٤.

٣٢٥

أسبقية إنشاء البصرة ، لأن المشكل يصبح عندئذ مشكل مصادر أثرية وأدبية. الحق أننا لا نعلم إلا القليل عن تكوّن البصرة ، ولم يمدنا علم الآثار بشيء بعد (١) ، على أن القليل الذي وصلنا ينفي الفكرة التقليدية في الموازاة بين المصرين منذ البداية. حتى ولو وافقنا ، مع أبي مخنف (٢) ، والمدائني (٣) ، وابن اسحاق (٤) وغيرهم على أن العرب أقاموا في الخريبة منذ سنة ١٤ ه‍ / ٦٣٥ ، فلا تكون هذه الاقامة إلا مؤقتة لا محالة. وحين تدعم وضع العرب بعد وقعة القادسية واتجهت الاقامة إلى الاستمرار حوالى سنة ١٦ ـ ١٧ ه‍ فلم تقع بالكيفية الرسمية والارادية والمنظمة تنظيما دقيقا التي تمت بها في الكوفة. فقد تضافرت القرائن كلها على اعتبار الكوفة مصرا حقيقيا بينما تكون البصرة قد نشأت عرضا. واستمر الطابع الوقتي للمنشآت بعد سنة ١٦ ه‍ واتسم بخاصيات مشوبة بنظام المعسكر الذي كان بصدد التحول البطيء ، حيث كان ينبغي لأهل البصرة أن يتمكنوا فعلا من امتلاك قاعدة عقارية بواسطة الفتح ، فحملهم ذلك على التقدم إلى خوزستان. ولذا تبدو أسبقية البصرة مفتعلة فلا تنقص في شيء من الأهمية القصوى التي كانت لعملية التخطيط التي حدثت بالكوفة ، ومن نموذجيتها.

يسهل اتهام سيف بعصبيته الكوفية وتخطئة الخبر الذي ذكره عن جماعة صغيرة بقيادة عتبة بن غزوان انطلقت من المدائن واتجهت إلى موقع البصرة ، فأصبحت بذلك نوعا من السليل لجماعة سعد الرئيسية (٥). ويسود فعلا الشعور أن مقصده كان المطابقة بين زمن الانشاءين بحيث يكون ذلك قد تم في بداية سنة ١٧ «في نفس الشهر» حسب قوله. لكنه يعترف أن ثلاث محاولات للاستقرار «نزولات» (٦) قد جرت ، ثم يناقض نفسه فيقول إن البصريين الجدد كانوا موجودين على ضفاف دجلة حين كان الكوفيون العتيدون يقيمون في المدائن (٧). وبذلك فهو يلتحق بالروايات الأخرى التي تتحدث عن مرحلة أولية تم خلالها

__________________

(١) صالح أحمد العلي ، «خطط البصرة» ، سومر ، عدد ٨ / ١٩٥٢ ، ص ٧٢ وما بعدها.

(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩١.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٥١٠.

(٤) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٣٧.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩٠. يقول الواقدي هو أيضا بهذا التفريع : فتوح البلدان ، ص ٣٤٥ ، وابن سعد ، الطبقات ، ج ٧ ، ص ٦. ويذكر اليعقوبي أن الاختطاط بإشراف عتبة تم سنة ١٧ ه‍ : كتاب البلدان ، ص ٢٣٥. ويؤرخ كذلك كايتاني إنشاء البصرة من طرف عتبة بين سنة ١٦ و ١٧ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨ : Caetani ,.Chronografia ,p.١٩١ ويفضل أخيرا ماسينيون دون نقاش سنة ١٧ : Massignon,» Explication du. plan duKu fa «art. cit., p. ٨٥

(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢.

(٧) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩٢.

٣٢٦

فتح «كور» دجلة (١).

وسواء اعتمدنا سيفا أو المخبرين الآخرين (٢) ، وبالرغم من اختلافاتهم ، فإن قراءة نقدية للنصوص تحملنا على الاقتناع بأن عملية عسكرية ثانوية للتلهية (٣) جرت بين سنة ١٤ و ١٦ ه‍ ، وقد كانت بقيادة عتبة بن غزوان وبتوجيه من المدينة. ولا شك أن جموع بكر المقيمين بالحدود قد أشاروا بها (٤). فتسببت هذه الحركة في هجرة محدودة (٥). وكانت عملية ضعيفة المدى حدثت بأسفل دجلة ، فتم الاستيلاء على الأبلّه ـ مقر الحامية الفارسية ـ ودستميسان والفرات (٦). وكان من السهل انهاؤها مما يفسر أن العرب المهاجرين تكاثروا بسرعة. ولا شك أن ذلك قد وقع منذ سنة ١٥ ه‍ بعد القادسية مباشرة. وكان على هذه الغزوات أن تكتسب لها قاعدة فقامت الخريبة بذلك. وقد أكدت بعض الأخبار أن العرب بنوا سبع قرى محصنة هي الدساكر (٧). ولعل المعسكر في هذه الصورة اتخذ شكل منشأة قروية متفرّقة ، فكان نواة للبصرة العتيدة (٨). لكن ذلك يبدو متناقضا مع أقوال هذه المصادر بالذات بخصوص إقامة معسكر من الخيام ، وأكواخ من القصب ، القصب الذي يقتلعه العرب في كل حملة لكي يتمّ تركيبه عند العودة (٩). من رأينا أنه ينبغي رفض فكرة بناء هذه

__________________

(١) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٣٥.

(٢) يذكر الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٩٠ وما بعدها اسم الشعبي وأبي مخنف والمدائني. وتمثل المصدر الرئيس عند البلاذري في شكل مجهول : «قالوا» لكنه يذكر أيضا الواقدي وابن اسحاق وعوانة وأبا عبيدة ، ووهب بن جرير ، وآخرين أقل شهرة : فتوح البلدان ؛ والدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١٦ ـ ١١٩ ، وقد ألحا على ما كان لهذه العمليات من استقلال وتدبير وأهمية.

(٣) كانت فكرة عملية التلهية وحماية الجهة الجنوبية واضحة عند سيف ، الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩١ ، وعند البلاذري ، ص ٣٣٦ ؛ ابن سعد ، طبقات ، ج ٧ ، ص ٥.

(٤) مع سويد بن قطبة مماثل المثنى : فتوح البلدان ، ص ٢٤٣ وص ٣٣٥ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١١٦ حيث بدا بمظهر المقلد للمثنى وكان من عجل ؛ صالح العلي ، التنظيمات ، ص ٣٤.

(٥) فتوح البلدان ، ص ٣٣٨ ؛ أبو مخنف في الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩١.

(٦) فتوح البلدان ، ص ٣٣٥ ـ ٣٤١.

(٧) لا سيما ابن اسحاق : البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٣٧ ، وقد جعل منها مرحلة لاحقة أنشئت بعد وقت قصير من إقامة معسكر الخيام ؛ الواقدي ، في طبقات ابن سعد ج ٧ ، ص ٦ ، اعتبر ذلك بادرة عفوية قام بها بعض الأفراد.

(٨). Massignon,» Explication du plan de Basra «, Opera Minora, III, p. ٠٧ يرى ماسينيون أن الخريبة هي موقع البصرة في حين أنها تظهر على الأطراف. انظر : فتوح البلدان ، ص ٣٣٦ ؛ الطبري ج ٤ ، ص ٤٩٨ وص ٥٣٨.

(٩) فتوح البلدان ، ص ٣٣٦ و ٣٤٢. اقتبس عنه ياقوت ج ١ ، ص ٤٣٢ ، كما هو معلوم ؛ الطبقات ج ٧ ، ص ٦ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١١٧. الواضح أن المقصود هي المرحلة التالية.

٣٢٧

القرى (١) ، وقبول فكرة المنشأة الأصلية المزدوجة : يكون اقرار المهاجرين في قرى الأهالي ، واقرار رفاق عتبة في معسكر حقيقي على النمط العربي (٢). وهو ما لا يتناقض مع إمكانية اختطاط مسجد في الهواء الطلق منذ سنة ١٤ ه‍ (٣). وقد تم التخطيط الشامل باشراف أبي موسى الأشعري بعد سنة ١٦ ه‍. فقط ، فبدأ البناء باللبن ، وشيد المسجد والقصر (٤). لكن المسجد كان صغيرا وكان القصر بعيدا عنه ، والواضح أنهما كانا مخصصين معا لمجموعة صغيرة من الناس. ولم يتوفر أي خبر دقيق ، ما عدا الخبر الذي يقول بتزامن التخطيطين (٥) : تخطيط البصرة ، وتخطيط الكوفة ، بخصوص التاريخ الذي مارس فيه أبو موسى التخطيط ، في حال ما إذا تعلق الأمر بعمل سابق لعمل سعد. كل ما نعلمه أن أبا موسى خلف عتبة سنة ١٦ ه‍ (٦). لكن ليس واضحا بتاتا أنه بادر بتمصير حقيقي للمعسكر. كان عدد المهاجرين ضعيفا جدا ، وكانت الموارد تعوزهم كثيرا ، ولذا فمن الصعب أن يتم التخطيط النهائي في عام ١٦ أو ١٧ ه‍ (٧). وسيقع فعلا تغيير في جغرافيا القبائل بالبصرة ، بكيفية متسعة بين سنتي ١٧ و ٢٠ ه‍ / ٦٣٨ ـ ٦٤١ ارتباطا بفتح خوزستان وبفضل هجرة جموع قبلية ضخمة منسجمة (٨). وهذا لا يعني كذلك أنه كان يجب بدء هذا الفتح ، وبالأحرى انهاؤه أو ترقب الاقامة المخططة في الكوفة ، لكي يقوم أهل

__________________

(١) كانت الدساكر موجودة قبل وصول العرب ، كما قال أبو مخنف : الطبري ج ٣ ، ص ٩١. وورد ذلك في الرواية الرئيسة التي أوردها البلاذري : فتوح البلدان ، ص ٣٣٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٣٣٦.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٣٤١ ؛ ابن سعد ج ٧ ص ٥ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٥ ص ٤٣٢ الذي يتحدث عن تمصير أذن به عمر بعد معركة الفرات ، وعن الإقامة بمنشأة دائمة يتمّ اللجوء إليها. وروى ياقوت أن المسجد بني بالقصب.

(٤) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٤٢ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣٢٣ الذي أرّخ الاختطاط في سنة ١٧ ه‍ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٣٣.

(٥) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٩٠.

(٦) فتوح البلدان ، ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ الذي اعتمد تاريخ سنة ١٧ أيضا. ومن رأى الطبري أن المغيرة كان هو الوالي سنة ١٦ : ج ٤ ، ص ٣٩. وهو التاريخ الذي اعتمده صالح العلي في التنظيمات ، ص ٣٩. لكن البلاذري كان جازما : ص ٣٤١.

(٧) أورد البلاذري عبارة رئيسة في فتوح البلدان ، ص ٣٤٢ ، أكدت التخطيط قال : «ثم أن الناس اختطوا وبنوا المنازل ، وبنى أبو موسى الأشعري المسجد ودار الإمارة بلبن وطين وسقفها بالعشب». وقد تزامن البناء المتين وتخطيط المصر ، كما حدث في الكوفة.

(٨) صالح أحمد العلي ، ص ٤١ ، اعتمد ابن سعد. لكن قبيلة عبد القيس لم تهاجر إلى البصرة إلا في عهد ابن عامر (٢٥ ـ ٣٦ ه‍). ويحتمل أن الأمر كان على ذلك النحو بالنسبة للأزد. وقد اتضح نمو البصرة خلال الأعوام الخمسة (١٧ ـ ٢٢) عبر وفد أهل البصرة سنة ١٧ ه‍ لدى عمر : الطبري ج ٤ ، ص ٧٤ ـ ٧٥ وعبر إعادة تعديل الفتوحات بين البصرة والكوفة سنة ٢٢ ه‍ : الطبري ج ٤ ، ص ١٦٠ وما بعدها.

٣٢٨

البصرة بتخطيط يخصهم. يحتمل كثيرا أنهم سبقوا أهل الكوفة في مدة تقع بين سنتي ١٦ و ١٧ ه‍ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨. وما ينبغي تسجيله خاصة هو الفرق بين ظروف الاقامة هنا وهناك ، والفارق الدلالي الكبير بين هاتين الظاهرتين. كان جيش الفتح موجودا في الكوفة التي كانت ترمز إلى تجربة الاستيطان العربي في بلاد الرافدين ، بالنسبة لعمر. وقد توفرت لهذا الجيش أرض مفتوحة تستدعي التنظيم مع ما يشمل ذلك من ابتكار وتهيئة واستيعاب للتجارب الواردة بالمحيط. وكانت البصرة ثمرة لعفوية لم يجر السيطرة عليها تماما ، وثمرة لعمل إضافي ثانوي في البداية ، وثمرة رغبة في الهجرة بأقل التكاليف. فكانت إذن محتشمة ضعيفة المدى واستفادت من الانتصارات التي ترتبت عن خوض معارك كبرى وقعت بمركز القرار في بلاد بابل. كانت هناك لحظتان واضحتان في ظهور البصرة : فترة إقامة مؤقتة سنة ١٤ ، بعد وقعة البويب مباشرة ، وفترة اقامة دائمة مصحوبة بالتخطيط والبناءات ، بعد سنة ١٦ ه‍ / ٦٣٧ (١). لكنه كان تخطيطا منقوصا حتما ، وهو ما يفسر فيما بعد اتساع أعمال التحوير والتشييد التي أمر بها زياد. ولا شك أنه أخذا بوجهة النظر هذه ينبغي الاحتفاظ بالأسبقية في التخطيط للكوفة أو على الأقل على كثافة أعظم في الدلالة ، وحتى تخطئة الموازاة أو التوأمة بين المصرين في هذه المرحلة الأولية. ومن الممكن أن التقليد التاريخي العربي قد أسقط على وضع مختلف صورة الكوفة الأولية والصورة التي أضحت عليها البصرة بعد ذلك. وعلى كل ، فقد اتصفت الكوفة من أول وهلة بصفة المدينة ، أو أن تخطيطها على الأقل ، أكد طموحها لذلك لأن أهل الكوفة قاموا بحربهم ، فجنحوا إلى الحياة المدنية. أما البصرة فباستثناء الغارات الأولى التي وقعت في مرحلة الخريبة ، فقد كان عليها أن تشن حربها (في خوزستان) لتربح سلمها وتدعم وجودها. فما أعوز نشوؤها من صفات العز التي توفرت للكوفة ـ النموذج التمصيري والتنظيم الجبائي العسكري وكبرياء السابقة ـ عوضت عنه بأن كانت مكانا للمبادرة والخلق والتماسك الذي استحقته بقدر ما منحته. لقد بقيت الكوفة حبيسة نشأتها المنظمة جدا ، والمرتبطة كثيرا بالحرب والحكم. وبفضل عفويتها الأولى ، حصلت البصرة على قدرة كبيرة على التطور ، ونزعة عميقة إلى السلم الداخلي.

الكوفة وواسط :

سبق أن قلنا أن غرابار أقام صلة أساسية بين الكوفة وواسط وبغداد ، فلفت بذلك نظر الباحثين إلى أهمية العمارة الأموية بوادي الرافدين وحتى إلى دورها النموذجي لا في الاتجاه الأموي ـ العباسي فقط حيث طرح الاستمرارية ، بل أيضا في الاتجاه الفضائي العراق ـ

__________________

(١) ذاك هو الأمر الذي لم ينتبه إليه صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٣٦.

٣٢٩

الشام (قصر المشتّى خاصة) (١). لكن إذا لم يشغلنا الآن المشكل المعماري ـ تصميم القصور ، وبنية الايوانات ووجودها ، والشرفات الخاصة بالأبواب ـ فذلك لا يعني أنه ليس مؤشرا رفيعا على التسلسل الرابط بين الكوفة وبغداد ، مرورا بواسط ، على مستوى التصور المدني الأوسع. على أن غرابار جعل من واسط المثال الوحيد لبغداد ، فأنزل الكوفة منزلة الأصل فقط ، بسبب التماثلات المدهشة (مثلا القبة الخضراء) والتقارب الزمني وطابع مدينة الحكم ، أي مدينة شبه امبراطورية ، الذي كانت عليه واسط. لكن العباسيين أقاموا بالكوفة وعرفوها ، واستخدموا مهندسين معماريين من الكوفة (٢) وقد بينا ذلك. وأخيرا فبالرغم من قلة الثقة المتبادلة فقد كانت لهم جذور بالكوفة ، في حين كانت واسط تجسم السلطة المكروهة التي قاموا بتقويضها. هذه عناصر نفسانية ينبغي أخذها بعين الاعتبار وهي تحملنا على الاعتقاد بأن المنصور استمد نموذجه مباشرة من واسط والكوفة معا ، مع اعتبار التأثيرات الخارجية طبعا والجانب الخلاق بالمقدار نفسه. الواقع أن واسط سمت كثيرا بالتصور المعماري الكوفي. كان كل شيء كبيرا بها ، المسجد والقصر ، ويمكن مقارنة ذلك بمنجزات المنصور بخصوص الأبعاد. كانت مدينة للحكم كما قلنا ولحكم مهدد كما أنه صار متعسفا ، لكنها كانت مدينة مصطنعة أيضا ، لا وجود فيها لمجموعة حقيقية من السكان ، خلافا لما كان عليه الأمر في الكوفة ، وفي حين أنها توافرت لبغداد ، بغداد التي بنت لنفسها مصير حاضرة كاملة مندمجة.

لقد اعتمدت المصادر المتوفرة لدينا على كتاب بحشل تاريخ واسط (٣) أساسا فضلا عن معلومات متفرقة وردت في الأدب التاريخي الجغرافي ، وعلى ما كتبه ياقوت الحموي وعلى فقرة قصيرة من كتاب البلدان (٤) لليعقوبي. كما أمدتنا التنقيبات الأثرية التي أجريت بين سنة ١٩٣٦ و ١٩٤٢ ، بمعلومات هامة (٥).

أنشئت واسط بعد ثورة ابن الأشعث (أي بين سنة ٨٣ و ٨٤ ه‍ / ٧٠٢ ـ ٧٠٣) (٦).

__________________

(١) Grabar ,Art.cit.,pp.٩٩ ـ ٨٠١.

(٢) الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٧٠.

(٣) تحقيق كوركيس عواد ، بغداد ١٩٦٧. مات بحشل في ٢٩٢ ه‍ / ٩٠٥.

(٤) كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ؛ راجع أيضا البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، الذي يتحدث خاصة عن المحيط ؛ ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص ١٨٧ ؛ المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص ١١٨.

(٥) فؤاد صفر ، واسط : نتائج الموسم السادس للتنقيب ، القاهرة ١٩٥٢ ، ص ٤٥ وما بعدها. ونشرت أبحاث كثيرة للمدرسة العراقية بمجلة سومر من ١٩٤٥ إلى ١٩٥٧ ذكرها بالتفصيل كوركيس عواد.

(٦) أرّخ بحشل إنشاء واسط سنة ٧٥ ه‍ : تاريخ واسط ، ص ٤٣. لكن لا يمكن اعتماد هذا التاريخ فقد كذبته المصادر الأخرى : الطبري ج ٦ ، ص ٣٨٣ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٨٨ : ياقوت ، مادة واسط. وقد تضاربت أقوال بحشل بلا ريب بحيث أنه يجعل بناء واسط بعد ثورة إبن الأشعث : ص ٤٤.

٣٣٠

فهي إذن ثمرة لإرادة السلطة الأموية في العراق ـ بمعنى إرادة الحجاج ـ في التخلي عن البيئة العربية المحيطة به ، وإنشاء مقر للحكم والاحتلال أو نحوه ، في محيط معاد. الواقع أن واسط قامت إلى جانب حاضرة أهلية قديمة هي كسكر ، وحافظت على تميزها فأنشئت على شاطىء دجلة الغربي ، في حين أن المدينة القديمة كانت تقع إلى الشرق. إنما جرى الإبقاء على ما كان من صلة بينهما ، فشيد جسر من المراكب ، وثبتت وحدة المدينة بتمامها شيئا فشيئا ـ أي المدينة القديمة والجديدة ـ وتراكبت هكذا على النهر كما كان الأمر في بابل (١). على أن مدينة الحجاج حافظت مدة على ذاتيتها التي كان السور يرمز إليها ويجسمها (٢). ولم يكن للمدينة الجديدة إلا أن تأخذ بعين الاعتبار التجربة الحضرية التي استوعبها العرب بوادي الرافدين. كان جهد البناء هاما ، وقد تجاوز المحاولات الأولية وهيأ للأعمال الكبرى الأولى في العمارة العربية التي سيدشّنها الوليد. ولقد أتى هذا المجهود في فترة تأكيد الذات في الميدان الفني ، في فترة تحول طرأ على الحضارة العربية الباحثة عن أسلوب لها ، ومجد تسجله على الحجر أو الآجر. فظهرت القبة الخضراء المعروفة (٣) التي قلدها المنصور فكانت حدثا فنيا مع أن قبة الصخرة سبقتها في الوجود. هذا وإن بنية النواة المركزية كانت من النوع الكوفي : كان القصر يفتح على المسجد ، وقامت غير بعيد من ذلك أسواق متخصصة (٤). مع الفارق أن البناء تم على نطاق أعظم ، ولا شك أنه كان أكثر تهذيبا. كانت أقيسة القصر المربع (٥) ، ٤٠٠ ذراع* ٤٠٠ ذراع ، وكان المسجد أصغر من ذلك (٢٠٠* ٢٠٠). إن هذه الأقيسة مساوية تماما لما سيتم في بغداد وأكثر مما كانت عليه في الكوفة. كانت السوق غير بعيدة عن القصر ، وعالية التخصص (٦) وقيل أنها كانت متسعة كثيرا. لكن عدد الصنائع المذكورة في المصادر غير هام جدا (٧) ، وهذا دليل واضح على الفارق الموجود بين الأهداف التي قصدها الحجاج وواقع الاستقرار.

وقد فرضت الأمور تسلسلا مع الكوفة ، في تصور المركز هذا. لكن كافة الأشياء

__________________

(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ؛ ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص ١٨٧.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ، تحدث المؤلف عن مدينة قديمة ومدينة جديدة وعن إحاطة السور بالمدينة الجديدة فقط. ومن المعلوم أن ابن هبيرة قاوم فيها حصارا مضروبا عليها. وتحدث بحشل عن سورين وخندق : ص ٤٣ ، وذكر ياقوت خندقين وسورا : مادة «واسط».

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٨٨ ؛ كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ؛ الأعلاق النفيسة ، ص ١٨٧. ولم يرد ذلك في كتاب التاريخ.

(٤) التاريخ ، ص ٤٣.

(٥) ياقوت ، مادة واسط ؛ Grabar, art. cit., p. ٥٠١; Lassner, ouvr. cit., pp. ٣٣١, ٩٨١

(٦) التاريخ ، ص ٤٤ : معلومات هامة.

(٧) ذكر بحشل عشر صناعات ، وكان التفوق للصرافين.

٣٣١

المتعلقة بامتداد الأقيسة والبحث عن المظهر العظيم والمترف ، توحي باستيعاب أكثر رقة للمكاسب السابقة كما توحي بالذات بوعي للحضارة العربية وهي بصدد التكوين ، وبترجمة معمارية عن شعور بالقوة ، فيما كانت منطقة الشام وفلسطين توحي بالبحث عن الجمالية والجمالية فحسب. فهل كان ذلك بمثابة عودة أكثر وضوحا إلى المثال الآشوري ـ البابلي الذي ساعدته ظرفية الدفاع والصراع؟

إن الظاهرة الجديدة في واسط بالمقارنة مع الكوفة والبصرة ، هي أن يشيّد خط مضاعف من الأسوار ، وخندق ، وأن توجد أبواب جيدة الحراسة (١). هذا احياء لبابل وصورة مسبقة لبغداد أيضا ، كأن واسط أرادت أن تمر من فوق مرحلة الأمصار الصرف (٢) لوصل الحاضرتين الكبيرتين بوادي الرافدين. كانت الكوفة الأولية والأموية مدينة مفتوحة فعلا. ولم ترض ، شبيهة في ذلك باسبرطة ، بسور سوى ذاك الذي ترفعه سيوف أبنائها. لقد تبقى فيها ما يشبه الشعور بالحرية العربية ذاتها ، حرية المقاتلين المتأهبين للهجوم ، لا سيما حرية البدو المولعين بروح الصحراء. ولعلهم كانوا يتبرمون من العيش المدني ويختنقون فيه اختناقا ولعلهم كانوا يتصورون أي سور كحائط سجن يحبسهم بصفة لا تطاق. ولعل امتناع المصرين من قبول النظام الاستثنائي ، نظام الرقابة وحظر التجول ليلا ، الذي شرع زياد في تطبيقه (٣) وتمادى فيه الحجاج ، هو الذي جعل هذا الأخير يقدم على الفصل بين مقر الحكم والسكان العرب. إن التمييز بين المجتمع والسلطة هو وحده الذي يفسر تشييد الأسوار في واسط كما في بغداد ، وليس الخطر الخارجي (٤). بقي أن يجري التنقيب عن نموذج في الحضارات السابقة ...

في البداية ، تماثل المجتمع بالشعب العربي من مهاجرة الكوفة والبصرة. كانت أمة من المقاتلين تشعبت تشعبا عميقا بذاتيتها بالنسبة لجهاز الدولة الذي اعتبرته طفيليا باستمرار. وهناك أيضا عالم أهل السواد ، الذي منع عليه الحجاج التسرب إلى الحاضرة العربية. لذا اختير السكان العرب في واسط اعتمادا على ما أبدوه من ولاء ، فتكونوا من أهل الشام ومن عدد من أهل الأمصار المنتخبين (٥) ، والرأي عندي أنهم كانوا قليلي العدد ولم يشكلوا مجموعة حضرية منسجمة ومتميزة في آن. أما أهالي السواد ، فقد حظّرت عليهم

__________________

(١) تاريخ واسط ، ص ٤٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٥ ، حيث يدور النقاش لمعرفة ما إذا كان لواسط خاصيات المصر ونظامه.

(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢١٧ وما بعدها.

(٤) كان يجدّ ذلك بعد نشوب الثورات الداخلية : ثورة ابن الأشعث ، واضطراب الراوندية ، وانتفاضة محمد بن عبد الله الحسني.

(٥) بحشل ، تاريخ واسط ، ص ٤٤.

٣٣٢

الاقامة عبر تمييز عنصري لا يتصور ، إذ كانوا ملزمين بمغادرة المدينة قبل أن تقفل أبوابها عند المغرب (١). كان للعرب المختارين فقط حق الاقامة ، لكنهم كانوا مثل الآخرين وعلى حد سواء ، خاضعين لنظام الرقابة والارهاب. فيذكر لنا بحشل أن الحجاج وضع الحرس على كل باب من أبواب السور ويذكر لنا أيضا أن العرب كانوا يدخلون المدينة عند المغرب فيما يخرج منها أهل السواد (٢). إذ لا حق لهم بالمبيت فيها.

وهكذا نجد في المشروع الحجاجي لواسط ارادة واضحة لاقصاء الغير ، وهذا ما أضفى على واسط مظهر المدينة المغلقة الخاضعة للرقابة ، ومثل هذه النية تبرز في مخطط المدينة المدورة ، لكن الكوفة والبصرة لم تتصفا بهذا المظهر ، ما عدا بعض الفترات الخالية من الارهاب. ولقد قيل إن أفصح العرب أقاموا بواسط لنقائهم العرقي ، وفي مكان آخر إن أهل الكوفة اختلطوا بأهل السواد وأهل البصرة في الخوز (٣) ، وهذا دليل على عمق المبادلات بين المصرين ومحيطهما البشري. وقد برزت سياسة التعسف الاستثنائية التي توخاها الحجاج في نهب زخارف العمارة بالمدن القريبة ، لا سيما أبواب الحديد بمدينة؟؟؟ ند ورد والدوقرة ، ودير ماسرجيس وسرابيط ، كما تناقلته الروايات (٤) ، واستقدمت لتركيب أبواب واسط ، وأعيد استخدامها في بغداد من قبل المنصور (٥). لكن هذه السياسة التي توخاها الحجاج جاءت معاكسة للتيارات المتجهة إلى الاختلاط ولحركات النزوج الريفي إلى المدينة ، ولذا جرى العدول عنها بعد موته (٦). ولئن ظهرت الكوفة بمظهر النموذج على صعيد العمارة للنواة المدنية فإن واسط اختلفت عنها جذريا ، على الصعيد البشري والثقافي ، وقد ترجم ذلك من حيث العمارة إلى تعارض دامغ في واسط ، بين مركز سياسي ـ ديني عظيم وحزام سكني ـ متركب من محلات ـ هزيل فعلا (٧). وعندما «تمدنت» البصرة والكوفة بانتفاء الصفة العسكرية عنهما ، تم ظهور واسط كمركز استيعاب لجيش الاحتلال الشامي ، معوضة الكوفة والبصرة في اختيارهما الحربي السابق ، لكنها وقفت نفسها على خدمة دولة وخصوصية سياسية معينة.

__________________

(١) تاريخ واسط ، ص ٤٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٦.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٤٦.

(٤) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٨٩ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ، مادة «واسط» ، ج ٥ ، ص ٣٤٩ ؛ الخطيب ، تاريخ بغداد ، ص ٧٥.

(٥) الخطيب ، تاريخ بغداد ، ص ٧٥.

(٦) معجم البلدان ، مادة «واسط». لكن تاريخ واسط يذكر أن التمييز العنصري استمر حتى زوال الدولة الأموية : ص ٤٦.

(٧) تاريخ واسط ، ص ١٢ ، ١٤٠.

٣٣٣

ـ ٢٥ ـ

الكوفة وبغداد

سبق أن اقترحنا وجود تسلسل مزدوج بين الكوفة وبغداد ، بداية وأصلا عن طريق تدخل واسط وثانيا بالعودة المباشرة إلى التصور الحضري الكوفي بصورة شاملة وتفصيلية. لكن بمفعول العودة يتبين تأثير بنية بغداد على الكوفة وهي ما زالت في حالة تطور.

لقد ألح التقليد الاستشراقي مدة طويلة على الطابع الفارسي الذي طبعت به بغداد (١) ، وهو أمر واقع لكنه يبدو ثانويا. واليوم أكثر من أي وقت ، تفرض نفسها على المؤرخ فكرة الاستمرارية الهيكلية بين الإرث الأموي والانشاءات العباسية الأولى ، لكن مع وجود انفصام معين. وفي الجملة فقد جمعت بغداد ـ طبق نظام زمني معكوس ـ بين واسط والكوفة ، وتجاوزتهما في آن.

كانت الكوفة عاصمة إدارية للعباسيين قبل سنة ١٤٩ ه‍ / ٦٧٢ ، لأنها اشتملت على الدواوين المركزية (٢). وكانت العاصمة السياسية تتجسم قطعا في المدينة حيث يقيم الخليفة في تنقلاته المختلفة ، ولا سيما مدينة ابن هبيرة في خلافة المنصور (٣). لكن هذه المدينة

__________________

(١) Streck ,Die alte Landschaft Babylonien ,p.٦٥ ؛ وانظر أيضا : Creswell, Early, Muslim Architecture, II, pp. ٨١ ـ ١٢. الذي ألح خاصة على التصميم المستدير وجعل منه نسخة من درابجرد وغور وطيسفون. وقد لاحظ صالح أحمد العلي التشابه بين المدينة المستديرة المحصنة والقهندزات الفارسية : انظر : Hourani ـ Stern, The Islamic City p. ٣٩ ؛ في حين أن لاسنر نازع في كل فكرة للتسلسل الفارسي :. Lassner, op. cit., pp. ٢٣١ ـ ٣٣١ لكن صالح العلي أكد الاستمرارية مع الأمصار في مستوى الهياكل الإدارية والبشرية فيما يكرس لاسنر النموذجية الامبراطورية لمدينة طيسفون ـ سلوقية المتوأمة. إن التصميم المستدير وجد منذ القدم في وادي الرافدين. لكن الاستدارة لم تكن منتظمة تماما. وقد انفردت مدينة زنجرلي (آخر الألفية الثانية) بالصفة الدائرية الكاملة ، وكانت تقع بأعلى الشام. ولقد بنيت كثير من المدن الدائرية بعد سقوط امبراطوريتي بابل وسلوقية» انظر :.Oppenheim ,op.cit.,p.٦٤١.

(٢) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٩٣.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٨٥. سماها كذلك «المدينة الهاشمية». الواجب تمييزها عن هاشمية أخرى قريبة منها كما

٣٣٤

الأخيرة كانت مصطنعة الانشاء ، وكانت تقابل الكوفة وتستقبل منها قسرا كافة التأثيرات (١). وقد روي أن بغداد تقرر لها التمتع بموقع أفضل من موقع الكوفة. على أن الموقع لا يمكن اعتباره إلا عن طريق الغايات التي يختارها المؤسسون ، وليس في حد ذاته. كانت الكوفة أحسن موقعا ضمن تشكيلة معينة للتاريخ ، ولأن العرب الأولين أدركوا بطريقتهم ما كان للفضاء الجديد المفتوح من اعتبار : كانت الكوفة تستجيب لتخوفهم تجاه الأهالي وتربطهم بالوطن الأم. وقد استجابت بغداد بدورها إلى تمثل جديد للفضاء والبشر الذين تكونت منهم الامبراطورية (٢) ، وقد ارتبطت بغاية أخرى تخالف غاية عمر. وظهر في إنشاء بغداد الطموح إلى الجديد ، ورمزية الجدة ، ومعنى الامبراطورية وعزتها ، كما برز تصور حديث للموقع الهندسي الذي كان لهذه الأمبراطورية (٣).

فما هي العناصر الرئيسية التي تركبت منها بغداد في خلافة المنصور؟ كان للمدينة المستديرة مركز ، حزام سكني ، وأسوار متشعبة (٤). وقد امتدت منذ البداية إلى أراض قامت خارج الأسوار (٥).

وكما حدث بالكوفة وواسط ، فقد حدد المركز المساحة العمومية حيث يوجد القصر والجامع الأعظم ، وقد كان القصر كذلك أوسع من المسجد (٦). كما أن هناك دارا للشرطة وبعض البنايات الادارية الأخرى وكما هو الشأن بالكوفة أيضا ، فإننا نجد حزاما سكنيا يحيط

__________________

ينبغي التمييز بين قصر ابن هبيرة ومدينة ابن هبيرة. ويرى الطبري أن المنصور هو الذي أنشأها وهي تقع إلى جانب مدينة ابن هبيرة دون أن تكون قد انصهرت فيها : تاريخ ، ج ٧ ، ص ٦١٤.

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٨٥ ؛ الطبري ، ج ٧ ، ص ٦١٤ ـ ٦١٥.

(٢) الطبري ، تاريخ ، ج ٧ ، ص ٦١٦ ـ ٦١٧ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨. ورد في الكتابين خبر أصلي واحد عن بغداد كمفرق للطرق ، لكن الطبري يلح على ما كان لوضعها من قيمة استراتيجية بينما يبرز دورها التجاري في كتاب البلدان لليعقوبي.

(٣) Lassner ,ouvr.cit.,pp.١٣١ ـ ٢٣١.

(٤) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٨ ـ ٢٤١ ؛ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ص ٦٩ ـ ٧٩ ؛ ابن الفقيه ، بغداد مدينة السلام ، نشر صالح أحمد العلي وهو القسم المتعلق ببغداد اعتمادا على مخطوطة مشهد ، ص ٣٣. أوضح لاسنر جيدا هذه البنية الثلاثية ، Lassner ,ouvr.cit.,p.٢٤١

(٥) الخطيب البغدادي ، ص ٨٣ ـ ٩٩ ؛ كتاب البلدان ، ص ٤١ : من الواضح أن الأرباع قسمت الارباض الخارجية إلى خطط مربعة الزوايا. والأرباع لا تهمّ الدائرة الداخلية كما ورد في كتب التاريخ الحديثة ، انطلاقا من هرزقلد؟؟؟ ، حتى صالح العلي ولاسنر اعتمادا على الطبري وحده : تاريخ ، ج ٧ ص ٦٥٢. على أنه من الممكن أن تكون الأرباع الخارجية امتدادا للأرباع الداخلية إن وجدت.

(٦) قياس القصر المذكور هو ٤٠٠ ذراع للضلع و ٢٠٠ ذراع لضلع المسجد لا غير : الخطيب ص ١٠٧ ؛ Lassner, ouvr. cit., pp. ٦٣١, ٩٨١. Creswell, Short Account, p. ٩٧١

٣٣٥

بالمساحة العمومية وتخترقه السكك المختطة اختطاطا هندسيا (١). إن تقسيم المدينة المستديرة إلى منطقتين مجاليتين ـ أي المساحة العمومية ومساحة للاقامة ـ يظهر استمرارا ممتازا لتركيبة الكوفة. وقد ذكرنا أن هذا التطور ظهر أول ما ظهر بالكوفة ، وما يلفت النظر أن كل من درس وضع بغداد ، بداية من لاسترانج Le Strange حتى لاسنر ، مرورا بهرزفلدHerzfeld وكرسويل وعبد العزيز الدوري وصالح العلي ، لم يهتموا بمصير الحزام السكني داخل أسوار المدينة أو أنهم لم يفكروا في اعتباره عنصرا حاسما للبنية المدنية الاسلامية في حد ذاته أولا وفي كونه يتعارض مع المركز السياسي ـ الديني ثانيا. فلو أراد المنصور بناء قلعة فحسب أو «مقرا شخصيا» لما أقيمت هذه المنطقة السكنية وهذه السكك وعددها ٤١ كما ذكر ذلك اليعقوبي (٢). صحيح أن رقة الحزام ـ من ٣٠٠ إلى ٤٠٠ متر عمقا .. أي ما يعادل طول الطاقات ـ لا تؤيد ما كان يتوقع له من أهمية (٣). وصحيح أيضا أن الاقطاعات التي منحها قادة الجيش خارج المدينة المستديرة ، وكان ذلك منذ البداية فيما يظهر ، تدعو إلى القول أن الاسكان تمّ تصميمه خارج المدينة.

على أن المساحة المخصصة للسكن داخل المدينة مهما صغرت ، فإنها تؤيد التصور المدمج للحاضرة على النمط الكوفي ، لأن المركز مهما كان متفوقا ، فإنه لا يبتلع المكان كله. إن وجود مثل هذا الحزام ـ زيادة على بنية المركز نفسه من جامع وقصر ورحبة ـ يحملنا على الاعتراض على تصور المدينة ـ القصر ، ويطرح استمرارية أساسية مع الأمصار.

في حين أن لاسترانج (٤) اعتمد بصراحة المعطيات التي ورد ذكرها لدى اليعقوبي والخطيب البغدادي فوزع على المركز البنايات الادارية ودور أبناء الخليفة ، نجد أن لاسنر قد تصور تصميما آخر تماما. هو أخرجها من المركز وضمها إلى مساحة السكن فشيد حلقة إضافية وترك فراغا بينها وبين القصر (٥) ، معتمدا ما ذكره الطبري لا غير (٦) ، بخصوص

__________________

(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ؛ الخطيب ، ص ٨٩ ؛ Herzfeld ,op.cit.,II ,pp.٣٠١ ff , ؛.Reitemeyer ,pp.٥٥ ـ ٨٥ ولم يتحدث لاسنر عن ذلك قط ، ولم يقل عنها صالح العلي إلا القليل ، بحث مذكور ، ص ٩٤.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١. ابن الفقيه يسمّي السكك شوارع غلطا : بغداد مدينة السلام ، ص ٣٦. يبدو أن ما ميز المدينة المستديرة هي السكك. أما الطرق فهي تواجه المحاور الخارجية الكبرى التي تنطلق من الدروب : كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ؛ الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤.

(٣) Lassner, Ouvr. cit., p. ٥٤١; Creswell, Early Muslim Architecture, II, p. ٣١.

(٤). Baghdad, during the Abbasid Caliphate, pp. ٤١, ٥١ وقد تجاهل ذلك هرزفلد وكرسويل.

(٥) Lassner ,ouvr.cit.,pp.٤٤١ ـ ٦٤١ ,٧٠٢.

(٦) التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٦.

٣٣٦

بيوت القادة ، التي كانت تنفتح على الرحبة ، ولا سيما إشارة وردت في كتاب البلدان (١) جاء بها :

«وليس حول القصر بناء ولا دار ولا مسكن لأحد إلا دار من ناحية باب الشام للحرس وسقيفة كبيرة ... ، وحول الرحبة كما تدور منازل أولاد المنصور الأصاغر ومن يقرب من خدمته من عبيده وبيت المال وخزانة السلاح وديوان الرسائل وديوان الخراج وديوان الخاتم وديوان الجند وديوان الحوائج وديوان الأحشام ومطبخ العامة وديوان النفقات». هذا نص هام دون شك ، والغريب أنه لا هرزفلد ولا كرسويل اعتمداه في تخيلهما لتصميم مخطط المدينة المستديرة ، لكن لم يكن الأمر على هذا النحو بالنسبة للاسترانج (٢). فهو يوزع هذه البنايات بين القصر والحزام السكني ، تاركا فسحات بينها ومحترما الطابع الواضح للرحبة. الواقع أن تصميمه يستجيب أكثر لمجموع المعلومات التي توفرت لدينا ، مما تستجيب لذلك الحلقة الاضافية التي تصورها لاسنر. وما قدمه هذا الأخير من حجج لم يكن مقنعا ، بما فيها قصة عيسى بن علي (٣) التي لا تدل إلا على أن الرحبة كانت حيّزا كبيرا للسير على الأقدام بالصورة نفسها التي بقي ما قاله اليعقوبي غامضا. كان المجال المركزي واسعا فعلا : كان قطره يتراوح بين كيلومتر وكيلومترين حسب التقديرات ولذا ، يمكن تصور القصر والمسجد منعزلين تماما دون إضافة حلقة أخرى مفردة لا بد أن تكون المصادر قد أشارت إليها لو كانت موجودة حقا. فضلا عن أن مقر المصالح الادارية كان في كل زمن بالمركز العمومي سواء في الكوفة أو البصرة أو واسط والأكثر أن يكون في القصر ذاته أو إلى جواره. لكن بخصوص المدينة المستديرة فإنه ينبغي ابعادها كما أكد ذلك اليعقوبي ولأنه أكد الأمر ، دون إقصائها عن المركز الذي من وظائفه أن يتقبل وجود هذه المصالح. وبالفعل فإننا نستعين في مثل هذه الصورة ، بمعرفتنا بالكوفة الأولية وبتلك البنية الحضرية الموظفة التي استنتجناها ، وهي تسمح لنا بأن نحسم في اتجاه المصداقية. على أن الرحبة لا تغطي المركز كله إلا على سبيل المجاز. إن المقصود بالتحديد من هذه الكلمة هو المجال المحيط بمركّب القصر والمسجد ، والذي يفصله عن قطائع السكنى. وكما كان في الكوفة ، لكن بصورة أعظم ، أصبحت هذه الرحبة «رحبة المسجد» بعد ذلك (٤) ممددة إياه ، واستخدمت للصلاة في الهواء الطلق (أي كمصلى). وتؤيد كل هذه

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٢٤٠.

(٢) Le Strange ,Ouvr.cit.,pp.٤١ ـ ٥١.

(٣) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٢ : كان عيسى يريد الحصول على اذن بألا يستمر في عبور الرحبة راجلا. وقد حدث ما يشبه ذلك في الكوفة : انظر ما سبق ص ١٠٨. والمهم أن نلاحظ أن الفصائل صممت لتوصل مختلف أجزاء مساحة السكن.

(٤) هكذا يسمّيها الطبري منذ بدء إنشائها : ج ٧ ، ص ٦٥٢ ، ويحتمل أن يكون ذلك إسقاطا يعود إلى الماضي. لكن الأمور تزيد وضوحا في القرن الثالث : المرجع نفسه ، ج ٩ ، ص ٣٥٨.

٣٣٧

الأسباب فكرة تعمير المركز بواسطة البنايات الادارية ، وإلا كان ساحة شاسعة خالية أو يكاد. إن هرزفلد يقدر قطر المدينة المدورة ب ٢٦٨٠ مترا (١) : لكن تصعب الموافقة على هذا الرقم لأنه يزيد من الاختلال بين المركز والحزام السكني الذي كان عمقه هو عمق الطاقات فعلا (٥٣٨ ذراعا ـ ما يقرب من ٢٩٠ مترا ، وهناك زيادة طفيفة بإضافة الطاقات الصغرى) (٢). ويقترب عمق مركّبات المداخل المنتهية حيث تبدأ الرحبة من ٧٠٠ ذراع (ـ ٣٧٠ مترا) إذا جمعنا العناصر المكونة لها (٣). الأمر الذي يجعل قطر المركز يتجاوز ألفي متر ، وهو رقم لا يمكن الموافقة عليه ، كما لا يمكن قبول التقدير القصير (حيث يساوي القطر الكامل ٦٠٠ متر) (٤) ، مما يضفي مصداقية على رقم الميل الواحد (كيلومتران) الذي ذكرته المصادر (٥). وحتى في هذه الصورة يبقى المركز أعظم من مركز الكوفة ، لكن التخطيط لمثل هذه البنية سابق الوجود في واسط. وفي بغداد بالذات وقع التعويض عن نحافة الحزام السكني بالقذف بأرباض السكنى خارج المدينة ، ولئن كانت منطقة السكنى مشلولة نسبيا فإنها حافظت على تصور الحاضرة الكاملة وكانت امتدادا في بنية الأمصار السابقة. من كان يقيم فيها؟ نجد بها قادة الجيش وموالي المنصور ، ولم يقم فيها ال ٤٠٠٠ من حرس المداخل ،

__________________

(١) Archaeologische Reise ,II ,pp.٨٠١ ff ، وهو يعتمد في ذلك اليعقوبي في كتاب البلدان. ص ٢٣٨ ، حيث ذكر قطرا يساوي ٤٥٠٠ ذراع سوداء ، ابتداء من خارج الأبواب.

(٢) الرقم الوحيد المتوفر لدينا هو ما يذكره الخطيب البغدادي ، مرجع مذكور ، ص ٧٦. لقد خص الطاقات بطول يساوي ٢٠٠ ذراع أي ١٠٨ من الأمتار ، لكن هذا الطول يقف عند الرحبة التي تفتح على الطاقات الصغرى والتي ليست الرحبة المركزية ، إلا أن هرزفلد (op.cit.,p.٩٢١) وكرسويل (op.cit.,p.٦١) ، لم يوافقا على هذا الرقم مقترحين ٥٣٨ ذراعا : ٢٩٠ مترا ، عملا بالأقيسة المحتملة للحجرات. هذا رقم يجانب الصواب ، وإلا فإن الحزام السكني يتقلص بصورة تبعث على السخرية. أما عن الطاقات الصغرى ، فنجهل كل شيء بشأنها. وكان لاسنر محقا حين خصها بوجود حقيقي. ويكون الفضاء التكميلي الموجود بين الطاقات الكبرى والرحبة الكبرى يساوي ١٠٠ ذراع على الأقل ، عملا بالتصميم الذي تصوره ص ٢١٣. ويمكن ضرب هذا الرقم على اثنين أو ثلاثة حسب عدد الطاقات الصغرى كما جرى تصوره. ويتميز افتراض لاسنر بأنه يزيد من سمك المساحة العادية المخصصة للإقامة ومن واقعها. وبما أن هذه المساحة زاد عمقها ، فهي تؤيد فكرة المدينة المندمجة المتنوعة.

(٣) الخطيب ، ص ٧٤ ؛.Lassner ,p.٠٠٢ ;Creswell ,II ,p.٣١

(٤) يرى صالح العلي ، بحث مذكور ص ٩٣ ، أن ألف ذراع تعادل ٦٠٠ متر ، وهو خطأ لأن الذراع العباسية السوداء المستخدمة في هذا الصدد ، تعادل ٥٤ سنتيمترا. راجع :.Hinz ,op.cit.,pp.٥٥ ,١٦ ولا نفهم كذلك كيف اعتمد لاسنر في حساباته الذراع الشرعية وهي تقدر ب ٨٧٥ ، ٤٩ سنتيمترا :.Lassner ,op.cit.,p.٩٠٢ هذا ولا نجد عند الخطيب البغدادي التقدير الموافق لألف ذراع ، الذي اقترحه العلي ، مع أن الخطيب يورد أربعة تقديرات هي ٦٠٠ ذراع من باب الشام إلى باب البصرة ، و ٨٠٠ ذراع من باب خراسان إلى باب الكوفة ، ص ٧١ ، وميل واحد ، ص ٧١ ، و ٢٢٠٠ ذراع ، انظر ص ٧٣.

(٥) الخطيب ، ص ٧١ ؛ ووافقه هرزفلد (op.cit.,p.١٢) وكريسويل (op.cit.,p.٠١) في ذلك.

٣٣٨

كما يحمل الأمر على الاعتقاد لأن أكثرهم كانوا يقطنون في الطاقات حيث كانوا من جند الحامية لا غير (١). لكن هنا عنصر هام يميز فيما يبدو المدينة المستديرة عن الكوفة : إنه فقدان الأسواق في المساحة العمومية. كان وجودها في المرحلة الأولى قد تأكد في الطاقات (٢) ثم استقرت في مرحلة ثانية في الكرخ خارج المدينة (٣). صحيح أن هذه الممايزة في هذه النقطة المهمّة فعلا قد تؤيد بخصوص بغداد المنصور صورة المدينة الملكية والادارية ، أو التي صارت ادارية بصورة متزايدة. على أن الطاقات التي لم تقع بالمركز من حيث المجال ، تابعة للمجال العمومي لا للمجال السكني الخاص ، من حيث الوضع المؤسساتي وليست لها صبغة الاقامة ، فضلا عن إمكانية وجود الأسواق في هذا المكان بسبب قرار نقل ، لا منذ البداية ، لو صدقنا رواية أوردها الخطيب تحمل على الظن أن الأسواق كانت موجودة في بداية الأمر غير بعيد عن القصر أي في المركز (٤). الواقع أن تنقلات الأسواق تكشف عن التردد العميق الذي كان عليه المنصور بخصوص رؤيته لغائية انشائه الجديد ، أو على الأقل مقاومته لجاذبية النموذج الكوفي حيث بقيت مركزية الأسواق مكسبا جوهريا. ولا شك أنه كان يريد في البداية مدينة «ملكية» ، لكنها تامة. ولا شك أنه غير من تصوره بعد ثورة ابراهيم بن الحسن دون أن يستطيع المساس بالمخطط الأول للمدينة المستديرة. فقرر افساح المجال لإقامة جيش دائم قوامه ٠٠٠ ، ٣٠ رجل (٥) وقرر عندئذ منح القطائع والأرباع خارج الأسوار ، فتحولت بسرعة كبيرة إلى أرباض. وتم الانتقال من الوحدة المدنية المغلقة إلى المجموعة المدنية المركبة ، أي إلى المنطقة ـ المدينة ؛ إنه لانتقال حاسم إذ برز معه الثنائي

__________________

(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ الخطيب ص ٨٩ و ٧٧ ؛ العلي ، بحث مذكور ص ٩٥ ؛ Lass ـ.ner ,p.٥٤١

(٢) الخطيب ، ص ٨٠.

(٣) الخطيب البغدادي ، ص ٧٩. يرى لاسنر (op.cit.,pp.٧٤١ ـ ٨٤١) ، إن الانتقال إلى الكرخ لم يكن من باب الصدفة ، إذ لعل الكرخ كان السوق القديمة التي سبقت الإسلام في بغداد ، ولعلها استقرت نواة من العمران خارج الحوزة ، أثناء بناء المدينة المستديرة ، فلم يعمل المنصور إلا على إعادة تطوير هذه المنطقة.

(٤) الخطيب ، ص ٧٨ ، لكن قصة البقرة المتنقلة في الأسواق والتي كان خوارها يبلغ مسامع الخليفة ليست مقنعة كل الاقناع ، إذ كان في إمكانه الإقامة بمدخل الأبواب أي غير بعيد عن الطاقات. لكن ما يعني الخطيب بقوله «السوق العتيقة»؟ مرجع مذكور ، ص ٩٠. إن أوضح الخطيب ، ص ٨٠ ، ان الأسواق كانت تقع في الطاقات بعد الانتهاء من بناء المدينة مباشرة ، فإن الطبري يؤكد أنه لا مراء في أنها نقلت عند غلق المنافذ بين الحزام السكني والمركز : التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٢ ـ أي في مرحلة تالية. واعتمد لاسنر (op.cit.,p.٥٤١) هذه الإشارة مدعيا أن الأسواق تسببت في نقل حراس الأبواب من أماكنهم ، دون الاستناد إلى أي مصدر.

(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٣٨ ـ ٦٣٩. تصور العلي المشكل جيدا : بحث مذكور ، ص ٩٣. وما ذكره الطبري بخصوص بناء بغداد اعترضته رواية ثورة إبراهيم وكأن الأمر حدث قبلها وبعدها.

٣٣٩

الإسلامي المتركب من المدينة والأرباض. واتضح مفهوم المدينة بوجود بغداد في العمران الإسلامي (١) ، مع أنه استمد وجوده من الازدواج الفارسي الواضح القائم بين الشهر والبيرون (٢). إن الكوفة على العكس مدينة مفتوحة لا وجود فيها للأرباض كوحدات خارجية تقابل وتمدد كيانا مدنيا متراصا شديد التمييز. وقد تكونت الأرباض فيما بعد وطبق نموذج بغداد ـ وهذا تأثير انعكس من بغداد على الكوفة ـ باصطفاء المركز والحزام السكني الأقرب (٣) (الموافق للخطط القديمة) ، وفصلها عن المناطق المحيطة التي استمرت تمتد ، وتجسم الانفصال ببناء الأسوار سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٧٢ ببادرة اتخذها فعلا المنصور.

لكن الأسوار كانت جزءا أساسيا في تشكيلة بغداد ، ولم تكن مقررة فقط لتمييز المدينة عن الأرباض. لقد لعبت هذا الدور بعد ذلك حين تشكلت وحدة الكيان البغدادي. ومن العسير تبين وظيفتها الأصلية. فهل كانت لأسباب خاصة بالأمن؟ لكنها تكون في هذه الحالة قد بنيت لدرء أخطار الثورات الداخلية أو كانت رمزا لتعالي السلطة التي أرادت الانفصال عن الأهالي؟ أو هل أنها عادت إلى العمل بتقليد تشييد المدن على النمط الفارسي ، المسبوق بالتقليد الآشوري البابلي؟ الملاحظ في هذا الصدد أنه كان لواسط خط مضاعف من الأسوار ، فلا لزوم للرجوع إلى التقليد الفارسي. فقد انفصلت واسط فعلا عن النموذج المفتوح للامصار بفضل سورها ، فاكتست بهذه الكيفية طابع السجن أو الثكنة الذي كان كثير الوضوح في مظهر المدينة المستديرة حيث لا يوجد اتصال بين المركز ومساحة الحزام السكني مباشرة. بل كان عليه أن يمر بالفواصل ثم بمركّبات الأبواب التي كانت عبارة عن معابر شديدة الحراسة. كانت المدينة المستديرة بتصورها الأول ، قبل أن يقيم الجيش في محيطها ، أي قبل أن تتحول إلى «مدينة» ، قد استهدفت من سورها إبعاد واقصاء العالم الخارجي فقط ، ذاك المحيط الزاخر بالعجم. في حين انفصلت الكوفة عنه بواسطة النهر أي بوقوعها على حافة العالم العربي الأصيل ، خارج العراق تقريبا. وكلما تقدم العرب إلى قلب وادي الرافدين ازداد ارتفاع أسوارهم. وفد صاحب هذا التقدم مسيرة إلى غابر الزمن ، فنتج عنها تجديد العهد بالحضارات القديمة ومحاكاتها. كانت عودة غير واعية

__________________

(١) شكلت المدينة ما كان داخل الأسوار لا سيما السور الثاني الذي سمي سور المدينة فعلا : وهناك ملحوظات دقيقة في كتاب البلدان ، ص ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ، وفي كتاب الخطيب ، ص ٧١ و ٧٣ و ٧٤ و ٧٦ ، عن مفهوم المدينة كفضاء مغلق يقابل الأرباض بالخارج.

(٢) Aubin,» Ele ? ments pour L\'e ? tude des agglome ? rations urbaine dans L\'Iran me ? die ? val «dans Hourani ـ Stern, The Islamic City, p. ٢٧.

(٣) ظهرت كلمة مدينة وربض بالنسبة للكوفة أول ما ظهرت عند رواية ثورة شقيق أبي السرايا سنة ٢٠٢ ه‍ : الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٦٠ ـ ٥٦١.

٣٤٠