نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

الإيرانية البعيدة عن المركز ، ابتداء من العام ٢٩ ه‍٦٤٩ / م ، عندما فتحت البصرة خراسان ، في حين كان على الكوفة أن تكتفي بأذربيجان وقزوين ، أقصى ثغر لها ، وهي منطقة قليلة الإنتاج. ومع ذلك ، فرضت خصوصية الكوفة الشيعية نفسها ، بالتغلغل البطيء ، على مرّ العصور وعبر بغداد ، على الوعي الشيعي في الإسلام كله ، ثم عبر قمّ ومشهد ، على الأراضي الإيرانية الحديثة كلها ، في حين أن البصرة لم تكن وحدها التي حددت بنية الإسلام السنّي المتأخر ، على الرغم من الدور المركزي الذي لعبته في بلورة فكرة الجماعة.

بيد أنه لا يمكن حصر إرث الكوفة ، الديني والثقافي ، في نشر التراث الشيعي ، وذلك لأن إسهام الكوفة في بلورة الثقافة العربية الإسلامية الكونية ، يتضح ، بعد التحليل ، أنه أكثر أهمية بكثير ، وأن جذوره تضرب عميقا في هذا المصر الكبير ، على امتداد القرنين الأولين. وقد ورثت بغداد البصرة والكوفة ، هذين المهدين الأساسيين اللذين أرسيا الخطوط الأساس في ثقافة الإسلام ، ووضعا ، كلّ منهما بحسب عبقريته الخاصة ، عناوينها الكبرى : فقد برعت الكوفة في استعادة التراث الشعري العربي ، في تفسير القرآن ، وفي الفقه وعلم الأنساب ، في حين أن البصرة التي كانت أكثر عقلانية وأعمق نقدا ، أبدعت قواعد اللغة العربية ، وكانت البؤرة الأساس لفكر المعتزلة.

فترتان عظيمتان في تاريخ الكوفة الثقافي : الفترة الشفوية (١٧ ـ ١٥٠ ه‍ / ٦٣٨ ـ ٧٦٧ م) ، وهي فترة حمل لم تكن فيها الأمور قد اتضحت بعد ، ولم تكن الثقافة قد تميزت بل كانت ما تزال تبحث لنفسها عن أسس حقيقية؛ والفترة الثانية (١٥٠ ـ ٢٥٠ ه‍٧٦٧ / ـ ٨٦٤ م) هي فترة التفجر التي أنجبت كلاسيكية حقيقية وأنتجت أعمالا عظيمة. في هاتين الفترتين التاريخيتين ، كان القطبان الأساسيان اللذان تمحورت حولهما الثقافة الجديدة ، هما العروبة البدوية والرسالة الإسلامية ، إذ اتضح أن الشعوب المغلوبة لم يكن لها أي تأثير يذكر. وفي الكوفة تجلّى الخط العربي الذي غدا خطا رائعا ، بلا شك ، بمساهمة عرب الحيرة ، وهو أقدم نموذج للخط العربي بعد ظهور الإسلام ، ولو أننا نجد هذا الخط مثبتا على الدراهم في العهد الساساني. وفي الكوفة أيضا ، في عصرها الأول ، عاش ابن مسعود وعلّم ، وما لبث أن أطلق اسمه على كل شيء ، فسمّي به تيار المحدّثين الذي ارتبط به أتباع ومريدون أمثال علقمة بن قيس ، الأسود بن يزيد ، مسروق بن الأجدع ، عبيدة ، الهمداني وشريح. ويرى شاخت أن الدور الذي لعبه ابن مسعود دور افتراضي بل وهمي ، فقد أسقطت

٣٦١

عليه إنجازات وثمرات جهود بذلت بين عامي ١٠٠ و ١٣٠ ه‍ ٧١٩ / و ٧٤٨ م ، عندما تواصلت السلسلة من حماد بن أبي سليمان إلى إبراهيم النخعي إلى ابن مسعود. ومع ذلك فإن الفقه ، وهو سابق على الحديث ، لم يولد أوّلا إلا في الكوفة. والحق أن هناك ثلاث شخصيات عاشت في القرن الأول / السابع ، لعبت دورا رائدا في المحاولات الأولى في الفقه والحديث والتفسير ، هي إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل الشعبي. وفي الميدان الروحي ، لم يكن هناك من هو في وزن الحسن البصري ، غير أن اتجاهات الزهد والتصوف وجدت لها شيوخا في أوس القرني وربيع بن الختيم. وفي ميدان التفسير والأخبار نذكر رائدين من روّادهما ، هما مجالد بن سعيد ومحمد الكلبي. وفي جمع الشعر نذكر حمّادا ، أما في ميدان الإبداع الشعري فقد كان هناك أعشى همدان والكميت.

شهدت الفترة الثانية من تاريخ الكوفة الثقافي ، وهي فترة بدأت مع بداية العصر العباسي ، ولادة التمايز بين العلوم وبروز مؤسسيها الكبار : أبو حنيفة ، شيخ مدرسة الرأي في الفقه ، والمتوفى في العام ١٥٦ ه‍٧٧٢ / م ، أبو مخنف ، أحد كبار الإخباريين (المؤرخين) العرب (توفي العام ١٥٧ ه‍٧٧٣ / م) ، الرؤاسي الذي ينسب إليه أول كتاب في النّحو ، عاصم بن بهدلة (المتوفى العام ١٣١ ه‍ / ٦٤٨ م) ، وحمزة وقد وضعا مع الكسائي ثلاثا من أصل قراءات القرآن السبع. ولاحقا ، اضطلع جيل الذين توفوا بين عامي ١٨٠ و ٢٠٠ ه ‍٧٩٦ / و ٨١٦ م بمهمات جمع المعارف التي وضعت في القرن السابق ، وإحصائها وتصنيفها وتبويبها ، حتى إن الكتب التي بقيت من ذلك الوقت ، والتي هي بين يدينا اليوم ، تعود إلى ذلك الجيل من المريدين النجباء والنشطاء ، ومنهم في الفقه أبو يوسف (المتوفى العام ١٨٢ ه‍٧٩٨ / م) ومحمد بن الحسن الشيباني (المتوفى العام ١٨٩ ه‍٨٠٤ / م) ، وفي علم الأنساب العلامة الكبير والإخباري الضليع في معرفة التراث العربي هشام بن محمد الكلبي ، الذي بذل جهودا جبارة في جمعه وإثباته (توفي العام ٢٠٦ ه‍٨٢١ / م) ، وأخيرا الكسائي (المتوفى العام ١٧٩ ه‍٧٩٥ / م) شيخ مدرسة الصرف والنحو في الكوفة. وما زالت هذه المدرسة تعيش في أذهان الناس حتى يومنا هذا على أنها المنافس لمدرسة البصرة ، وينسب إلى هذه المدرسة معرفة أكثر عمقا بالبيئة العربية ، وحسّ بالشعر أكثر حدّة ورهافة ، وفي النّحو بالشواذ. ولكن ، يتبيّن بعد التفحّص الدقيق أنها ليست سوى واحدة من التنويعات التي أنجبتها مدرسة البصرة ، أي الخليل بن أحمد ، وهو المعلم في كل

٣٦٢

شيء؛ مع أنه يجب الكشف عن الدور الذي لعبه الرؤاسي. وعليه ، فإن الكسائي ، كسيبويه في البصرة ، دشّن سلسلة من النحويين كان من بينهم الفرّاء في مقابل الأخفش ، وثعلب في مقابل المبرّد. وهذان الأخيران اللذان توفيا حوالى العام ٢٥٠ ه‍٨٦٤ / م ، كانا بمثابة محصّلة جمعت المعارف التي أنتجت قبلهما في كلتا المدرستين. إلا أن بغداد التي كانت قد استقبلت واحتضنت كبار المشاهير والأسماء في الكوفة والبصرة ، وعلى مدى جيلين ، بدأت تفرز معارف في كل الحقول والميادين المعرفية ، متمثلة ومتجاوزة للمعارف السابقة ، مقدمة للعالم الإسلامي ما أنتجته الكوفة والبصرة ، خلال القرنين السالفين.

ما يعرف عن الكوفة على نطاق واسع ، هو مدرستها النحوية ودورها في ولادة التشيّع في الإسلام؛ وربما كان ذلك ، بسبب ما امتازت به على نحو خاص ، في الحالة الأولى ، وبسبب ما عصمها من الموت والاندحار ، في الحالة الثانية. ولعلّ الاهتمام من جديد بالتاريخ السياسي والثقافي للإسلام القديم ، هو الذي أتاح المزيد من الاطلاع على الدور الذي لعبته الكوفة بوصفها مكانا لاستقرار الهجرات العربية ، وساحة للصراعات السياسية الكبرى ، ومدينة عربية محض ، أرست جنبا إلى جنب مع البصرة ، وعلى نحو جذري ، أسس المشروع الثقافي في الإسلام.

بيبليوغرافيا

المصادر الأكثر قدما في تاريخ الكوفة ، والتي كتبها الإخباريون في القرن الثاني / الثامن ، اختفت عن آخرها. غير أنه يوجد شذرات منها ، متفاوتة الأهمية ، في الكتب الكبرى المعروفة التي أخذت عنها معلوماتها. نذكر منها كتب الهيثم بن عدي (خطط الكوفة؛ ولاة الكوفة؛ قضاة الكوفة والبصرة؛ وفخر أهل الكوفة على البصرة) ، وكتب عمر بن شبة البصري (الكوفة ، أمراء الكوفة).

الدراسات المونوغرافية الوافية التي وضعها أبو مخنف ، والتي استعادها الطبري بخاصة ، تخبرنا بالأحداث الأساسية ، كما تطلعنا ، بطريقة غير مباشرة على طوبوغرافيا الكوفة. ويوجد في برلين مخطوط ينسب إلى أبي مخنف ، تحت الرقم ٩٠٣٩ ويحمل الرمز Spr. ١٦٠ ، ضمن فهرست يحمل اسم AHLWARDT وهو بعنوان : خبر المختار وابن زياد. وعند ما قمنا شخصيا بتفحصه ، بدا لنا أنه مزيّف. على أية حال ، ثمة دراسات مونوغرافية أخرى وضعت في أوقات

٣٦٣

لاحقة ، ضاعت هي الأخرى ، ومنها دراسة محمد بن علي النجاشي الأسدي (كتاب الكوفة)؛ ودراسة محمد بن جعفر النجار (تاريخ الكوفة).

الكتب الكلاسيكية المعروفة :

أ) المصادر الأساسية : البلاذري : فتوح البلدان؛ أنساب الأشراف. تاريخ الطبري. ابن سعد ، الطبقات ، الجزء السادس المخصص للكوفة. اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي؛ بلدان اليعقوبي. ابن الفقيه : مختصر كتاب البلدان. ياقوت : معجم البلدان.

ب) مصادر إضافية : وتشمل معظم التاريخ والجغرافيا والأدب والفقه إلخ .. وأكثرها فائدة ، علاوة على تلك المذكورة في نص البحث ، نذكر كتب : نصر بن مزاحم (وقعة صفين). الدينوري (الأخبار الطوال). خليفة بن خياط : تاريخ. تاريخ العباس وولده (من دون اسم المؤلف ، طبعة الدوري). تاريخ الخلفاء (من دون اسم المؤلف ، طبعة Griyaznevitch). ابن حزم (جمهرة). ابن الكلبي (نسب). الذهبي (تاريخ الذهبي؛ ميزان الاعتدال). الأصفهاني (الأغاني؛ مقاتل الطالبيين). ابن النديم (فهرست). الجاحظ (البيان والتبيين). ابن حبيب (المحبّر). الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد).

علاوة على كتب الجغرافيا والأدب الكلاسيكية المعروفة ، نذكر : الشابشتي (ديارات ، بغداد ، ١٩٥١). ومن كتب الفقه ، نذكر بخاصة : أبو يوسف (الخراج). أبو عبيد بن سلام (كتاب الأموال). قدامة بن جعفر.

ج) المصادر الشيعية : الكليني (كتاب الكافي). القشي (أخبار الرجال ، بومباي ، ١٣١٧). مختار نامة (من دون ذكر اسم المؤلف ، طهران ، ١٣٥١). طبرسي نوري (نفس الرحمن ، طبعة ١٨٦٨؛ الاحتجاج ، النجف ، ١٩٦٦). ابن أبي حديد (شرح نهج البلاغة). البراقي (تاريخ الكوفة ، النجف ، ١٩٦٠).

د) دراسات : كل ما كتب حديثا عن الإسلام الأولي والأمويين وتطور الثقافة الإسلامية وعن الشيعة ، وتشير إلى الكوفة ، نحيل إليها القارئ. وفي ما يلي ، بعض الدراسات المختصة بالكوفة :

Le Strange,Baghdad During The Abbasid Caliphate,Oxford,١٩٢٤.

L. Massignon,Mission en Mesopotamie,I,Caire (IFAO)١٩١٠.

L. Massignon,«Explication du plan du Koufa»,in : Melanges Mas ـ pero,III,pp. ٣٣٧ ـ ٣٦٠.

L. Massignon,«Explication du plan de Basra»,in : Westotliche Aban ـ dlungen R. Tschudi,Wiesbaden,١٩٥٤ (١٥٤ ـ ١٧٤).

٣٦٤

P. Pelliot,«Des artisans a? la capitale abbaside»,in Toung Pao,١٩٢٨ ـ ٢٩.

R. Guest,«A Tablet in Kufik from Ku?fa»,in JRAS,١٩٣٣.

F. Kmietowicz,«Un tresor de monnaies coufiques trouve? en Pologne», in Folia Orientalia,I / ٢ (١٩٥٩),٢٠٩ ـ ٢٣٠.

M. Watt,«Shiism Under the Umayyads»,in JRAS,١٩٦٠,١٥٨ ـ ١٧٢.

Martin Hinds,«Ku?fan political alignments and their background in the mid ـ seventh century A. D»,in Intern. Journal of Middle East Studies,II (١٩٧١),٣٤٦ ـ ٣٦٧.

M. A. Shaban,Islamic History,Cambridge ١٩٧١.

Hicham Djait,«Les Yamanites a Kufa au Ier siecle de l\'He?gire»,in Jesho,XIX / ٢ (١٩٧٦),١٤٨ ـ ١٨١.

ـ محمد علي مصطفى : «تقرير أوّلي عن التنقيب في الكوفة» ، مجلة سومر ، الأعداد ١٠ ، ١٢ ، ١٣ (مع ترجمة إلى الإنجليزية في العدد ١٩ من المجلة نفسها).

ـ صالح أحمد العلي : «دراسة طوبوغرافية لناحية الكوفة» ، مجلة سومر ، العدد ١٩ ، ١٩٦٥.

ـ مهدي المخزومي : مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ، بغداد ، ١٩٥٥.

ـ كاظم الجنابي : تخطيط مدينة الكوفة ، بغداد ، ١٩٦٧.

ـ يوسف خليف : حياة الشعر في الكوفة ، القاهرة ، ١٩٦٨.

ـ حسين الزبيدي : الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة في القرن الأول الهجري ، بغداد ، ١٩٧٠.

ـ عبد اللّه الفياض : تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ، بيروت ، ١٩٧٥.

٣٦٥

ملحق (٢)

اليمنيون في الكوفة في العهد الأموي (*)

ليست الكوفة ، في الوعي التاريخي الغربي ، سوى اسم لمدينة إسلامية قديمة ، لا مجال لمقارنتها بمدينة بغداد أو بمدينة مكة أو سمرقند أو حتى البصرة. وفي الوعي الثقافي العربي الإسلامي اليوم أن الكوفة ، وهي المقابلة للبصرة في علاقة جدلية بينهما ، كانت مركزا ثقافيا ومدرسة لغوية وفقهية ، لا يوجد فهم لواقعها التاريخي ، إلا من زاوية ثقافية ، وبوصفها مرحلة من مراحل التطور الثقافي الإسلامي.

ولم يولد إلا مؤخرا تصور جديد للتاريخ الإسلامي ، مبنيّ على قراءة دقيقة للمراجع ، جرت في نطاق ضيق ضمّ بعض المستشرقين ، وضمّ بخاصة جيلا جديدا من المؤرخين من أصل عربي؛ نذكر منهم صالح أحمد العلي وشعبان ، وأعمالهما التي تنم عن وعي تاريخي لا سابق له ، كما تنمّ عن مدى أهمية العوامل الاجتماعية السياسية في تطور الإسلام الأول؛ فقد وجد هذا الإسلام نفسه مرغما على الخروج من القيد الديني المزدوج الذي كان ، حتى ذلك الوقت ، مقيدا به : إذ هو في نظر المستشرقين رسالة سماوية وتاريخ ديني ، وهو في نظر المسلمين تاريخ مقدس ومنطلق كل المعاني والدلالات المستقبلية.

هكذا انتقلت مسألة الوحي والرسالة السماوية إلى المحل الثاني لتخلي المحل الأول للظاهرات الجماعية الكبرى : توحيد الجزيرة العربية تحت هيمنة دولة المدينة[يثرب] ، حركة الهجرة الضخمة التي قام بها العرب إلى خارج جزيرتهم واستقرارهم في البلدان التي احتلوها ، التدمير الكلي أو الجزئي للإمبراطوريات السابقة ، مشكلة تعايش المهاجرين العرب في ما بينهم ومع الشعوب الأصلية ، كيفية إدارة أوسع إمبراطورية في العالم ، .. إلخ. من هذا

__________________

(*) منشور في : Journal of the Economic and Social History of the Orient,١٩٧٦,vol. XIX, Part II.

٣٦٦

المنظور ، تكتسب الدراسة التاريخية للكوفة ، وهي أضخم مركز هجرة عربية إلى أرض غير عربية ، أهمية بالغة؛ فالكوفة هي منطلق العالم العربي إلى الخارج ، ومركز سيطرته ، وهي المختبر الذي جرت فيه تجارب تنظيم المجتمع الجديد ، وبؤرة الصراعات الداخلية ، وهي أيضا ، إلى جانب البصرة ، الرحم الذي ستولد منه الحضارة العربية الإسلامية بقضها وقضيضها.

I ـ انطلاق القبائل اليمنية في العصر الأول

بين المدينتين / المعسكرين الأكثر أهمية في الإسلام الأول ، الكوفة والبصرة ، أثبتت الكوفة أنها أكثر عروبة ، وأكثر تسيّسا ، لأنها اجتماعيا أقل تجانسا؛ فقد احتضنت فاتحي الإمبراطورية الساسانية ، والظافرين في معارك القادسية والمدائن وجلولاء ، أي الذين نفروا ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ، لتلبية نداء الجهاد من اليمن والحجاز وشتى أنحاء سباسب الفرات.

على مدى السنوات الثلاثين الأولى للهجرة ، كانت الكوفة مصرا بامتياز ، كانت «قبة الإسلام» و «جمجمة العرب» ، بحسب قولة تنسب إلى عمر الذي جعلها مركز نظامه العسكري وإدارته المالية. ولم تبدأ البصرة بمنافسة الكوفة إلا في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، وذلك بسبب غزوها لخراسان وسيطرتها على موارد المشرق التي أتاحها ذلك الغزو. ولعبت البصرة في القرن الثاني الهجري ، دورا ثقافيا من الطراز الأول. لكن ، إذا نحن شئنا أن نرسم صورة دقيقة لهيئة العروبة الإسلامية الأولى ، فلا جدال في أن الكوفة هي التي يتعيّن علينا تفحصها.

فالكوفة ، كما أسلفنا القول ، هي التي اختار المقاتلة الأوائل أن يجعلوها مقرا لهم. وكان معظمهم من ربيعة واليمن. وفي ما يخص اليمن تحديدا ، كانت الكوفة تضمّ معظم اليمنيين الأقحاح ، أي قبائل مذحج وهمدان وحمير وحضرموت. ويذكر الطبري (١) أن القبائل التي كان منها أكثر المهاجرين إلى العراق ، هي ربيعة ومذحج وهمدان؛ وتتميّز ربيعة بكونهم استقروا إلى هذا الحدّ أو ذاك ، ومنذ ما قبل الإسلام ، إما في العراق ، وإما عند تخومه ، بينما لم تأت مذحج وهمدان إلا مع مجيء الإسلام. حتى أنه يحق التساؤل عما إذا كانت همدان هي القبيلة العربية الأكثر تعدادا في العراق ، وما إذا كانوا قد أقاموا في أماكن أخرى خارج الكوفة. من جهة ثانية ، وخلافا لذلك ، من الثابت أن قسما

__________________

(١) الطبري ، تاريخ ، ٥ ، ٣٤ ، طبعة القاهرة ، ١٩٦٠ ـ ١٩٦٩.

٣٦٧

من ربيعة ـ ومنهم بكر التي لعبت دورا رئيسا في الغزو ـ هاجروا إلى البصرة أو التحقوا بمنازلهم الأولى شبه البدوية (١) ، حتى أن تخطيط الكوفة بالذات ، ربما كان صمّم خصيصا للمهاجرين الأوائل وبخاصة اليمنيين منهم. هذا كله يثبت أفضل إثبات ، أهمية الهجرة اليمنية وصلتها الجوهرية بالكوفة ، وفي ما يتعدّى الكوفة ، تاليا ، بمغامرة العروبة الإسلامية في مرحلتها الأولى.

«هجرة مسلحة» :

يتضح مدى أهمية دراسة مراحل غزو العراق في فهم الصراعات الاجتماعية السياسية لاحقا وبدليل أن الإسلام ، في بداياته الأولى ، وضع معيارا للتصنيف الاجتماعي هو الأقدمية الزمنية أو الأسبقية. فكانت النواة المركزية لجيش الفتح في العام الثاني عشر للهجرة ، وتدعى"أهل الأيام"تتألف من عناصر من جيش المدينة الذي يقوده خالد ، ومن عناصر من جيش بكر بن شيبان ، ولم يكن بينهم يمنيون.

وفي المرحلة الثانية ، أرسل أبو عبيد على رأس جيش لنصرة المثنّى رئيس بكر في العام الثالث عشر للهجرة. وقد تميزت هذه المرحلة بهزيمة الجسر. هذه المعارك أيضا لم يكن لليمنيين أي إسهام فيها.

أما في المرحلة الثالثة ، فقد طلب الخليفة عمر من جرير بن عبد اللّه الحميري أو البجلي أن يجمع قبيلته بالتبني بجيلة الموزعة بين القبائل في شتى أنحاء الجزيرة ، وأن يقودها للقتال في العراق ، واعدا إياه بمنحه ربع الخمس أو ربع السواد (٢). وبجيلة قبيلة يمنية شاركت في معركة البويب ، التي مهّدت لمعركة القادسية ، مع سبعمائة رجل من الأزديين المتطوعين من بارق وبالطبع بكريي المثنى. هذا العمل الرائد أكسب بجيلة مكانة رفيعة في الكوفة عندما تمّ تأسيسها.

في المرحلة الرابعة ، وهي مرحلة التجمع العربي الكبير تحت قيادة سعد بن أبي وقاص بغية خوض معركة القادسية ، دعا الخليفة عمر العرب إلى الحشد والتعبئة على نطاق واسع ، شاملا بذلك أهل الردّة الذين ظلوا حتى ذلك الوقت خارج حملات الغزو ولا يشاركون فيها. وتنقسم هذه المرحلة بدورها ، إلى عدد من المراحل الصغرى؛ فقد أحاطت بسعد بن أبي وقّاص في المدينة ، نواة

__________________

(١) Martin Hinds,«Ku?fan political align ments and their background in the midseventh century A. D»,International Journal of Middle East studies,٢ (١٩٧١),p. ٣٥٠ suiv.

(٢) الطبري ، ٣ ، ٤٦٠.

٣٦٨

الجيش الأولى وقوامها أربعة آلاف رجل ، بينهم ثلاثة آلاف من اليمن والسّراة ويصنفهم الطبري على النحو التالي :

السّراة : ٧٠٠ مقاتل من بارق وغامد وألمع ، فهم إذا أزديون.

اليمن : ٢٣٠٠ مقاتل معظمهم من مذحج ، وهم ثلاث عشائر : بنو منبّه (زبيد) ويقودهم عمرو بن معديكرب ، جعفي (سعد العشيرة) وعشائر الصدى وجزء ومسلية ١. أي ١٣٠٠ من مذحج ، و ٦٠٠ من حضرموت والصّدف ، والباقي من النّخع.

بعد الخروج من المدينة ، تضخمت تلك النواة ، فبلغت عشرين ألف مقاتل ، انضم إليهم عشرة آلاف مقاتل من الأيام الذين كانوا في العراق؛ فبات الجيش يعد ثلاثين ألف رجل. في هذا المدد ، ثمة أربعة آلاف رجل من تميم والرّباب ، وثلاثة آلاف من أسد ، وبعض رجال من كندة على رأسهم الأشعث بن قيس.

لا بد هنا من الإشارة إلى أن سوريا هي في الأصل ، الجبهة الأساس؛ وفي هذا ما يفسر امتناع العرب ، وبخاصة اليمنيين ، عن الالتحاق بالجبهة العراقية التي أصبحت فيما بعد ، مع القادسية ، الجبهة الأكثر أهمية. على أن المراجع التاريخية تذكر الدور الحاسم الذي لعبته بجيلة ومذحج في هذه المعركة. وكان يرافق هؤلاء اليمنيين زوجاتهم وأبناؤهم؛ وذاك دليل قاطع على أنهم كانوا عازمين على الهجرة. من جهة ثانية ، تدفّق المدد والعون من سوريا ، إما أثناء القتال في المعركة وإما فور انتهاء القتال. وكان القسم الأكبر من هذه القوات يتألف من «مقاتلة الأيام» الذين كانوا قد انتقلوا من العراق للمشاركة في الجبهة السورية ، ثم عادوا إلى العراق ، ولكن ـ وهنا الجديد في الأمر ـ يرافقهم رجال من مراد وهمدان (٢). وكان عمر حصيفا بتسجيلهم في ديوان العطاء باعتبارهم مقاتلين في القادسية (أهل القادسية) تمييزا لهم عن المهاجرين المتأخرين أو الروادف الذين تدفقوا على العراق فور انتصار العرب في القادسية.

الاستقرار في الكوفة :

جرت معركة القادسية في العام الرابع عشر للهجرة (٦٣٦ م) أو بعد ذلك

__________________

(١) الطبري ، ٣ ، ٤٨٤.

(٢) الطبري ، ٣ ، ٥٨٤؛ لم تكن همدان التي لعبت في الكوفة دورا طاغيا ، في عداد القبائل المقاتلة الأولى في العراق. وهذا ما يفسر عدم استيطانها على الفور ، كما يفسر تشتت أماكن إقامتها : اليعقوبي ، البلدان ، ترجمة G. Wiet ، ص ١٤٤.

٣٦٩

بقليل وتم تأسيس الكوفة بعد ثلاث سنوات. وقد تم هذا التأسيس وفق تخطيط وضع خصيصا ، ورمى إلى إسكان القبائل المقاتلة ، أو أجزاء من هذه القبائل ، على التخوم بين الجزيرة والإقليم المحتلّ ، ومنحها خططا داخل المدينة / المخيم (المصر)وتوفير حياة جماعية لها ، وفصلها في الوقت نفسه عن الوسط المحيط بها. كانت فكرة الخليفة عمر أن ينشئ تراتبية هرمية مبنية بحسب الشرف الإسلامي ، أي تبعا لأسبقية الدخول في الإسلام وفي الجهاد ، ولكن حتى أثناء خلافة عمر ، كان المبدأ القبلي يؤخذ في الحسبان في تأليف الجيش وتنظيم الفضاء وتجميع الناس. وكانت الأسبقية تعتمد في التمييز بين الأشخاص ، لكنها لم تكن على الإطلاق أساسا في التنظيم الاجتماعي. وتبعا لذلك ، تمّ إسكان العرب في الكوفة وفقا لنظام الخطط القبلية ، وعلاوة على ذلك ، لا يمكن أن نتبيّن ، لدى تفحّص خريطة التوزيع الأول للخطط في عهد عمر ، أي تقسيم للمكان بناء على مبدأ غير قبلي (١). نجد في تاريخ الطبري ، وهو المرجع الأكثر صدقية بين المراجع التي بين أيدينا (٢) ، أن خطط اليمنيين تحاذي خطط مضر وربيعة. فإلى الشمال من المسجد ، نلاحظ خطط همدان وبجيلة إلى جانب خطط سليم وثقيف ، وإلى الجنوب خطط النخع وكندة والأزد إلى جانب قبيلة أسد الكبيرة ، في حين أن تميم تحاذي الأنصار ، لناحية الشرق (٣).

ولم تحدث طيلة العصر الأول من تاريخ الكوفة وحتى عهد زياد (٥٠ ه‍ / ٦٧٠ م) أية تغييرات مهمة في مواضع القبائل الكبرى؛ وكل ما تذكره المصادر يفيد بأن العشائر التي لم يكن لها وزن في الكوفة استطاعت تغيير مواضع سكناها ، لتنتقل إلى جوار إخوان لها قدموا في هجرات لاحقة. كذلك فإن عددا كبيرا من الجماعات المتحدرة من بعض العشائر اجتذبتها عشائر أخرى مختلفة ، تشدّها إليها أواصر قربى معينة أو تمتلك نفوذا بارزا. على أن منازل

__________________

(١) هذا خلافا لما ينقله إلينا حديث للشعبي (البلاذري ، فتوح البلدان ، طبعة القاهرة ، ص ٢٧٥) : منذ البداية ، شاءت المصادفة أن تكون الحصة الأفضل ، إلى الشرق ، لأبناء قحطان (١٢٠٠٠)في حين أن الغرب كان من حصة نزار (مضر وربيعة وعددهم ٨٠٠٠). هذه الثنائية لم تكن موجودة في البداية ، كما أنه لم توجد بتاتا ، حتى في زمن الشعبي (٦٠ ـ ٨٠ ه‍). لكن التوزيع الأصلي جرى عليه تعديل عبر الزمن ، فتميم انتقلت إلى عرب المدينة ، في القرن الأول ، ثم تبعتها بجيلة في ما بعد ، وربما أسد أيضا.

(٢) تاريخ ، ٤ ، ص ٤٥ وما بعدها.

(٣) الطبري ، ٤ ، ٤٨.

٣٧٠

اليمنيين بقيت ثابتة طوال العصر الأول (حتى العام ٥٠ ه‍٦٧٠ / م) في حين أن منازل تميم انتقلت إلى غرب المدينة ، وعاد بعض بني أسد وبكر إلى حياة البدو الرحل ، كما هاجرت بكر بن شيبان وعبد القيس وتميم والأزد بكثافة صوب البصرة. وباختصار ، أثبت اليمنيون تعلقا شديدا بموطنهم الجديد : الكوفة.

موقع اليمنيين في التنظيم العسكري الإداري :

من ناحية التنظيم العسكري الذي لا يتطابق مع التوزيع الحيّزي أو المكاني ، كان مقياس الانخراط في الجيش هو السّبع (وجمعها أسباع) حيث كان يتمّ دمج القبائل الكبرى في الجيش ، تبعا للانتماءات الإقليمية ، أي بالرجوع إلى مواقع القبائل القديمة في الجزيرة. في عهد عمر ، كانت الأسباع في الجيش مكونة من القبائل على النحو التالي :

١) كنانة وجديلة.

٢) قضاعة ، بجيلة ، خثعم ، كندة ، حضرموت ، الأزد.

٣) مذحج ، حمير ، همدان.

٤) تميم والرّباب ، هوازن.

٥) أسد ، غطفان ، محارب ، النّمر ، ضبيعة ، تغلب.

٦) إياد ، عكّ ، عبد القيس ، هجر ، الحمراء.

هذه اللائحة ينقص منها سبع واحد. ويعتقد ماسينيون أن بالإمكان إكمال هذا النقص ، وأن السبع السابع هو طيّ ١. ولئن كانت الأمور قد تبدّلت قليلا في عهد عثمان ثم في عهد علي ، فإن هذه اللائحة الأولى التي نجدها عند الطبري هي لائحة تقريبية ، ونجدها كاملة عند البلاذري ٢ يؤكدها حديث لعمر بن شبّة ٣ ، وهي التالية :

__________________

(١) «شرح تخطيط الكوفة» ، Melanges Maspero,١٩٣٤,re?e?dite in Opera Minora,III,p. ٣٩,. Beyrouth في رأينا أن ماسينيون وقع في خطأ ، إذ اعتمد معلومة تقول إن عدي بن حاتم طي قاتل في معركة الجمل ، بعد ما انفصل عن سبعة الأصلي ، وهو سبع مذحج : البلاذري ، أنساب الأشراف ، مخطوطة باريس ، ص ٤٧٥.

(٢) أنساب ، ص ٤٧٦.

(٣) الطبري ، ٤ ، ص ٥٠٠ ، غير أن المشكلة تصبح أكثر تعقيدا لأن هذه اللائحة مستنتجة من تنظيم معركة الجمل. والحال ، أن أنصار علي لم يكونوا من الكوفة فقط ، بل كان معه ـ

٣٧١

١) همدان وحمير.

٢) مذحج ، أشعر ولا سيما طيّ.

٣) قيس عيلان وعبد القيس.

٤) كندة ، حضرموت ، قضاعة ، مهرة.

٥) الأزد ، بجيلة ، خثعم ، أنصار.

٦) بكر بن وائل ، تغلب ، ربيعة (باستثناء عبد القيس).

٧) قريش ، كنانة ، أسد ، تميم ، ضبّة ، الرّباب ، مزينة.

نلاحظ أن هناك أربعة كوادر يمنية من أصل سبعة كوادر عسكرية ، وأن هناك ، بخاصة ، انشطارا في سبع همدان / مذحج ، بسبب الأهمية العددية لهاتين القبيلتين. علاوة على ذلك ، حذفت أسماء بعض القبائل الأخرى ، ربما لأنها ذابت في قبائل أخرى أقوى وأكثر عددا ، أو أنها تجمّعت في قبيلة واحدة اتخذت اسما أكثر شمولا.

هل يمكن ، والحالة هذه ، أن يكون قد جرت هيمنة يمنية في الكوفة؟ فالأرقام غير دقيقة أبدا ، كما سيتضح لنا؛ إلا أن اليمنيين لم يكونوا أكثر عددا من مضر وقيس وربيعة مجتمعتين. ويعني ذلك أن أهميتهم النوعية كانت كبيرة بسبب تماسكهم وكثافة وجودهم القبلي ، ولا سيما في همدان ومذحج وكندة. فضلا عن أن الجماعات اليمنية الصغيرة ، مثل حمير وأشعر وحضرموت وخثعم ، لم تلبث أن اجتذبتها الجماعات الكبيرة فذابت فيها ، ولو على الصعيد الإداري وحده ، على أقل تقدير ، وذلك منذ عهد زياد.

إن الإصلاح الذي أدخله زياد ، والي الكوفة ، بين عامي ٥٠ و ٥٣ للهجرة (٦٧٠ و ٦٧٣ ميلادية) استبدل التنظيم العسكري القديم القائم على سبعة أسباع ، بنظام عسكري إداري جديد قوامه أربعة أرباع ، ويتميز بتبسيط وتجميع الخريطة القبلية؛ إذ لم يبق في واقع الأمر ، من الأسباع القديمة إلا القبائل الكبرى ، أو اتحادات القبائل :

(١) أهل المدينة.

(٢) مذحج وأسد.

__________________

آخرون من قريش والأنصار ، وبدو من طي التحقوا به وهو في الطريق ، كما كان معه رهط كبير من عبد القيس الذين انشقوا في البصرة عن أبناء مدينتهم وقاتلوهم دفاعا عن علي.

٣٧٢

٣) كندة وربيعة.

٤) تميم وهمدان (١).

من جهة ثانية ، حدث تزاوج بين أقطاب قبلية متقابلة ، فكل قبيلة يمنية كانت تأتلف مع قبيلة مضرية أو ربيعية (تآلف بقايا العشائر في الكوفة). وكانت عملية التبسيط والاختصار التي حدثت داخل منطقة القبائل اليمنية بالذات ، تعني أن قبائل حمير اندمجت بقبائل همدان ، والأشاعرة بمذحج ، والحضارمة بكندة ، والأزديين بمذحج كذلك ، وبخاصة بمراد (٢).

II ـ توزّع العشائر اليمنية في العصر الأموي

العصر الأموي هو العصر الذي استقرّ فيه الوضع المديني والقبلي ، وذلك على الرغم من انعدام الاستقرار السياسي. عندما بنيت الكوفة تطورت تدريجيا من وضع المدينة / المعسكر ذات الوظيفة العسكرية المحض ، إلى وضع المدينة ذات الطابع المدني ، وهو وضع لن يتخذ معناه كاملا ويقوم بوظيفته التامة إلا في العصر العباسي ، في القرنين الثاني والثالث للهجرة. وقد اضطلع اليمنيون في انبناء الكوفة ، بدور واسع جدا ، وإن لم يكن الدور الأهم. المعلومات التي في حوزتنا ، والمبيّنة بالأرقام ، هي معلومات عامة وشمولية. ثمة نص لأبي مخنف يصف الوضع كما كان في عهد الخليفة عليّ ، فيذكر أن عدد المقاتلة في الكوفة كان ٥٧ ألف رجل ، بينهم أربعون ألفا من الرجال البالغين وسبعة عشر ألفا من الشبّان اليافعين (٣). كل شيء يبعث على الاعتقاد بأن في هذا الرقم بعض المبالغة ، بالقياس إلى ذلك العصر ، على أن هذا الرقم أصبح معقولا في عصور لاحقة ، تتناسب تحديدا مع العصر الذي عاش فيه أبو مخنف بالذات (٨٠ ـ ١٢٠ ه‍). وثمة مراجع أخرى تذكر أرقاما قريبة منها : فالمسجد الكبير الذي بني

__________________

(١) الطبري ، ٥ ، ٢٦٨.

(٢) الطبري ، ٥ ، حيث نقرأ في الصفحة ٢٦١ أن حضرموت لم تشارك اليمنيين الآخرين في ملاحقة حجر بن عدي لأن عداده جرى مع كندة. وكذلك القاضي شريح الذي قال إنه كان من «أهل اليمن» معدودا في كندة : طبقات ابن سعد ، بيروت ، ٦ ، ص ١٣٢. والحال أن شريحا كان من بني الرائش من حضرموت. وكان الشعبي ، وأصله من حمير ، مسجلا في همدان : ابن سعد ، المصدر المذكور ، ص ٢٤٦. حول «دخول» أزد الكوفة في مراد ، راجع ابن حزم ، جمهرة أنساب العرب ، طبعة القاهرة ، ص ٤٠٦.

(٣) الطبري ، ٥ ، ص ٧٩.

٣٧٣

في عهد زياد صمّم ليتسع لستين ألف شخص؛ أما البلاذري (١) فيذكر بخصوص عدد سكان الكوفة ستين ألف رجل وثمانين ألف امرأة وولد. وهذا ما يصوّر كم كان واسعا ذلك المدى الذي تبلغ نسبة اليمنيين فيه ، بحسب المعلومات التي يذكرها الشعبي (٢) ، الثلث : خمسون ألف منزل لربيعة ومضر ، و ٢٤ ألف منزل لليمن.

من قراءاتنا في كتاب الطبقات لابن سعد ، يتضح أن همدان كانت ، في المنطقة اليمنية ، هي الأكثر عددا ، تليها مباشرة مذحج؛ فمثلا ، في الطبقة التي تلي مباشرة طبقة المحدّثين الأوائل الذين نقلوا أحاديث عن علي وعن ابن مسعود ، هناك ٣٤ شخصية معروفة ، بينها ثمانية من همدان ، وخمسة من مذحج ، وثلاثة من الأزد ... إلخ؛ وفي الطبقة التي تليها ، أي طبقة الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ، هناك ٦٩ اسما ، بينها ٩ أسماء من همدان ، و ٦ من بجيلة ، و ٤ من مذحج (بينهم ثلاثة من نخع) ، و ٣ من طيّ ، و ٤ من الأنصار. في رأينا. أن همدان كانت القبيلة الأكثر تعدادا بين قبائل اليمن ، وربما في الكوفة كلها.

١ ـ عشائر النواة اليمنية :

أظهر تبسيط الخريطة القبلية في عهد زياد ، أهمية الثنائي القبلي همدان / مذحج ، وكشف الموقع الاستثنائي الذي يحتله في الفضاء اليمني. وقد ظهر هذا الموقع بوضوح أثناء تمرّد حجر بن عدي (العام ٥١ ه‍) : يميز الطبري (٣) هاتين القبيلتين من «قبائل اليمن الأخرى» الأزد وبجيلة وخثعم وقضاعة وخزاعة والأنصار. وقد مرّ بنا أن فروع القبائل هذه ذابت في الأرباع. ولكن ، في ما يتعدى الجانب السياسي والإداري للأمور ، ينطوي ذلك التمييز على صيغة واضحة لدرجات الانتماء إلى النفوذ اليمني وأشكاله. وبما أنّه حدث في العهد الأموي تجاوزا للإسلام عودة إلى الأشكال القبلية القديمة ، كذلك انبعثت بقوة التحالفات القبلية القديمة. ولم تستعد مجموعتا القبائل الكبيرتان يمن / قيس العداوة الضارية بينهما إلا في نهاية القرن الأول ، فاكتسبت فكرة اليمن دلالة واسعة شملت القبائل اليمنية الأصيلة والقبائل اليمنية الأقل أصالة (قضاعة) ، ماحية الفوارق القبلية بينها.

__________________

(١) فتوح ، ص ٣٤٥.

(٢) ياقوت ، معجم ، طبعة بيروت ، ٥ ، ٢٩٧.

(٣) تاريخ ، ٥ ، ٢٦١.

٣٧٤

خلافا لذلك ، ظل وجود مهاجرين يمنيين أقحاح ، على صلة وثيقة بأصولهم ، يلعب ، طيلة الشطر الأكبر من القرن الأول ، وفي الكوفة أكثر منه في أي مكان آخر ، دورا كابحا لذلك النمط من البناء السياسي / الميثولوجي. من هنا ضرورة التشديد على وضع تعريف دقيق وواضح لليمنية يتيح التمييز بين نواة مركزية وأطراف ، ويلغي نهائيا المفهوم الإيديولوجي الواسع لليمنية.

همدان :

لا شك في أن الثنائي القبلي همدان / حمير هو الذي يمكن له أن يفخر بكونه يمثل الأصالة اليمنية. لم يعد الحميريون كما كانوا من قبل ، وذلك لكثرة ما استنفدوا في الماضي طاقاتهم السياسية ، لكنهم ظلوا محتفظين ، معنويا ، بهويتهم القبلية على الرغم من اندماجهم في همدان. وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا الاندماج قد حصل : فهو يسقط على الكوفة ما كان يوجد أصلا من تعايش قديم. ومن بين القبائل الكبرى جميعا ، كانت همدان هي صاحبة الدور الأكبر في بناء الحضارة اليمنية القديمة؛ إذ نعثر على اسمها ثلاثا وثلاثين مرة في النقوش (١) ، كما أن كتاب الإكليل (٢) يظهر مدى رسوخها في تلك الحضارة. وكانت هذه القبيلة قد استقرت ، منذ ما قبل الإسلام ، في المنطقة الواقعة بين مأرب ونجران ، حيث طردت طيّا من ذلك الموقع ، على ما يبدو. لا شك في أنها كانت حضرية ، غير أن المشكلة هي معرفة ما إذا كانت قد أخذت جميعها بالحياة الحضرية ، أم أنها حافظت على العلاقات التي تصلها بنمط حياة البداوة. وإنه لذو دلالة واضحة أن تكون الكتب العربية التي تبحث في الأنساب ككتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم (٣) تميز بوضوح نسب همدان وحمير. على أن

__________________

(١) Lankester Harding,An Index and Concordance of pre ـ Islamic Arabian Names and Inscriptions,Toronto Press.

(٢) الهمداني ، الإكليل ، الجزء العاشر ، القاهرة ، ١٣٦٨ ه‍. قرأ الهمداني واستعاد في كتابه مساند همدان (ولا سيما ناعط) وجمير : إكليل ، ص ص ١ ـ ١٧. وهو من جهة ، يميل إلى اعتبار ملوك حمير من حاشد ، وإلى إضفاء مسحة ملكية على عدد من عشائر همدان ، كآل مرب الذين منهم سعيد بن قيس الذي في الكوفة ، في حين أنه من جهة ثانية ، يذهب إلى إطالة شجرة النسب ليصل إلى أبعد زمن ممكن فيها ، آخذا على العراقيين (ولا سيما الكلبي) أنهم يقصّرونها. ومع ذلك فإنه يقرّ (ص ٨٠) بأن حمير وهمدان لا تتطابقان.

(٣) جمهرة ، طبعة القاهرة ، ١٩٦٢ ، صص ٤٧٥ و ٤٧٨. تقسم همدان إلى قبيلتين : حاشد وبكيل.

٣٧٥

مصادر أخرى ، تعود إلى زمن أكثر قدما ، تشير إلى أن همدان تتألف من خطين : الأحمور أو الأحمور التي تتشكل من عناصر حميرية قديمة ومن عناصر همدانية صافية ، والخط الثاني هو أعراب همدان (البدو الرحّل) (١). هذه البنية المزدوجة ، الحضرية / البدوية ، وجدت قبل الإسلام ، كما يقول الشعبي : ربما كانت المسألة إسقاطا على الماضي ، إلا أنه يمكن أن يفسّر أيضا تطوّرا بدأ قبل الإسلام في سياق انهيار المملكة اليمنية. بعض فروع همدان (خارف ، صائديون ، السّبيع) تحضّرت وانخرطت في نمط الحياة اليمنية ، والتحقت بها بقايا من حمير (آل ذي حدان ، آل ذي رضوان ، ذي لعوة ، ذي مرّان) ، في حين أن فروعا أخرى من همدان القديمة قد تكون بقيت بدوا رحّلا (غدر ، يام ، ذهم ، شاكر ، أرحب).

وما أكثر العشائر الهمدانية المذكورة في المصادر التي بين أيدينا ـ وبخاصة الطبري وابن سعد ـ في سياق أحداث تاريخية أو في كتب التراجم وسير المحدّثين والرواة. وقد استقرت تلك العشائر شمال المدينة وشمال غربيّها ، في سككهم وحول مساجدهم. ومن العشائر التي يتردد ذكرها كثيرا :

ـ ثور (٢) (الذين يجب تمييزهم عن ثور البكرية)ولهم سكّة.

ـ شبام (٣) (الذين قتل منهم ١٨٠ رجلا في وقعة صفين)عشيرة مجالد بن سعيد.

ـ الفائشيون (٣).

ـ ناعط (٣).

ـ الصائديون ، وهم عشيرة ذات شأن ، أطلق اسمها على إحدى سكك المدينة.

ـ السّبيع بن السّبع (٤) ، عشيرة قائد همدان سعيد بن قيس (وجبانة السّبيع هي أحد الأماكن التاريخية في الكوفة).

ـ أرحب ، عشيرة يزيد بن قيس ، قائد شرطة علي (٥).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ، ٦ ، ٢٤٦.

(٢) الطبري ، ٥ ، ٦٢ ، و ٦ ، ٢٩.

(٣) الطبري ، ٥ ، ٦١ و ٦٢؛ جمهرة ، ص ٣٩٣؛ أنساب الأشراف ، طبعة القدس ، ٥ ، ٢٩٤. بخصوص ناعط ، راجع الإكليل ، ١٠ ، ص ١٦ وما بعدها.

(٤) البلاذري ، فتوح ، ص ٢٨٠.

(٥) جمهرة ، ص ٢٩٦.

٣٧٦

ـ مرهبة.

ـ وديعة ، عشيرة مسروق بن الأجدع (١). بنو اليام (٢).

ـ شاكر ، عشيرة كبيرة جدا ، ومنها ابن كامل ، أحد صحابة المختار.

مذحج :

تحتل مذحج المرتبة الثانية على مستوى اليمن كما على مستوى الكوفة. ويضعها ماسينيون في مقام همدان ، سواء من حيث «اليمنية» أم من حيث المدنية. لكنها لا تبدو كذلك ، لأننا لا نجد شيئا من ذلك في النّقوش في جنوب الجزيرة ، بسبب موقعها الكائن في الشمال على تخوم الصحراء العربية العميقة ، ولأن بعض قصائد الشعراء توحي بأنها كانت مشبعة بقيم البداوة (٣). ومن المعلوم أن قبيلة مذحج تنقسم إلى أربعة فروع هي : جلد ، مراد ، سعد العشيرة ، عنس. وفي حين شكلت مراد عشيرة واضحة الهوية عمليا (فقط فرعان من مراد ، استطاعا العيش والاستمرار ، هما يشكر وناجية) ، اضمحلت جلد وتلاشت تماما تقريبا أمام عشيرة النّخع ، أكبر العشائر وأقواها في الكوفة. يمكن إذا وضع مراد في المرتبة الثانية ، وفي المرتبة الثالثة جعفي من سعد العشيرة ، أود ، منبّه (أو زبيد) ، مسلية. وتظهر دراسة أسماء المواقع في الكوفة أن هذه المواقع تحمل من آثار مذحج أقلّ مما تحمل من آثار همدان. مع هذا ، فلنذكر على سبيل المثال جبانة مراد ، وذلك الأثر الذي لا يزول لشهادة هانئ بن عروة المرادي الذي ما زال اسمه خالدا مع جملة أسماء أخرى. ونذكر كذلك مسجد جعفي (٤). لقد ذابت قبيلة أشعر إداريا في قبيلة مذحج ، تماما مثلما انصهرت حمير في همدان. على أن قدم يمنيتها مسألة لا تحتاج إلى إثبات. وكانت عشيرة جماهر أهم عشيرة

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٣٩٤؛ إكليل ، ص ٧٥.

(٢) طبقات ابن سعد ، ٦ ، ٣٩٨.

(٣) ولا ننس أن وجها من أبرز الوجوه العربية في العصر الإسلامي الأول ، هو عمرو بن معديكرب ، كان من مذحج ، وسيد زبيد ، ولعب دورا مهما في فتح العراق. والحال ، أن بعض القصائد الشعرية التي بلغتنا منه ، هي قصائد فخر تروي فصولا من الحرب مع مراد. يقول بلاشير إن"أشهر هذه القصائد هي القصيدة الثامنة التي ، بطولها وتدفق معانيها والتذكير العشوائي غالبا بأمجاد مذحج ، تفجّر المشاعر الجماعية الموروثة". تاريخ الأدب العربي ، ٢ ، ٢٨٤. نذكر أيضا : الأفوه ، سيّد أود ، عبد يغوث بن صلاءة (الحارث بن كعب) ، رواد الشعر القديم ومن الوجوه البارزة في أيام العرب.

(٤) طبقات ابن سعد ، ٦ ، ٣٨٠؛ حول حي جعفي في الكوفة ، أنساب الأشراف ، ٥ ، ٢٩٤.

٣٧٧

فيها ، فهي عشيرة أبي موسى الأشعري الذي لعبت ذريته المتكاثرة في الكوفة ، كما في البصرة ، دورا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا مرموقا (١). وقد جاء زمن انتقل فيه الأشاعرة إلى قم التي غدت فرعا ثقافيا وفكريا من فروع الكوفة وسط بلاد فارس.

في النواة المدينية ، اليمنية القديمة ، ينبغي أن ندرج جماعة يمنية أصيلة ، لكن هامشية بسبب دينها ، هي جماعة بلحارث من نجران. هؤلاء عقدوا صلحا مع النبي فأبقاهم على دينهم ، ولكن فرض عليهم جزية فادحة. غير أن عمر اتهمهم بالعودة إلى الربا فنفاهم من الجزيرة العربية إلى سوريا والعراق. كانوا يعدون أربعين ألف نسمة. وكانت السلطة فيهم للمسيحيين اليعاقبة الذين كانوا أكثرية ، وكانت اليهود أقلية فيهم. واستقر معظم النجرانيين في الكوفة وفي ضواحيها القريبة ، في المكان المعروف باسم النجرانية (٢) ، وانخرطوا في حياة المدينة (٣). وفي عهد معاوية ، دخل عدد كبير منهم في الإسلام. أما الذين بقوا على دينهم ، وكان يقودهم العاقب والأسقف ، فقد شكلوا طائفة ارتبطت بعهود ومواثيق مع سلطة الدولة. وقد عانت هذه الطائفة من التشتت ، ومالت إلى التشرذم ، أو على الأقل ، إلى الضعف العددي. غير أن قيادة هذه الطائفة كانت في الكوفة ، وكانت تشكو وتتظلم ، وفي مقدّم مطالبها ، إعمال العدل في الضرائب (الجزية)التي تدفعها وتكييفها مع الظروف والأوضاع المستجدة. وعند ما لاحظ عمر بن عبد العزيز أن النجرانيين انخفض عددهم إلى عشر ما كانوا عليه ، خفض الجزية المفروضة عليهم إلى ٢٠٠ حلّة (الجبة اليمنية)بدلا من ٢٠٠٠ حلّة كما كانت سابقا. واتبع يوسف بن عمر معهم سياسة الشدة التي كان ينتهجها الحجّاج ، أما أبو العباس السفاح ، أول الخلفاء العباسيين ، فقد اعتمد سياسة معتدلة ، رسّخها بعد ذلك هارون الرشيد الذي أخرجهم من حكم العمال وألحقهم بحكم بيت المال ، إسوة بباقي المسلمين.

__________________

(١) جمهرة ، ص ٣٩٨.

(٢) البلاذري ، فتوح ، ص ٧٧.

(٣) يرى ماسينيون أنهم كانوا يدربون العرب الآخرين على الأعمال المصرفية؛ وهذا يعني أنهم عادوا إلى ممارسة الربا. إلا أننا نمتلك الدليل على أنهم كانوا في عهد عثمان ، يمارسون الأعمال الزراعية ، وكانوا يتمتعون بنوع من الحصانة في الداخل والخارج : البلاذري ، ص ٧٨.

٣٧٨

٢ ـ عشائر الأطراف اليمنية :

تتميّز الأطراف اليمنية ، وهي غير قبائل النواة المركزية التي عرضنا لها أعلاه ، بأقدمية أقصر زمنا وثبات أقلّ استقرارا في البلد الأصلي. فقد كان لقبائل كندة والأزد وبجيلة وبعض عشائر قضاعة وطيّ في جنوب الجزيرة ، قبل الإسلام ، حياة نصف بدوية / نصف حضرية (باستثناء حضرموت التي انضمت إلى كندة ، على يد زياد).

أما كندة بالذات ، فقد كانت ، إبّان ظهور الإسلام ، تعيش في اليمن (١) ، وفي الكوفة كان «مشايخ اليمن» هم الذين يروون أحاديث ارتداد هذه القبيلة عن الإسلام ، معترفين بأنها جزء من تاريخهم.

كانت كندة تشغل حيّزا وسطا بين همدان ومذحج من جهة والأزد وبجيلة من جهة ثانية.

وعشائر كندة في الكوفة هي التالية :

ـ بنو معاوية الذين كان فيهم «بيت كندة» ، بيت الأشعث بن قيس ، وكذلك كان منهم حجر بن عدي.

ـ بنو الرائش : ومنهم القاضي شريح.

ـ السّكون ، الذين استقرّ قسم كبير منهم في سوريا ، مع أبناء عمّهم السّكاسك. وتبيّن دراسة المواقع في الكوفة موقع جبانة كندة (٢) ، ومسجد السكون (٣) ، ومسجد الأشعث (٤) ، ومسجد بني بهدلة ، ودار محمد بن الأشعث ، ودار حجر بن عدي ، وقصر وقرية الأشعث (٥).

ـ الأزديون الذين كانوا يتضامنون في البصرة مع القضية اليمنية ، وكانوا أول من أشعل العصبية القبلية عام ٦٤ ه‍٦٨٤ / م ، أصبحوا أقلية في الكوفة ، حيث لا يوجد إلا أزد السّراة (٦). ولما كانت الأزد تحالفا قبليا يضمّ عددا من القبائل ، فإن بعض العشائر التي اختارت الكوفة ، كانت ذات شأن لا يستهان به. نذكر من هذه

__________________

(١) البلاذري ، فتوح ، ص ١١٢.

(٢) الطبري ، ٦ ، ٤٥.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢١.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٢٢.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٦٦.

(٦) المسعودي ، مروج الذهب ، طبعة بيروت ، ٢ ، ٣٣٠.

٣٧٩

القبائل ، على سبيل المثال ، بارق (١) وراسب ، ودوس ، وغامد. وكانت غامد عشيرة متميزة ، انقسمت عشائر عدّة ما لبثت أن انقسمت بدورها فروعا مختلفة : كان منها عشيرة سعد مناة (٢) التي استقرت في الكوفة ، وكانت تضم «بيت أزد الكوفة» ، وآل مخنف ، وكانت بين العشائر المرموقة في المدينة ، وكانت لها جبانة مخنف (٣) ، ومنها المؤرخ الشهير أبو مخنف.

ـ عشائر طيّ التي ورد ذكرها هي عشائر جديلة ونبهان وسلمان بن ثعل ، وبخاصة عشيرة بني الأخزم التي ينتمي إليها سيد طيّ في الكوفة عديّ بن حاتم (٤). لا نجد أي أثر لهذه العشائر في المواقع والأماكن الكوفية ، في حين أن واحدا من بشر هو خثعم ترك اسمه مقرونا بإحدى الجبّانات في المدينة (٥).

ـ يفترض بعشيرة بجيلة أن تكون قبيلة الشتات اليمني : تقول الروايات إنها تشتتت إثر حرب الفجار. ولقد رأينا الدور الذي لعبه جرير بن عبد اللّه في لمّ شملها ، وكيف كانت بجيلة في عداد القبائل الأولى التي سارعت إلى القتال في العراق. ولعلّ هذه القبيلة التي أسهمت في ولادة الكوفة ، منذ البداية ، تراجعت أهميتها بسبب تناقص عديد أفرادها ، ولأنها كانت غير قادرة على طلب العون والمدد ، من قبائل أخرى كي تردفها بالمزيد من موجات المهاجرين (الروادف) على غرار ما فعل غيرها من القبائل ، لتعزز بهم موقعها. وربما لهذا السبب بالذات ، كانت بجيلة أكثر القبائل كوفية؛ فهي فضلا عن ذلك ، هاجرت جميعا ، دفعة واحدة ، إلى الكوفة ، وإلى الكوفة وحدها (ولم يستقر في البصرة إلا فرع صغير من عشيرة أحمس ، بنو الدهن بن معاوية) (٦).

أما عشائر بجيلة التي تذكرها المصادر في الكوفة ، فهي :

ـ قسر ، وهم فرع من قبيلة ، بعشائرهم المختلفة : عرينة (وهي عشيرة جرير) ، أفرك (عشيرة خالد بن عبد اللّه ، والي العراق في عهد هشام).

ـ أحمس ، وهم عشيرة كبيرة ، ومنها رفاعة بن شداد ، من أوائل الشيعة وأحد قادة حركة التوابين. ومنها أيضا ، في زمن لاحق ، القاضي أبو يوسف من

__________________

(١) الطبري ، ٦ ، ٢٨ ، و ٧ ، ١٨٥ وما بعدها.

(٢) جمهرة ، ص ٣٧٧ وما بعدها.

(٣) الطبري ، ٦ ، ١٨.

(٤) جمهرة ، ص ٤٠٢.

(٥) فتوح ، ص ٢٨١.

(٦) جمهرة ، ص ٣٨٩.

٣٨٠