كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

إماراتها الموجودة في العراق ، أما في القرن التاسع عشر فقد سعت إيران بكل ما تملك من قوة لبسط نفوذها في كربلاء ، وعلى سبيل المثال في الربع الأول من هذا القرن كانت سياسة الشاه فتح على شاه (وفاة ١٨٣٤ م) وابنه الشاه محمد (١٨٣٤ ـ ١٨٤٨ م) تتمثل في كسب انتصارات لصالح إيران على الحدود العثمانية. أما في عام ١٨٤٨ م جلس على عرش إيران الشاه ناصر الدين الذي استمرت سلطنته فترة طويلة ، وكانت سياسة هذا الشاه تتمثل في الاستفادة التامة من المنافسة الإنجليزية الروسية ، وكانت أول استفادة لإيران من تلك المنافسة قد تمت في خليج البصرة أي في جبهة بغداد من الدولة العثمانية ، وعلى هذا فقد كان الشاه ناصر الدين هو أحسن من استخدم كربلاء والعتبات المقدسة الأخرى الموجودة في بغداد لمصالحه السياسية (١).

أما التغيير الثاني الذي أثر على الظروف السياسية في العراق في القرن التاسع عشر هو نشاطات الأوروبيين هناك ، وقد أسفر هذا الوضع عن نتيجتين : الأولى : ظهور إمارات العشائر التقليدية في المنطقة أو إعطاء الفرصة لهم لتقوية أنفسهم هذا الأمر الذي يخص الدولتين.

الثانية : عمل الأوروبيون على تشكيل ضغط وتدخل سياسي مباشر لتقوية تلك الإمارات العشائرية التقليدية وحثها على التدخل في شؤون المنطقة ، وكانت أوروبا تقوم بهذه التدخلات السياسية تحت مسمى النشاطات التجارية ، إلا أن تلك النشاطات لم تكن مقصورة على التجارة بل كانت تمتد إلى المجال العسكري والسياسي أحيانا (٢).

وعند النظر إلى المؤثرات الأوروبية في كربلاء سنجد تغيرا في شكل العلاقات بين الدولة العثمانية وإيران ، وقد استمرت تلك العلاقات

__________________

(١) Mehmet Saray, Turk ـ Iran Iliskilerinde Siiligin Rolu, Ankara ٠٩٩١, s. ٦٦ ـ ٧٦.

(٢) Salibi ,a.g.m.,s.٤٧.

١٨١

ليس لتحقيق أهداف الدولة العثمانية وإيران بل أصبحت كوسيلة للنزاع بين إنجلتز وروسيا ، وبالرغم من تنبه الدولتين لهذا إلا أنهما لم يجربا ترك النزاع التقليدي الدائر بينهما منذ عقود طويلة أو لأنهما اعتقدا أنهما ليس لديهما القدرة على النجاح في هذا لضعفهما ، حتى إن اضطراب العلاقات بين إنجلترا وروسيا كان سببا في زيادة التوتر بين الدولتين العثمانية والإيرانية في بعض الأحيان ، لا سيما وأن رجال الدولة العثمانية كانوا ينظرون إلى إيران على أنها عامل مهدد للدولة العثمانية ، ولم يكن ذلك نابعا من قوة إيران بل كان نابعا من خوف رجال الدولة العثمانية من أن تسير إيران في فلك روسيا في الحرب التي كانت دائرة بين روسيا والدولة العثمانية أو تساعدها في تلك الحرب ، وفي هذا الوضع يمكن إقحام الشيعة الموجودين في العراق في تلك الحرب أو على الأقل يحرضهم على القيام بثورة في تلك الفترة المشوبة بالاضطراب.

حتى إن الأحداث التي تمت في كربلاء عام ١٨٤٣ م ومباحثات الهدنة والصلح التي بدأت في نفس العام تمت بتأثير من روسيا وإنجلترا ، وقد عبّر مسيو تيتوف السفير الروسي في المباحثات التي تمت في أرضروم عن أوضاع من يعيشون في المنطقة بقوله : «إننا نهتم بمسألة اضطراب العلاقات بين العثمانيين والإيرانيين ، ولن تقف روسيا أو إنجلترا مكتوفة الأيدي حيال هذا الموضوع» (١).

٢ ـ العلاقات بين إيران وولاية بغداد

١ ـ المشكلات النابعة من البنية الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية

إن أطول قسم من الحدود بين الدولة العثمانية وإيران كان يتمثل في أراضي ولاية بغداد وأراضي العراق بشكل عام (الموصل وبغداد

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٠٤٨١ ,Lef : ٢.

١٨٢

والبصرة) ، خاصة وأن كل القرى والقصبات التي كانت مسكونة بالأكراد كانت تحت التأثير الإيراني الدائم لقربها من حدودها والبنية الجغرافية المساعدة على ذلك ، كما كانت إيران حاكمة على منطقة شرق خليج البصرة ، ولهذا كانت لديها إمكانية لبسط نفوذها في البصرة الشيعية وكل الأماكن المجاورة لها.

كانت المشكلات الموجودة بين العشائر الذين يشكلون الأغلبية العظمى لسكان تلك المنطقة لها تأثير سلبي على العلاقات بين الدولتين ، وخاصة العشائر الكردية التي لا تزال تثير المشكلات بين البلدين حتى اليوم.

وكان وضع إيران لا يعطي أية إمكانية لعمل أي تنظيم في العلاقات بين الدولتين ، وهذا مرجعه الإدارة المركزية من ناحية والإداريون الموجودون على طول خط الحدود من ناحية أخرى ، وخاصة أن الإداريين المحليين البعيدين عن مراقبة مركز الدولة كانوا سببا في وضع الدولتين موضع الاستعداد للحرب في بعض الأحيان.

الأغلبية العظمى من الإيرانيين شيعة ، والمنتسبون لهذا المذهب في الجغرافيا العراقية عدد لا يستهان به ، ولهذا كان شيعة إيران يحرضون شيعة العراق ويستخدمونهم كآلة لأهدافهم ومصالحهم ، أو على الأقل القيام بنشاطات تهدد وحدة الدولة وكيانها المتكامل بتصغيرهم من شأن من ليس على مذهبهم واستثمار دينهم واعتقادهم ، بخلاف هذا كان يفد آلاف الإيرانيين كل عام في أيام محددة إلى الأماكن المقدسة عند الشيعة كالنجف وكربلاء ، وكان هؤلاء الزوار القادمون من إيران سببا في ظهور المشكلات بين الدولتين ، خاصة وأن الإيرانيين كانوا يعانون بشدة أثناء مجيئهم بموتاهم لدفنهم في الأماكن المقدسة هذا فضلا عن الضرائب الباهظة التي كانوا يؤدونها مما جعلهم يخرجون عن طورهم ، وكانت هذه المعاناة التي شهدها الإيرانيون سببا مستمرّا لتوتر العلاقات بين الدولتين.

١٨٣

كانت ولايات العراق وخاصة بغداد وما حولها تتميز عن الأراضي الإيرانية بثراء وخصوبة التربة والإمكانيات الطبيعية ، لذا فإن التوتر الموجود على الخط الحدودي بين الدولتين في منطقتي الموصل وشهرزور مرجعه حاجة العشائر الإيرانية القائمة على الحدود إلى المراعي باستمرار ، فقد كانت الثروات الطبيعية لتلك الأماكن تثير شهية الإيرانيين بشكل دائم.

كما أن سهولة التنقل ووجود النقل النهري بين بغداد والبصرة جعلهما بمثابة المركز التجاري للأسواق الداخلية والخارجية ، وبالرغم من أن إيران تطل على خليج البصرة فقد ظلت محرومة من الوصول إلى الدرجة التي يمكنها منافسة بغداد ، ولهذا السبب كانت إيران تفكر بشكل دائم في الاستحواذ على تلك المنطقة الغنية القريبة منها جدّا والبعيدة جدّا عن مركز الدولة العثمانية.

٢ ـ المشكلات النابعة من الموضوعات السياسية

تمكنت إنجلترا بالامتيازات التي حصلت عليها من الدولة العثمانية من التخابر والتواصل مع الهند ، ومن المؤكد أن وجود الإنجليز أصحاب الكلمة النافذة في التجارة بالبصرة وبغداد وتصرفاتهم كانت تقلق إيران ، وعلى أي حال كان الإنجليز يضعون تلك النقطة في حسابهم من قبل ولهذا لعبوا دور الوسيط الدائم بين الدولة العثمانية وإيران وذلك حتى لا تتعرض مصالحهم في المنطقة للخطر.

وكانت النشاطات الإنجليزية في المنطقة تقلق الروس بقدر ما تقلق الإيرانيين ، ومن المعروف تاريخيّا أن الروس كانوا يسعون للنزول إلى الجنوب والانفتاح على المحيط الهندي ، ولتحقيق غايتهم تلك كانوا يسعون لإفساد كل مساعي الإنجليز هناك ويعملون دائما على إقلاقهم ، ولتحقيق هذا الهدف سلكت روسيا طريقين ، الأول : بذل الجهود

١٨٤

للحصول على امتيازات أكثر من خلال علاقاتها مع الدولة العثمانية متخذة من الإنجليز نموذجا لها ، والآخر : تحريض إيران على الهجوم على بغداد وما جاورها ، وكان الإنجليز أيضا يخشون الروس لنفس الأفكار ، فقد سعوا أيضا بالضغوط المختلفة لاستخدام الإيرانيين والعثمانيين ضد الروس.

أما إيران فكانت تسعى على الدوام إلى توسيع رقعة أراضيها مستخدمة الاضطرابات التي أظهرتها في المنطقة الحدودية والهجمات التي نظمتها وسيلة لهذا ، وكما سنوضح فيما بعد أنهم كانوا في بعض الأحيان يتدخلون في الشؤون الداخلية للعراق كلما سنحت الفرصة بذلك (١).

وقد تشكلت العلاقات بين الدولة العثمانية وإيران في القرن التاسع عشر بتلك الأحداث السياسية التالية :

شهدت العلاقات العثمانية الإيرانية أكبر اضطراب على خط الحدود في بدايات القرن التاسع عشر ، فالعشائر الكردية القاطنة بكثافة على طول هذا الخط الحدودي كانت سببا مباشرا في هذه المشكلات الحدودية ، وكانت تلك العشائر تنتقل إلى الجانب الذي تجد فيه مصلحتها ، ولأن الدولة العثمانية كانت مشغولة في تلك الأثناء بمشكلات الغرب نبه الباب العالي على رجال الدولة والولاة في الولايات الشرقية بضرورة التعامل بشكل طيب مع الإداريين الإيرانيين ، وقد أرسلت الحكومة العثمانية عبد الوهاب أفندي ابن ياسينجي سفيرا لها لدى إيران لتسوية العلاقات معها (٢١ يناير ١٨١١ م) ، وكانت المهام الأخرى لعبد الوهاب أفندي تتمثل في إعاقة إيران من التدخل في شؤون أمراء بابان وتقديم المساعدة لموظفي الحدود العثمانيين الموجودين في أخيصكا وقارص إذا تطلب الأمر ذلك ،

__________________

(١) el ـ Bustani, a. g. t., s. ٤٧٢ ـ ٥٧٢; Naslri, a. g. t., s. ١ ـ ٦.

١٨٥

وضمان عمل اتحاد قوي ضد الروس ، إلا أن الدولة العثمانية لم تحقق نجاحا من تلك المساعي (١).

واتخذ الشاه فتح علي شاه حاكم إيران من الحركة التي قام بها والي بغداد بسبب مشكلة أمراء بابان حجة له وأرسل جيشا كبيرا إلى نواحي بغداد في خريف عام ١٨١٢ م ونهب المنطقة بأكملها ، ولهذا أرسلت له الحكومة العثمانية رسالة شديدة اللهجة ، وفي تلك المرة اضطرت إيران إلى تسوية العلاقات التي اضطربت بسببها ؛ وذلك لأن روسيا هزمت إيران هزيمة فادحة في موقعتي أصلان دوز ولنكران وأجبرتها على قبول معاهدة كولستان بالرغم من أن شروطها كانت ثقيلة جدّا عليها (أكتوبر ١٨١٣ م) ، ولتعرض إيران لهزة قوية بعد تلك الهزيمة التي منيت بها اضطرت لتسوية أوضاعها وسياستها مع العثمانيين ولو لفترة ، ويلاحظ أن السنوات التالية لتلك الأحداث كانت هادئة بالنسبة للدولتين ، وبعد تلك الفترة الهادئة التي استمرت قرابة أربع أو خمس سنوات طرأت الاضطرابات مرة أخرى على العلاقات بين الدولتين بسبب قيام والي كريمان شاه الإيراني بتخطي الحدود العثمانية بشكل يخالف القوانين الدولية لمساعدة أمير سنجق بابان عام ١٨١٧ م لما علم بالنزاع الواقع بينه وبين والي بغداد ، ولكن لما شعرت إيران بأنها ليست بالقوة التي تمكنها من حرب الدولة العثمانية تعهدت للدولة العثمانية بأنها لن تتخطى الحدود مرة أخرى ، وبادرت بتسوية العلاقات من جديد. ولكن في عام ١٨٢١ م حدثت مشكلة بين الدولتين كانت سببا في بدء الحرب من جديد ، ألا وهي لجوء مشايخ عشيرتي حيدرانلي وسبكي إلى العثمانيين ، وقيام حافظ علي باشا بالهجوم على قافلة الحج الإيرانية عند مرورها من

__________________

(١) Yahya Kalatarl, Feth Ali Sah Zamaninda Osmanli ـ Iran Munasebetleri) ٧٩٧١ ـ ٤٣٨١ (,) Yaylmlanmamls Doktora Tezi (, Istanbul Universitesi Edebiyat Fakultesi, Istanbul ٦٧٩١, s. ٠٨.

١٨٦

أرضروم ، وفي نفس السنة (١٨٢١) حدثت ثورات في البلقان والبوسنة والهرسك واليونان ضد الدولة العثمانية ، وتصادف ذلك الوقت مع الوقت الذي هبّ فيه عباس ميرزا للهجوم على الأراضي العثمانية لمعاقبة الأمراء الموجودين في المنطقة ، هذا بالإضافة إلى أن الدولة العثمانية علمت أن روسيا هي المحرك الأساسي للثورة اليونانية ، ويلاحظ أيضا أن السفير الروسي في إيران مزروفيتش كان له دور كبير في تحريض عباس ميرزا على الهجوم على الأراضي العثمانية ، وذلك لأنه كان على روسيا إجبار الدولة العثمانية على الحرب في جبهتين كي تصل إلى أهدافها ، وكان السفير الروسي يشغل عباس ميرزا عن طلب تعويضات هزيمته بالحرب مع العثمانيين ، دخل عباس ميرزا الموصل في سبتمبر ١٨٢١ م (ذي الحجة ١٢٣٦ ه‍) وكان يرافقه في تلك الحرب كل من حسين خان قجار وحسن خان قجار وأمير خان سردار وعسكر خان أفشار ، تقدم عباس ميرزا حتى وصل إلى أرضروم وتمكن قادته من الاستيلاء على ديار بكر ، أما محمد علي ميرزا دولت شاه الأخ الأكبر لعباس ميرزا فقد خرج من كيرمان شاه وتقدم حتى وصل بالقرب من بغداد ، ولكنه عاد من هناك بسبب مرضه ولطلب العلماء ذلك ، كان هدف محمد علي ميرزا إعاقة هجوم علي باشا والي بغداد واستمرت الحرب سنتين في جبهة الموصل وكيرمان شاه وعراق العرب وانتهت بعقد معاهدة أرضروم عام ١٨٢٣ م (١).

وبموجب تلك المعاهدة تركت إيران للدولة العثمانية كل الأراضي التي استولت عليها ، ورسمت الحدود بين الدولتين من جديد ، كما تعهدت الدولتان بحلّ أية مشكلات قد تظهر فيما بعد ، وهذه هي البنود المتعلقة بكربلاء في معاهدة أرضروم : لن تحصل أية ضرائب من الزوار

__________________

(١) Mufassal Osmanli Tarihi ,V ,٦٦٨٢ ـ ٧٦ ,٠٧.

١٨٧

الإيرانيين الذي يفدون من إيران إلى العتبات المقدسة إذا لم يكن معهم بضائع تجارية ، أما إذا كانت معهم بضائع تجارية فسيتمّ التعامل معهم كما يتم التعامل مع أي تجار آخرين يفدون إلى المنطقة ، إظهار الحرمة والرعاية للشاه والأمراء الإيرانيين عند حجهم وزيارتهم إلى كربلاء أو العتبات المقدسة ، معاملة الإيرانيين بنفس المعاملة التي يعامل بها الرعايا المسلمون الآخرون في الجمارك ، في حالة قيام الإداريين أو الضباط العثمانيين بتحصيل الأموال بالقوة من الزوار أو التجار الإيرانيين فعلى الدولة العثمانية أن تستمع للشكوى التي ترد منهم ، وعليها أن تعيد إليهم تلك الأموال.

لم تظهر أي مشكلات حدودية هامة سوى بعض المشكلات التي كانت تتمثل في قيام العشائر الموجودة على تلك الحدود بالهجوم على بعضها البعض حتى عهد الشاه محمد وخاصة أثناء فترة الحرب الروسية الإيرانية (١).

وفي السنة الثالثة لتولي الشاه محمد الحكم حاصر هراة عام ١٨٣٧ م ، وبالرغم من أن الإنجليز سعوا لمنع الشاه محمد من ذلك إلا أنهم لم يتمكنوا من منعه (٢) ، وقد تحققت بعض تلك المطالب الإنجليزية عندما سعى علي رضا باشا للسيطرة على الشاه محمد ، وأظهرت إيران رد فعل على هذا العمل.

ذهب والي بغداد علي رضا باشا إلى المحمرة وسعى للسيطرة على عشيرة كعب التي مالت إلى الجانب الإيراني وأثارت بعض المشكلات على حدود الدولة العثمانية ، أثارت الحركة التي قام بها علي رضا باشا على المحمرة انتباه وردّ فعل إيران ، ويمكن تلخيص تلك الحادثة كما يلي :

__________________

(١) Muahedat Mecmuasi ,III ,٢ ـ ٤.

(٢) El ـ Bustani ,a.g.t.,s.٠٨٢ ;Saray ,a.g.e.,s.٦٦.

١٨٨

سكنت عشائر كعب في منطقة المحمرة وما حولها من الأراضي التابعة لبغداد ، ولأنها كانت دائمة التمرد ضد الدولة العثمانية استفادت إيران من هذا الوضع وبدأت تساعدهم في تمردهم ضد الدولة العثمانية ، واستمر ذلك الوضع حتى نهاية عهد داود باشا ، أما علي رضا باشا فبالرغم من أنهم كانوا يساندونه في البداية لوقوفه ضد داود باشا إلا أنهم تمردوا عليه بعد ذلك ، بل وفكروا في الاستيلاء على البصرة ، ولهذا توجه علي رضا باشا إلى المحمرة لتأديب تلك العشائر الباغية ، فهدم قلاعهم واستولى على مدينتهم ، وفرّ مشايخهم هاربين إلى إيران ، ولما أعطوا الضمانات للسفير الإيراني ادعى أن المنطقة تابعة لإيران وليست للدولة العثمانية ، وكانت تلك الحادثة سببا في توتر جديد للعلاقات بين الدولتين.

ومن الأسباب التي دعت إلى توتر العلاقات العثمانية الإيرانية مرة أخرى عزل محمود باشا من ولاية السليمانية عام ١٨٤٢ م ولجوءه إلى إيران ، وبالرغم من أن الشاه محمد طلب من الدولة العثمانية أن تعفو عنه ، إلا أنها تملصت من هذا المطلب وعلى هذا اضطر محمد شاه للتدخل في شؤون والي أردلان الذي كان يشكو من العثمانيين ، كما أن المخططات التي أعدها والي بغداد للسيطرة على الأماكن المقدسة والشيعة الموجودين في كربلاء جعلته يضطر للاستعداد للحرب ، وكلّف بهمان ميرزا بمهمة الاستعداد لها (١).

وقد كانت الأسباب التي ذكرناها آنفا والتي دعت إلى توتر العلاقات بين الدولة العثمانية وإيران في بدايات القرن التاسع عشر سببا في ظهور مشكلة أو حادثة كربلاء.

__________________

(١) Dervis Pasa, Tahdid ـ i Hudud ـ i Iraniyye, Istanbul ٧٨٢١, s. ٦ ـ ٩. Seyahatname ـ i Hudud, s. ٣٢; El ـ Bustani, a. g. t., s. ٠٨٢.

١٨٩

٣ ـ حادثة كربلاء ١٨٤٣

بعد انتهاء حكم المماليك في العراق قامت الدولة العثمانية بتعيين علي رضا باشا واليا على بغداد ، ثم خلفه نجيب باشا الذي وضع نصب عينيه منذ اللحظة الأولى لتوليه شؤون الولاية مسألة تقوية السلطة المركزية للدولة في الولاية ، وكانت حادثة كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٣ م نتيجة تلك المساعي التي قام بها في هذا الشأن ، وقد أثرت تلك الحادثة في سنجق كربلاء نفسه وفي بغداد بشكل عام ، هذا بالإضافة إلى أنها جعلت العلاقات العثمانية الإيرانية تتخذ بعدا جديدا.

إن الحادثة التي وقعت في سنجق كربلاء في ١٨٤٣ م قد أثرت على الاستقرار الداخلي للسنجق وعلى العلاقات العثمانية الإيرانية ، ومن ثم دعت تلك الحادثة إلى ضرورة عمل تنظيم إداري جديد في المنطقة ، وبالإضافة إلى العامل الإيراني الرئيسي كانت هناك أسباب أخرى عديدة مثل البنية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي أثرت في ظهور تلك الحادثة. كانت إيران ترسل رعاياها بما فيهم المجتهدون الإيرانيون إلى نواحي كربلاء والنجف والكاظمية التابعة لبغداد لأسباب مختلفة كالزيارة والتجارة وغيرها كلما وجدت الفرصة سانحة لذلك ، وتذكر المصادر العثمانية أن هدف إيران من ذلك هو زيادة النفوذ الإيراني الشيعي في تلك الأماكن ، ولقد حققت إيران نتائج كبيرة فيما تتطلع إليه بسبب تلك المساعي التي بذلتها على مدار عشر سنوات (١) ، حقيقة إن ازدياد الشيعة في العراق بشكل عام لم يكن حادثة تاريخية ، لأن أهم سبب في زيادة عدد الشيعة في العراق هو تأثير سياسة التشيع الإيرانية التي طبقتها إيران في كل أرجاء العراق بواسطة المجتهدين والآخوند (المرشدين) (٢) ، وقد

__________________

(١) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١٢.a ,٨ Ca ٨٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٣ ,٤١ CA ٨٥٢١.

١٩٠

سعت إيران لاستخدام القصبات المقدسة وعلى رأسها كربلاء كقاعدة لها لتنفيذ سياستها هذه على أكمل وجه في كل أرجاء العراق. إن سياسة المركزية وعملية الاصلاحات التي سعت الحكومة العثمانية لتطبيقها في العراق أدت إلى ظهور ردود فعل من أهالي المنطقة ، فقد وجدت إيران المناخ مهيأ للاستمرار في نشاطات التشيع التي تقوم بها في المنطقة (١).

هذا بالإضافة إلى أن السياسات الخاطئة التي استخدمت في عهد ولاية علي رضا باشا كانت عاملا مؤثرا في ظهور حادثة كربلاء ، فقد قام علي رضا باشا بتضييق مجالات التحرك على العشائر الموجودة في العراق ليتمكن من جعلهم تحت سيطرته ، وقد شملت تلك الحركة العشائر التي تعيش بين الموصل وبغداد والتي كانت تثير المشاكل بشكل دائم في العراق ، وبسبب المساعي التي تمت في شمال العراق أهمل جنوب العراق ، وظهرت أحداث غير مرغوب فيها هناك ، وهنا بدأت إيران تسعى بشكل مكثف إلى تقوية نفوذها في النجف وكربلاء مستفيدة من الفراغ السياسي الذي حدث في جنوب العراق (٢).

وإذا ما أردنا أن نعطي نموذجا يظهر لنا مدى إهمال منطقة جنوب العراق في عهد ولاية علي رضا باشا ، نقول إنه قد غضّ الطرف عن الأحداث التي كان صافوق ابن الشيخ فارس الجربا شيخ عشيرة شمر سببا فيها ، والتي قام بها مستفيدا من حالة الفراغ السياسي الذي أحدثه الوالي في المنطقة ، وعندما تقرر عزل داود باشا وتعيين علي رضا باشا مكانه ، شعر علي رضا باشا بأنه في حاجة إلى جلب العشائر الموجودة في المنطقة لجانبه ، وبمجرد ما سمع الشيخ صافوق الذي كان موجودا في تلك الفترة في منطقة الجزيرة بمهمة علي رضا باشا ، جمع رجاله وهجم

__________________

(١) Hitti ,a.g.e.,II ,١٩٣.

(٢) BOA I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١٢.a.

١٩١

فجأة على بغداد ، ونهب قوافل تجار وزوار المقامات المقدسة في نواحي الحلة والنجف وكربلاء ثم عاد إلى الجزيرة مرة أخرى ، وبعد تلك الضربة التي قام بها صافوق تصرف بلين مع علي رضا باشا ، والتحق بجيش علي رضا باشا في صحراء نصيبين ، وبالرغم من أن علي رضا باشا كان يعلم بتلك الانحرافات التي قام بها صافوق ، إلا أنه وافق على ضمه إلى جانبه بسبب الظروف الموجودة في المنطقة ، وانصاع صافوق أيضا لأوامر علي رضا باشا وانضم لحملة بغداد (١).

لقد جعلت أحداث السرقة وقطع الطريق التي تمت في بغداد بشكل عام في بدايات القرن التاسع عشر أهالي كربلاء في حالة اضطراب دائم ، وهو ما جعلهم يرفضون تبعيتهم للدولة العثمانية ، وهناك أمر آخر أغضب أهالي كربلاء وهو التأخر في مجال الزراعة ، فبينما كانت كربلاء تنتج عشرة آلاف كيلة من الحبوب في عهد داود باشا آخر ولاة المماليك ، لم تتمكن من إنتاج نفس النسبة في ١٣ ـ ١٤ سنة الأخيرة ، وبعد ما كان أهالي كربلاء يقتربون من إيران بسبب المذهب فقط أصبحوا يفكرون في التخلي عن الحكم العثماني كلية بسبب سوء الحالة الاقتصادية (٢).

وهناك سبب آخر دعا لعدم استقرار الأمور في كربلاء وهو الأصول المتعبة التي طبقها علي رضا باشا في جمع الأعشار من الأهالي ، فبجانب الضرائب الباهظة التي كانت تجمع من الأهالي كان الملتزمون يتعاملون بقسوة مع الأهالي أثناء جمع تلك الضرائب إذا لم يحققوا شيئا زائدا للوالي وعلى هذا كانت تلك الضرائب سببا في نفور الأهالي من الإدارة. (٣)

تتكون أراضي كربلاء والسناجق المجاورة لها من الأراضي الخصبة

__________________

(١) el ـ Bustani ,a.g.e.,s.٥٩١.

(٢) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ٠٢.

(٣) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١١ ,٧٢ L ٨٥٢١.

١٩٢

التي تروى من نهر الفرات ، وكانت توجد ترع صغيرة تسمى (خرق) تعمل على تأمين وصول مياه نهر الفرات إلى كل الأراضي ، وكما هو معروف فإن القنوات المائية في بلاد العراق وغيرها تمثل أهم عنصر يوضح درجة وقيمة المقاطعات ، وكانت تلك الخروق المائية سببا في ظهور بعض النزاعات والصراعات للاستحواذ عليها ، وقد حدثت واحدة من تلك الصراعات على الخروق المائية بين سنجق الحلة وسنجق هندية الذي يعد أهم سناجق كربلاء من الناحية الاقتصادية ، فكان نهر الفرات يجرى بالقرب من سنجق الحلة ، ويوجد بالحلة ٢٠ مقاطعة تقريبا تمتد بها خروق مائية متصلة بنهر الفرات ، لذا ازداد الانتاج الزراعي بشكل كبير هناك ، ولشق قناة عملت على صبّ مياه النهر في سنجق هندية أصبحت الحلة بدون مياه ، وبالتالي اضطربت المقاطعات الموجودة بها ، الأمر الذي جعل أصحاب المقاطعات بالحلة يخبرون الوالي علي رضا باشا بالأمر ، إلا أن الوالي لم يفعل لهم شيئا في هذا الشأن ، وبالرغم من أنه يشغل منصب والي بغداد أكبر رتبة إدارية في المنطقة إلا أنه لم يتمكن من فعل أي شيء لأهالي الحلة وذلك لأن عشائر هندية أقوى بكثير من العشائر الموجودة في الحلة ، وبالتالي قلت الزراعة في الحلة التي ظلت بلا مياه وافتقر أهلها ، وأدى هذا التوتر الواقع بين عشائر هندية والحلة إلى فساد الاستقرار في المنطقة من كافة الوجوه ، وبالطبع كانت تلك الأحداث والتطورات الكائنة في المنطقة سببا في تكوين رأي عام سلبي ضد الدولة (١).

حقيقة الأمر أن التطورات التي أدت إلى حادثة كربلاء لم تكن من داخل سنجق كربلاء فحسب بل من خارج السنجق أيضا ، وكانت إيران تتدخل في التغييرات الإدارية التي لم تستصوبها في بغداد بصفة عامة ؛ وكان هذا سببا في زيادة التوتر الكائن في المنطقة ، وفي الوقت الذي

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٢ ,٨ Ca ٨٥٢١.

١٩٣

وجب فيه على والي بغداد عزل مير ميران أحمد باشا متصرف سنجق بابان بموجب الاتفاقية الموقعة بين الباب العالي وإيران لم يعزل المتصرف المذكور ، وكان هذا أيضا سببا في حدوث ردّ فعل لإيران ، وزادت تلك الحادثة من التوتر الكائن بين الدولتين العثمانية والإيرانية (١).

ومن النقاط الأخرى التي أقلقت إيران التنظيمات الجديدة المتعلقة بالتجار والزوار القادمين إلى بغداد ، فقبل تعيين نجيب باشا واليا على بغداد (١٨٤٢ ـ ١٨٤٧ م) بعد علي رضا باشا كان يتولى جمع الضرائب من الإيرانيين المتسلمين ذوي الأصول الإيرانية والتابعين للدولة العثمانية ، أما في عهد ولاية نجيب باشا عهد بتلك المهمة إلى المتسلمين المحليين أي من ليسوا ذوي أصول إيرانية ، وبالرغم من أن هذا الإجراء لم يعجب الزوار والتجار الإيرانيين إلا أنه كان إجراء ضروريّا يجب على الدولة العثمانية اتخاذه لتحقيق مركزية الإدارة ، وقد طبق نجيب باشا إجراء جديدا مشابها لهذا الإجراء في البصرة وحقق نجاحا كبيرا (٢) ، فقد تمكن بهرام أغا الذي عين متسلما على البصرة من إقناع الزوار والتجار بتطبيق هذا النظام الجديد ، حتى إنه تقرر منحه وساما وإحسانا سلطانيّا هو وشاكر بك لنجاحهما في هذه المهمة (٣) ، إلا أن نجيب باشا لم يتمكن من إيجاد متسلمين ناجحين بهذا القدر في سنجق كربلاء ، ولذا ظهرت ردود فعل واسعة النطاق عند تطبيق هذا النظام الجديد ، وأصبحت تلك المسألة بمثابة المشكلة الجديدة في المنطقة.

أرسلت الحكومة العثمانية محمد نامق أفندي إلى بغداد ليبحث حادثة كربلاء ، وقام محمد نامق أفندي بالتفتيش في كربلاء ، وأخبر

__________________

(١) BOA, I. MSM ٢٣٨١, Lef : ٥, ٠١ Ca ٨٥٢١. El ـ Bustani, a. g. e., s. ٣٨٢.

(٢) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٣ ,٤١ Ca ٨٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ٤ ,٤١ Ca ٨٥٢١.

١٩٤

الحكومة المركزية بأسباب الحادثة والنتائج التي ترتبت عليها ، وطبقا لما ذكره محمد نامق يتضح أن السياسة التي انتهجها نجيب باشا في المنطقة والهادفة إلى تغيير الإدارة الرخوة لسلفه علي رضا باشا وعدم السماح بأيّ عمل قد يخلّ بأمن المنطقة أدت إلى ميل الأهالي للثورة (١).

كانت توجد عدة أسباب أخرى بخلاف تلك الأحداث الظاهرية التي تسببت في ظهور حادثة كربلاء وأولها : جهود تطبيق التنظيمات ، وثانيها : عدم رغبة الدولة العثمانية في أن تعيش مشكلة أخرى مثل مشكلة مصر ، فقد نظرت الدولة العثمانية إلى الفترات الصعبة التي قضتها أثناء مسألة مصر ولذا تمسكت بشدة بتحقيق الإدارة المركزية في بغداد وكربلاء.

فقد كانت مصر تدار كولاية من الولايات العثمانية منذ فتحها وحتى عام ١٨٤١ م ، وكان يرسل لها الباشاوات لإدارتها ، وكان ينبه عليهم بأن وظيفتهم هناك تتمثل في تحقيق الأمن ، والحفاظ على طاعة أمراء المماليك للدولة ، وإرسال الضريبة السنوية كل عام للباب العالي ، ولهذا لم يفكر الولاة في القيام بأعمال كبرى للنهوض بالولاية ، ولأن هؤلاء أرسلوا إلى مصر لفترة مؤقتة ولوجودهم كأجانب في تلك الولاية لم يقوموا بتلك المساعي ، أما محمد علي باشا فبالرغم من أنه قضى على حكم المماليك في مصر ، وتصرف بشكل يخالف رغبة الباب العالي وعمل واليا على مصر لفترة طويلة ، تمكن خلالها من عمل تنظيمات وأعمالا كبرى ناجحة ، إلا أن مصر حافظت على وضعها القانوني كولاية تابعة للدولة العثمانية حتى فرمان عام ١٨٤١ م الذي جعل إدارة مصر شبه مستقلة في القانون الدولي وانتقلت إدارة مصر الفعلية بعد ذلك إلى أسرة محمد على باشا (٢).

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ٢ ,٩١ Ra ٩٥٢١.

(٢) Enver Ziya Karal, Osmanli Tarihi, Ankara ٠٠٠٢, VI, ٥٨.

١٩٥

وقد تركت تلك الحادثة آثارا عميقة على الدولة وأول تلك الآثار أن الدولة أيقنت أنها أصبحت في حالة من الضعف بحيث لا يمكنها السيطرة على أحد ولاتها بدون مساعدة أجنبية ، لذا كان يجب على الدولة أن تتخذ كل الإجراءات اللازمة حتى لا تتكرر تلك الأحداث مرة أخرى ، وعلى هذا كان يجب على الدولة العثمانية تنفيذ مفهوم المركزية الحديثة التي ارتفعت في الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر ، ولذا فهم أنه يجب السيطرة بسرعة على الإداريين الذين يعملون بمفهوم عدم المركزية لتجنب ذلك في المستقبل ، وقد تبلورت كل تلك المفاهيم السياسية الجديدة في الدولة العثمانية في إعلان خط كلخانه الهمايوني في ٣ نوفمبر ١٨٣٩ م (١).

ونعود إلى أسباب حادثة كربلاء فنقول إن أهم أسبابها كان السياسة الرخوة لعلي رضا باشا الذي عين واليا على بغداد من جانب الحكومة المركزية بعد انهيار حكم المماليك فيها ، فكان من الطبيعي أن ينتهج علي رضا باشا تلك السياسة حتى يتمكن من الوقوف أمام أية معارضة قد تظهر أمام تنفيذ التنظيمات ، وكانت المشكلة المصرية التي تحدثنا عنها قبل قليل سببا في انتهاج نجيب باشا الذي عين واليا على بغداد عام ١٨٤٣ م تلك السياسة الجامدة كي لا تهتزّ السلطة المركزية هناك.

بعد الأحداث التي قامت بها العشائر قام نجيب باشا بعمل بعض الاستعدادات العسكرية قبل تحرك القوات العثمانية إلى كربلاء ، وكان أول ما قام به في هذا الشأن هو إيقاف نشاطات جمع الجنود والمهمات العسكرية من بعض المناطق التي احتلها الثوار في كربلاء منذ فترة ، أما العمل الثاني الذي قام به فهو : تقديم المساعدات المادية والمعنوية

__________________

(١) Gultekin Yildiz, Osmanli Devleti\'nde Hapisane Reformu) ٩٣٨١ ـ ٨٠٩١ (,) Yayimlan ـ mamls Yuksek Lisans Tezi (, Turkiyat Arastimalari Enstitusu, Istanbul ٣٠٠٢, s. ٣.

١٩٦

لأهالي المنطقة بهدف تشجيع الجنود الموجودين بها ، وكانت نتيجة ذلك أنه منع وصول المهمات للثوار (١).

أرسل نجيب باشا تقريرا إلى الحكومة طلب منها إرسال العمال الذين لديهم خبرة في عمل البارود واستخدام المدافع وغيرها من الآلات الحربية إلى بغداد وعمل قواعد للمدافع اللازمة للتحصينات وذلك من أجل الحركة التي سيقوم بها في كربلاء ، وقد أوضح في تقريره أيضا أن الجنود الستمائة الموجودين في لواء المدفعية في بغداد غير مدربين بالشكل اللائق ، ولهذا فإنهم لم يتمكنوا من استخدام عربات المدافع بمهارة ، وبناء عليه طلب من الحكومة إرسال مدفعجي له خبرة في استخدام المدافع ذات الأصول البروسية وخبير ماهر في صنع البارود ونجار متخصص في صنع قواعد المدافع (٢).

أما الاستعدادات الهامة الأخرى التي قام بها فتتمثل في العمل على منع موت الأهالي في الصراعات التي ستدور ، وفي الوقت الذي كان يتخذ فيه تلك الإجراءات أرسل رسالة إلى القنصل الإيراني في كربلاء عبد العزيز ميرزا يخبره بضرورة إخراج الرعايا الإيرانيين من المدينة حتى لا يتعرضوا لخسائر بشرية أو مالية وذلك منعا لحدوث مشكلة سياسية بين الدولتين ، وقد أخبرت الحكومة العثمانية في هذا الخطاب بأنها ستضمن خروج الرعايا الإيرانيين من القلعة بشكل آمن ، وطلبت من إيران الدعم في هذا الأمر ، إلا أن القنصل الإيراني أوضح أنه ليست هناك ضرورة لإخراج الأهالي ولم يتورع عن استخدامهم كأداة لتحقيق آماله السياسية ، وهذا ما يفهم من الرسالة التي أرسلها قنصل إيران إلى والي بغداد (٣) وتتلخص تلك الرسالة فيما يلي :

__________________

(١) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١ ,٤١ Ca ٨٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ٣ ,٤١ Ca ٨٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١٢.b ٨ Ca ٨٥٢١.

١٩٧

«لقد اطلعنا على رسالتكم التي أرسلتموها لنا والتي طلبتم فيها خروج الإيرانيين من هذا المكان وتوطينهم في أي مكان آخر بسبب الاضطرابات التي سببوها في كربلاء ، ولو اتخذ العثمانيون التدابير الجيدة في موضوع الاصلاحات لتمّ عقاب المذنبين من الأهالي بطريقة مباشرة ، فالأناسي الموجودون هنا من فرق مختلفة وكلهم من الأراذل مجهولي الأوصاف ولهذا اتحدوا سويّا في فترة قصيرة ، ولو اتخذتم التدابير لإصلاح أمر كربلاء فسيرفعون السلاح ، وإن شاء الله لن يدخل العجم في الحركة التي ستقوم بها الدولة العثمانية ، ولو اتخذت الدولة العثمانية تدبيرا بإخراجهم من المدينة لكونهم مختلفين سيكون هذا الأمر سببا دائما في الحرب والحصار ولو أنني قلت للإيرانيين الموجودين في المدينة «اخرجوا من كربلاء وخذوا كل أموالكم واذهبوا إلى حيث يأمركم الجيش العثماني أو إلى أي مكان آخر في كربلاء سيجوعون ويقعون في فقر دائم خلال تلك الفترة ...» (١)

وكما هو واضح فقد سعت إيران لجعل الإيرانيين الموجودين في كربلاء يلعبون دورا فعالا في تلك الأحداث التي ستحدث كي تحقق مصالحها بدلا من حمايتهم ، وفي تلك الأثناء كان الثوار قد احتلوا مدينة كربلاء بأكملها ، وبنوا الاستحكامات في قلعتها وأغلقوا باب القلعة ، وأعاقوا دخول الجنود العثمانيين إليها.

وبعدما أكمل نجيب باشا الاستعدادات اللازمة أمر بتحرك الجنود العثمانيين لدخول كربلاء في ٢٤ أكتوبر ١٨٤٢ م الموافق ١٩ رمضان ١٢٥٨ ه‍ ، وكانت المهمة الأولى للجنود هي توفير الأمن لأعمال تحويل مياه هندية إلى الحلة ، وقد ذكرنا قبل ذلك أن أهالي هندية جعلوا مياه نهر الفرات التي تسقي سنجق الحلة تتجة إلى هندية بدلا من توجهها إلى

__________________

(١) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ٧١.

١٩٨

الحلة ، الأمر الذي جعل الأهالي يتربصون ببعضهم البعض ، ولهذا اضطر الجنود للدخول إلى كربلاء ، إلا أن الجنود لم يتمكنوا من الدخول إليها بسبب ظهور ردود فعل قوية داخلها ضد الجند ، ولأن القوات العثمانية كانت تتوقع حدوث هذا سعت في بادىء الأمر لإخراج الزوار والتجار الإيرانيين منها حتى لا يمسهم سوء من جراء الاقتحام الذي سيقومون به (١).

وكان أول تحرك عسكري يهدف لإخماد الثورة في كربلاء بقيادة سعد الله باشا في ٢١ نوفمبر ١٨٤٢ م ، ولم يسفر هذا الهجوم الأول عن أية نتيجة لعدم تمكنه من تثبيت المدافع بالشكل المطلوب ، وبذلك لم يتمكن من دخول القلعة ، الأمر الذي جعل نجيب باشا يقود الحركة بنفسه حتى يقضي على حالة اليأس التي بدأت تحل بالجنود ، وتمكن نجيب باشا من تثبيت المدافع لفتح ثغرة عند باب بغداد في قلعة كربلاء ، ثم وضعت السلالم للدخول إلى القلعة في ٢٣ ديسمبر ١٨٤٢ م ، وبالرغم من تطبيق القوات العثمانية لتلك الخطة دون أدنى تقصير إلا أنها لم تتمكن من دخول القلعة في وقت قصير ، وأرسل الفريق محمد صادق باشا بجنوده إلى كربلاء لتدارك الموقف حتى لا يفقد الجنود صبرهم وأملهم في نجاح الحركة ، وحتى لا تحدث أحداث خطيرة (٢) ، وبعد ما جددت القوات العثمانية نشاطاتها بتلك القوات الإضافية التي أتت إليها تمكنت من الدخول إلى القلعة صباح يوم الخامس عشر من شهر يناير لعام ١٨٤٢ م ، وتم القبض على كل العصاة الموجودين فيها (٣).

وأثناء الحركة العسكرية في كربلاء احتمت مجموعة كبيرة من

__________________

(١) BOA ,I.MSM ١٣٨١ ,Lef : ١١ ,٧٢ L ٨٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ١.

(٣) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٤ ,٠١ C ٨٥٢١.

١٩٩

النساء والأطفال بمسجد الإمام الحسين ومسجد الإمام العباس ، ولأن بعض الثوار تمكنوا من الاختفاء داخل هؤلاء النساء والأطفال كان من الصعب الإمساك بهم ، وكلف سعد الله باشا بضريح الإمام العباس ، وكلف حمدي باشا بضريح الإمام الحسين لوضع هؤلاء الأهالي الموجودين داخل الأضرحة تحت السيطرة ، وتمكن حمدي باشا من إخراج الأهالي من ضريح الإمام الحسين بسهولة ويسر دون أية مشاكل ، أما إخراج الأهالي من ضريح الإمام العباس فلم يتم بتلك السهولة ، وبالرغم من أن الجنود دخلوا قلعة كربلاء ووضعوها تحت السيطرة ، إلا أنهم لم يتمكنوا من إخراج مجموعة الثوار الموجودين بضريح الإمام العباس ، لذا نبهت القوات العثمانية على الزوار الموجودين بالضريح بضرورة الخروج من الضريح حتى يتم تأمينه جيدا ، إلا أنهم لم يلتفتوا لهذا التنبيه ، الأمر الذي جعل القوات العثمانية تخبرهم بأنها ستضطر لاستعمال القوة إذا ما أصروا على بقائهم داخل الضريح (١) ، وقد قاوم بعض الثوار المختبئين داخل ضريح الإمام العباس القوات العثمانية ، وقتلوا سبعة من الجنود ، فردت القوات العثمانية عليهم ردّا عنيفا ، وقتل في تلك الأثناء العديد من الأشخاص الأبرياء الذين كانوا داخل الضريح (٢).

لم يقصر نجيب باشا في اتخاذ التدابير اللازمة بعد ما أتمّ حركته العسكرية في كربلاء ، فعمل على استمرار تقوية المنطقة من الناحية العسكرية ، ولعل السبب في ذلك هو رد إيران بعنف على تلك الحركة ، لذا سعى نجيب باشا لجلب قوات الأرناؤط الموجودة في حلب وطلب من الحكومة إرسال ١٢٠٠ جندي إلى بغداد ، ونفقات تقدر ب (٣٢٠٠)

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٦ ,٤١ C ٨٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٢٣٨١ ,Lef : ٤ ,I.MSM ٠٤٨١ ,Lef : ٧١.

٢٠٠