نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

و ٠٠٠ ، ١٢ رجل. وأخيرا ، خفض زياد من عدد المقاتلة بمقدار ٠٠٠ ، ١٠ في الكوفة و ٠٠٠ ، ٤٠ في البصرة ورحّلهم للإقامة في خراسان (١).

وهكذا شاهدت الكوفة مضاعفة عدد سكانها خمس مرات في جيل واحد حيث ارتفع عددهم من ٣٠٠٠٠ على أكثر تقدير سنة ١٧ ه‍ إلى ١٥٠٠٠٠ على الأقل سنة ٥٣ ه‍. حدث ذلك في عصر زياد حيث أخذت الكوفة شكل المدينة وعاشت فترة استبداد وإعادة تنظيم وصرامة في التصرف في الأمور. وبإضافة عدد سكان البصرة يكوّن العدد الجديد كتلة من العمران العربي تبلغ ٣٧٠٠٠٠ ساكن ، وهذا رقم ضخم يضفي على المصرين مظهر التجمعين الكبيرين من البشر ويفرض سلسلة من التطورات المقبلة منها تحول مقر الحكم إلى العراق ، وازدهار الثقافة العربية والحضارة العربية ، اللتين كانتا في حالة نشوء في هذين المركزين الرئيسين ، وتعريب العراق في القرنين الثالث والرابع للهجرة ، الخ ... وهو يفرض قبل كل شيء فكرة التوسع المجالي للمدينتين.

أما في ولاية الحجاج ، وباستثناء خبر ذكره أبو مخنف يبدو رجعا للماضي ، فهناك رقم شامل يقدر ب ١٠٠٠٠٠ مقاتل رافقوا ابن الأشعث ، من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور (المناطق الحدودية البعيدة) ، وأهل المسالح (جنود الحاميات القريبة من الجزيرة وحلوان والأهواز وفارس والجبال) (٢). لم تكن البصرة والكوفة منفصلتين بعد في تلك الفترة ، من الوجهة المؤسساتية والبشرية ، عن ممتلكاتهما الإيرانية النائية. وبذلك يشمل هذا الرقم أغلب قسم ـ لا كله ـ من الأرخبيل العربي في العالم الساساني القديم. والرقم الأكثر إيحاء هو أن ١٠٠٠٠٠ من موالي المدينتين رافقوهم على الطريقة الفارسية (٣). هنا نلتقي مجدّدا بقضية تضخم عدد الموالي من كل صنف : ليس المقصود بالموالي أسرى الحرب المعتوقين كما كان الحال في العصور الأولى ، بل كانوا نتاج النزوح الريفي ، ونتاج ميل جديد إلى تشكيل جموع من الاتباع للنشاط الحربي أو التجاري. إذا رجّحنا كما يبدو معقولا أن عدد السكان العرب المدرجين بالديوان بقي مستقرا ، فإن العدد الإجمالي لسكان الكوفة قد يكون تضاعف ، بدفق الأنباط ، أو أنه مر على الأقل بفترة نمو كبير. إلا أن حركة النموّ هذه تعطلت إلى حين من جراء عدّة عوامل منها عملية الطرد التي نفذها الحجاج وسوء الظروف

__________________

(١) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٢٦ ، ذكر رقم ٢٥٠٠٠ من كل مصر. ولم يحدد البلاذري إلا رقم ال ٥٠٠٠٠ : فتوح البلدان ، ص ٤٠٠. واستنبط صالح العلي ، التنظيمات ، ص ٤٤ ، رقم ٤٠٠٠٠ بصري و ١٠٠٠٠ كوفي وجاراه في ذلك شعبان إنما بحذر.Shaban ,Abbasid Revolution ,p.٢٣ :

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٣٤٧.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٣٤٧.

٢٨١

العامة ، وتأسيس واسط أيضا ، واستقرار أهل الكوفة في وقت لاحق في «مستعمراتهم» القريبة والبعيدة ، وحركة انسياب العرب إما في المحيط البدوي وإما في السواد (١). لكن المصادر تصر على القول إن ١٠٠٠٠٠ سيف كانت مستعدة لأن تقف إلى جانب زيد في سنة ١٢٢ ه‍ لو شاء ذلك ، تأتيه من الكوفة وخراسان (٢). هذا الرقم الوارد في أكثر من خبر ، لا يمكن أن يكون مجرد استرجاع لرواية أبي مخنف حول ثورة ابن الأشعث ، فهو إما يندرج في المثالية التكرارية والرمزية الرياضية ، فيكون تقريبا خالصا لا يعبّر إلا عن ضخامة القوة الضاربة (٣). إلا أنه يكشف مع هذا عن شعور غامض بالعدد الكبير ، وينقل فكرة التكثير. لكنه في أغلب الروايات لا ينطبق على الكوفة وحسب (٤) ، وهذا ما يضيف صعوبة أخرى.

ويمر الزمن ونأتي إلى سنة ٢٦٤ ه‍ حيث يرد رقم ٨٠٠٠٠ دار أو نار ولعله يقابل ما يقدر ب ٣٢٠٠٠٠ إلى ٤٠٠٠٠٠ ساكن (٥). كان العصر عصر توسع للحضارة الإسلامية ، وعصر الذروة بالنسبة للكوفة ، وعصر توسع هام جدا للمجال الديني ، كما يشهد بذلك علم الآثار. لكن بغداد من جهة وسامراء من أخرى كانتا تجذبان أهم عدد من سكان الريف والمدن وتعوقان التطور الطبيعي للكوفة. فالمفروض إذن أن هذا الرقم يمثل قاعدة تقريبية صالحة لأواخر العصر الأموي : إن رقما يتراوح بين ٣٠٠٠٠٠ و ٣٥٠٠٠٠ ساكن ، في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري ، لهو قريب من المعقول تماما بالنسبة للكوفة ومنطقتها القريبة. وهو ينتسب إلى تقديرات العصر : كان مثلا عدد العمال الذين استخدمهم المنصور لبناء بغداد ١٠٠٠٠٠ عامل ، وقد قدم عدد هام منهم من الكوفة. وتواجد أيضا أكثر من ١٢٠٠٠٠ مقاتل في معركة الزاب (١٣٢ ه‍). وأخيرا تؤيد كل القرائن النمو الديموغرافي السريع ، منها الوضع الغذائي الممتاز الذي كانت عليه الأمصار التي كانت تستمد كامل غذائها من السواد والأهواز وفارس والجبال وأذربيجان بفضل مؤسسة الرزق ، مما جعل المدينة مكانا للأمن الغذائي. وهذا ما يفسّر تدفق الأهالي عليها وما جدّ من مراقبة للنزوح. لكن هذه الجموع ذاتها تغذي المدينة بدورها بمادتها البشرية. فالتدفق الخارجي هو العامل

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣٠٩ و ٣١١.

(٢) مقاتل الطالبيين ، ص ١٣٥. ذكر الطبري ، ج ٧ ، ص ١٦٦ ، أن رقم ١٠٠٠٠٠ مرتبط بأهل الكوفة وحدهم وهذه جزئية مهمة.

(٣) انظر مثلا ، الطبري ، ج ٧ ، ص ٥٦١.

(٤) بصفة عامة وباستثناء ما ذكره أبو مخنف. وانظر أيضا الطبري ، ج ٧ ، ص ٥٦١.

(٥) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢. وقد استخلص كايتاني أيضا رقم ٤٠٠٠٠٠ ، اعتمادا على هذا الخبر : Caeta ـ ni ,Annali ,III ,٢ ,P.١٦٨.

٢٨٢

الآخر للنمو الديموغرافي الذي لم يعد يرتبط عائقه الرئيس بالحرب ، بل بالعمل الهدام المتأتي من الطاعون المتكرر ولا سيما الطاعون الجارف الذي حدث في سنة ١١٦ ه‍ / ٧٣٤ (١).

فهل أن استرداد الكوفة لموقع مركزي يعود إلى هذا التطور السريع المتسق ، وإلى تهدئة النزاعات ، ولكونها نسجت صلات متينة بمحيطها ، وخلافا لذلك لكون أهل البصرة مارسوا نشاطهم في بلاد بعيدة (خراسان والسند)؟ لقد بدأت الكوفة تفقد هذا الموقع منذ سنة ٣٠ ه‍ حيث سبقتها البصرة إلى الاستيلاء على خراسان ، ذلك البلد الغني المبشر بخيرات لا متناهية. ثم ظهرت فترة مجد في عصر علي ، تجسم في انتصاره على أهل البصرة في وقعة الجمل ، فأصبحت الكوفة عاصمة للخلافة ، وتجسمت إرادة الكفاح والهيمنة في معركة صفين. وقد دفعت الكوفة ثمن ذلك بعد مدة قصيرة حيث أن معاوية وزيادا فضلا البصرة التي انفتحت لهجرة كبيرة جدا (٢). وعلى ذلك نجد معلومات المصادر عن عصر زياد تدل على تفوق واضح للبصرة. لم تعد الكوفة عندئذ تشكل سوى ثلثي مداخيل البصرة وعمرانها (٣) ، وهذا انقلاب يسترعي الانتباه عندما نتذكر البداية المتواضعة لهذا المصر. ثم استمرت البصرة في التطور السلمي في حين أن الكوفة عاشت المآسي تلو المآسي. إن زيادا والحجاج أيضا وحتى الوالي الذي ولاه ابن الزبير ، وقد أشرفوا على العراق كافة ، استقروا بالبصرة ولم يوجهوا إلى الكوفة سوى خليفة لهم لا غير (٤). إلا أنهم أقاموا بالكوفة بصورة منتظمة والتحقوا بها كلما فرض الوضع ذلك.

أما في عصر ابن هبيرة ، وخالد القسري ، ويوسف بن عمرو ، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز فقد صار الوالي يقيم بالكوفة أو الحيرة إذا لم يكن موجودا بواسط (٥). وهكذا غادر يوسف اليمن إلى الكوفة خصيصا لعزل خالد وتولي الأمر مكانه (٦) ، وأعد العدة لقمع ثورة زيد وهو في الحيرة (٧). ويبدو أن ابن عمر أقام بالكوفة والحيرة أيضا (٨). وبعد مدة ، أمر

__________________

(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٩٣. انتشر هذا الطاعون في العراق والشام ، وقد تضررت منه واسط أكثر من غيرها. وقد تفشى طاعون آخر قبل ذلك في الكوفة عام ٤٩ ه‍ : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٢.

(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٧٣. أدى ذلك إلى إعادة توزيع وتقسيم العطاء.

(٣) انظر ما سبق.

(٤) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٤ : كان زياد يقيم بالتناوب ستة أشهر في كل مصر.

(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٠.

(٦) المرجع نفسه ، ص ١٥١.

(٧) المرجع نفسه ، ص ١٨٠ ـ ١٨٦.

(٨) المرجع نفسه ، ص ٣١٧.

٢٨٣

يزيد بن عمر بن هبيرة ببناء مدينة ملاصقة للكوفة وقصرا (١). ولعلّه ينبغي الربط بين استئناف الكوفة لمهمة المركز ، واعتراف السلطة بموقعها الاستراتيجي الممتاز ، وبين إقامة ولاية مستقلة للمشرق (خراسان) بأمر من هشام (٢). فلم تعد البصرة مصدّرة للرجال لتعمير خراسان ، هذه الولاية التي وقفت على قدميها ، وبذلك فقدت البصرة جانبا من إشعاعها في المجال العسكري واسترجعت الكوفة في الوقت نفسه موقعها المتميز كملتقى للمواصلات.

وهكذا تلتئم كل العناصر التي بسطناها. إنها عناصر ضرورية لمحاولتنا شرح ما طرأ من تطور على المدينة في آخر مرحلة مرت بها خلال العصر الأموي. وهي تنير الطوبوغرافيا ، التي لا معنى لها إذا لم ترتبط بكيان المدينة كاملا وبمادتها البشرية ومكانها في تاريخ متسع تشكل هي جزءا منه.

__________________

(١) كان قصر ابن هبيرة بعيدا عن الكوفة ، لكن مدينة ابن هبيرة تتوأمت مع الكوفة ومدّدتها على الضفة اليسرى. انظر : فتوح البلدان ، ص ٢٨٥.

(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٤٧ ـ ٤٩.

٢٨٤

ـ ٢٠ ـ

الاستمرارية ، الاضافات والابتكارات

هذه كوفة نصف القرن الأخير من العهد الأموي هي بالذات التي عاش فيها أبو مخنف. لا شك أنه ألف كتبه في مطلع العصر العباسي ، كما بيّن ماسينيون ، فاستعرض العصور السابقة ، وبذل جهده في إحياء ما مضى من الأحداث ، لكن الكوفة التي كانت نصب عينيه هي تلك التي امتدت حياتها من سنة ٨٠ إلى سنة ١٣٠ ه‍ ، أي كوفة لم تعد تحدّد ذاتها المجالية بالمدينة ـ المصر المتراصة المنحصرة على نفسها ، بل صارت تنزع إلى ضم العديد من التجمعات شبه المدنية التي دخلت في فلكها ويشهد على ذلك تكاثر المنشآت الخارجية التي أمر بها الخلفاء الأمويون الأواخر والأوائل من العباسيين على السواء ، من مثل سوق يوسف بن عمر في الحيرة ، وسوق أسد ومدينة ابن هبيرة ، وزرارة وهي آخذة هيئتها في ذلك الوقت ، والرصافة والهاشمية ، وقصر أبي الخصيب.

أما بخصوص الخطط التي بقيت مع المركز ، العنصر الأساسي للهيكل المدني ، فينبغي تسجيل استمرارية الاستيطانات القبلية ، واستقرار الأوضاع أيضا. لم يأت سكان عرب جدد زرافات للإقامة ، ولم يجر أي إحداث جديد في الخطط ولا كذلك التحولات التي هي هجرات داخلية كما وقع في الخمسين سنة الأولى. لقد تزايد عدد الموالي إنما أقاموا في خطط أسيادهم. وإذ ورد ذكر مسجد للموالي ، وقد وضعه ماسينيون غلطا (١) بأحد أطراف المدينة ، فهذا لا يدل على وجود استيطان خصوصي للموالي غير مندمج في الخطط ، ولا على سكن مستقل لهم (٢). إن ما طرأ من تغييرات على نسق الخطط بمفعول النمو العمراني ، قد وقع على نمط إما التمدد والدفع إلى الخارج أو عبر التراص الداخلي. لكن عند الحديث عن الكوفة والأزقة والمتاهات والكثافة السكنية التي لا شك فيها ، فلا بد من التعرض إلى الوجه

__________________

(١) Massignon ,Art.cit.,p.٤٥.

(٢) انظر لا حقا.

٢٨٥

الآخر أي إلى الجبانات والصحارى والأفنية والرحبة والسكك ذاتها ، التي حفظت للمدينة بنية منفتحة فسيحة بعيدة كل البعد عن صورة المدينة الإسلامية في العصور الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية (القرن ٣ ـ القرن ٨ ه‍).

الواقع أن الاستمرارية تظهر في أغلب المنظر المدني وأغلب علاماته. فعند مطالعة الروايات الخاصة بزيد بن علي ، تعود بنا الذاكرة إلى أماكن عهدناها هي جبانة سالم ، والصائديين أو الصوداويين (من أسد) ، والكناسة ، والجبانة ، وجبانة مخنف ، وجبانة كندة ، واستمرت الدور القديمة قائمة وهي تحمل أسماء مؤسسيها : دار خالد بن عرفطة ، ودار عمرو بن حريث ، ودار عمر بن سعد. وكلها تعيد إلى الأذهان أن عصر الإنشاء والتشييد الحقيقي هو عصر جيل الفتح ومن جاء بعده ، وهم الذين طبعوا بطابعهم أسماء المكان. لكن السلالات تبقى وتستمر لدى الأشراف ، وهذا ما يفسر أن الدور حافظت على وظيفتها الأولى ، باستثناء دار الوليد بن عقبة ، التي تحولت إلى دار للقصارين (١).

لم يخل الأمر من إضافات وابتكارات كبناء الأسواق ، والقنطرة ومصلّى خالد ، وكنيسة أم خالد ، ودور سوق الرقيق الذي صارت تقوم به دار الرزق ، وتأكيد الوظيفة التجارية والثقافية للكناسة. وتزايد عدد الحمامات ، وتطوّرت المناطق المجاورة ، وزاد الارتباط بالحيرة بصفة واضحة. إن هذه المنشآت والأدوار الجديدة طبيعية في مدينة فتية لم تنه بعد تشييدها الذاتي ، ضمن حضارة جديدة تتشعب ، وتدقق معرفتها لحاجاتها ، وتستوعب التأثيرات الخارجية. لكنها ابتكارات أملتها أيضا التغييرات الحديثة.

١) بناء خالد القسري للأسواق :

أقيمت الأسواق في الكوفة منذ البداية ، كما هو معلوم ، في كامل الجانب الشرقي من المساحة المركزية مستقلة عن المسجد. والأسواق من عطاءات الحضارة العربية الأكثر تميزا ، حيث أن الأسواق الدورية كانت من أسمى مواضع الحيوية الإجتماعية والثقافية العربية. لقد جدد عمر القاعدة لتنظيم الأسواق ، فقرر أن المكان يعود لمن يحتله أول مرة : «الأسواق على سنة المساجد. من سبق إلى مقعد فهو له ، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه». هذا أمر يناقض ثبات نقط البيع وتخصص الأسواق. على أنه تمّ لاحقا تحديد في تطبيق هذه القاعدة وقصرها على المساحات المخصصة من السوق حيث نرى ظهور التميّز من زمن ولاية زياد بالبصرة. فقد تحدث صاحب أنساب الأشراف عن «سوق الطعام» أي سوق

__________________

(١) ربما في عصر العباسيين.

٢٨٦

الحنطة والزيوت (١). وفي واسط ، صممت الأسواق بتخصصات متميزة ، مما يفترض أن الوضع كان على ذلك النحو في الكوفة حيث استقر الباعة في أطناف غطتها الحصر وقامت على أوتاد (المرجح أنها كانت من قصب) (٢).

وتندرج بادرة خالد المتمثلة في بناء أسواق الكوفة ، وهي الأولى من نوعها في الإسلام ، تندرج ضمن سياق عظمت خلاله المبادلات ، نعني سياق الازدهار الاقتصادي. لكن هذه البادرة ترتبط كذلك بإرادة البناء والتنظيم. فقد جدد مقصورة المسجد (٣) التي بناها زياد ، وأمر بحفر القنوات منها النهر الجامع ، مواصلا بعمله كله الجهد الهائل الذي شرع فيه الوليد بن عبد الملك الذي مثل تحولا حاسما في الانطلاقة المعمارية الإسلامية. لكن خالدا كان صاحب أعمال ميالا إلى المشاريع النفعية.

كانت المصادر مقتضبة في تدوينها الحدث. قال البلاذري : «وبنى خالد حوانيت أنشأها وجعل سقوفها أزاجا معقودة بالآجر والجصّ» (٤). أما اليعقوبي فإنه قال : «إنه بنى الأسواق وجعل لأهل كل بياعة دارا وطاقا وجعل غلالها للجند» (أي لجيش الشام) (٥). ولم يقل الطبري شيئا عن هذه الأسواق المركزية ، لكنه أشار إشارة خاطفة إلى فكرة اتساعها في الخطط. واستمد ماسينيون نظريته عن مركزية الأسواق منها ، وهو يرى أن أسواق الكوفة «لا شك أنها كانت نماذج لأسواق بغداد» (٦). إنه رأي صائب جدا لا سيما أن الأسواق الأولى في بغداد أقيمت في طاقات مركب الأبواب. وقد أمر أوائل العباسيين ببناء الطاقات بالهاشمية (٧). لكن تهيئة الأماكن في بغداد والكوفة لم تكن متماثلة حيث انتشرت الأسواق في الكوفة على قطعة واحدة في الخلاء ، قريبا من المسجد ، فتمتعت حقا بمركزية كاملة. وهو نموذج افتقدته بغداد وأسواقها إلى حد ما ، في حين أن أسواق الكوفة اكتست طابعا نموذجيا من كافة الوجوه ، وصالحا لكل مدينة إسلامية مقبلة.

الحقيقة أن المصادر تطرح علينا مشاكل. كيف نتمثل الأسواق المبنية؟ هل نتصورها صفوفا من الدكاكين المسقفة على حافة سكك غير مسقّفة ، إذا ما اعتمدنا قول البلاذري

__________________

(١) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٩. روى أن زيادا أمر بتسقيف دكاكين البصرة : المرجع نفسه ، ص ٢٢٠.

(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١١ ؛ الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٥٨.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

(٥) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٦) Massignon ,op.cit.,p.٩٤.

(٧) الطبري ، ج ١ ، ص ٦١٥ و ٦٣٠.

٢٨٧

تماما؟ أو أنها دكاكين مصطفة تنفتح على شبكة من السكك المسقفة هي أيضا ، وهو الأمر الذي ينطبق على السوق الإسلامية المعهودة المقتبسة فعلا من سوق الكوفة؟ والملاحظ في هذا الموضوع أن ما ذكره اليعقوبي ينبغي اعتباره وكأنه إضافة ، إذ إن خالدا أقطع دارا وأروقة قامت بدور النقطة المركزية بالنسبة لكل صناعة ، فضلا عن الدكاكين : فكانت مكانا للصنع والتخزين ، ودارا للصناعة ونواة للقيصرية. إن الأمر واضح بالنسبة لدار الوليد بن عقبة (١) إذ قيل إنها كانت في سوق القصارين المليء بأصوات المقصات وإنها كانت دارا للقاصرين (٢) أي ملكهم الخاص.

ولا نعلم إلا القليل عن طوبوغرافية هذه الأسواق التي تفرعت إلى سكك متخصصة ، يوجد بقبلة (جنوب) الجامع ، الوراقون ، والمتوقع أنها كانت مهنة متأخرة لم يرد ذكرها بالنسبة للعصر الأموي. وفي الشمال حيث المكان الذي احتله الجامع الأول وبمركز المساحة المركزية ، نجد التّمارين (تجار التمر) وأصحاب الصابون (٣) الذي تخصصت الكوفة في صنعه (٤). ويضيف ماسينيون قائلا : «وإذن البقالون» (٥) ، لكن ينبغي أن نفهم من ذلك أن المقصودين هم تجار الفواكه الجافة التي كانت بضاعة شريفة. ولا شك أن القصارين بدار الوليد كانوا يقيمون بأقصى الشرق أو الغرب ، والعكس بالنسبة للقلائين. فقد ورد ذكرهم كعلامات تحدد الأسواق ، حيث كانت العلامتان الأخريان هما مركّب القصر والمسجد في الغرب وخطة أشجع وثقيف في الشمال (٦). ولا شك أن أصحاب الأنماط (صناع السجاد) كانوا غير بعيدين من المسجد ، وكذلك أصحاب الخزّ (الحرير) (٧). ولا يمكن تحديد أماكن الحرف الأخرى : السواقون (٨) ، والخلالون (٩) ، والسراجون (١٠) ، والصاغة (١١) ، والزياتون (١٢) ، والحنّاطون (١٣) ، (والأغلب أنهم كانوا من تجار الأطياب العطور

__________________

(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٥٣٢ وج ٦ ، ص ٨٩.

(٢) ابن سعد ، الطبقات ، ص ٢٤.

(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٤) الزبيدي ، ص ٢٠٦.

(٥) Massignon ,p.٠٥.

(٦) كتاب البلدان ، ص ٣١١.

(٧) الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٣٩ ؛ وابن الفقيه ، ص ٢٥٢.

(٨) Massignon ,p.٠٥.

(٩) الوفيات ، ج ١ ، ص ٤٤٥.

(١٠) Massignon ,p.٠٥. ، وقد اعتمد الخاصبي.

(١١) الزبيدي ، ص ١٦٢.

(١٢) أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٦٢.

(١٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٢٦.

٢٨٨

التي كانت تمسح بها الجثث ، أكثر مما كانوا مختصين في التحنيط بالمعنى الدقيق). ولا شك أن الجزارين كانوا يقيمون خارج الأسواق في السبخة حيث كانت لهم دار ورد ذكرها أول مرة أثناء ثورة زيد (١٢٢ ه‍) (١). وكان للحدادين أيضا مكان خارج مركز المدينة ، ولعله يقع بين الكناسة والمركز أو بأقصى غرب المركز (٢). وقد غمض أمر سوق الغنم ، عند تدوين الرواية بخصوص مقتل هانىء بن عروة ، علما أن ماسينيون حددها بأقصى خطة مذحج (٣).

ولا يسمح النص باستخلاص هذا الأمر إطلاقا ، لكن المنطق الطوبوغرافي للأسواق قد يحملنا على وضعه خارج المركز. وبالفعل كانت أسواق الأغنام تقع بأطراف المدينة ، وهي بعيدة عن المساحة المركزية ، وكانت تشكل صنفا مغايرا من الأسواق له طابع خاص ، ووظائف مغايرة (٤). في حين أن الأسواق المركزية كانت بها صنائع نظيفة شريفة ، وقد شكّلت وحدة شاملة تفرّعت إلى وحدات أصغر فهي مركب لصنائع متميزة اندرجت في جغرافيا المركز. إنها سوق مفردة متفرعة إلى عدة أسواق. وكانت شبكة من النشاطات المتكاملة المتداخلة التي جسمها مفرق السكك التجارية المنفصلة بعضها عن بعض ، إذ تضمنت دروبا تغلق ليلا أو عند نشوب اضطرابات خطيرة (٥). والملاحظ أخيرا أن موقع سوق الصيارفة كان خارج المركز في الركن الجنوبي الغربي للمساحة المركزية قرب مسجد بني جذيمة (عشيرة من عبس لا أسد كما روي) (٦). هذا استثناء وجب التلميح إليه لما اكتساه هذا النشاط من أهمية وهو يفسر بأسباب دينية أو ظرفية.

٢) الأسواق المحيطة. الكناسة والدور الجديد للحيرة

إن مهمة الأسواق المركزية هي أن تنتج وتخزن وتبيع المنتوجات المصنوعة. وهي تنتمي إلى قطاع التجارة الخاصة وتعبّر عن الوجه الإيراني والوجه العراقي للكوفة. وكانت تتعاطى نشاطات من الصنف «الشرقي». وقد تركز في دار الرزق ما كان يرجع بالنظر للدولة ـ جباية الضرائب على الإنتاج الزراعي وإعادة توزيعها في إطار الرزق (٧) ، والغنيمة والرقيق خاصة ـ وبالكيفية ذاتها ، كانت كل علائق التبادل التجاري والبشري تتم بالكناسة

__________________

(١) أنساب الأشراف ، ج ٣ ، ص ٢٥٠ وما بعدها.

(٢) مقاتل ... ، ص ١٣٦ ؛ الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠٦.

(٣) Massignon ,p.٣٥.

(٤) مثل الكناسة.

(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢.

(٦) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.

(٧) الطبري ، ج ٦ ، ص ٦٠٢.

٢٨٩

وكل ما من شأنه أن يعبر عن استمرار قوة الصلات ببلاد العرب ، الوطن الأم. كانت «أسواق الأطراف» تشمل فضلا عن الكناسة ودار الرزق منشآت جديدة خارجية منها سوق أسد وسوق يوسف ، وتسهم إسهاما نشيطا في الحياة الاقتصادية بالكوفة بسبب نشاطاتها وموقعها الطوبوغرافي.

وتلفت الكناسة النظر بصورة خاصة. كانت أرضا عراء واسعة في خلافة علي حيث تميم وهمدان تفضان الخلافات بينهما (١). وبداية من ولاية زياد ، ظهرت وظيفتها التجارية حيث أمر هذا الوالي بشراء النوق والبغال ، ووجّه عليها حجر بن عدي ورفاقه إلى معاوية (٢). كانت تقوم بوظيفة السوق لبيع وكراء الدواب كالجمال والبغال والبراذين (٣) ، ولاحظ ماسينيون أن «تجارة وصناعة النقل تركّزتا فيها بصورة طبيعية» (٤) وأشرف عليهما «النخاسة بالدواب» وهم تجار الدواب عموما ، باستثناء الخيل التي لم تعتبر دوابا للنقل أبدا (٥). كانت هذه التجارة نتيجة أكثر منها سببا ، للدور الذي لعبته الكناسة كمرفأ للقوافل متجه نحو بلاد العرب أولا والبصرة ثانيا. وأضاف ماسينيون أيضا أنها كانت «مكانا لحط الرحال وحمل الأثقال بالنسبة لقوافل الجمال». فهي باب لبلاد العرب مفتوح مباشرة على طريق الحج ، ومصبّ عظيم لسكان البادية : تلك كانت الكناسة. وهي تحمل بصورة قوية عمق الصلة ببلاد العرب ، وترمز إلى الوجه العربي الصرف للكوفة ، أي إلى وجهها الآخر ، وبعدها المرتبط «بشبه الجزيرة» العربية. كانت كلمة «كناسة» تعني أصلا مصبا للقمامة (٦) ، فصارت تعني في المعجم العربي اللاحق المكان حيث تناخ الجمال وتحط الرحال بصفة عامة. إنه تطور في الدلالة مستمد من اسم العلم هذا ، وهو تطور رفضته القواميس الكلاسيكية بتاتا (٧) ، لكنه حاضر بقوة في لحمة اللغة المحكية.

لم تكن الكناسة إذن سوقا للدواب فقط ، ولم تكن تنفرد بذلك في هذا المجال ، فقد ورد ذكر سوق البراء (٨) المتخصصة في بيع الدواب. لقد كانت مركزا لسوق منتوجات

__________________

(١) أنساب الأشراف ، مخطوطة باريس ـ ورقة ٤٤٨.

(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

(٣) الجاحظ ، كتاب البغال في رسائل الجاحظ ، تحقيق عبد السلام هارون ، القاهرة ، ١٩٦٤ ، ج ٢ ، ص ٣٣٣ ؛ ابن سعد ، طبقات ، ج ٦ ، ص ٤٠١.

(٤) Massignon ,op.cit.,p.٣٥.

(٥) أبو عبيدة ، كتاب الخيل ، ص ٥ ـ ٨. كانت الجيوش «تجر» الخيول المربوطة بدواب أخرى.

(٦) لسان العرب ، مادة «كناسة» ، جذر ك ن س.

(٧) لسان العرب وتاج العروس.

(٨) أنساب الأشراف ، وجه ورقة ٤٩٩ وظهر ورقة ٥٠٠.

٢٩٠

السواد وما وراءه من البلاد الإيرانية إلى المدن المستهلكة في بلاد العرب ، وهي مدن مثقلة بالمال. ولم يكن لبلاد العرب ما تبيعه إلا ما قلّ ، باستثناء جمالها خاصة. مما جعل للجمل دورا مزدوجا كما ازدوج دور الكناسة : كان دابة للحمل ودابة للتوريد ، وكانت الكناسة سوقا للقوافل وسوقا للجمال.

ولا ينبغي تصور الكناسة كتنويعة من الأسواق المركزية ، بل كسوق دائمة ومرفأ ونقطة المنتهى. كانت الكناسة سوقا كلها تلونات ، وكانت مكانا يلتقي فيه عالمان يسودهما الطابع العربي. وهي أفرزت سوقا داخلية استهلاكية حيث يباع الصحناة ، وهو طعام من السمك ، كما ذكر في ملامة عنيفة وجهها شبث بن ربعي إلى أحد موالي المختار (١).

ولذا ، صارت بصورة طبيعية ، مكانا مرموقا للشعر البدوي ، مثلها مثل المربد في البصرة ، لكن بدرجة أقل (٢). وإنها لصورة مؤثرة لم تكن لتتكرر كل يوم تلك التي تظهر لنا أحد الشعراء واقفا على ناقته ينشد إحدى قصائده التي تثير حساسية طفل. وهذا المنظر يوحي لنا بقوة المناخ الثقافي وعمق الحيوية الاجتماعية بالكناسة (٣).

لا فائدة من العودة إلى الدور السياسي العسكري الذي كان للكناسة. ولعله كان أهم من دور الجبّانات الكبرى ، لأن الكناسة كانت نقطة تجمع لتميم وحلفائها من ضبة وعبس ثم لكونها ملكا للمدينة كلها. كانت مكانا عموميا مزدوجا بالنسبة للمجتمع المدني كما للسلطة التي لم تمتنع عن جمع جنودها فيها (ابن مطيع مثلا) (٤) ، وعرض المصلوبين. وخلافا لما جاء بخبر قليل الوثوق (٥) ، فإن هانىء بن عروة لم «يصلب» بالكناسة ، بل قتل في ساحة السوق التي لم تكن قد بنيت في ذلك العصر (٦). لكن لا يبقى أي شك في عرض جثة زيد بالكناسة على جذع نخلة ، وقد نصبت عليها الحراسة ليل نهار من قبل جنود الوالي (٧). فظاهرة الصلب بالكناسة ظاهرة متأخرة إذن وتبدو منعزلة في المصادر فلا تمكننا من نعت الكناسة بأنها «مكان للشنق» ، كما قال ماسينيون (٨).

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥.

(٢) الأفغاني ، أسواق العرب ، ص ٤٠٧.

(٣) الأغاني ، ج ١٤ ، ص ٣٠.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٩.

(٥) الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ، في حين أن أبا مخنف قال إنها السوق.

(٦) انظر ما سبق.

(٧) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٠ ـ ١٩٠. وكانت ترمى بالكناسة جثث المسجونين إذا ماتوا : ابن سعد ، طبقات ، ج ٦ ، ص ٢٨٥.

(٨) Op.cit.,p.٣٥.

٢٩١

والمصادر نفسها لا تخول لنا وضع السماسرة في بيع الرقيق أو النخاسين في الكناسة كما فعل ماسينيون أيضا دون برهان (١). ويكفي ما روي صراحة بخصوص مسلمة بن عبد الملك الذي هدد ببيع بني المهلب رقيقا بعد ثورة يزيد (سنة ١٠٢ ه‍) (٢) في دار الرزق ، للتدليل على أن هنا لا بالكناسة كانت تعقد مثل هذه الصفقات المرتبطة بالحرب ، وبالدور الاقتصادي التوزيعي للدولة ، المتركز بدار الرزق فعلا.

وبقدر ما كان هذا المخزن الكبير للدولة يوزع على فترات منتظمة المنتوجات الغذائية على السكان العرب في شكل أرزاق ، فقد كان على هؤلاء السكان خزنها والاستغناء بذلك عن نقاط البيع بالمفرّق داخل خطط القبائل ، إذ لم يرد ذكرها بالمرة. وهكذا نجد أسواقا كبرى ومؤسسة عمومية تشرف عليها الدولة من جهة ، وشكلا اقتصاديا عائليا من جهة أخرى ، فضلا عن نشوء أسواق جديدة خارج الكوفة ، حين بدأت المدينة تزدهر. كان أسد بن عبد الله القسري شقيق خالد ، واليا على خراسان مدة ، فأمر ببناء قرية وسوق في منطقة الكوفة. وسمي هذا المركّب (سوق أسد) باسم السوق الدورية أو الدائمة. وقال البلاذري إنه «نقل إليها الناس» ، مضيفا أنها كانت معسكره أصلا ، عند توليه خراسان (٣). إن هذه المدينة ـ السوق التي تدور في فلك الكوفة ، أنشئت إنشاء إراديا ، وكانت في آن مستقلة ومرتبطة بوجود الكوفة. ولها مقابل في إنشاء يوسف بن عمر لسوق يوسف في الحيرة بالذات (٤).

وقد استرجعت هذه المدينة العربية القديمة الموجودة قبل الإسلام عنفوانها في عصر هذا الوالي (١٢٠ ـ ١٢٦) ، واعتاد الولاة الإقامة بها حتى فترة ابن هبيرة ، بحيث يمكن التساؤل عما إذا لم تصبح لحين المقر غير الرسمي للحكم في العراق ، الأمر الذي يبين إرادة الابتعاد عن الكوفة والاقتراب منها في آن ، بالتخلي عن واسط. وبدون أن نقول إن «أرباض» الكوفة صارت تمتد حتى الحيرة ، وهي ظاهرة سوف ترى فيما بعد أي في القرن الثالث كما أثبتته آثار الحفريات ، فإنه يمكننا التأكيد أن الحيرة دخلت في فلك الكوفة سنة ١٠٠ ه‍ ، فأصبحت تعيش ملتحمة بها. لقد ولى الزمن الذي كانت تؤثر تأثيرا عميقا على المصر ، من حيث الهندسة المعمارية والكتابة والصياغة (كانت سوق الصاغة من الحيرة) والخزف والتقنيات المصرفية والصيرفة (٥) ، مع بقائها منعزلة لأنها كانت مقرا لشكل عروبي

__________________

(١) Ibid.,p.٣٥.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٦٠٢.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤ ؛ ابن الفقيه ، ص ١٨٣ ؛ ياقوت ، ج ٣ ، ص ٢٨٣.

(٤) ابن الفقيه ، ص ١٨١ ، ياقوت ج ٣ ، ص ٢٨٥.

(٥) Massignon ,op.cit.,p.٩٤.

٢٩٢

مهترىء خاضع متمسّح ، فيما كانت الكوفة قلعة للإسلام ، ورمزا لحداثة مطلقة للعروبة. ففي عصر الحجاج مثلا (سنة ٧٧ ، خلال ثورة شبيب) ، كان لهذا الوالي أن يشير إليها بالبنان كملجأ محتقر نوعا ما لليهود والنصارى (١) ، وكعالم صغير للغير ، وليس بعالم الإسلام المناضل : كان هناك إذن حاجز نفساني يفصل بين المدينتين العربيتين. وفي حين كانت الكوفة تتشبع بالإسلام أكثر فأكثر ، كانت الحيرة بصدد فقدان عروبتها ، وتحدد وضعها بمغايرة دينية. إن التفتح الواضح على النصرانية الذي طرأ على الكوفة في ولاية خالد القسري ، وانطلاقة المصر نسبيا خارج حدوده الأولى ، والتضخم العظيم لتنقل البشر طيلة قرن ، والإنتصار الكامل للاتجاه العربي الإسلامي على أي شكل منافس آخر كل هذا غير من طابع العلائق. صار الآن ممكنا التمون من الحيرة وكأن المرء ذاهب إلى ضاحية ، إما بسوق الحيرة (٢) ، إذ استمر قائما ، وهو واحد من الأسواق العشربن التي وجدت في العصر الجاهلي (٣) ، وإما بسوق يوسف الجديد (٤). وتزايدت حوالي سنة ١٠٠ ه‍ لقاءات الشعراء والأشراف المعربدين في الأديرة المحيطة بالحيرة (٥). كانوا يحتسون الخمر ويقولون الشعر فيها على هواهم. وقد أخذ ماضي الحيرة الذي تشهد عليه القصور القائمة على حدود الصحراء (٦) ، يحاور الخيال والإحساس العربيين (٧).

سوق أسد ، وسوق يوسف ، وسوف حكمة : إن تفجّر الكوفة على الخارج ، وتدجين المحيط بالحمامات الخارجية (حمام أعين ، الخ ...) ، وبالقرى ، والمزارع ، لهو بمثابة الرفع للحواجز الشرسة للكوفة الأولى. إنه شاهد على الانفتاح على العالم يعارض بشدة انغلاق وبمثابة تملك جديد لهوية مدينة مدنية تماما.

٣) القنطرة والحمامات :

القنطرة أو الجسر المبني :

كان على أهل الكوفة أن يقتصروا لحد ذلك الوقت على جسر دائم من المراكب لكي يعبروا الفرات ويدخلوا السواد ، وكان يقف على حراسة الجسر موظفون (كان مسروق

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦٦.

(٢) الأفغاني ، مرجع مذكور ، ص ٣٧٤.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٣٧٤ وما بعدها.

(٤) ابن الفقيه ، ص ١٨١.

(٥) الشابشتي ، الديارات ، ص ٢٣٦ ـ ٢٥٧.

(٦) صالح العلي ، مقال مذكور ، ولا سيما الخارطة.

(٧) يوسف خليف ، حياة الشعر في الكوفة ، ص ٢٠٤ وما بعدها ؛ الزبيدي ، ص ١١٥ ـ ١٢٠.

٢٩٣

مكلفا بالسلسلة بمدينة واسط) (١) هذا الجسر يسهل قطعه ، هو ضيق نسبيا ، إذ حين يتكاثر الناس عليه يدور الحديث عن الزحام (٢). ولّما اتسع حجم المبادلات وتزايدت حدة الشعور بالتنظيم والاستقرار اتخذ عمر بن هبيرة الوالي (١٠٣ ـ ١٠٥) قرارا ببناء قنطرة بمواد صلبة. وأعاد القسري البناء وحسنه ثم جرى إصلاحه عدة مرات بعد ذلك (٣).

أورد البلاذري خبرا مفاده أن أصل البناء يعود إلى العصر الساساني الغابر ، وروى أن مهندسا عربيا من النساطرة الجعفيين بنى القنطرة التي انهارت بعد مدة (لأنها بنيت من لبن على الأرجح) ، مما أدى إلى إقامة جسر من المراكب كممر بديل (٤). ويزعم هذا الخبر أن زيادا كان أول من أعاد بناء القنطرة ، وأن ابن هبيرة وخالدا وابن شبيرة الثاني قاموا بإصلاحها ثم تناوب الولاة على الاصلاح. ومن العسير اعتماد هذا الخبر ، لأنه لم يرد خبر آخر يتعلق بوجود قنطرة في ولاية زياد بل بعد زياد. وروى أبو مخنف أن هناك قنطرة قريبة من دير عبد الرحمن (٥) ، كما ذكر أن أهل الكوفة خرجوا سنة ٨٢ ه‍ لاستقبال ابن الأشعث «بعد ما جاز قنطرة زبارا» (٦).

فهل يطابق هذان الخبران الصادران عن هذا المؤرخ ، اسقاطا لواقع لاحق ، كما كان ديدنه في صور كثيرة؟ وهل أنهما يتعلقان بأمر آخر غير قنطرة الكوفة؟ في الحقيقة ، الأقرب إلى الصواب أن تكون القنطرة أمرا حديثا ، وأنها من عمل ابن هبيرة نفسه الذي روي عنه فضلا عن ذلك أنه كان أول من نظم الأسواق في واسط حيث ولّى صاحبا للسوق. بقي علينا أن نحدد مكانها. لا يمكننا القطع أنها كانت تقع مطلقا على الرافد الكوفي للفرات بدل نهر سورا. والمرجح أنها كانت توجد دون شك بمكان يعرف بزبارا (٧) بعيدا عن الجسر فيما يظهر ، كما أكد ذلك خبر ورد بكتاب المقاتل أدرج في رواية تتعلق بثورة أبي السرايا (٨). إن

__________________

(١) ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٠٧.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٨٦ ؛ ابن الفقيه ، ص ١٨٣ ؛ البراقي ، ص ١٢٠ ، وقد حدد هذا الأخير موضعها بمكان يعرف حاليا بقنيدره ، في الجنوب الشرقي من المسجد.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨٦.

(٥) الطبري ، ج ٦ ، ص ٨١ ـ ٨٢. أبو مخنف ذاته يذكر هذه القنطرة في الأخبار المتعلقة بعلي لكن يظهر من السياق أنها والجسر شيء واحد : الطبري ، ج ٥ ، ص ٨٣.

(٦) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٣٤٦. وقد ورد ذكر وجود قنطرة بالحيرة : ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٢٠٩ ؛ صالح العلي ، «منطقة الكوفة» ، ص ٢٣٩ ؛ الأغاني ، ج ١٣ ، ص ٤١.

(٧) الزبيدي ، ص ١٦٤.

(٨) مقاتل ... ، ص ٥٥٣. لكن الخبر الخاص بعلي يوحي بالقرب إذ يقول أبو مخنف في الطبري ، ج ٥ ، ص ٨٣ ما نصه : «وخرج فعبر الجسر فصلى ركعتين بالقنطرة». إذا بالطبع لم يعن هذا القول أنهما شيء واحد كما ذكرنا أعلاه.

٢٩٤

المصادر متضاربة وغامضة في الغالب ، لكنها تذكر رغم ذلك واقعا أساسيا في الموضوع ، هو تعدد نقط العبور الثابتة والقناطر العربية المبنية بمنطقة الكوفة وبهذا الصدد فإن الذي يهمنا هو الانطباع العام أكثر مما هو ضبط الأمور. قنطرة الكوفة ، وقنطرة زبارا (سواء طابقت الأولى أم لا) ، وقنطرة دير عبد الرحمن ، وقنطرة الحيرة : لقد جعل هذا التراكم من القنطرة عنصرا جوهريا في محيط الكوفة. وحين يأتي الوقت الذي ستحاط خلاله المدينة بخندق من الماء سوف تبرز القناطر المجهزة بالابواب في كل مكان ، وسوف تطبع بوجودها منظر المدينة.

الحمامات الداخلية والخارجية :

ولم تكن مساهمة الحمامات أقل من ذلك في وسم المظهر الحضري ووتيرة الحياة في الكوفة كما في البصرة ، وبالتالي في كل مدينة إسلامية. كانت الحمامات موروثة عن الساسانيين ، ولعلهم اقتبسوها بدورهم من الحمامات الرومانية. وقد ظهرت الحمامات بعد مدة طويلة ، المدة اللازمة كي تدخل الممارسات التعبدية أعماق المجتمع وتندمج في الحياة اليومية ، وينسجم مجهود الابتكار والتنظيم مع احتياجات الكيان الاجتماعي ، وإلى أن استوعبت النماذج الخارجية للحضارة. وقد طابقت بالخصوص شعائر الوضوء.

أقيمت الحمامات في ولاية زياد ، في البصرة كما في الكوفة ، مع بعض التضييقات. ويبدو أن زيادا فرض الحصول على الاذن مسبقا ، وحددها خارج محيط المدينة (١). ثم تكاثرت بعد مدة في البصرة ، وأنشئت داخل المدينة خاصة ، هذه المدينة التي أتخمت ماء ، وتعددت فيها القنوات (٢). كان عدد الحمامات المعروفة بالكوفة خمسة منها حمامان كانا خارج المدينة ، في حين أن البلاذري ذكر أسماء أربعة عشر حماما في البصرة (٣). أقيم حمام عمرو بن حريث وحمام قطن بن عبد الله من جهة خطط الشمال ، لكن لا يمكن ضبط موقعهما أكثر من ذلك ، مع أن الحمام الثاني لم يكن على الأرجح بعيدا عن جبانة السبيع (٤) ، وحدد موقع حمام المهبذان بوضوح في السبخة (٥) حيث كان التزود بالماء متيسرا. وقد تزود الحمام الأول والحمام الثاني بالماء من نهر بني سليم (٦). أما الحمامات الموجودة خارج المدينة ، كحمام أعين وحمام عمر بن سعد ، فإنه ينبغي تحديدها بين رافدي الفرات (٧) على طريق المدائن وخراسان.

__________________

(١) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٢٣.

(٢) ١٢٠٠٠٠ قناة حسب الاصطخري ونقل عنه الخبر الأفغاني : أسواق العرب ، ص ٣٩٨.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٣٨٤ وما بعدها ؛ أنساب الأشراف قسم ٤ ، ج ١ ، ص ٢٠٥ حيث يرد ذكر لحمام بلج.

(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٨٤.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٥١.

(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٥ ؛ البراقي ، ص ١٢٠.

(٧) لا سيما حمام عمر حيث قضى شبيب ليلة ، وكان يقع بين قصر ابن هبيرة وقبّين : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٣٦.

٢٩٥

وكانت هذه الحمامات أيضا أماكن استراتيجية من المقام الأول ، حيث عسكرت فيها عدة جيوش ، وأقيمت فيها المرافق بحيث تحولت تلك الأماكن إلى منشآت مدنية أو شبه مدنية.

تذكر المصادر أن عمر بن سعد عندما حاول «الخروج» من المدينة حين طارده المختار ، لجأ إلى حمّامه ، فدخله ثم عاد وقتل (١). وحدده أبو مخنف تحديدا أدق ضمن روايته بخصوص شبيب ، فجعله يقع بعد مكان يعرف بقبين وقبل قصر ابن هبيرة (العتيد) (٢).

وأخيرا ، فلما أمر الحجاج ، بعد ثورة ابن الأشعث ، برحيل الجيش النظامي أي «ضرب البعث» ، وهو الجيش المتكون من أهل الكوفة ، عسكر الجميع بحمام عمر. واستخدم حمام أعين كمعسكر ـ وأعين أحد موالي بشر بن مروان (٣) أصبح من موالي الحجاج ـ وكمكان للاستراحة وكمرحلة أولى بعد الخروج من الكوفة. وكذلك استعمله ابن الأشتر في طريقه إلى الجزيرة (٤) ، وعتّاب بن ورقاء عند خروجه لملاقاة شبيب (٥) ، وشبيب نفسه (٦). وورد ذكره صراحة بأنه يقع على الصّراة (٧). ويبدو أن الموقع الخارجي لبعض الحمامات كان من خاصيات الكوفة. لكنها بقيت كما في البصرة ، من نصيب أناس مقربين من الحكم ، سواء كانوا عربا أو موالي ، وكانت السلطة هي التي تأذن بالاستغلال. فيقابل عمر بن سعد وعمرو بن حريث في البصرة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص ومسلم بن أبي بكرة ، ويطابق أعين شخص فيل وهو من موالي زياد ، وقد تسمى باسمه باب الفيل في الكوفة. ومن المعلوم أيضا أنه كان في أول الأمر للحمامات مداخيل كبيرة وكبيرة جدا في البصرة ، بلغت ١٠٠٠ درهم في اليوم ، فساعد ذلك على انتشارها. وقد عرف أصحاب الحمامات في الكوفة كيف يحافظون على شبه الاحتكار الذي كانوا يتمتعون به ، وكان ذلك أحد النشاطات التجارية النادرة التي تعاطاها أشراف الكوفة.

__________________

(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٦١.

(٢) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٣٦.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٤٢.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٨٢.

(٥) المرجع نفسه ، ص ٢٦٠.

(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٦٨.

(٧) المرجع نفسه ، ص ٢٦١.

٢٩٦

ـ ٢١ ـ

رجوعا إلى التقاليد العربية :

الجبّانات والصحاري

ذكر اليعقوبي في كتاب البلدان أن كل قبيلة اختطت مع رئيسها (١) قال : «وكان لكل قبيلة جبانة تعرف بهم وبرؤسائهم». وأضاف في التاريخ ملحوظة مفادها أن الأشعث خط جبانة كندة ، قال : «فاختط الأشعث جبانة كندة واختطت كندة حوله» (٢) وفعل سعد الشيء نفسه بالنسبة للجامع والقصر. وهذا يعني أن القبائل منحت حرية التصرف في المكان المخصص لكل منها ، وفي التنظيم الداخلي للخطط. وكانت التهيئة المكانية للمركز من صلاحيات السلطة في حين أن تهيئة الخطط كانت ترجع بالنظر إلى القبائل. وتقوم دار الرئيس مقام العلامة المركزية الدالة على غرار القصر ، ويتواجه الجامع والجبانة ، فالجامع هو المكان الأول المحدد في الخطة والذي ينبغي أن يحتل منها المركز الهندسي. كما أن الجبانة قامت بدور المركز لتجميع القبيلة ، فكانت النقطة الحساسة ، والساحة العمومية ، وقلب الخطة النابض.

كانت الجبانة ثمرة للعفوية الخلاقة في عالم القبائل لأن السلطة لم تتدخل في إقامتها ، فكان عليها أن تنجو منطقيا من تأثير الحضارات المحلية المحيطة ، وخلافا لذلك فهي ترجع إلى نسبها العربي. لكن ما هي سلالة التقليد الثقافي العربي المقصود؟ فعلا ، لقد تراكمت وتجاوزت في الكوفة عدة عوالم عربية مختلفة نسبيا ، يمكن ترتيبها في أصناف ثلاثة :

ـ قبائل قيس ومضر من رعاة النوق. وهم رحل وبدو من الطراز الأول ، منهم تميم وأسد وعامر وهوازن ، فضلا عن العشائر والحلفاء.

ـ عالم المستقرين المتحضرين من الحجاز ، وكانوا من مكة ويثرب (المدينة) والطائف

__________________

(١) كتاب البلدان ، ص ٣١٠.

(٢) التاريخ ، ج ٢ ، ص ١٥١ ، طبعة بيروت.

٢٩٧

من قريش والأنصار وثقيف. ومنهم كانت الجماعة السياسية الحاكمة والعسكرية والدينية ، وهي في القمة تمسك بزمام السلطة العليا والسلطة الحكومية في الكوفة. وكانت جماعة قليلة العدد ، لكن انضمت إليها قبائل وعشائر بدوية الأصل ، بفضل أحلاف قديمة أو حديثة أبرمها الرسول معهم. لنذكر كنانة وخزاعة ومزينة وجهينة (١). وكان لوجود شخصيات معتبرة أمسكوا بزمام سلطة القرار (سعد والمغيرة وزياد والحجاج) ، أن بدا تأثيرها واضحا على الصعيد التمصيري. إذ نحت أفرادها وجه الكوفة ، بصفتهم رجالا مسؤولين عن جماعة يعملون فيها طبق اختبارات مدبرة وبعد التروي فيها ، وهم في هذا منفتحون على جملة من الآفاق الثقافية ، أكثر مما كانوا ممثلين لنوعية معينة. لكن هذه النوعية كانت موجودة كتقليد حضري عربي أصيل يختلف عن تقليد الحيرة وتقليد اليمن.

لقد رأينا أنّ مكة تميزت بحيّزها المقدس أي الحرم ، بمسجدها وأماكنها التي يجتمع فيها الأشراف والمعروفة بالنوادي وبتكاثر منشآتها المعدة للاستقبال ودورها الجماعية (دار السقاية مثلا) (٢). وكانت الطائف تعرف بسورها المتقن الذي وقف عرضة في سبيل تقدم الرسول نفسه (٣) واختط الرسول أول مسجد للإسلام في يثرب ، فكان نموذجا قيست عليه كل المساجد الأحرى ، وأدخل ضمنيا مبدأ التخطيط والاقطاع بالنسبة للأراضي والأملاك الفردية (٤). كانت المدينة بلا شك مرحلة أساسية فتحت للسلطة القدرة على القيام بالمبادرة التنظيمية (٥). ولا شك أن الحاكمين استفادوا من مخزون الخبرات هذا.

ـ يمثل اليمنية ثالث هذه العوالم وقد كانوا حاضرين حضورا مكثفا في الكوفة ، وكانوا الورثة المتأخرين لحضارات متكاملة عرفت نظام الدولة والكتابة والري والمدينة. وقد عاش اليمن انهيار الأسر المالكة الأخيرة التي حكمته وعاش تفكك قواعد حضارته ، خلال المرحلة المتأخرة من وجوده التاريخي. فتمخضت عن هذا الأمر هجرات متوالية واحتلالات خضع لها ، فخضع لاحتلال الفرس والأحباش ، ويحدونا الشعور أن اليمن كان مجالا لدفع بدوي قوي ، وأن القبائل المعتبرة قبل الإسلام كانت متأثرة بالبداوة شديد التأثر منها همدان

__________________

(١) كتاب الاشتقاق ، ص ٢٨٥. ولا سيما اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١٢.

(٢) C. E. Bosworth,» The terminology of history of the Arabs in the Jahiliyya according to Khwa razmi\'s» Keys of theSciences «Goitein Festschrift, pp. ٧٢ ـ ٣٤, (القدس ، ١٩٨١). انظر : دار سقاية الكوفة ، الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٣.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٦٧ ـ ٧٠.

(٤) السيرة ، ص ٣٣٣ وما بعدها ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦ ـ ٢٨ ؛ لسان العرب ، مادة قطيعة.

(٥) بنى بها الرسول المسجد باللبن والحجر وسعف النخيل وجذوعه وأنشأ في يثرب السوق وخص الخيل بمجال عرف بالحمى : فتوح البلدان ، ص ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٨.

٢٩٨

ومذحج ، اللتان تفوقتا على حمير وحضرموت تفوقا واضحا في ذلك العصر (١). ونجد في المقابل ، أن ما دخل بعد ذلك في الفلك اليمني مثل كندة ، تمسك بتثبيت الهوية اليمنية بمفعول «الهيبة الحضارية» (٢). ولا شك أن اليمنية نقلوا معهم إلى الكوفة عدة عناصر من متبقيات حضارتهم القديمة وأصروا على الحفاظ عليها. وهذا لا يعني أنهم مثلوا النواة التمصيرية الوحيدة ، كما فهم ذلك ماسينيون ، والقطب الرئيس لممارسة الحياة الحضرية (٣) ومع ذلك فقد أضفوا على الكوفة لونا نوعيا لا ينكر. وظهر ذلك في خطط القبائل حيث يمكن للعفوية الخلاقة أن تعطي أكلها أكثر مما كان في المساحة العمومية حيث تدخلت ارادية السلطة القرشية ـ الثقفية مستعينة بنصح المستشارين من فارس والحيرة (الذين كانوا يمثلون عروبة من نوع آخر ، احتكت بالحضارة الفارسية ، فاعتبرت عروبة الحيرة غريبة خارجية مع أنها أثرت لا محالة على كل ما يرتبط بالعمارة في بادىء الأمر).

فإذا أمكن أن ننازع في وجود أي تأثير يمني على تصور الرحبة المركزية بالرغم من وجود الرحبات أي المساحات الخالية (٤) في المدن اليمنية القديمة ، فإنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الجبانات بصفتها عملا يمنيا مباشرا. كان قول اليعقوبي في محله حيث أكد أن جبانة كندة كانت الأولى من حيث التخطيط والتشييد. فضلا عن أن النظر في قائمة الإحدى عشرة جبانة التي ورد ذكرها في الكتب الموجودة بين أيدينا ، يدل على أن أكثرها كان ملكا للقبائل اليمنية.

ـ كانت جبانة السبيع التي تقع في الشمال ، ملكا لقبيلة همدان ، وقد استمدت اسمها من البيت الشريف بهمدان (٥).

ـ جبانة كندة في الجنوب ، تابعة لكندة.

ـ جبانة بشر في الشمال ، من المحتمل أنها كانت في خطة بجيلة (٦) حيث أقامت

__________________

(١) H. Djai ? t,» Les Yamanites a ? Kufa au ١ er sie ? cle de l\'Hegire «, JESHO, XIX / ٢) ٦٧٩١ (, pp. ٨٤١ ـ ١٨١.

(٢) عبارة من ابتكار ماكس قيبر.Max Weber ,Economie et Socie ? te ? ,I ,pp.٤٢٤ ff.

(٣) Massignon ,op.cit.,p.١٤.

(٤) H.Djai ? t ,art.cit.,p.٧٧١.

(٥) غلب هذا البيت بني ناعط في الشرف : «الهمداني ، الاكليل ج ١٠ ، ص ١٤٨ ، وجزيرة العرب ، ص ١١٠ ـ ١١٢ ؛ كتاب الاشتقاق ، ص ٤٢٧ ؛ الجمهرة ، ص ٣٩٥. لا ننس أن سيد همدان سعيد بن قيس كان من السبيع ، ويحتمل أنه أنشأ الجبانة ، راجع أيضا : فتوح البلدان ، ص ٢٨٠ ؛.Massignon ,p.٧٤

(٦) كانت العلاقات فيما بينهم وثيقة جدا في الجاهلية. قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق ، ص ٥١٥ : «كانوا أخوة». وأكد اليعقوبي أن طيئا أقاموا حول جبانة بشر : كتاب البلدان ، ص ٣١١ ـ ٣١٢.

٢٩٩

خثعم. وهي تحمل اسم خثعمي شارك في حرب القادسية (١) ، وهي تابعة لهذه القبيلة (٢).

ـ جبانة مراد في الجنوب. كانت تقع في خطة مذحج ، وهي تابعة لقبيلة مراد ، وتستخدمها مجموعة مذحج (٣).

ـ جبانة مخنف باسم مخنف بن سليم الأزدي. لا شك أنها كانت تقع في خطة بجلة وبجالة حيث أقام أكثر الأزد (٤).

ـ جبانة الصائديين في الجنوب الشرقي ، التي تطرح مشكلا. لقد سمتها أغلب المصادر بهذا الإسم ونسبتها نسبة صريحة أحيانا إلى عشيرة الصائديين من همدان (٥). وبالعودة إلى ما اتصف به موقع هذه الجبانة من غرابة ، فقد استمد ماسينيون رأيا يقول بانتقال قسم من همدان إلى شرقي الجنوب الشرقي تعويضا لجموع قبيلة أخرى (٦) إلا أنها كانت جبانة قديمة ومهمة جدا. وقد أشير إليها بالخصوص كمكان للتجمع ، خلال اندلاع ثورة حجر (٧). وباستثناء اسم المكان هذا ، فلا وجود لأية إشارة تدل على إقامة همدان في هذه المنطقة وعلى ذلك فهناك احتمال مفاده أن هذه الجبانة القريبة من جبانة سلول ، كانت ملك عشيرة الصوداويين (٨) من أسد (٩) ، حيث أقام قسم من هذه القبيلة إلى جانب عامر خلال فترة التخطيط الأولى. وقد سبق أن أشرنا عند طرح هذا المشكل ، إلى تردد

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٢٨١ ؛ كتاب الاشتقاق ، ص ٥٢٣ ؛ الجمهرة ، ص ٣٩١ ، حيث يذكر ابن حزم أنه كان شريفا.

(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨ ، ٢٢ ، ٤٥.

(٣) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١١ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٢٤ و ٢٣٢ ؛ الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨ ، ٢٣ ، ٤٥ ، ١٠٥.

(٤) اعتمادا لخبر هام رواه ابن الكلبي ونقله ياقوت : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٣٧٤. انظر ابن سعد ، الطبقات ج ٦ ، ص ٣٥ ، والطبري ، ج ٤ ، ص ٥٠٠ ، ٥٢١ ، ٥٧٠ ، بخصوص مخنف بن سليم سيد الأزد ؛ وبخصوص الجبانة ذاتها ، راجع كتاب البلدان ، ص ٣١١ ؛ الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥ وج ٧ ، ص ١٨٣.

(٥) البلاذري في أنساب الأشراف ، ج ٣ ، ص ٢٤٦ وج ٥ ، ص ٢٢٤ و ٢٦٠ ، يقدّم هذا التوضيح باستمرار ويضيف «من همدان». ووردت كلمة الصائديين دائما في تاريخ الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦١ و ٢٦٢ ، وج ٦ ص ١٨ و ١٠٥. ويحمل السياق على تحديدها إلى الجنوب الشرقي لكن هناك معلومة واحدة (ج ٦ ، ص ١٨) غير مقنعة تماما توحي بأن هذه الجبانة يمنية. بخصوص عشيرة الصائديين من همدان انظر : الاشتقاق ، ص ٤٢٩ ، الذي يدرج فيهم الجرندق الشاعر ويؤكد ابن حزم صاحب الجمهرة ، ص ٣٩٥ ، أن أباه منها وأحد أصحاب علي ، وكذلك أبا ثمامة الذي مات برفقة الحسين.

(٦) Massignon ,p.٧٤.

(٧) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦١.

(٨) الأغاني ، ج ١٦ ، ص ٥ ، من طبعة بولاق.

(٩) كتاب الاشتقاق ، ص ١٨٠.

٣٠٠