كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

الدولة العثمانية أنها ستحصل ضريبة أملاك من كل الرعايا الأجانب الذين استولوا على الأراضي بالطرق غير المشروعة ، وأنها ستكون عائقا لكونهم أصحاب أملاك بعد ذلك ، وأخبرت الدولة العثمانية إيران مرة أخرى بأن كل من استحوذ على أملاك الدولة العثمانية بدعوى تبعيته للدولة العثمانية ثم ادعى أنه أجنبي بعد ذلك لن يفلت من دفع تلك الضريبة ، وأنهم سيضطرون لبيع تلك الأملاك للخزانة العثمانية بشكل مباشر أو لأشخاص من رعايا الدولة العثمانية.

وفي ٦ مارس ١٨٥٣ م أرسل السفير الإيراني رسالة شديدة اللهجة ردّا على رد الحكومة العثمانية وعلى إجراءات والي بغداد ، وأوضح أنه تم السماح بشكل قانوني من قبل بشراء الأملاك (١).

ويفهم من ذلك أن إيران طلبت الموافقة على أن يكون رعاياها في الأراضي العثمانية مزدوجي الجنسية ، أما الحكومة العثمانية فقد اضطرت لوضع أصول دائمة ومحددة بشأن أوضاع الرعايا الإيرانيين في المعاهدات التي تمت مع إيران ، وفي المباحثات التي تمت بخصوص المشكلات التي ظهرت بعد ذلك ، وفي الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تقوم بضبط أوضاع الرعايا الإيرانيين كانت قلقة من الإجراةات الخاطئة التي يقوم بها الإداريون المحليون ومن الإضرار بسياستها الخارجية ومن ثورات الرعايا الموجودين في تلك المنطقة بتحريض من إيران.

ولم يتمّ ضمان النجاح بالقدر الكافي في شأن انتزاع أملاك الرعايا الإيرانيين من أيديهم طوال خمسة عشر عاما تقريبا ، ولهذا السبب طلبت ولاية بغداد تعيين أحمد راسم أفندي رئيس المجلس المؤقت لمناستير والذي كان مكلفا بتحرير الأراضي وتقسيم الرعايا بحل مشكلات

__________________

(١) BOA ,HR.MKT ٤٦ / ٤٣ ,٥٢ Z ٩٦٢١.

٢٦١

الأراضي والأملاك التي كانت سببا في ظهور المشكلات في الولاية ، وطرح الموضوع في مجلس الوالا ، وأسفرت نتيجة مباحثات المجلس عن إيجاد الطريق الذي سيتم تعقبه في النشاطات الخاصة بموضوع الأملاك في ولاية بغداد ، وتمثل هذا الطريق في حظر شراء الإيرانيين الموجودين في المنطقة أية أراض جديدة ، وإذا ما توفي أحد الإيرانيين الذين اشتروا أملاك من قبل وكانت هناك ضرورة لشراء تلك الأملاك أو رغب أحد الإيرانيين في بيع أملاكه برغبته يحظر حينئذ انتقال تلك الأراضي مجددا إلى أحد الإيرانيين ، وتبذل الجهود لبيعها لأحد الرعايا العثمانيين (١).

واستمرت الحكومة العثمانية في تجربة الطرق المختلفة لبيع الأملاك للرعايا العثمانيين في وقت قصير ، ومنذ عام ١٨٥١ م لم يسمح للإيرانيين بتجديد منازلهم وأملاكهم الأخرى ، ولهذا حظر عليهم شراء الطوب والقرميد ، إلا أنه طلب من والي بغداد إعادة النظر مجددا في موضوع هذا الحظر ، لأنه أدى إلى بقاء المنازل خربة (٢).

ولم تتورع الحكومة العثمانية عن عزل الموظفين الذين ثبت أنهم أظهروا تسامحا أو كانوا مسؤولين عن تملك الإيرانيين وعدم البيع لهم ، وأكبر نموذج يلفت النظر في هذا هو عزل القائمقام الخبير قربي أفندي قائمقام كربلاء ، لقد كان هدف قربي أفندي من ذلك التعايش الجيد مع إيران وإيجاد مناخ سلمي بينهم ، إلا أن نيته السليمة الطيبة هذه استعملت استعمالا سيئا من قبل بعض الأشخاص ، وطرحت فكرة تعيين خورشيد أفندي مكانه ، وأعيد قربي أفندي إلى وظيفته القديمة في بغداد (٣) ، ولكن

__________________

(١) BOA ,A.MKT.UM ٨٠٤ / ٤١ ,٢١ ZA ٦٧٢١.

(٢) BOA ,A.MKT.UM ١٥١ / ٠٧ ,٨ Ca ٠٧٢١.

(٣) BOA ,A.MKT.UM ٧٢٤ / ٩١ ,١ Ra ٧٧٢١.

٢٦٢

بعد فترة أعيد قربي لمنصبه مجددا عندما دعت الحاجة إلى ذلك ، وبقي في هذا المنصب حتى عام ١٨٦٢ م (١).

أما آخر وضع يتعلق بالموضوع في الفترة التي ندرسها تم التباحث فيه في الاجتماع الذي تمّ بين إداريي بغداد والممثل الإيراني في ٢٩ أغسطس ١٨٧١ م ، حيث تمّ التباحث في عدة أمور تتعلق بالإيرانيين الذين يعيشون في بغداد مثل أوضاع الزواج والطلاق والتبعية والأملاك والجنايات والجنح وتجنيد الإيرانيين وغيرها ، وتمّ تقييم تلك الموضوعات كلها ، وسعي إلى توضيح مسألة كيفية التعامل مع الدعاوي الخاصة بالأملاك في المادة الخامسة من تلك المباحثات ، ففي الفترات السابقة كان موظفو الدولة العليّة هم الذين ينظرون في الدعاوى الإيرانية ، ولكن طالب الإيرانيون في المباحثات بأن تكون لهم صلاحيات للنظر في تلك الدعاوي ، وقرر ممثلو الدولتين أن ينظر الإداريون العثمانيون في دعاوى الإيرانيين الموجودين في كربلاء ، وفي مقابل ذلك يكون هناك مراقبون من الجانب الإيراني (٢) ، وكما ذكرنا آنفا فهناك اعتقادات بأن دم الإمام الحسين وأقاربه اختلط بتراب ومياه كربلاء ، فإن كل المسلمين وعلى رأسهم الشيعة يؤمنون بأنه تراب مبارك وفيه شفاء ، ولذا يرغب معظم الشيعة في أن يدفنوا في هذا التراب ، لذا جلبت جنازات الأثرياء من شيعة إيران والهند والأماكن الأخرى لدفنها إلى كربلاء (٣) ، وبالرغم من أن هذه أمنية كل شيعي إلا أنه ليس في مقدور كل شخص تحمّل نفقات نقل الجنازة وعلى رأسها أجرة القبر الباهظة الثمن.

ولهذا كانت أكثر الطلبات تأتي من الأثرياء ، وفي حالة عدم تحمّل

__________________

(١) Develet Salnamesi ٩٧٢١ ,s.٣٨.

(٢) BOA ,A.DVN.NMH ٠٢ / ٥ ,٢١ C ٨٨٢١.

(٣) Ilhan ,a.g.m.,s.٠٥.

٢٦٣

تلك النفقات كانوا يلجأون إلى دفن هؤلاء الموتى بالتهريب وكانت معظم الجنازات تأتي من إيران لأنها أقرب الأماكن إلى العتبات. حيث كان يجلب إلى المنطقة كل عام طبقا للإحصائيات الرسمية ٥٠٠ ـ ١٠٠٠ جنازة لتدفن هناك (١).

وكما ذكرنا سالفا فقد كان الزوار الإيرانيون القادمون لدفن موتاهم في المنطقة يشكون من ارتفاع أجرة المرور وأجرة القبر. أما الدولة العثمانية فكان لديها أزمة من تفشي الأمراض المعدية نتيجة جلب تلك الجنازات بشكل غير سليم ، ومن الملاحظ أن هذا القلق لم يطرح على جدول الأعمال قبل عهد مدحت باشا.

وقد تم تحديد أجرة القبور والضريبة التي تحصل من الجنازات القادمة طبقا لقصبات العتبات والمواقع الموجودة بتلك القصبات ، وهذا يعني أن أجرة القبور التي كانت تؤخذ من كربلاء كانت مختلفة ، كما أن مقدار الضريبة كان يتغير طبقا لبعد وأهمية القصبة ، ولكن لا توجد أية معلومات تفصيلية عن هذا.

وكانت أول شكوى لإيران تتعلق بهذا الموضوع قد قدمت لولاية بغداد عام ١٨٤١ م على يد السفير الإيراني ميرزا جعفر خان ، حيث أوضح السفير في شكواه أنه بينما كان يجب عدم تحصيل أية أموال من الجنازات القادمة إلى العتبات العليّة في بعض الأماكن طبقا لأحكام اتفاقية أرضروم ، إلا أنه لا تزال تحصل تلك الأموال من الجنازات (٢) ، وبغضّ النظر عن الشكاوى الصادرة من الإيرانيين فقد وضعت الحكومة العثمانية مثل هذه الأمور موضع البحث لرعاية مصالحها الداخلية (٣).

__________________

(١) BOA ,A.MKT.UM ٢٦ / ٩٣ ,٥ S ٧٦٢١ ;ID ٤٥٥٥ / ٧.

(٢) BOA ,A.DVN.DVE ١١ / ٧٢ ,٣٢ M ٧٥٢١.

(٣) BOA ,A.DVN.DVE ٠٢ / ٤٩ ,٩٢ Ra ٦٦٢١.

٢٦٤

ولأن استانبول كانت قلقة من خطاب ميرزا جعفر خان السابق ، فقد أرسلت خطابا إلى والي بغداد وطلبت منه دراسة موضوع ضرائب الجنائز ، وتقديم معلومات بخصوص ما إذا كان سيترتّب على إلغائها أضرار للخزانة أم لا؟ لأنه كان ينقل في العام الواحد ما يقرب من ٥٠٠ جنازة لتدفن في النجف وكربلاء ، وكان يتمّ تأجير القبر الواحد بمبلغ يتراوح من ١٠٠ ـ ٢٠٠ طومان في العام ، ولأن عدد الشيعة القادمين كان يتزايد كل عام عن الآخر صدرت الأوامر بأن تتمّ مساع لضمان دخول الوارد من تلك الضرائب إلى الخزانة بشكل سليم (١).

أما إيران فكانت تشعر بالقلق من تحصيل ضرائب تتراوح ما بين ٢٠ ـ ٢٥ قرشا من الإيرانيين عن القبر الواحد هذا بخلاف إيجار القبر ، وقد طلبت إيران من الحكومة العثمانية التخلي عن تلك الأموال التي يتم تحصيلها ، وبعد ما قامت الحكومة العثمانية بعمل الدراسات المتعلقة بالموضوع أرسلت تعليمات لوالي بغداد ، استند والي بغداد لتلك التعليمات وأوضح أن الأماكن الموجود بها القبور تم تأجيرها من قبل للمتولين والمتصرفين الذين كان أكثرهم ذوي أصول إيرانية ، وأنه أعطيت لهم الرخصة بذلك ، ولهذا فإن الوالي لا يستطيع فعل أي شيء في هذا الموضوع ، وأخطر الجانب الإيراني بأنه سيوفر بعض التسهيلات بخصوص الضرائب المتعلقة بالقبور والجنازات (٢).

__________________

(١) BOA ,A.MKT.UM ٢٦ / ٩٣ ,٥ S ٧٦٢١.

(٢) بالرغم من أن النظام نامه التي نشرها محمد رشاد بخصوص القبور الموجودة في النجف وكربلاء والكاظمية في ١٣ / ١٢ / ١٩١٣ م خارجة عن نطاق الفترة التي ندرسها ، إلا أنها تعطينا ملامح عامة بخصوص المشكلات المتعلقة بالموضوع. وتلك هي مواد النظام نامه :

يمنع إقامة أي بناء مغطى من جوانبه في مقابر النجف وكربلاء والكاظمية ، أما ترميم الموجود منها فمتوقف على حصول إذن من النظارة.

٢٦٥

ومن الملاحظ أن شكاوى إيران المتعلقة بالجنازات قد قلت بعد تنفيذ ولاية بغداد لتلك التعليمات ، أما في عهد مدحت باشا فيلاحظ أن مضمون شكاوى الإيرانيين بخصوص الجنازات القادمة من إيران إلى العتبات قد تغير ، حيث كانت المشكلة هذه المرة ليست في الأموال ، بل كانت مشكلات صحية ناتجة عن الجنازات ، ومن المعلوم أن العلاقات العثمانية الإيرانية كانت مزدهرة أثناء جولة ناصر الدين شاه التي شملت بغداد واستانبول وكربلاء ، واهتمّ مدحت باشا أيضا بجولة الشاه ، وسعى لعقد بعض الاتفاقيات معه لحلّ بعض المشكلات الكائنة بين الجانبين في تلك الفترة ، فقد كان الجانب العثماني هو الجانب الشاكي في تلك المرة من الجنائز ، وكان موضوع الشكوى بخصوص نقل الجنائز إلى العتبات بشكل غير صحي ، ولهذا عقدت اتفاقية في ٥ يناير ١٨٧١ م (١٢ شوال ١٢٨٧ ه‍) بين مدحت باشا والي بغداد وحسين خان السفير الإيراني في استانبول ، وكان مضمون الاتفاقية ما يلي : إن نقل جنازة المتوفى في إيران بعد موته مباشرة ليدفن في العتبات فترة أمر غير صحي وكان هذا الأمر سببا في تفشي بعض الأمراض المعدية في المنطقة ، ولهذا تقرر عدم نقل رفات الأشخاص الذين توفوا في إيران لدفنها في الأراضي العثمانية بعد مرور ثلاث سنوات على دفنها في الأماكن الموجودة بها ،

__________________

يجوز إنشاء قبة مفتوحة الجوانب قائمة على أعمدة.

مساحة القبر يجب أن تكون ٥٠ ، ٢ م طولا ، و ٥ ، ١ م عرضا و ٧٥ ، ٣ م مربع.

والمادة السابقة توضح أنه في حالة بناء قبة على القبر فإنه سيعد هذا القبر حينئذ قبرين ، وسيحصل منه رسم دفن اثنين.

في حالة تجاوز مساحة القبر عن ٧٥ ، ٣ م فإنه سيؤخذ رسم دفن على كل متر مربع زائد.

تكلف نظارة الأوقاف بتنفيذ تلك النظام نامه.

BOA, A. MKT. UM ١٥١ / ٠٧, ٨ Ca ٠٧٢١.

٢٦٦

ولهذا سيتم وبشكل رسمي تسجيل تواريخ دفن النعوش في الأماكن التي تمت الوفاة فيها ، وسيتم منح شهادة رسمية بأنه مر ثلاث سنوات على تاريخ دفن هذا النعش ، ولأن تطبيق هذه الإجراءات كان سيأخذ ثلاثة أشهر فقد تقرر في تلك الاتفاقية عدم نقل أية جنازة من إيران في تلك الفترة ، وإمكانية جلب عظام الجثث التي حصلت على شهادات اعتبارا من الفترة السابقة ، أما الذين لن يمتثلوا لتلك التنظيمات الجديدة فسوف يرجعون إلى بلادهم بأمر من موظفي البلدين (١).

٣ ـ النزاعات المتعلقة بنسخ القرآن الكريم المرسلة من إيران إلى كربلاء

كانت الدولة العثمانية قلقة من إدخال نسخ القرآن الكريم المطبوعة في إيران إلى الأراضي العثمانية بطرق سرية وبيعها فيها ، وكان لهذا أسباب عديدة ، ففي البداية كانت إيران تريد أن تبسط نفوذها على أهالي المنطقة بتوزيع نسخ القرآن الكريم عليهم ، ولأن تلك النسخ المرسلة كانت مطبوعة فقد تعرض الخطاطون الذين يتعيشون من مهنة النسخ لموقف صعب بسبب ذلك ، ولأن مشكلة الطباعة كانت قد وجدت حلّا في الدولة العثمانية قبل ذلك بكثير ، فقد اضطرت الدولة لمراقبة هؤلاء الأشخاص ، كما كانت هناك مشكلة أخرى في موضوع طباعة القرآن الكريم وهي خشية الدولة من ظهور أخطاء مطبعية في نسخ المصحف ، وفي الفترة من عام ١٨٥٢ حتى عام ١٨٧٣ م تمّ التنبيه على الولاية والجمارك بمنع بيع وإدخال نسخ المصاحف الإيرانية ، إلا أنه ثمة حقيقة يجب الإشارة إليها وهي أنه بالرغم من الاحتياج الكبير للمصحف

__________________

(١) BOA, A. DVN. NMH ٩١ / ٦١, Lef : ٣, ٢١ L ٧٨٢١; Muahedat Mecmuasi, III, ٥١ ـ ٢٢; Zevra, ٥١ S ٧٨٢١, Nr. ٣٩, s. ٥٨١; Zevra, ٦٢ S ٧٨٢١, Nr. ٦٩, s. ٢٩١; Ali Haydar Midhat, a. g. e., s. ٥٩ ـ ٧٩; Bavili, a. g. e., s. ٩٢ ـ ١٣.

٢٦٧

المطبوع في المنطقة إلا أن الدولة العثمانية لم تقم بأي نشاط في هذا الشأن حتى عام ١٨٧٣ م ، ويمكن القول بأن السبب الرئيسي في ذلك هو تفضيل الحكومة لنسخ المصاحف المخطوطة.

وكانت الدولة العثمانية تفكر في أن هناك موانع سياسية ودينية من إدخال نسخ القرآن الكريم بطرق غير قانونية إلى الأراضي العثمانية ، وانتهجت سياسة حيال ذلك وقد قيّمت هذه المشكلة التي عاشتها الحكومة العثمانية على أنها مغايرة للتعظيم والتكريم ومنافية للآداب الإسلامية.

وعند النظر إلى الموضوع من الوجهة السياسية سنرى أن الدولة العثمانية كانت نظر لاستخدام المصاحف الواردة من إيران وليس المصاحف كلها في منطقة لها أهمية دينية واستراتيجية مثل كربلاء على أنه إضعاف لسلطتها ، ويمكن أن يسبب محظورات من الناحية الدينية ، والأهم من هذا أن إيران كانت تدعي أن المصاحف المطبوعة في الدولة العثمانية بها أخطاء ، وذلك لتقليل النفوذ العثماني في كربلاء ، وكانت إنجلترا تستخدم نفس الأسلوب في عهد السلطان عبد الحميد الثاني لتقليل النفوذ العثماني بين مسلمي الهند (١).

__________________

(١) تعطينا التطورات التي حدثت بخصوص طبع المصحف الشريف وتوزيعه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني فكرة عن مدى حساسية هذا الموضوع في العهود السابقة. لأن إنجلترا كانت تخشى من السياسة الإسلامية الجديدة للسلطان عبد الحميد الثاني ونفوذ الخلافة الذي سعى لبسطه لصالح الإسلام ، وكانت تريد تقليل هذا النفوذ بالقدر الممكن لها. وبدأوا يروجون شائعات خاصة بين مسلمي الهند بأن الخليفة طبع نسخا من مصحف به أخطاء. ولكن الأمر كان على خلاف ذلك لأن السلطان عندما أراد طبع المصحف أمر بتشكيل لجنة تتكون من ستة أو سبعة حفاظ ، ورئيس القراء في الدولة العثمانية ، وأن تكون النسخة التي يعتمدونها هي الأساس الذي ستعمل عليه المطبعة ، كما أمر بجمع كل المصاحف التي طبعها الإيرانيون والمشتبه فيها.

Cezmi Eraslan, II. Abdulhamid ve Islam Birligi, Istanbul ٢٩٩١, s. ٤٢٢.

٢٦٨

وثمة سبب آخر لرد الفعل الذي قامت به الحكومة العثمانية تجاه المصاحف الواردة من إيران ، وهو ظهور اختلافات بين تلك المصاحف وبين المصاحف المستخدمة في الدولة العثمانية ، وبالطبع لم تكن تلك الاختلافات من ناحية المعاني ، بل من ناحية القراءات ، ولفهم المشكلات المتعلقة بالقراءات بشكل أفضل يجب معرفة كيف بدأت تلك الاختلافات :

انتشر الإسلام في مساحة جغرافية كبيرة بالفتوحات التي تمت في عهدي عمر وعثمان ، ولهذا كانت المساحة التي ينتشر بها القرآن الكريم تتسع يوما بعد يوم ، وكان يرسل القراء من الصحابة إلى البلدان المفتوحة ، واستمر تعليم القرآن بشكل سريع ، ومن ذلك على سبيل المثال فقد أرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة وأبو موسى الأشعري إلى البصرة وأبي بن كعب وأبو الدرداء إلى الشام.

وكانت مصاحف هؤلاء الصحابة تختلف عن بعضها من حيث التنظيم والترتيب ، كما كانت توجد أيضا اختلافات من حيث القراءة ، ولإزالة هذه الفروق اتخذت لهجة قريش كلهجة أساسية للقراءة ، إلا أن بعض القراء الذين لم يقفوا على لهجة قريش حافظوا على قراءاتهم ، حتى إن بعضهم أضاف بعض الكلمات على سبيل التفسير ، ولأن النبي سمح باختلاف القراءات ، كانت هذه الاختلافات التي ظهرت لأسباب مختلفة سببا في ظهور العديد من الشبهات والنزاعات في العهود التالية.

جمع عثمان بن عفان المصاحف كلها في مصحف واحد وعلى حرف واحد (أي على قراءة واحدة) ، ووافق الصحابة على أن هذا هو السبيل الوحيد للقضاء على الفتنة التي قد تحدث بسبب هذا.

وفي عهد عثمان وضعت بعض الأسس لقراءة القرآن الكريم ، إلا أن تلك الأسس قد نسيت بمرور الوقت وزاد أهل البدع ، وعمدوا إلى القرآن بشكل خاطئ ، بل إنهم تجرؤوا على تحريف القرآن ، الأمر الذي جعل

٢٦٩

علماء أهل السنة يضعءون علم القراءات اعتبارا من بدايات القرن الثالث الهجري للحفاظ على تلاوة كلام الله بالشكل الذي نزل به وحمايته من التحريف ، وكتبت مئات الآلاف من الكتب المتعلقة بهذا الموضوع.

ويمكن جمع اختلاف القراءات في قسمين رئيسيين :

١ ـ المجموعة الأولى وتشكل الاختلافات التي بين اللهجات العربية ، وهي عبارة عن خصائص ليس لها تأثير بأي شكل من الأشكال على تغيير المعنى ، وتلك الخصائص مثل الإمالات ، والتخفيف والتشديد ، والتسهيل والتحقيق ، والإدغام والإقلاب ، والإخفاء وغيرها.

٢ ـ المجموعة الثانية وتتكون من أشكال القراءة التي تكونت باختلاف الحروف التي في الكلمات ، أو تغيير الكلمات ، وتظهر في مثل هذا النوع معان مختلفة ، وتلك المعاني المتغيرة إما أن توضح بعضها البعض ، أو معنى يوضح معنى آخر مبهم ، أو معنى يفيد القلة والكثرة وغيرها (١).

ومن الملاحظ أن شيعة إيران عكسوا اختلافات القراءة على المعنى ، حاول شاه إيران نادر شاه بسط نفوذه في العراق ببدء الفعاليات المذهبية بدلا من الفعاليات العسكرية ، وكان من ضمن هذه الفعاليات جمع العلماء السنة والشيعة في النجف للاعتراف بالجعفرية كخامس المذاهب الإسلامية ، وكان أحد موضوعات النقاش في هذا الجمع هو الاختلاف الكائن في قراءة القرآن الكريم (٢) ، وتظهر تلك المنازعات التي حدثت بين العلماء الشيعة والعلماء العثمانيين السنة الذين اجتمعوا في النجف عام ١٧٣٦ مدى وأهمية الاختلافات التي نشأت بسبب القراءات.

__________________

(١) Ismail Karacam, Kiraat Ilminin Kur\'an Tefsirindeki Yeri ve Mutevatir Kiraatlarin Yorum Farkliliklarina Etkisi, Istanbul ٦٩٩١, s. ٧٤ ـ ٨٤., ٩٩, ٥٢١ ـ ـ

(٢) Ali Djafar Pour, Nadir Sah Devrinde Osmanli ـ Iran Munasebetleri,) yayimlan ـ mamis doktora tezi (, Istanbul Universitesi Edebiyat Fak., Istanbul ٧٧٩١, s. ٦٢١ ـ ١٧١.; Bekir Topaloglu, Kelam Ilmi : Giris, Istanbul ١٨٩١, s. ٠٣٣ ـ ١٣٣ ـ ـ

٢٧٠

وقد حصل العلماء السنة على تأييد من الحكومة العثمانية في هذا النزاع الحساس ، وبالرغم من القرارات والإجراءات المتخذة إلا أنه ظهرت مشكلات تتعلق بالموضوع في كل عهد ، وقد أشرنا إلى العديد من المشكلات التي ظهرت في الفترة التي ندرسها بسبب المصاحف ، ونستطيع أن نحدد أبعاد الاختلافات كما يلي.

وأول أخبار سمعت في الفترة التي نقوم بدراستها عن ورود مصاحف من إيران كانت في عام ١٨٥٢ م ، وعندما سمعت الحكومة العثمانية بهذا أرسلت تنبيها لأمين جمرك أمتعة بغداد لمتابعة هذا الموضوع ، وقد فرضت الحكومة العثمانية حظرا على إدخال الإيرانيين المصاحف التي طبعوها في بلادهم إلى الأراضي العثمانية ، كما حظرت على الرعايا الإيرانيين الذين يعيشون داخل الدولة العثمانية طبع المصحف أيضا ، وفي نفس العام أرسل خطاب إلى مشير الضبطية باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الإيرانيين الموجودين في المنطقة من طبع المصاحف (١).

كما أرسلت الحكومة العثمانية خطاب تنبيه للسفارة الإيرانية يتناول عدم إدخال المصاحف التي تطبع في إيران إلى الأراضي العثمانية وعدم بيعها بها ، وطلب من سفير إيران أن ينبه على موظفي الجمرك والموظفين الآخرين عدم بيع أو إدخال المصاحف من إيران إلى الحدود العثمانية (٢).

وبالرغم من كل تلك التحذيرات إلا أن المصاحف المطبوعة في إيران كانت تنتقل من يد إلى يد في بغداد على هيئة أجزاء وأرباع.

وفرضت استانبول حظرا على إدخال المصاحف الإيرانية إلى أراضيها كما منعت استخدام تلك المصاحف في بغداد (٣).

__________________

(١) BOA ,A.MKT.MHM ٠٥ / ٦٣ ,٢ S ٩٦٢١.

(٢) BOA ,A.MKT.UM ٣١١ / ٩٩ ,٦ S ٩٦٢١.

(٣) BOA ,A.MKT.NZD ٥٤٣ / ٦٥ ,٤٢ S ٧٧٢١.

٢٧١

وبالرغم من هذا الإجراء الأخير للحكومة العثمانية والذي تحدثنا عنه ، إلا أنها لم تستطع التصدي لقراءة تلك المصاحف الواردة من إيران ، ورجحت الدولة أن تصدر فتوى تتعلق بالموضوع ، وتظهر تلك الحادثة أن الحكومة العثمانية كانت تقف على الموضوع من الناحية الدينية ، يعني أن الحكومة العثمانية كانت تشعر بالقلق حيال الموضوعات المتعلقة بالقراءات والتي أوضحناها من قبل ، وفي الفتوى التي أصدرتها هيئة العلماء (المشيخة) اتّخذت بعض القرارات المتعلقة بالمصحف المطبوع الوارد إلى بغداد من إيران والهند بطرق وأهداف مختلفة ، إلا أنه لا توجد لدينا أية معلومات تتعلق بمضمون تلك المباحثات (١).

وفي عام ١٨٧٣ م حدث أهم إجراء مؤثر في إيقاف دخول المصحف الإيراني إلى الدولة العثمانية ، فقد فكر الإداريون العثمانيون بأن رغبة الأهالي في تلك المصاحف منبعه قلة المصاحف المطبوعة ، وسعوا لحلّ تلك المشكلة عن طريق سد هذا الاحتياج ، لذا اجتمع مجلس الوكلاء المخصوص ، وقرر بعد المباحثات التي تمت أن تقوم المطبعة العامرة بطبع ٥٠٠٠٠٠ نسخة من المصحف الشريف في مطبعة الدولة ، وقد أعد مجلس الوكلاء قرارا يتعلق بكيفية الأعمال الفنية في طبع المصحف وأرسل هذا القرار للباب العالي (٢).

وبخلاف تلك المشكلات التي ذكرناها ، يمكن إضافة مشكلة أخرى جرت أحداثها في كربلاء بين الدولة العثمانية وإيران في الفترة التي ندرسها ، وكانت تلك المشكلة خاصة برفع الرايات على السفارات (٣) ، كما جرت مناقشات عديدة حول عدد مكاتب المفوضين وأين سيتمّ تأسيسها.

__________________

(١) BOA ,A.MKT.MHM ٨٠٤ / ٩٤ ,٣ S ٥٨٢١.

(٢) BOA ,A.MKT.MHM ٣٥٤ / ٠٦ ,٤ Ra ٠٩٢١.

(٣) BOA ,A.MKT.UM ٢١١ / ٢٥ ,٥٢ M ٩٦٢١.

٢٧٢

ومنذ أن أصبح تعيين الوالي في بغداد يتم من المركز بشكل مباشر بدأت تتغير تدريجيّا أشكال النزاعات العثمانية الإيرانية على المنطقة ، خاصة وأن مشكلات عديدة تم حلها منذ تولي مدحت باشا ولاية بغداد (١٨٦٩ م) ولكن بدأت تظهر مشكلات ذات ماهية جديدة ، فقد كانت خصائص النزاعات في كربلاء لا تتعلق بالمشكلات التي تقع أثناء الزيارة ، أو المشكلات التي تتعلق بالتجارة ، بل كانت المشكلات تتعلق بالأوضاع القانونية للرعايا الإيرانيين ، وكانت الموضوعات التالية هي محل النقاش الخاص بالإيرانيين الموجودين في كربلاء أو في المناطق الأخرى من بغداد ، في المباحثات التي جرت بين ولاية بغداد والمفوضية الإيرانية تم تناول الموضوعات التالية :

موضوع دعاوى الإيرانيين الموجودين في كربلاء وبغداد نفي الإيرانيين المذنبين خارج الحدود ، متى يجب تدخل الموظفين العثمانيين أثناء نظر الدعاوى الخاصة بالإيرانيين العالمين في المحكمة الإيرانية ، وكيف سيتم النظر في الدعاوى المتعلقة بأملاك الإيرانيين ، وترميم أملاكهم الواقعة في المنطقة ، تجنيد الإيرانيين الذين يعيشون في كربلاء منذ فترة طويلة ، عدم تدخل الموظفين العثمانيين في النزاعات التي تنشب بين الرجل الإيراني وزوجته ، عدم تدخل الموظفين الإيرانيين الموجودين في كربلاء في شؤون الحكومة العثمانية ، تأمين عدم دخول الإيرانيين الموجودين في كربلاء في التبعية العثمانية ، وعدم التدخل في ذهاب الرعايا الإيرانيين إلى من شاؤوا من العلماء (١) ، وفي عام ١٨٧٥ م تم عقد اتفاقية بين نظارة الخارجية العثمانية ودولة إيران ، تناولت نفس المواد التي ذكرناها آنفا (٢).

__________________

(١) BOA ,A.DVN.NMH ٠٢ / ٥ ,٢١ C ٨٨٢١.

(٢) BOA ,A.DVN.NMH ٢٢ / ٤ ,١٢ ZA ٢٩٢١.

٢٧٣

وبالرغم من كل تلك المنازعات التي تمت والاتفاقيات التي وقعت ، إلا أن المشكلات الخاصة بالأوضاع القانونية للإيرانيين الذين يعيشون في كربلاء لم تنته ، وأحد أسباب ذلك أن إحساس الرعايا الإيرانيين الذين يعيشون في كربلاء بالتبعية كان متساويا للعثمانيين والإيرانيين على السواء ، وبالرغم من أن معظمهم كان يتبع إيران من الناحية الدينية والقانونية ، إلا أنهم كانوا تابعين أيضا للعثمانيين بالأرض والخدمات والضرائب والجيرة والإداريين ، وبالطبع أثرت تلك العلاقات الموجودة بين البلدين ونتائجها على من يعيشون في كربلاء ، إلا أنها لم تستطع أن تجعل منهم إيرانيين أو عثمانيين بالمعنى التام للكلمة ، والعنصر الذي ربط أهالي كربلاء بالمنطقة هو المعطيات المادية والمعنوية لكربلاء ، وليست القوانين أو القواعد ، ولهذا لا يمكن القول على الأهالي الذين يعيشون في كربلاء بأنهم عثمانيون أو إيرانيون ، بل سيكون الأنسب لهم وصفهم بأنهم كربلائيون أو مجاورون.

٢٧٤

الفصل الخامس

البنية الإدارية لكربلاء (١٨٤٣ ـ ١٨٧٢ م)

١ ـ البنية الإدارية لكربلاء حتى التنظيمات

بعد ضم السلطان سليمان القانوني بغداد إلى الأراضي العثمانية قسّم منطقة العراق إلى خمس ولايات هي بغداد والبصرة وشهرزور والموصل والإحساء ، وكانت بغداد بمثابة المركز بسبب موقعها الجغرافي ، وفي الوقت الذي كان يتم فيه تعيين ولاة بغداد من استانبول ، كان ولاة الولايات الأخرى يعينون من استانبول أيضا ولكن بطلب من ولاة بغداد ، هذا بالإضافة إلى أنه كان يمكن تعيين أمراء ألوية سناجق الولايات البعيدة والهامة كمصر وبغداد من قبل الولاة المعينين من استانبول ، على الرغم من أن أمراء الألوية الأخرى كانوا يعينون على السناجق الواقعة في الممالك العثمانية الأخرى من قبل استانبول.

وأقدم التسجيلات الخاصة بالإدارة التي شكلها السلطان سليمان القانوني قبل تركه لبغداد خاصة بجلال زاده الذي كان مشاركا مع السلطان القانوني في الحملة ، وحاز أثناءها على منصب النيشانجيلك (صاحب التوقيع أو الخاتم) ، وقد قسّم جلال زاده التقسيمات الإدارية لبغداد في كتابه إلى خمس عشرة منطقة ، وقد وردت كربلاء في تلك التقسيمات الخمسة عشر باسم مشهد حضرة الإمام الحسين ، ووردت

٢٧٥

النجف باسم مشهد على (الآستانة المقدسة العلوية) ، وبالرغم من أن مشهد الإمام الحسين ومشهد سيدنا علي ظهرا في التقسيم على أن كل واحد منهما وحدة إدارية مستقلة ، إلا أن أغلب الظن أن تلك المناطق لم تكن كل واحدة منها وحدة إدارية مستقلة لوجود العديد من الأضرحة والزوايا والمزارات بها ، وكانت تدار من بغداد ولم تكن أي منها تحمل صفة السنجق المنفصل (١).

إن التطور التاريخي للبناء الإداري والتشكيلات الإدارية لكربلاء كان متداخلا مع تطوره في بغداد ، لا سيما وأن كربلاء كانت ترى دائما منذ دخول بغداد تحت الحكم العثماني وحتى نهاية الدولة العثمانية على أنها بناء إداري صغير تابع لبغداد.

وفي عهد المماليك كانت إيالتي البصرة وشهرزور تمنحان لولاة بغداد ، أو بتعبير آخر كان ولاة بغداد المماليك يعينون حكاما من المماليك بدرجة متسلم على إيالتي البصرة وشهرزور ، هذا بالإضافة إلى أن منصب الكتخدا (الوكيل أو النائب) الذي لم يلتفت إليه من قبل قد اكتسب ـ فجأة ـ أهمية على الساحة الإدارية في هذا العهد ، وارتقى الأشخاص المعينون في هذا المنصب إلى درجة الرجل الثاني في الولاية بعد الوالي (٢).

ولم يكن الدفتردار وأغا الإنكشارية في بغداد يعينان من قبل الدولة ، بل كان يعينهما الوالي ، وبالرغم من أن البصرة وشهرزور والموصل كانت تشكل سناجق تابعة لبغداد بعد إلغاء الحكم المملوكي وربط ولايات العراق بالمركز ، إلا أنها اعتبرت ولايات منفصلة في بعض

__________________

(١) Sahillioglu ,a.g.m.,s.٧٣٢١ ـ ٨٣٢١.

(٢) El ـ Bustani ,a.g.t.,s.٠٧٣.

٢٧٦

الأحيان ، وانتهى الأمر بأن أصبحت كل واحدة منها وحدة إدارية مستقلة تماما عن بغداد ، كما أحدثت تغيرات عديدة بسناجق ولاية بغداد ، أما الحلة والديوانية وكربلاء فكانت دائما تحت إدارة بغداد باعتبار أوضاعها ونظرا لقربها منها ، أو بتعبير آخر بالرغم من أنه أسست هنا بعض الوحدات الإدارية ، إلا أنها كانت دائمة تحت ظل ولاية بغداد.

وقبل عهد التنظيمات كان الإداريون المعينون على الولايات بمثابة «الوكلاء المطلقين» للحكام في التنفيذ والإجراء (١) ، وكان تدخل الباب العالي في إدارة الولاية خاصة في الفترة التي طبق فيها نظام الالتزام كان محددا بعزل وتعيين الموظفين المحليين فقط ، أما صلاحيات الوالي في الولاية فكانت واسعة للغاية ، فهو الذي يرأس القوات العسكرية ويحصل الضرائب لحسابه ويقوم بكل الإجراءات الانضباطية التي يراها ضرورية بشكل مباشر ويمكنه إعدام المتهمين ، وكان الوالي بتلك الصلاحيات يهدد حتى القضاة ، ولكن بعد إلغاء فرقة الإنكشارية في عهد السلطان محمود الثاني تركت مسألة الإدارة والشؤون الأمنية للوالي والمتصرفين ، زعما بأن مهمة القاضي ستنحصر فقط في النظر في الدعاوي طبقا للشريعة الإسلامية ، وإذا ما صدر منه أي تدخل ولو بمقدار ذرة في شؤون الدولة فإن هذا سيستلزم تأديبه (٢).

وأثناء القيام بتلك التنظيمات الجديدة ظلت الولايات القديمة كما كانت في السابق من الناحية الشكلية ، إلا أن التغيرات التي حدثت في الآلية الإدارية جعلت مسؤولية القضاء لمحصّل القضاء ، ومسؤولية السنجق لمحصّل السنجق ، ولم يكن لهم أي ارتباط بمحصّل الولاية المركزية ، بل كانوا منفصلين ومستقلين ، ولهذا السبب لم تكن هناك

__________________

(١) Bernard Lewis, Modern Turkiye\'nin Dogusu, Ankara ٨٩٩١, s. ١٨٣.

(٢) Karal ,a.g.e.,IV ,٩٢١.

٢٧٧

اختلافات من ناحية الوظيفة بين الوالي ومسؤول الأمن بالقضاء والمحصّل بشكل عام (١).

ونتيجة طبيعية لهذا الوضع سيطرت المجالس البلدية والمحصّلون بشكل خاص على الصلاحيات المالية والقانونية والملكية للوالي ، وهذا الوضع للوالي أدى لازدياد الاضطرابات والتدخلات في شؤون الولاية (٢).

وكان تطبيق الإصلاحات هدف كل وال ، إلا أن التنظيمات التي تمت بسبب ميل الباب العالي للمركزية لم تكن كافية ، لأنه لم تكن هناك إمكانية لتفعيل آلية إدارية من هذا النوع في بلد لم تتمكن من تأسيس شبكة اتصالات ومواصلات ، لذا زادت صلاحيات الولاة ، وتوسعت مجالات عملهم بالفرمان الصادر في ٢٨ أكتوبر ١٨٥٢ م.

وأصبح الولاة أصحاب نفوذ وسيطرة على السناجق التابعة لهم ، وعين معهم دفتردار وقائمقام على كل سنجق ومدير من ذوي الخبرة والشرف من الأهالي على كل قضاء (٣) ، وأصبح المحصلون ومدير والمال ومجالس الأقضية والنواحي والضبطية تحت إدارة الولاة ، ولأن الولاة كانوا مسؤولين عما يصدر من هؤلاء الموظفين ، فقد أعطيت لهم صلاحية عزلهم ، كما منح للولاة صلاحيات بخصوص توفير الأمن ، وصلاحيات أخرى بنسبة كافية في الموضوعات الأخرى ، ونظرا لأنهم لم يمنحوا الصلاحية بإعدام أي شخص دون محاكمة فقد دفع هذا الولاة لاتخاذ إجراءات كثيرة جدّا لتعقب الأشقياء ، لأنه لم يكن هناك إمكانية لتوفير الأمن مع التوافق مع تلك القواعد ، وقد انضبطت بعض الأمور بهذا

__________________

(١) Sabahattin Samur, Suriye Vilayeti\'nin Idari Ve Sosyal Yaplsl) ٠٤٨١ ـ ٨٠٩١ (, Yaylmlanmamis Doktora Tezi (, Ankara Universitesi Sosyal Bilimler Enstitusu, Ankara ٨٨٩١, s. ٧٣.

(٢) Lewis ,a.g.e.,s.١٨٣.

(٣) Samur ,a.g.e.,s.٧٣.

٢٧٨

الفرمان (١) ، ولم يأخذ المديرون المعينون على الأقضية رواتب شهرية في تلك الأثناء ، ولكن في مقابل هذا استحدث دخل جديد باسم (قبو ألتي).

وقد خلقت حرب القرم التي خاضتها الدولة العثمانية عام ١٨٥٦ م ضد روسيا وإنجلترا وفرنسا رد فعل سلبي تجاه المسائل الأمنية ، فبالرغم من خروج الدولة العثمانية منتصرة من تلك الحرب ، إلا أن ضغط الدول الغربية عليها قد زاد ، الأمر الذي جعل الإداريين العثمانيين يعدون لائحة تنظيمية جديدة للولايات لعمل تغيرات جديدة في فرمان الإصلاحات وتعميم الوضع الذي كان خاصّا بجبل لبنان ـ بعد أحداث الشام وجبل لبنان عام ١٨٦٠ م ـ ليكون في الدولة عامة من ناحية ولإزالة السلبيات التي ظهرت بسبب الحرب لتخفيف وطأة ضغوط الدول الغربية من ناحية أخرى ، وقد نظمت تلك اللائحة الجديدة التي نشرت في ٨ نوفمبر ١٨٦٤ م التشكيلات الخارجية في الدولة من جديد (٢) ، وقد قسمت تلك اللائحة التي عرفت باسم (اللائحة التنظيمية لتشكيل الولاية) الدولة إلى ولايات والولاية إلى سناجق ، والسنجق إلى أقضية ، والأقضية إلى قرى ونواح ومزارع ، وقد منحت مسؤولية الولاية على حسب هذه اللائحة التنظيمية الجديدة إلى الوالي ، وألغي لقب القائمقام الذي كان يستخدم لإداري السناجق ، ولقب المدير الذي كان يستخدم لإداري القضاء ، وستدار السناجق من قبل المتصرفين ، والأقضية من قبل القائمقامات ، أما النواحي فستدار بواسطة مديرى النواحي (٣).

كانت هذه اللائحة التنظيمية الجديدة تحتوي على تغيرات كبيرة بخصوص وظيفة وصلاحيات الوالي ، فقد منحت المادة السادسة منها

__________________

(١) Engelhardt, Tanzimat ve Turkiye,) Turkcesi : Ali Resad (, Istanbul ٩٩٩١, s. ٨٠١.

(٢) Samur ,a.g.e.,s.٨٣.s.٨٣.

(٣) Dustur ,. (I.Tertip) ,I ,٦٠٦ ـ ٤٢٦.

٢٧٩

مسؤولية الشؤون المالية والسياسية والملكية للولاية ، وكذا تنفيذ الأحكام القانونية للوالي الذي يعينه السلطان ، وكان هذا الوالي مكلفا بتنفيذ كل ما تطلبه منه الدولة ، وعمل كافة التنظيمات التي يراها مناسبة في الولاية بشرط أن تكون داخل حدود صلاحياته ، كما أنه مسؤول عن استتباب الأمن داخل الولاية ، وحماية الأهالي من أي هجوم يهدد الروح والمال كالسرقة وقطع الطريق ، واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد أي تحرك موجه لهدم سلطة الدولة وإقلاق الأهالي. وفي حالة عدم كفاية قوات الأمن للقيام بذلك فله الصلاحية في استخدام القوات العسكرية بموجب المادة الخامسة عشرة من اللائحة.

وبخصوص إدارة الولاية كانت اللائحة التنظيمية تأمر بحماية المجالس الإدارية كنوع من التجديد ، وكان الوالي هو الذي سيرأس مجلس إدارة الولاية الذي سيتم تأسيسه ، أما المجالس التي ستؤسس في السناجق والأقضية فستجتمع برئاسة الرؤساء الملكيين فيها ، إلا أن الوالي هو الذي سيقرر أوقات اجتماعهم.

كما منع الوالي من إنفاق أية أموال خارج ميزانية الولاية ، إلا أن له الحق في تقديم طلب للباب العالي للسماح له بالمصروفات التي يراها ضرورية ، كما كان هناك مساعد مالي للوالي يمسى «الدفتردار» كان مسؤولا أمام الوالي عن مراقبة المحاسبين التابعين له (١).

وبعد فترة أعيد تشكيل اللائحة التنظيمية لتشكيلات الولاية من جديد ، وأعيد نشرها من جديد في عام ١٨٧١ م باسم (اللائحة التنظيمية لإدارة الولاية العمومية) ، وقد استمرت تلك اللائحة حتى السنوات الأخيرة للدولة العثمانية ببعض التغيرات ، وقد زادت هذه اللائحة التنظيمية الجديدة من مبدأ تجزئة (تقسيم) الوظيفة الذي كان أهم خاصية

__________________

(١) Dustur.) I. Tertip (, I, ٦٠٦ ـ ٤٢٦; Samur, a. g. e., s. ٩٣.

٢٨٠