نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

لا محالة ، ازدوجت بعوامل ملموسة تماما : تسرب العناصر الأعجمية بالتناضح البطيء ، وتطور السلطة وتطور المجتمع الشامل في علاقاته مع السلطة. فحتى مع العباسيين القريبين جدا من الخراسانيين ، بقي عالم أهل السواد العالم الغريب ، الخاضع ، الأهلي ، المحتقر احتقارا عميقا ، وقد حاصروا المدن بحضورهم القريب جدا ، وأثاروا ردودا دفاعية خيالية صرف. وهكذا فمن الكوفة إلى بغداد مرورا بواسط امتدت الرؤية الحضرية العربية وتحولت في آن. وقد استمرت واسط في بغداد بوضوح. أما بالنسبة للكوفة ، فقد انفصلت بغداد عنها من عدة جوانب ، وتمادت فيها من جوانب أخرى. انفصلت بغداد عن روح الصحراء التي كانت حية جدا في الكوفة ، والتي جعلت منها مدينة مفتوحة ـ ما عدا فترات الارهاب. وعادت بغداد إلى النموذج الكوفي بواسطة تصور المركز أصلا والمدينة بصفتها مركزا ومساحة سكنية ، لكن مع رفض مركزية الأسواق وهذا يمثل خروجا على التقليد الكوفي والإسلامي معا (١). وأخيرا فقد أثرت على الكوفة رجعا وحثت على ظهور الثنائية الكلاسيكية بين المدينة والأرباض ، وهذه كيفية لمراقبة انفجار النواة الحضرية. كان انفجارا سريعا مذهلا بخصوص بغداد. ولا شك أنه يجب تكريس الفرق الكيفي في هذا الصدد ، القائم بين بغداد والأمصار القديمة بحيث نلحظ تركيزا أقوى لامكانات الامبراطورية على صعيد أسمى لبناء الحضارة الإسلامية. فبين ضخامة حجم بغداد الكبيرة (٢) وسامراء ، والحجم المتوسط الذي كانت عليه الكوفة والبصرة ، وبين السرعة الخاطفة للنمو من جهة وبطء التجربة من أخرى ، يتبين الفارق نفسه الذي وجد بين الحاضرة الهلينستية (الإسكندرية مثلا في عصر بطليموس فيلادلفوس عند عظمة تتويجه) ، وبين حاضرة يونانية من العصر الكلاسيكي (أثينا في القرن الخامس). لكن عمل احتضان الأمصار الذي استمر وجوده يتراجع طيلة قرن ونصف ، هو الذي قامت عليه حضارة بغداد. والمفارقة في هذا الصدد أن هذه المدينة الحبيسة ، كما كانت في بداية الأمر داخل أسوارها بقرار من السلطة ، قامت بتفجير الأسوار لتصير حاضرة مفتوحة لكل التيارات. في حين أن الأمصار التي كانت مفتوحة بطبيعتها ، زرعت الهوية الثقافية وحفظتها.

__________________

(١) أثار لاسنر في هذه النقطة نقاشا مع ماسينيون ، لكن مركزية الأسواق محتملة على مستوى الحاضرة كافة ، انظر : Lassner, op. cit., pp. ٣٧١ ff

(٢) في حين كانت المدينة المستديرة تغطي مجالا يقدر ب ٤٥٣ هكتارا ، وهذا يمثل حسب رأيي أقيسة الكوفة الأولى في العصر الأموي ؛ كانت مجموعة بغداد في خلافة الموفق (٨٩٠ ب. م.) تقيس ٧ كيلومترات في ١٠ كيلومترات. ويبدو أنها بلغت مساحة تقدر ب ٧٠٠٠ هكتار :.Lassner ,op.cit.,pp.٧٥١ ,٩٦١ الحقيقة أن الكوفة غطت في العصر ذاته مساحة تقدر ب ٧٥ ، ١٦ ميلا مربعا ، واشتملت على ٨٠٠٠٠ دار : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢ ، وأن حقولها الأثرية التي تعود إلى القرن الثالث الهجري ، كانت عظيمة (١٥ كم* ٩ كم) : الجنابي ، ص ١٥٩. وإني أرى أنه بالغ في توسيعها.

٣٤١

خاتمة

الوجه المدني للكوفة

ـ مصير الكوفة وهويتها ـ

لا تنتهي أية مدينة من بنائها الذاتي وهدمها الذاتي أبدا ، ذلك أن نبضات حياتها ترتبط بالمادة البشرية الموجودة داخلها ، وبالمد البشري المحيط بها ، كما ترتبط بوتائر التاريخ الكبرى بالمقدار ذاته ، حيث المستوى السياسي يثبت أحيانا قدرته على الهيكلة بصورة خاصة. فهو قادر بقرار بسيط على تغيير المظهر الاجتماعي والمظهر المدني إلى أجل. لقد نشأت الكوفة عن قرار اتخذه سعد ، وعمر أيضا على مستوى أعلى. ورغم ما انتاب العصر الأموي من هزات وتغييرات ، فقد ساده انسجام كبير. وكان للتحول العباسي الذي حدث في الوقت المناسب ، تأثير ووزن كبيران على مصير المدينة.

وقد سبق أن أشرنا إلى الطابع الممتاز الذي اتصف به العصر الأموي ، ويجب التأكيد على كلاسيكية معينة داخل هذا العصر ، ارتبطت بفترة حبلى بالأحداث ، بدأت من سنة ٦٠ ه‍ وانتهت في سنة ١٢٠ ه‍ ، حيث اتجهت المدينة إلى نحت أدل تعابيرها ، فأوحت بانطباع التماسك واتخذت شكل إطار قارّ للحياة الجماعية ، وقد داخلتها قطعا بعض الاضافات والتحويرات والاستكمالات.

لو رمنا تجميع الكيان الكوفي في صورة وصفية وظيفية ، والقيام بقطع جانبي عبر العصر الأموي وهو العصر الأكثر تعبيرا لوجب التذكير بالثنائية الأساسية بين المركز والخطط ، التي تضاف إليها أجهزة الأطراف الأساسية الموجودة بالمدينة وخارجها. على هذه القاعدة التفكيكية ضمن ثلاثية منقوصة ، يهمنا أن نؤكد وحدة المجموع ، وتكامل المجموعات الفرعية وكذلك تشعب الأجهزة وتنوعها. إذ لدينا من جهة دائما مساحة عمومية تتركز فيها أهم الوظائف السياسية والدينية والعسكرية المتداخلة لحدئذ ، ومن جهة أخرى الخطط ، وهي عبارة عن أماكن قبلية وطوبوغرافية مخصصة للسكن. فضلا عن أن المركز يتحمل هو أيضا وظيفة السكن إذ تضمن دورا كثيرة للاشراف ، وخطط بعض العشائر

٣٤٢

كعبس والأشاعرة بصورة استثنائية ، علاوة على أن الخطط تتحمل على عكس ذلك وظائف عسكرية قائمة على دور السكك والجبّانات ، وهذا تراكب تنويعي. ويتضح الثراء الممتاز في الأجهزة والعناصر المكونة للمركب المدني كله. فتجاوزا للتقسيم الثنائي أو الثلاثي ـ إلى مركز وخطط ومحيط يستثني الضاحية ـ نلاحظ وجود تعددية وتنوع كبير في الأجهزة والمواضع من قبيل : المسجد الجامع والقصر ومساجد العشائر والجبانات والصحاري والأقنية والحمامات والسكك والأزقة والكنائس وأماكن العبادة في الهواء الطلق (مصلى خالد) ودور الاشراف ، وأيضا دور لعامة الناس وهي البيوت ، ودار الروميين ، ودار الضيافة ، والأسواق المركزية ، والكناسة والسبخة ودار الرزق ، وجسر السفن والقنطرة ، والرحبة التي صارت امتدادا جزئيا للمسجد الجامع في ولاية يوسف بن عمر. وفي الجملة هو عالم مدني مهيأ مركّب بعيد عن كل التصورات المقامة على فكرة البساطة البدائية ، سواء صحت أو كانت محض خيال. لا شك أن هذا التطور في سبيل التنوع حدث بدافع الاحتياجات ، كما حدث بفضل القوة الخلاقة المنطلقة بصورة طبيعية وبطول المدة في كل مجموعة بشرية تحررت من البحث عن الغذاء. لكن حضور التقاليد الحضارية المتعددة ، منها تقاليد كانت موجودة قبل عند العرب ومنها ما استبطنوها ، وكذا الدفع من إرادة منبثقة عن حكم مركزي قوي ، كل هذا أمر لا يقل حسما. لقد دام هذا العمل التركيبي العظيم قرنا من الزمن ، لكن دون الوصول إلى تأسيس أكثر من هيئة أولية للمدينة الإسلامية ونموذج استبقى منه المستقبل الأشكال الاسلامية أو الشرقية ـ الإسلامية أكثر مما استبقى الإرث العربي المحض بوجهيه العربي ـ الشمالي واليمني. وبعد ، فإن أهمية الكوفة تكمن ، وأكثر من البصرة ، في كونها تمثل لحظة عبور وتحول من العروبة القديمة إلى الإسلام المهيكل ، هي في الحقيقة لحظة كانت تبحث فيها الحضارة الإسلامية عن نفسها في ظلام الولادة والتكوين. لحظة ذات أهمية مؤكدة بالنسبة للمؤرخ ومحيرة اطلاقا بالنسبة للخيال العادي.

لم تدمّر الكوفة بيد المغول ولا بحديد تمرلنك وناره ، بل دمّرها النهب الشديد الذي قام به بدو الجزيرة العربية : قرامطة ، شمّار ، خفاجة. لقد بناها العرب ودمّرها العرب. إنها بعد الآن مدينة ميتة لم يبق منها سوى بعض الآثار المتأخرة عموما ، لكنّها عكست قدسيّتها الشيعيّة على النجف التي يتقاطر إليها الألوف لزيارة العتبات المقدّسة ، ضريح عليّ.

فيا لسخرة التاريخ أو يا للقدر المشؤوم! مدينة يبنيها شعب ويقتلها هذا الشعب نفسه ، لا في سورة غضب واهتياج ، بل بهجمات خارجية متتالية كما لو كان الأمر متعلّقا بمدينة أجنبية ومكروهة ، يجب نهبها وتحطيمها. وفي هذا جاذبيّات جيو ـ بيئيّة وتاريخيّة تفتن الألباب بتواصلها أو بتكرارها : الصحراء خطر دائم على السهل الطميّي ، والقبيلة صارت

٣٤٣

مجدّدا العدو المميت للمدينة. إن توحّش البداوة هذا الذي تمعّن فيه ابن خلدون ، يكشف عن انهيار أول شكل ارتدته الحضارة العربية والإسلامية : حضارة القرون الخمسة أو الستة الأولى. وصار تاريخ الكوفة تاريخ تحوّلات العروبة بالذات : بادىء الأمر ، عروبة منتظمة ، منضبطة ، شديدة التأطر بالدين الجديد ، متمدّنة ، منبنية ، ثم عروبة منفلتة ، حبلها على غاربها ، فتيّة ، شرسة ، هدّامة ، لا ميزة لها سوى حفاظها على هويّتها ، بينما تأسست عروبة الكوفة وكذلك البصرة ، على أساس الحضارة الإسلامية بقدر ما غرقت في بلاد رافدين استعربت أو تعرّبت بفضلها. ومنذ أن استبعد العبّاسيون أهل الأمصار من العطاء ، نشهد انبثاثا للحضريين العرب في السّواد ، نشهد ترييفهم ودخولهم الكثيف في الحياة التجارية والزراعية. وتاليا تغذّى تعريب العراق من غذاء كوفة متفجرة ، كما تعيّن على الثقافة الاسلامية المأثورة جدا ، أن تعتاش من جهد شرّاحها ونحوييها وفقهائها. ومحل الكوفة العسكرية ، والمطبوعة أيضا منذ البداية بطابع مدينة كبرى بتوجهها ، حلّت في القرن الثاني والقرن الثالث مدينة مسالمة وثقافية ، مطبوعة بالطابع الشيعي في أعماقها الاجتماعية ، قبل أن يستوعبها التشيّع استيعابا كاملا. والحال ، في خضم الحوادث الكبرى ، كانت في القرن الأول الممثلة والمسرح الذي نهل منه إسلام الفرق معنى لبنائه الذاتي.

مركز الهجرة العربية إلى بلاد الرافدين ، موقع أساسي لتثبيت وتوسيع الفتوحات التي ستقوم بتشكيل المجال الإسلامي شرقا ، مختبر تجربة تعايش القبائل العربية المتحضرّة ، مشاركة بقوّة في الصراعات السياسية ـ الدينية للإسلام الأول ، هكذا كانت الكوفة ما قبل العصر العبّاسي. وهي التي انكببنا على ترميمها في بنيتها الحضرية. يبقى أن يواصل هذا الجهد بدراسة اجتماعية وسياسية. ولكن ، كما رأينا بوضوح ، لا يتعلق الأمر بدراسة مدينة ما ، بل يتعلق بدرس مدينة نشأت فيها وتحدّدت حضارة كبرى ، ولا يتعلق بمدينة مستقلة بل بواحد من أكبر المراكز في امبراطورية شاسعة. وفي كل المستويات ، تتماهى دراسة الكوفة مع دراسة الإسلام العربي الذي كانت رمزا لقوته الاتساعية في زمن أول ، ولقدرته على البذل الثقافي والاجتهاد في زمن ثان.

٣٤٤

ملاحق

٣٤٥
٣٤٦

ملحق (١)

الكوفة في تاريخ الإسلام (*)

الكوفة هي إحدى المدينتين الكبيرتين اللتين تأسستا في العراق في العصر الإسلامي الأول ، والأخرى هي مدينة البصرة. وكانت الكوفة ، منشأة العرب العسكرية الدائمة في بلاد الرافدين ، تسيطر على جملة السواد العراقي. وقد أسهمت إسهاما بالغا في الفتح الإسلامي لبلاد فارس ، وكانت طيلة القرن الأول للهجرة (القرن السابع الميلادي) بؤرة غليان سياسي. وهي التي أنتجت كما البصرة أيضا ، التراكم الفكري الذي أنجب الحضارة والثقافة العربيتين الإسلاميتين على مدى ثلاثة قرون. ثم عرفت الكوفة الانحطاط ثم الخراب؛ ولم يبق منها اليوم سوى آثار معظمها من فترات متأخرة ، وأصابها تغيير كثير.

أسّست الكوفة في العام السابع عشر للهجرة (٦٣٨ م) على يد سعد بن أبي وقاص بطل القادسية بعد أن تمّ انتزاع كامل العراق من يد الساسانيين ، ولا سيما بعد سقوط المدائن (١٦ ه‍٦٣٧/ م) التي لم يطق العرب مناخها. لكن ، إضافة إلى هذا السبب ، كانت هناك أسباب أخرى لا تقلّ أهمية:ففي إزاء رغبة العرب في الهجرة والإقامة ، كان الخليفة عمر يرغب في إبقاء العرب على مسافة من الشعوب والمناطق المحتلة ، حفاظا على استمرار التواصل المكاني مع الجزيرة العربية. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الأسس التي ستنظّم علاقة الشعب المحتلّ بشعوب المناطق المحتلة ، جرى وضعها على الفور:عدم الانتشار في سواد العراق ، والامتناع عن إقامة منشآت زراعية؛ الإبقاء على حضور القوة العسكرية الضاربة؛ وضع خطة ضريبية مالية جديدة تضمن الحصول على خراج الأراضي العراقية من دون أن يعمد العرب إلى الاستغلال المباشر لذلك الخراج؛ الرهان على تعايش القبائل العربية الكثيرة الاختلاف في الأصل. كما أن دور الدولة الجديدة والدين الجديد ، بوصفه أداة توحيد وقوة حماية ، كان أيضا يؤخذ

__________________

* ـ منشور في:دائرة المعارف الإسلامية ، النشرة الجديدة ، لايدن.

٣٤٧

بالحسبان ضمنا. وليس ثمة أدنى شك في أن الخليفة عمر كان يريد أن يجعل من الكوفة مهدا لتجربة تضع نظامه على المحكّ العملي؛ ولذا أنشأ الديوان بين عامي ٢٠ و ٢٣ ه‍٦٤٠/ و ٦٤٣ م.

I ـ مدينة الكوفة

أسّست الكوفة ، فولدت من عدم ، على تخوم البوادي العربية في محاذاة مجرى نهر الفرات الأوسط ، لضمان حماية الطريق إلى بابل ، ومنها إلى المدائن على بعد بضعة أميال شمال ـ شرقي الحيرة:موقع تواصل بامتياز بين عالمين ، وهو موقع ألفه الجيش العربي لأنه يوجد في منطقة القادسية؛ إذ تقع الكوفة على الضفة اليمنى من النهر ، على لسان رملي جاف رمادي اللون ممزوج بالحصى ، وقد رفعت قليلا عن مستوى الماء؛ ولذا فهي تستغل ماء النهر أفضل استغلال من دون أن يصيبها فيضان مياهه. كما أنها تنعم بمناخ صحي ممتع.

لا نعلم بدقة معنى كلمة «كوفة». غير أن المؤرخين والجغرافيين العرب جعلوا من هذه الكلمة ، كما هو شأنهم مع كلمات أخرى ، اسم جنس يدلّ على كل أرض رملية منبسطة. على أن الكلمة لم تكتسب هذه الدلالة إلا بعد بناء المدينة. أما ماسينيون فقد أعاد كلمة «كوفة» إلى الأصل السرياني «عكولا» ، مستندا في ذلك ، بخاصة ، إلى رواية صينية ؛ وفي نص للطبري يحدد المؤرخ موقعا يدعى عكول ، بين الفرات ومنازل الكوفة ، ومن المحتمل أن يكون شمال هذا المصر. ولعلّ الأقرب إلى المنطق أن يكون أصل الكلمة في السريانية هو «كوبا» (راجع : سركيس Sarkis) ، في مجلة سومر ، ١٩٥٤). وحده ، سيف بن عمر يذكر في نص له معلومات مفصلة عن أول استقرار وعن تخطيط المسجد والقصر ، وتوزيع الأراضي على القبائل والعشائر وفروع القبائل التي تألّف منها جيش المدائن(راجع : الطبري ، تاريخ ، طبعة القاهرة ، الجزء الرابع ، ص ٤٠).

لكن هذا النص يجب أن يقرأ ويفهم على ضوء نصوص تاريخية وجغرافية أخرى. ففي أول الأمر جرى وضع حدود لمدى الحيّز العمومي ، الذي ينبغي له أن يضم المسجد وقصر الوالي ، وأن يصبح النقطة المركزية التي منها تتسع المدينة وتنتشر أبنيتها الأخرى. فالمناهج أو الشوارع الخمسة عشر التي تفصل خطط القبائل ، ويبلغ عرض كل منها أربعين ذراعا ، يبدأ أولها من هذه المساحة المركزية. وعلى طول المناهج الخمسة لناحية الشمال ، استقرت قبائل سليم وثقيف وهمدان وبجيلة وتغلب وتيم الاّت؛ ولناحية الجنوب قبائل أسد والنّخع

٣٤٨

وكندة والأزد؛ ولناحية الشرق ، الأنصار ومزينة وتميم وأسد وعامر ومحارب؛ ولناحية الغرب قبائل بجيلة وجديلة وجهينة. هذه اللوحة تخالف رواية للبلاذري عن الشعبي (فتوح ، ٢٧٦) بأن اليمنيين جميعا كانوا لناحية الشرق بين المسجد ونهر الفرات ، وأن النزاريين كانوا إلى الغرب؛ وهو حديث لا تؤيده دراسة طوبوغرافيا الكوفة ، على نحو ما تظهر من خلال الروايات عن الثورات الكبرى التي حدثت في القرن الأول ه‍ / القرن السابع م. لكن من المؤكد أن تغييرات كثيرة جرت مع تطور الأحداث لتغير وجه الجغرافية القبلية المرسومة في تلك اللوحة : فتميم نزحت مع عبس من الشرق إلى الغرب؛ ومسألة القبائل الكبيرة كربيعة وبكر وعبد القيس تبقى مطروحة. انتقل قسم كبير من قبيلة بكر إلى البصرة ، وبقي قسم منهم في الكوفة ، كآل ذي الجدّين. أما عبد القيس الذين استقروا أول الأمر في البصرة ، فقد انتقل معظمهم إلى الكوفة في عهد الخليفة علي ليعودوا إلى البصرة مرة أخرى العام ٤٠ ه‍٦٦٠/ م.

على أية حال ثمة سمات ميّزت تموضع القبائل في الكوفة : استقرار القسم الأكبر من المقاتلة ـ وليس قطعا جميع المقاتلة ـ العرب ، الذين سبق أن قاتلوا جيش الساسانيين؛ عدم تجانس البنية القبلية ، خلافا لما كانت عليه الحال في البصرة؛ وجود أكثرية من مضر وقيس ، تكوّنت إما من القبائل البدوية الكبيرة (تميم ، أسد) ، وإما من عشائر الحجاز (ثقيف ، سليم ، جهينة ، مزينة) ، مع وجود بارز لأقلية يمنية كبيرة لا وجود لها في أماكن أخرى ، حتى إنه يصحّ التساؤل عما إذا لم يكن في الكوفة الأولى أكثرية يمنية تحوّلت في ما بعد إلى أقلية كانت تزداد ضعفا. وقد ذهب بعض الكتّاب المعاصرين إلى حدّ الجزم بأن تخطيط الكوفة صمّم كي تحتضن المدينة هؤلاء المهاجرين البعيدين ، بالإضافة إلى المهاجرين من الحجاز ، أكثر مما صمّم لتستوعب الآخرين (راجع : Martin Hinds,«Ku?fan Political alignments»,International Journal of Middle East Studies,II,١٩٧١,. ٣٤٦/٤٧). وكان للقبائل اليمنية المحض (حمير ، همدان ، حضرموت ، مذحج) وجود كثيف فيها ، إلى جانب القبائل الأخرى الحديثة العهد باليمنية(ولا سيما كندة وبجيلة ، وكذلك طيّ وأزد السّراة). وقد غدت قبيلة همدان أكثر عددا من القبائل اليمنية ، وحتى أكبر من القبائل الأخرى ، بالرغم من أن هذه القبيلة لم تكن قديمة الوجود في الكوفة ، كقبائل مذحج وبجيلة وكندة ، بل إنها تكوّنت في معظمها من المهاجرين الجدد الذين وفدوا إليها(الروادف)في عهد عثمان وعلي ، وربما في عهد معاوية أيضا. يبقى أن العنصر اليمني سيكون حاسما في

٣٤٩

تقرير مصير الكوفة السياسي ، كما في تحديد طابعها الحضاري. وفي رأي ماسينيون أن العنصر اليمني القديم والحضري منذ زمن بعيد ، هو صاحب الفضل في تحضير القبائل العربية في الكوفة ، أي أنه لعب دورا تمدينيا رفيع المستوى.

تختلف الأرقام التي تقدّر عدد سكان الكوفة باختلاف المصادر والمراحل التاريخية. ففي المرحلة الأولى ، يقدّر هذا العدد بين عشرين ألفا وثلاثين ألفا (البلاذري ، فتوح ، ٢٧٦) ، على أن ياقوت يقدّره بأربعين ألفا (بلدان ، IV ، ٤٩١). وفي نص لأبي مخنف (كما يذكر الطبري ، V ، ٧٩) أن عليا استطاع أن يجنّد منهم ٥٧ ألف مقاتل ، بينهم ١٧ ألفا من الشبان اليافعين ، وأربعين ألفا من الرجال البالغين. وعندما وسّع زياد بن أبي سفيان المسجد ، جعله يتسع لستين ألف شخص ، وهو رقم أكّده البلاذري (فتوح ، ٣٤٥) من خلال المعلومات الرصينة التي ذكرها عن عدد الأشخاص المسجّلين في الديوان : ستين ألف رجل وثمانين ألف امرأة وولد ، في العام ٥٠ ه‍٦٧٠/ م ، أي ١٤٠ ألف عربي ، لا بد من إضافة الموالي والعبيد وغير العرب إليهم. في الحقبة نفسها ، كان عدد سكان البصرة (٢٠٠ ألف شخص) يفوق على نحو ملحوظ عدد سكان الكوفة؛ غير أن التزايد الديموغرافي في غضون جيل واحد كان كبيرا ويفسّر كيف استطاع زياد في خراسان أن ينقل خمسين ألف مقاتل ، منهم من البصرة أربعين ألفا ومن الكوفة عشرة آلاف. ومن المعقول جدا أن يكون عدد العرب الذين شملهم الإحصاء وكانوا يتقاضون العطاء ، قد بقي على حاله ، بعد عهد زياد ، وطيلة العصر الأموي ، ليبدأ بعد ذلك بالانخفاض ، منذ عهد الحجّاج (٧٥ ـ ٩٥ ه‍٦٩٤/ ـ ٧١٣ م). غير أنه لم يكن ممكنا تحديد عدد الذين هم من غير العرب ، والمقتلعين من أرضهم ، والموالي الجدد الذين تدفّقوا على المصر. وتبيّن التدابير الزجرية الرادعة التي اتخذها الحجاج لمكافحة تدفقهم على المدينة ، مدى الفوضى التي كانت تسود ذلك التدفق ، ومدى خطورته على توازن المدينة وانتظامها. وقد تميّز تاريخ أهل الكوفة ، في العصر الإسلامي الأول وفي العصر الأموي ، بالتوسّع الديموغرافي السريع ، العربي تحديدا ، في مرحلة أولى (١٧ ـ ٥٣ ه‍٦٣٨/ ـ ٦٧٣ م) أعقبها استقرار متقطّع ، بسبب موجات المهاجرين من غير العرب ، القادمين من الأرياف.

تطوّر الشكل الطوبوغرافي للكوفة خلال القرن الأول للهجرة/القرن السابع الميلادي ، لكنه ظلّ محافظا على الخطوط الأساسية الأصلية. كانت الكوفة الأولى ، في عهد عمر(١٧ ـ ٢٣ ه‍٦٣٨/ ـ ٦٤٣ م) ، معسكرا هندسي الشكل ،

٣٥٠

مفتوحا ، رحب المساحات ، تنتظم فيه صفوف الخيام التي يمكن نصبها واقتلاعها بسرعة ، إنفاذا للبعثات العسكرية. بعد ذلك بوقت قصير ، عندما هدأت المعارك مع الفرس ، برزت الحاجة إلى الاستقرار والمزيد من الثبات في الأرض؛ لذا استبدلت الخيام ببيوت من القصب المتوافر بكثرة في المنطقة. في المرحلة الثالثة تمّ استبدال هذه البيوت القصبية بدور مبنيّة باللبن أو الطين المجفف والمقطّع في أشكال مستطيلة ، وذلك في عهد المغيرة بن شعبة (٢٢ ـ ٢٤ ه‍٦٤٢/ ـ ٦٤٤ م). هذا ما قاله ياقوت ، ونقله عنه ماسينيون ، لكنه يخالف حديثا رواه سيف ، يقلّص المراحل ، إذ يقول إن بناء الكوفة باللبن والطين ، كان مقررا منذ العام ١٧ ه‍/ ٦٣٨ م بل منذ ما قبل التخطيط. ولعل هذا البناء كان قد بدأ قبل عهد المغيرة ، ثم تعمم في عهده واستكمل. وأخيرا ، استخدم في عهد زياد (٥٠ ـ ٥٣ ه‍٦٧٠/ ـ ٦٧٣ م) الآجرّ المشوي في بناء المسجد ، وقصر الوالي المحاذي للمسجد ، من جهة الجنوب ، وذلك في مرحلة أولى؛ ثم استخدم في مرحلة ثانية ، في بناء الدور أو البيوت الأرستقراطية. وقد أنفقت أموال طائلة في بناء المسجد على نحو هندسي طبعه بطابع عمراني مخصوص : فقد جيء بمواد البناء من الأهواز لبناء الأعمدة ، واستجلب البناؤون من الفرس والآراميين. فأخذت الكوفة تتحوّل إلى مدينة مشيّدة ، وبدأت تتشكل ، في عهد هذا الوالي ، ملامح المدينة وتتخذ طابعها الأساسي الذي لم يتغيّر إلا في نهاية العصر الأموي ، وبداية العصر العباسي.

لم تكن الكوفة ، زمن الأمويين ، محاطة بالأسوار. وكانت هذه المدينة دائرة لا تتعدى ألفي متر. وكانت نواتها العمرانية المركزية تتألف من جامع وقصر محصّن ورحبة أو ميدان تقام فيه الاحتفالات ، وأسواق بنيت في عهد خالد القصري (١٠٥ ـ ١٢٠ ه‍٧٢٣/ ـ ٧٣٧ م) لكنها كانت متخصصة منذ ما قبل ذلك. ويرى ماسينيون أن هذه الأسواق كانت نموذجا حذت حذوه أسواق بغداد؛ ويجوز القول إن هذه الأسواق كانت نموذجا للأسواق في كل المدن الإسلامية في القرون الوسطى ، وتميّزت بقببها وهيكلة اختصاصاتها التجارية ، حيث يحتلّ قطاع الصيرفة وتبديل العملات موقعا متميّزا؛ إذ كان الصيارفة يتعهّدون الوالي بالإنفاق ، كما يموّلون الحركات الشيعية. من هذا الوسط المركزي العمراني ، تبدأ الخطط وتوزّع حصص القبائل ومواقعها التي تشكّل معظم أبنية المدينة. على أن ثمة قطائع ، أو حصص فردية ، منحت منذ العصر الأول ، كهبات استثنائية للصحابة وبعض الأشراف الذين ابتنوا فيها بيوتهم؛ وغالبا ما كانت هذه البيوت قريبة من المركز ، وسط المدينة. ويذكر اليعقوبي قائمة من خمسة وعشرين دارا

٣٥١

للصّحابة والأشراف ، بينهم طلحة والزبير وسعد وولده عمر ، وأبو موسى الأشعري وأبناؤه وأحفاده الذين لعبوا دورا مهما في الكوفة قبل أن ينتقلوا إلى قم ، وعبد اللّه بن مسعود وخالد بن عرفطة ، أحد كبار قادة المعارك ، وعدي بن حاتم وجرير بن عبد اللّه البجلي والأشعث الكندي وأم هاني ، أخت علي. وتذكر مراجع أخرى دورا خاصة ، كمنزل الوليد بن عقبة والمختار الثقفي وعمرو بن حريث.

بالإضافة إلى وسط المدينة الفخم ، والخطط الجماعية ، والدور الخاصة ، كانت هناك عناصر أساسية تميّز طوبوغرافيا الكوفة : المناهج أو الشوارع الفسيحة ، الأزقة أو الشوارع الضيقة ، الصحاري أو الأراضي البور (وهي تشبه الجبانات كصحراء البردخت ، مثلا) ، الحمامات ، المساجد (وهي جوامع صغيرة خاصة بالعشائر والأحياء). وهناك خصوصا جبانات الكوفة ، الموزّعة على جميع أنحاء المدينة ، وعددها اثنتا عشرة جبانة ، وكانت منذ عهد علي مقابر يعود كل منها إلى قبيلة معينة تدفن فيها موتاها. وكانت الجبانة تكتسب أهميتها من كونها مكانا للتجمّع والتحشيد والتعبئة وأخذ السلاح؛ وقد ارتبطت أسماء بعض هذه الجبانات بلحظات تاريخية كبرى ، كثورة المختار مثلا. ولعلنا في ذلك أمام نموذج من تأثير القبائل اليمنية القديمة على البنية الحضرية للكوفة. ومن الجبانات الرئيسية نذكر جبانة السّبيع التي آلت إلى همدان ، جبانة مخنف (وهو من الأزد) ، جبانة مراد (من مذحج) ، جبانة كندة (كندة وربيعة) ، جبانة الصائديين (عشيرة من همدان) ، جبانة أثير (من عبس) .. إلخ.

ومن عناصر طوبوغرافيا مدينة الكوفة بالذات ، أو أرباضها ، هناك أيضا الكناسة التي غالبا ما يرد ذكرها في المراجع ، وتتمتع بأهمية معينة ، وهي الأماكن المخصصة لرمي القمامات ، وكان موقعها غرب المدينة ـ المعسكر ، ثم أصبحت في العهد الأموي ، مكانا لإفراغ البضائع من القوافل القادمة من الجزيرة ، وسوقا للمواشي ، وكانت تستخدم أحيانا مكانا للتعذيب أو الإعدام ، وأحيانا أخرى ساحة للمبارزات الشعرية على غرار المربد في البصرة. دار الرزق ، سكة البريد ، باب الفيل ، القنطرة ، ذلك كله كان في الداخل. حمّام أعين ، سوق أسد ، دير هند ، دير كعب ، دير الجماجم ، قصر مقاتل ، كانت هذه خارج المدينة ولكن بمحاذاتها مباشرة. وكانت كلها أماكن متمازجة في حياة المدينة كلها.

في العصر الأموي ، تطورت الكوفة متسمة بالطابع المديني الذي تركته فيها أعمال زياد وخالد القصري العمرانية ، مع حفاظها على الترسيمة الأصلية ، من

٣٥٢

المعسكر البدوي الطابع إلى المدينة المشيّدة ، الواضحة والعملية ، وهو تطور اكتمل في العصر العباسي ، بالنظر إلى حالة النضج التي بلغتها الحضارة العربية الإسلامية في ذلك العصر ، والتي كانت الكوفة أحد مهديها الأساسيين. وعلى امتداد القرن الأول الهجري/القرن السابع الميلادي بقيت الكوفة مكشوفة الأمداء ، لا تحيط بها أسوار ، مفتوحة على البادية العربية ، يشهد على ذلك حركة الناس ، وكثرة الشعراء وحضور النمط البدوي القويّ فيها. ولا يمكن فهم تحوّلها الذي لا ينكر إلى الحضرية والمدينية ، بنجاح وسرعة ، من دون حبل السرة الذي ظلّ يصلها بالجزيرة العربية؛ فعرب الكوفة كانوا مستقرين ، قطعوا كل صلة لهم بنمط عيش البداوة والترحّل. وتلك هي المرة الأولى التي ينجح فيها العرب في تأسيس مجمّع مديني بهذه الضخامة ، ليكون بمثابة بؤرة تتعايش فيها وتتفاعل نماذج وعينات مختلفة ، تفد إليها من جميع أنحاء الجزيرة العربية. على الصعيد المديني ، تعرضت الكوفة لتغييرات عميقة في العصر العباسي؛ فالخلفاء العباسيون الأوائل كانوا ينوون جعلها عاصمة لخلافتهم ، فأقاموا فيها فترة وجيزة من الزمن. غير أن تعاطف هذه المدينة العام مع علي والتيار القوي المؤيد له فيها ، جعلهم يترددون بينها وبين الأنبار ، ومدينة الهاشمية الجديدة ، المتصلة بقصر ابن هبيرة ، وذلك قبل أن يبني أبو جعفر المنصور مدينة بغداد ، العام ١٤٥ ـ ١٤٦ ه‍٧٦٢/ ـ ٧٦٣ م ، التي نقل إليها من الكوفة بيت المال والدواوين الإدارية (البلاذري ، فتوح ، ٢٩٣). وهذا يعني أن الكوفة لعبت دور العاصمة الإدارية للخلافة العباسية ، حتى ولو لم يكن الخلفاء العباسيون يقيمون فيها على الدوام.

خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث عشرة سنة (١٣٢ ـ ١٤٦ ه‍٧٥٠/ ـ ٧٦٣ م) اصطبغ جزء من الكوفة بصبغة إيرانية بعد أن تدفق عليها الجنود الخراسانيون : شارع لحّام جرير ، مثلا ، وشارع حجّام عنترة ، وإطلاق تسميات على مفترقات الطرق بالأسلوب الإيراني : كشهرسوج (C?aharsu?dj) بجيلة مثلا(البلاذري ، فتوح ، ٢٨٠). من جهة أخرى ، بنى العباسيون الأوائل في الكوفة ، الرصافة وقصر أبي الخصيب. وبعد ما انتقل أبو جعفر المنصور إلى بغداد ، شيّد سورا يحيط بالمدينة وحفر خندقا يلتف حولها ، فارضا على أهل الكوفة تحمّل أعباء هذا المشروع ونفقاته. ولربما كان هذا السور لا يشمل الكناسة وبعض الجبانات المنحرفة الموقع ، فبدأ التمييز إذذاك بين المدينة وأرباضها. إن كلمة مدينة ، بمعنى النواة الحضرية المركزية ، تاريخيا ، المنشأة ككتلة واحدة والمحميّة بجدران تسورها ، وتتخللها بوابات ، نجدها عند الطبري ،

٣٥٣

في ما يرويه عن ثورة ابن طباطبا(العام ١٩٩ ه‍٨١٤/ م). ويشير الطبري نفسه إلى أن الكناسة كانت تضمّ منازل سكنية ، كما أنه يستخدم كلمة أرباض VIII) ، ٥٦١)أي الضواحي. هنا نجد أنفسنا أمام تحضير الكوفة بكل معاني الكلمة : فقد غدت مدينة إسلامية نمطية(كلاسيكية) ، بعد ما كانت مدينة/معسكرا عربية ، أي أنها غدت مركزا حضريا بعد ما كانت مجمّعا عسكريا. وأخيرا ، طوال القرن الثالث الهجري(القرن التاسع الميلادي) ، بقيت الكوفة عربية الطابع ، لكن سكانها بدأوا يتحولون إلى خليط من العرب والسواديين ، وهم أهل السواد الذين أخذوا يدخلون في الإسلام. على أن المسألة تكمن في معرفة ما إذا كانت الكوفة ، وهي مدينة في ذروة مجدها ، قد فقدت فقدا تاما طابع المدينة الرحبة الفسيحة ، لتغدو مدينة تشبه تلك المدن الإسلامية التي بنيت في أزمنة لا حقة ، حيث باتت المدينة كتلة من المنازل المتلاصقة الخانقة. ولا نعتقد ذلك ، لأن الجغرافيين الذين عاشوا في زمن لاحق ، أمثال المقدّسي ، ثم ابن جبير ، في ما بعد(وقد كتب ابن جبير في زمن كانت فيه المدينة قد انهارت تماما) ، ذكروا مساحات خضراء واسعة وبساتين غنّاء في قلب المدينة. كما أن هؤلاء الجغرافيين أنفسهم تحدّثوا عن امتداد الكوفة ، لناحية الغرب ، إلى أبعد من حدودها الأولى ، كما تدل على ذلك أيضا بقايا آثار تمتد حتى النجف. إنما لم تعد الكوفة مركز إشعاع للإسلام الأول ، إسلام الفتح العربي الظافر ، بل غدت مدينة من مدن العراق المهمّة وقصبة ولاية إدارية.

إن ترييف مدينة الكوفة ، لا بل انحطاطها ، أصبح أمرا واقعا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. فقد أخذ التنظيم البنيوي القديم(الأرباع العسكرية ، الروح القبلية ، النظام المالي)يضمحلّ ويتلاشى. وذلك لأن الصرح الذي بناه الفتح بالقوة العربية ، والذي لم تكن الكوفة سوى تجسيد له ، أخذ يشيخ ويلفه الإهمال ، في حين أن الخليفة المتربّع على قمته كان ألعوبة في يد البويهيين ، وفي وقت بدأت فيه الانقسامات تدبّ في كيان العالم الإسلامي وتهدد وحدته. لذا ، لم يكن تقهقر الكوفة إلا تعبيرا عن هذا التغير العميق الذي لم ينفع النشاط التجاري الواسع بين أطراف العالم الإسلامي المترامية ، في تعزيزه وإطالة أمده ، قرنا أو قرنين من الزمن ، كما في البصرة. كان يمكن الكلام على أزمة المدينة الإسلامية(ماسينيون) ، لو لا أن الأزمة كانت شاملة أصابت الإسلام الأولي بوصفه دولة ومجتمعا ، أو بالأحرى بوصفه حضارة. أو ربما كان ثمة ما هو أكثر من ذلك : أي ، تحول تاريخي لم يكن هناك بدّ من أن تدفع ثمنه مدينة كالكوفة.

٣٥٤

عمليا. في أواخر القرن الثالث الهجري/القرن التاسع الميلادي ، حدثت الثورة الإسماعيلية الكبرى ، وكان مهدها الكوفة ، وكان من تجليات هذه الثورة عنف القرامطة وآثاره المدمرة. وكانت الكوفة ، على فترات متعاقبة ، هدفا لهجمات القرامطة ونهبهم في الأعوام ٢٩٣ ، ٣١٢ ، ٣١٥ ، ولم يكن بإمكان الكوفة أن تتعافى من آثار تلك الهجمات. وهذا ما يفسّر نشوء النجف ومشهد علي ، العام ٣٣٤ ه‍٩٤٥/ م ، على مقربة منها ، بفضل المساعدات التي قدّمها بنو بويه ، وبروزهما عنوانا للتديّن الشيعي الذي بدأ ، منذ القرن الثالث / القرن التاسع ، يميز الكوفة التي تكثفت فيها الرمزية الدينية الشيعية. ولكن في الوقت نفسه ، اندثرت الكوفة العربية القديمة التي لم تتماه مع الظاهرة الشيعية. وبذلك انهار النظام القبلي المديني ، في وقت بدأت فيه «البدونة الجديدة» (العودة إلى البداوة) ، أو بدأ ، على أية حال ، يتعاظم تهديد العالم البدوي الجديد ، للمدى العراقي العربي. ففي العام ٣٨٦ ه‍٩٩٦ / م أقطع بهاء الدولة الكوفة إلى سيّد بني عقيل. وسيطر على الكوفة بنو أسد وطيّ الذين بقي قسم كبير منهم خارج الإطار المديني ، ولكن على تعايش وثيق مع المدينة ، وكذلك بنو شمّر الوافدون الجدد على الساحة ، فأتلفوها. فكان بنو أسد ، هؤلاء ، جزءا من انهيار الكوفة التي غدت تحاكي بابل وأور ولاغاش Lagash وتستحيل مواتا مثلها. وأسد أولئك (وهم غير أسد الذين كانوا مستقرين في المدينة)كان النّحاة في الكوفة يأخذون عنهم ، بمنهج إثنولوجي حقيقي ، الكلام السليم والنطق الصحيح والعبارة الفصيحة بوصفها درعا يحمي أصالة هويتهم. في العام ١١٠١ / ٤٩٥ ، عندما بنيت الحلة ، فقدت الكوفة أهميتها إلى الأبد ، وهجرها معظم أهلها. ويصفها ابن جبير(٥٧٨ ـ ٦١٤ ه‍١١٤٤ / ـ ١٢١٧ م)الذي زارها في وقت لاحق ، بأنها مدينة مهجورة خربة ، ما زال فيها قليل من السكان ، يتعرضون على الدوام لغزو قبيلة خفاجة(رحلة ، طبعة بيروت ، ١٩٥٩). كل العمران المشيد بين الجامع والفرات استحال دمارا وخرابا ، وهو اليوم بساتين وأراض مزروعة ، كما يقول ابن جبير. ويقول أيضا إن الجامع المركزي ما يزال منتصبا بسقوفه العالية وأعمدته الداخلية وقاعة الصلاة بأقسامها الخمسة ، وآثاره المقدسة حيث تتجاور أساطير الشيعة وأساطير بابل القديمة التي ورثها الإسلام : مصلى إبراهيم ، محراب علي ، تنّور نوح ، قبر مسلم بن عقيل(أو ما يقال إنه قبره). وعندما استتب الأمر للمغول في العراق وأخضعوه لسلطانهم ، كتب المستوفي القزويني إلى أمير المغول كتابا (نزهة القلوب)يتضمن وصفا لجميع موارد البلاد. ويذكر في الكتاب أن الكوفة

٣٥٥

محاطة بأسوار طولها ١٨ ألف قدم ، ويتحدث عن دورها الزراعي المهم. ويستعيد ابن بطوطة (القرن الثامن الهجري / القرن الرابع عشر الميلادي) بخصوص الكوفة ، بعض ما قاله ابن جبير ، ولكنه يضيف إلى ذلك شيئا من عنده ، فيراها ، كما المستوفي ، مدينة شبيهة بالحطام ، لكنها ما زالت غير ميتة. ولم يبق من قصر الإمارة إلا أساس البنيان؛ غير أن الأسواق ما زالت بهيّة كما كانت. ويتحدث أيضا عن جبانة الكوفة ، كأنما لم يكن هناك إلا جبانة واحدة ، حيث يرى ضريح المختار الذي شيّدت قبة عليه (رحلة ، طبعة بيروت ، ١٩٦٠). في عهد العثمانيين ، جعلت الكوفة إداريا ، ناحية تابعة لقضاء النجف التابع بدوره لسنجق كربلاء. وقد زارها الرحالة نيبور Niebuhr ووضع خريطة لها. وزارها ماسينيون للمرة الأولى عام ١٩٠٨ ، كما زارها ثانية عام ١٩٣٤ ، فتحدث عن «مكان هو الآن مهجور ، من المدينة التي كانت أكثر المدن الإسلامية عروبة» ، والتي تميّزها أبنية كالجامع ، وضريح هانئ بن عروة ، وضريح مسلم بن عقيل ، وبيت علي ، وموقعين للحراسة ، أحدهما بناه الإنجليز ، والمصلى الصغير المعروف باسم حنّانا ، ومسجد السهلة. ويذكر ماسينيون أن ضاحية جديدة ظهرت بين الجامع والفرات. وهي ما زالت موجودة وآخذة في التطور ، إلا أنها تبقى أقل أهمية من حي الغرب الجديد ، لجهة النجف ، وهو حي سكني. كما قامت عدة بعثات أركيولوجية أوروبية بزيارة الحيرة (وبخاصة بعثة تالبوت رايس Talbot Rice في العام ١٩٣١). ومنذ العام ١٩٣٨ حين أعلنت الكوفة موقعا أركيولوجيا ، أصبحت موضع اهتمام مراكز الأبحاث والآثار العراقية الأكاديمية ، وجرت في العام نفسه أول حملة تنقيب في هذا الموقع. وما يزال الجامع الكبير الذي أعيد ترميمه ، وعلى نحو عشوائي أحيانا ، هو المبنى المركزي؛ وقد تمّ إعلاؤه عن مستواه الأصلي الذي لم يبق منه إلا أسواره القديمة. أما القصر ، وهو الأكثر ضخامة بين الأبنية جميعا ، فقد تمّ إجلاؤه بعد أن أخذت جدرانه تتقشر من جميع الأنحاء الخارجية ، لكنه أفصح من حيث الدلالات العمرانية وأكثر وضوحا من الجامع. ولا بد من الإشارة هنا إلى جامع السهلة ، الكائن غرب الموقع ، والذي وجد فيه الكثير من التحف الزجاجية والخزفية المشغولة (السيراميك) ، وقطع من عملة معدنية تعود إلى العصر الأموي. وما زالت أعمال التنقيب الأركيولوجي في موقع الكوفة ، في بداياتها؛ فإذا جرت بطريقة مدروسة جيدا ، فإنها ستحمل إلينا معلومات قيّمة جدا عن المدينة التي لا نعرف عنها إلا من المصادر الكتابية فقط.

٣٥٦

ـ II السياسة والإيديولوجيا والثقافة في الكوفة

في حين لعبت الكوفة في القرن الأول الهجري / السابع الميلادي دورا سياسيا من المقام الأول ، فكانت منطلقا لعدد كبير من معاني الإسلام ومغازيه في فترة لاحقة ، فإن السياسة والصراع على السلطة انتقلا إلى خارج الكوفة ، في القرن الثالث / الثامن ، أي منذ إنشاء مدينة بغداد ، وبدء انفتاح الإمبراطورية الإسلامية. فتحولت الكوفة ، خلافا لذلك ، إلى مدينة تعجّ بنشاط ثقافي بلغ ذروته بين عامي ١٥٠ و ٢٥٠ ه‍٧٦٠ / و ٨٦٠ م. فكان من البديهي أن تكتسب الكوفة ثلاثة وجوه : فكانت كوفة سياسية (حتى العام ١٥٠ ه‍) وكوفة ثقافية (بين العامين ١٥٠ و ٢٥٠ ه‍)وكوفة إيديولوجية محض (بين عامي ٢٥٠ و ٣٥٠ ه) سرعان ما غدت المركز الأساس للعقيدة الشيعية.

الأحداث الأساسية التي طبعت العمل السياسي في الكوفة ، هي : الإسهام في الثورة ضد عثمان (٣٤ ـ ٣٥ ه‍٦٥٤ / ـ ٦٥٥ م) ، الوقوف إلى جانب علي في المعركتين الكبيرتين المصيريتين : وقعة الجمل (٣٦ ه‍٦٥٦ / م) ووقعة صفين (٣٧ ه‍٦٥٧ / م) ، نشوء حركة الخوارج في الكوفة ، بداية التشيع السياسي مع ولادة حركة التمرد التي قادها حجر بن عدي الكندي ، والتي انتهت بالقمع والدم (٥١ ه‍٦٧١ / م). منذ ذلك الحين تتابعت الثورات الشيعية ، وكان مصيرها جميعا القمع والدم : حركة مسلم بن عقيل ومأساة كربلاء (٦٠ ـ ٦١ ه‍٦٧٩ / ـ ٦٨٠ م) ، مسيرة التوابين (٦٥ ه‍٦٨٤ / م) ، ثورة المختار الثقفي (٦٦ ـ ٦٧ ه‍٦٨٥ / ـ ٦٨٦ م) ، دعوة المغيرة وبيان ، ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه‍٧٣٩ / م) ، ثورة عبد اللّه ابن معاوية (١٢٧ ه‍٧٤٤ / م). وفوق ذلك ، فإن الكوفة كانت الدماغ المفكر للدعوة العباسية ، وفي المسجد الكبير تمّ تسلم الخليفة العباسي الأول مقاليد الخلافة (١٣٢ ه‍٧٤٩ / م). بيد أن الكوفة كانت كذلك هدفا لهجمات الخوارج المتلاحقة ، ولا سيما منها تلك التي وقعت العام ٧٦ ه‍٦٩٥ / م بقيادة شبيب ، ثم تلك التي كانت أشد عنفا وأكثر فتكا وقادها الضحاك (١٢٧ ـ ١٢٨ ه‍٧٤٤ / ـ ٧٤٥ م). كما أنها شاركت ، إلى جانب البصرة (٨٢ ـ ٨٣ ه‍٧٠١ / ـ ٧٠٢ م) ، في ثورة ابن الأشعث الكبرى التي كادت تطيح بالخلافة الأموية ، وشاركت فيها الأمصار جميعا ، من دون الأخذ بأية إيديولوجيا. كثرة الثورات وحركات التمرد والعصيان ، وتزايد شق عصا الطاعة والاضطرابات السياسية هذه ، طبعت الكوفة

٣٥٧

بطابع المدينة الهائجة الطموحة ، وتحولت في الوعي الشيعي اللاحق إلى مدينة شهيدة. من هنا الأفكار الجاهزة الجامدة التي كانت لدى الأغلبية السنّية ، والأفكار الأبوكاليبتية لدى الجهة المقابلة التي كانت ترى أن بغداد اللعينة ستتحول إلى كتلة من الدمار لتصبح الكوفة ملكة العالم بعد أن كانت دار منفى للمؤمنين الصادقين ، بحسب قولة سلمان : «الكوفة قبّة الإسلام سيأتي يوم سيقطنها كلّ مؤمن حقيقي أو أن قلبه يحنّ إليها» (راجع : ماسينيون ، III,Opera Minora ، ص ٥٤).

والحق ، أن هذا الغليان السياسي المستمر طيلة القرن الأول ه‍ / السابع م ، مبعثه بنية الكوفة بالذات فضلا عن تطوّر أحداث التاريخ. بقيت الكوفة الركن الأساس في نظام الأمصار حتى العام ٣٠ ه‍٦٥٠ / م ، على أقلّ تقدير ، وهو العام الذي بدأت فيه البصرة تتقدّم على الكوفة في فتح الشرق الفارسي. واستمرت الكوفة في احتضان فاتحي العراق منذ الموجة الأولى المعروفة باسم «أهل الأيام» وحتى موجة «أهل القادسية». وكان أهل الموجة الأولى يفاخرون بأسبقيتهم في اعتناق الإسلام وغيرتهم عليه ، في حين أن أهل الموجة الثانية شاركوا في الردّة ، وكانوا كذلك ذوي حسب عربي رفيع. كانت الكوفة تستأثر بالقسم الأعظم من موارد السواد ، وكان قادة الجيش يديرون شؤون الأراضي الملكية القديمة الواسعة ، والتي غدت في ما بعد ، موضع نزاعات وصراع ، في حين أن الهجرة إلى البصرة ـ باستثناء هجرة بكر ـ غدت هجرات متأخرة قامت بها قبائل جنوب شرق الجزيرة ، والوافدون الجدد الذين وصلوا إلى ساحات الفتح ، في مجموعات قبلية متجانسة. كانت البذور التي أنبتت التوتر والصراع مطمورة في بنية الكوفة القبلية ، وفي الظروف التي واكبت نشأتها ، وكذلك في التجاذب الذي وقع على المهاجرين الجدد ، أو الروادف ، من أجل استمالتهم ، كما في العجز عن فرض الرقابة على الهجرة بسبب كثافتها في العصر الأول. لقد كان التوازن محفوظا في عهد عمر ، وكانت جيوش الكوفة منهمكة بإخضاع فارس. ولم تبدأ الصراعات الداخلية بالبروز إلى العلن ، إلا في عهد عثمان : فالنخبة الإسلامية القديمة التي أحياها عمر ، تراجعت أمام الزعامات التقليدية التي تقاسمت الأعمال (الولايات) وشعرت بتزايد قوتها وعلوّ كعبها ، بفضل موجات هجرة الروادف التي حملت إليها أهلها وقبائلها (وينطبق ذلك أفضل انطباق على حالة الصراع التي كانت قائمة بين الأشتر النخعي والأشعث بن قيس). فانتهى المطاف بحماسة «أهل الأيام» الذين خذلتهم السياسة الجديدة ، إلى مقتل عثمان الذي تورّط فيه بعضهم ، ليجدوا أنفسهم مرغمين على الوقوف إلى جانب علي. وكان في مجيء علي إلى

٣٥٨

الكوفة بروز ظاهرة جديدة هي تفوّق الأمصار على الجزيرة في تحديد مصير العرب السياسي : ظلت الكوفة طيلة أربع سنوات مركز القرار ومقرّ الخلافة ، إن لم تكن عاصمة الإمبراطورية الإسلامية ، ذلك لأن الإمبراطورية كانت منقسمة على حالها. ومن هذه الفترة المتميزة من وجودها ، استمدت الكوفة مطامحها المستقبلية ، لكنها استمدت منها أيضا إخلاصها لعلي وآل بيته ، وهو إخلاص لم يتراخ قط. غير أن هذا الوفاء لم يحظ منذ أن بدأ ، بإجماع تام. فقد كان الأشراف أو زعماء القبائل ، الذين شاركوا بعامة في القادسية ، وأدرجت أسماؤهم في قوائم «شرف العطاء» ، فاتري الحماس لقضية علي. كذلك ، كان الفتور يشوب موقف العامة التي تبعتهم ، من سكان المدينة. كان هناك أيضا النشطاء الذين كانوا يسمّون «القرّاء» ، وكان معظمهم قد ربط مصيره بمصير عليّ الذي أغدق عليهم فضائله ونعمه. لكن أقلية منهم بقيت متحفظة تجاه علي ، على الرغم من أنها كانت أكثر تشددا من الآخرين في تأييده ، وما لبثت أن ناصبته العداء. بعد التحكيم لم يعد عليّ قادرا على الاتكال ، بالمعنى السياسي للكلمة ، على أنصاره ، أي شيعته. فالتحق الجناح الأكثر تشددا من القرّاء بالخوارج ، في حين أن جماعة الأشراف المحافظين تخلوا عن علي. فتبعثرت أطراف التحالف الذي كان قد أنشأه. وفي هذا ما يفسر العجز الذي أصاب الشيعة طيلة قرن ظلوا فيه ، على الدوام ، أقلية. والحق ، أن بني أمية كانوا يحكمون بدعم من الأشراف الذين كانوا ، رغم ذلك ، لا يحبونهم ، وإنما يرون فيهم قاعدة نظام ، كما كانوا راضين بنفوذهم الاجتماعي المتعاظم الذي يحميه النظام الأموي. وهذا ما يفسّر وقوفهم الدائم إلى جانب سلطة النظام ، في كل مرة ينفجر فيها تمرّد شيعي ، فيقدمون يد العون والمساعدة لهذا النظام من أجل إحباط ذلك التمرد. في العام ٦١ ه‍٦٨٠ / م ذهب الأشراف حتى إلى المشاركة في قتل الحسين ، كما أنهم أسهموا في قمع ثورة المختار التي هددت امتيازاتهم ، وتعاونوا مع الوالي لقمع حركة زيد بن علي. وحدها الثورة الكبرى ، العام ٨٢ ـ ٨٣ ه‍ ، كانت ثورة عراقية خالصة ضد هيمنة «أهل الشام» وضد استبداد الحجّاج ، الوالي. فقد كان رأس هذه الثورة أشراف وقرّاء معا. لكنها أسفرت عن نزع سلاح المصر وبناء مدينة واسط واستدعاء الجيش السوري إلى العراق ، كما لو أنه أرض محتلة.

إذا كان معظم الأشراف قد وقفوا طيلة القرن الأول ضد الحركات الشيعية ، فإن بعضهم انضم إليها وأسهم فيها بنشاط ، كما المختار نفسه ، وإبراهيم بن الأشتر ، وعبد الرحمن بن شريح الشبامي. بعد المختار ، كانت العناصر الشعبية

٣٥٩

هي التي تدعم الحركة الشيعية ، سواء كانت هذه العناصر من العرب اليمنيين ، ولا سيما من عشائر همدان (خارف ، شاكر ، .. إلخ) أم من الذين كانوا يجنّدون من عامة الموالي الجدد ، المهاجرين ، الذين كان المختار يحرضهم ويستعين بهم. ولربما كان تحالف اليمنيين مع القضية الشيعية متأتّ من وضعهم الهامشي ، ثقافيا واجتماعيا ، في المدينة العربية. إذ من الثابت الذي لا شك فيه أن عددا من الفقراء كانوا يجنّدون من عشائر همدان (عشائر روادف؟) وأن الدعوة إلى آل البيت ، تجاوبت أصداؤها في جنبات الوعي اليمني القديم. وهذا ما يفسر الطابع الشعبوي الذي اكتسبته ثورة المختار (٦٦ ـ ٦٧ ه‍٦٨٥ / ـ ٦٨٦ م) ، ولعلّها كانت أكثر الثورات الشيعية أهمية في القرن الأول / السابع : فقد أفلحت في الإمساك بزمام السلطة في الكوفة ، فترة من الزمن ، كما أفلحت ، بخاصة ، في تشكيل الوعي الشيعي ، فمنحته نفسا صوفيا ، وزودته بلغة وشعارات وعناصر عقيدة. ولاحقا ، غدت الكيسانية التي تفرعت منها ، على يد أبي هاشم ، في أساس الدعوة في سبيل آل البيت.

مع الأسرة العباسية ، بدأ تعميق الحركة الشيعية وتحويلها إلى حركة فكرية ، إذ خفتت حدّة العمل السياسي وأصبح متقطعا. وكان ينبغي انتظار العام ١٩٥ ه‍ / ٨١٤ م لكي ينبعث من جديد في ثورة بأسلوب قديم ، هي ثورة ابن طباطبا ، ثم العام ٢٥٠ ه‍٨٦٤ / م لكي تنفجر ثورة أكثر فشلا هي ثورة يحيى بن عمر. غير أن التشيّع ، بوصفه معتقدا ، لم يتوقف عن النمو والانتشار في المدينة ، إلى أن غدا الإيديولوجيا الوحيدة في الكوفة ، أواخر القرن الثالث / التاسع ، وأضحى عقيدة دينية وثقافية في القرن الرابع / العاشر. إذ ذاك قوي المخيال الشعبي على قراءة تاريخ المدينة وترتيبه من جديد ، فصنّف معالمها ومواقعها ، وقسّم أحياءها ومساجدها ، وفقا لمعاييره ، إلى قسمين ، واحد فيه البركة وآخر عليه اللعنة.

استطاعت الكوفة أن تنقل وعيها الشيعي إلى الفضاء الثقافي الإيراني ، وبخاصة إلى قم ، التي كانت امتدادا للكوفة الشيعية ، كما كانت بلخ ومرو ونيسابور امتدادا للبصرة. ولذا كانت الكوفة ، بوصفها مركزا استعماريا ، دون البصرة نشاطا وفعلا. ومعلوم أن كلا من المصرين ، كانت له ثغوره وماهاته ، وهكذا توزّعت الأراضي المركزية الإيرانية بين المصرين عمليا : كانت الري ثغر الكوفة ، وأصفهان تابعة لها. غير أن ماه الكوفة ، نهاوند ، كان أقل نشاطا من ماه البصرة ، ديناور (علما بأن بعض المراجع تتحدث عن ديناور وتصفها بأنها ماه الكوفة). بيد أن البصرة تفوّقت على الكوفة في السباق على فتح الأراضي

٣٦٠