كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

قرش (١) ، وبخلاف ذلك طلب نجيب باشا من والي أرضروم الإمدادات العسكرية من مدافع وجند (٢) ، ونظرا لأن الأحداث انتهت قبل جمع تلك الجنود صرف النظر عن جمعها.

٤ ـ تأثير حادثة كربلاء على العلاقات العثمانية ـ الإيرانية

١ ـ المساعي الدبلوماسية وخطط إيران للحرب

لفتت حادثة كربلاء انتباه إيران وروسيا وإنجلترا ، فطلبت الدول الثلاث عقد مباحثات مع الدولة العثمانية للوقوف بشكل صحيح على أسباب الحادثة ونتائجها ، وطلبت إنجلترا وروسيا من الدولة العثمانية إخبارهما بخطط التحركات العسكرية الضرورية في نظرها والتي ستقوم بها الدولة العثمانية بعد ذلك (٣).

وكانت وفاة نوري أفندي مفوض إيران لدى الدولة العثمانية في ١ مارس ١٨٤٣ م سببا في تأجيل المباحثات الدولية المخطط عقدها لمناقشة الأمر (٤) ، وتم تعيين ميرزا جعفر خان مفوضا لإيران بشكل مؤقت خلفا لنوري أفندي (٥) ، ولم يكن ميرزا جعفر خان مفوضا عامّا ، بل كلف بتلك المهمة للاشتراك في المباحثات التي ستتم مع روسيا وإنجلترا وإيران فقط (٦).

وتأخرت المباحثات مرة أخرى بسبب مرض ميرزا جعفر خان أثناء

__________________

(١) BOA ,I.MSMS ٣٣٨١ ,Lef : ٢ ,٠١ M ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSMS ٣٣٨١ ,Lef : ١١ ,١ S ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSMS ٣٣٨١ ,Lef : ١ ,٧ S ٩٥٢١.

(٤) BOA, I. MSM ٣٣٨١, Lef : ٧.; BOA, I. MSM ٣٣٨١, Lef : ٩ ـ ٠١, ١ S ٩٥٢١.

(٥) BOA, I. MSM ٣٣٨١, Lef : ٣, ٤ Ca ٨٥٢١; I. MSM ٣٣٨١, Lef : ٨, ٩٢ Ca ٨٥٢١.

(٦) BOA ,I.MSM ٣٣٨١ ,Lef : ٤ ,٩١ M ٩٥٢١.

٢٠١

قدومه من تبريز إلى أرضروم ، وبينما كان هذا التأخير يقلق سفيري روسيا وإنجلترا أعطى المفوضين العثمانيين الوقت اللازم لتخفيف الضغط الدبلوماسي الواقع عليهم.

وفي تلك الأثناء ظهرت شائعات في تبريز بأنه قد تم قتل ما يقرب من ثمانية آلاف شخص أثناء إخماد ثورة كربلاء ، وقامت الحكومة العثمانية بتكذيب تلك الأخبار على الفور (١).

وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه إيران لنشر الأكاذيب والشائعات عن حادثة كربلاء بما يتفق مع مصالحها أوضحت الدولة العثمانية أن إيران هي السبب الرئيسي في حادثة كربلاء ، وقد كانت نتائج تلك الثورة تهم الدولة العثمانية فقط في بادىء الأمر ، ولكنها بعد ذلك بدأت تأخذ أبعادا دولية ، حيث بدأت الدول الكبرى تهتم بها ؛ ولهذا أرسلت الدولة العثمانية الموظفين السريين إلى المنطقة للوقوف على النشاط الإيراني في كربلاء ، بخلاف هذا اتخذت الإجراءات لمنع وصول الرعايا الإيرانيين الموجودين في المنطقة إلى حالة الغليان (٢).

وكان نجيب باشا هو أول من أعطى معلومات لروسيا وإنجلترا تتعلق بحادثة كربلاء ، ثم زعمت إنجلترا وروسيا بأنهما قد تأكدتا من أن الحادثة ليست كما شرح نجيب باشا بناء على المعلومات التي وصلتهم ، وأنه قد حدثت انحرافات وأعمال غير لائقة ، وبناء عليه يجب على الدولة العثمانية عزل نجيب باشا من منصبه وتعيين مرخص ذي خبرة كبيرة خلفا لنوري أفندي الذي توفي وذلك حتى لا يزيد التوتر بين الدولة العلية وإيران (٣).

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٣٣٨١ ,Lef : ٥.

(٢) BOA ,I.MSM ٣٣٨١ ,Lef : ٦ ,١ S ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٣٣٨١ ,Lef : ٢١.

٢٠٢

وبناء على تلك الضغوط التي قامت بها الدول الأوروبية ، اقترح نجيب باشا على الحكومة العثمانية تعيين أنوري أفندي عضو مجلس الأحكام العدلية مفوضا لدى إيران خلفا لنوري أفندي الذي وافته المنية ، وقد رأت الحكومة أن أنوري أفندي هذا هو خير من يصلح لتلك الوظيفة نظرا لوقوفه الجيد على مسألة الحدود الإيرانية والموضوعات المختلفة التي تتعلق بإيران ، وكان نجيب باشا يعلم أن إيران ستعمل على إظهار مشكلة سنجقي زهاب والمحمرة بعد حادثة كربلاء ، وأنها ستسعى للاستيلاء على السنجقين التابعين للدولة العثمانية ، هذا بالإضافة إلى التباحث من جديد في بعض المشكلات التي لم تحلّ من قبل والتي تتعلق بالرعايا الإيرانيين والأماكن المقدسة الموجودة في بغداد ومشكلات الحدود في وان وأرضروم ، ولأن نجيب باشا كان يعلم ذلك جيدا طلب من الحكومة إرسال أنوري أفندي ومعه اثنان من الموظفين الواقفين على الموضوع جيدا إلى المنطقة ووافقت الحكومة على طلبه (١).

كلفت الحكومة العثمانية نامق باشا ببحث حادثة كربلاء ١ أبريل ١٨٤٣ م ، كما استدعت إلى استانبول سعد الله باشا لأخذ أقواله في نفس الحادثة ، وذلك لأنه كان يعد المسؤول الثاني في حادثة كربلاء بعد نجيب باشا ، وقد خرج نامق باشا من استانبول متجها إلى بغداد في ٢ أبريل ١٨٤٣ م في نفس اليوم الذي توجه فيه سعد الله باشا من بغداد إلى استانبول ، وتقابل الاثنان في الطريق وناقش نامق باشا سعد الله باشا في حادثة كربلاء ، وبذلك يتضح أن نامق باشا قد بدأ مهام وظيفته المكلف بها قبل وصوله إلى كربلاء ، ولقد حصل نامق باشا على معلومات هامة من سعد الله باشا ، كما كتب سعد الله باشا تقريرا بتفاصيل الحادثة وقدمه إلى نامق باشا ، ولأن هذا التقرير كان في غاية الأهمية رأى نامق باشا

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ٤ ,٩١ Ra ٩٥٢١.

٢٠٣

ضرورة إرساله بسرعة إلى استانبول وطلب من والي الموصل أن يرسله بواسطة رجال البريد العالمين عنده (١) ، ولما رأت الحكومة أن التقرير والمعلومات التي أدلى بها سعد الله باشا وأرسلها نامق باشا صحيحة قررت استخدام تلك المعلومات في المباحثات التي ستتمّ بعد ذلك (٢).

وقد كشفت الدراسات الأولى التي قام بها نامق باشا في بغداد عن أن السبب الرئيسي في تلك الحادثة هو الفجوة السياسية التي حدثت في عهد علي رضا باشا والي بغداد السابق ، وسعى نجيب باشا لسدّ تلك الفجوة وتقوية الإدارة المركزية في المنطقة ، وها هي المعلومات التي حصل عليها محمد نامق باشا بخصوص حادثة كربلاء أثناء وجوده في بغداد : «أثناء دخول سعد الله باشا والفريق محمد باشا قلعة كربلاء قاموا بالتنبيه على الجنود الموجودين في معيتهم بألا ينهبوا أية أموال أو متعلقات ، وبالرغم من ذلك قام بعض الجند بالاستيلاء على بعض المتعلقات والأموال ، إلا أن الباشاوات المذكورين عرفوا بالأمر وأعادوا تلك الأموال لأصحابها ، وقد قتل ٥٠٠ شخص أثناء اقتحام القلعة ، ولكن ثبت أن قتلهم لم يكن بالرصاص أو النار ، أما الثوار المقبوض عليهم في الحادثة فلم يتم قتلهم ، بل تمّ استجواب ٥٠ ـ ٦٠ شخصا منهم ، ثم أرسلوا إلى بغداد لمحاكمتهم» (٣).

لم يجد نامق باشا المعلومات التي حصل عليها من بغداد كافية ، فقرر الذهاب إلى قصبة كربلاء ، ولكن قبل ذهابه إلى هناك كانت روسيا وإنجلترا قد كلفتا ضابطا ببحث الموضوع ، فقام هذا الضابط بعمل تحريات عن الحادثة لمدة خمسة عشر يوما ، وناقش نتائجها مع نامق باشا

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٤٣٨١ ,Lef : ٢ ,٢ Ra ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٤٣٨١ ,Lef : ٣ ,٣٢ Ra ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ٢ / a ,٩١ Ra ٩٥٢١.

٢٠٤

الذي قدم إلى المنطقة ، وعلى حسب ما ذكره هذا الضابط المكلف من جانب روسيا وإنجلترا فإنه قد تمّ قتل الأهالي في كربلاء ، وأغمض الباشاوات أعينهم عن نهب الجنود لأموال الأهالي ، ثم قيّمت تلك المعلومات والنتائج من قبل نجيب باشا والقنصل الفرنسي.

كان نامق باشا يعلم أن إخماد الثوار الموجودين في كربلاء أمر ضروري لتأمين سلطة الدولة هناك ، ويجب تجاوز هذا الأمر بأقل خسائر من الأهالي والدولة ، ولأن الدولة العثمانية كانت تقف على هذا الموضوع جيدا أرسلت رسالة إلى القنصل الإيراني في المنطقة وطلبت منه أن ينبه على الأهالي بأن يخرجوا من كربلاء حتى لا يتعرضوا للضرر ، وبالرغم من كل ذلك وقعت بعض الأحداث غير المرغوبة ، وسعت كل من إيران وروسيا وإنجلترا لترويج الشائعات والأخبار الكاذبة عن الحادثة من أجل مصالحهم فقط.

كما وجهت الدول الثلاث اتهامات تتعلق بشكل ونتائج عملية نجيب باشا ، إلا أنه رد على تلك الاتهامات التي وجهوها له كما يلي :

«الاتهام الأول : قيامه بقتل وإعدام ما يقرب من ستة آلاف شخص من الرعايا الإيرانيين أثناء السيطرة على قصبة كربلاء ، فردّ نجيب باشا بما يلي :

«لم يتمكن الجنود العثمانيون أثناء حصار كربلاء إلا من السيطرة على باب واحد من أبواب قلعة كربلاء أما بقية الأبواب الخمسة فكانت تحت سيطرة الموجودين في كربلاء ، لذا كان يمكنهم الدخول والخروج من القصبة وقتما شاءوا ، وقد علمنا من مصادرنا السرية بأنهم نقلوا كل متعلقاتهم الهامة وغير الهامة إلى الأماكن التي يريدونها».

ويخمن أن عددا من المنضمين للحرب كان يتراوح بين خمسة وستة آلاف شخص ، وقصبة كربلاء عبارة عن (٣٤٠٠) منزل ، أما عدد سكانها

٢٠٥

فيبلغ (١٣٦٠٠) نسمة ، وإذا ما أخرجنا منهم النساء والأطفال سيتضح لنا أن عدد الرجال الذين سينضمون للقتال سيبلغ (٤٥٠٠) شخص على الأكثر ، وإذا ما افترضنا قدوم ألفين او ثلاثة آلاف من العربان لمساعدتهم في الحرب فإن عددهم سيتراوح حينئذ من ستة إلى سبعة آلاف شخص ، واحتمال قتل ستة آلاف شخص من الثوار البالغ عددهم سبعة آلاف على الأكثر احتمال بعيد جدّا ، فعندما شعر الثوار بالهزيمة فرّ معظمهم من الأبواب الخمسة للقصبة ، كما أن الجنود المرسلة من الموصل بعد يومين أو ثلاثة من السيطرة على القلعة لم تصادف هذا الكمّ المزعوم من الجثث ، وحتى لو افترضنا صحة هذا الادعاء بأنه تمّ قتل (٦٠٠٠) شخص فإننا نقول إنهم لم يكونوا من الأهالي الأبرياء بل كانوا من الثوار الذين خرجوا على الدولة وحاربوا القوات العثمانية ، ثم أضاف نجيب باشا قائلا : «ويا ترى ما الأسباب التي استندت إليها فرنسا في قتل الأبرياء عندما دخلت الجزائر؟ ، وما الأسباب التي استندت عليها إنجلترا في قتل الأبرياء عندما دخلت الهند وأفغانستان؟ ويا ترى هل قابل الأهالي في تلك المناطق إنجلترا وفرنسا دون أن يظهروا ضدّهم أي رد فعل؟ ثم أوضح بعد ذلك أن ظهور ردود أفعال وقتلى تجاه التنظيمات التي تمت في المنطقة لمصالح الدولة أمر لا مفرّ منه ، وذكّر بأن إنجلترا وفرنسا تعرضتا لنفس الأوضاع أيضا.

أما الاتهام الثاني : فكان بخصوص نهب أموال وممتلكات الأماكن المقدسة في قصبة كربلاء ، وقد اعترض نجيب باشا على هذا الاتهام وردّ عليه بما يلي :

«إن السلب الذي تتحدثون عنه كان عبارة عن أشياء صغيرة مثل الكليم والألحفة والأرائك وسيوف من قتل من الثوار ، وقد أمر الفريق حمدي باشا بجمع كل تلك الأشياء ثم أمر بنقلها إلى كربلاء مرة أخرى وبالجهود التي قام بها المتسلم رشيد بك ونائبه وزعت تلك الأشياء على

٢٠٦

أصحابها مرة أخرى ، كما قام الموظفون الموجودون في قرية المسيب بتسجيل دفتر عن الأشياء التي نهبها الفارون وأرسلوه إلى كربلاء.»

أما الاتهام الثالث : فكان بخصوص ترحيل ما يزيد عن ثلاثين شخصا من قصبة كربلاء إلى بغداد تمهيدا لإعدامهم ، فردّ نجيب باشا بتلك المعلومات عن أسباب ونتائج إلقائه القبض على بعض الأشخاص وإرسالهم إلى بغداد فقال :

«أثناء عملية كربلاء تم القبض على خمسين أو ستين شخصا وأرسلوا إلى بغداد ، وتمّ القبض على ثلاثة منهم فقط وإطلاق سراح الباقين بأمر من السلطان ، ولورود معلومات بأن هؤلاء الثلاثة هم زعماء تلك الثورة فقد أرسلوا إلى استانبول ، وبخلاف هذا كنا قد قبضنا على شخص أو شخصين من كل عشيرة من العشائر المقيمة في هندية وما حولها لاحتمال مساعدتهم للثوار في كربلاء ، وهو تصرف تم لإرهاب العشائر وضمان عدم اشتراكهم في الثورة ، وبعد انتهاء الحرب أطلق سراحهم جميعا.»

أما الاتهام الرابع : وهو اتهام ظالم نسبيّا ، وهو بخصوص قيام سعد الله باشا ومن معه بقتل الأهالي الذين احتموا بضريح الإمام الحسين والقبور الأخرى ، وكان رد والي بغداد على هذا الاتهام كما يلي :

«أثناء القتال كلّف سعد الله باشا بحراسة ضريح الإمام العباس ، وكلّف الفريق حمدي باشا بحراسة ضريح الإمام الحسين ، كما كلّف هؤلاء الباشاوات وبعض الجنود لحراسة بعض كبار رجال كربلاء أمثال علي شاه والسيد كاظم أفندي ، وفي تلك الأثناء احتمى بعض الثوار بضريح الإمام العباس وقاوموا قوات سعد الله باشا وقتلوا ثمانية جنود عثمانيين ، وحتى لا يخسر سعد الله باشا جنودا أكثر أمر جنوده بالتصدّي لهؤلاء الثوار الموجودين في الضريح ، وقتل في تلك الأثناء بعض الأبرياء من الأهالي الذين كانوا داخل الضريح أيضا ، ولو كانت هناك نية لقتل

٢٠٧

الأبرياء المحتمين بالأضرحة لقام حمدي باشا بقتل الأهالي الموجودين بضريح الإمام الحسين ، ولكنه لم يفعل ذلك بل إنه لم يمس أيّ شخص منهم بأيّ أذى».

الاتهام الخامس : وكان بخصوص إرسال الجنود الأرناؤوط الموجودين في الموصل إلى كربلاء واشتراكهم في النهب والسلب الذي قام بها الجنود العثمانيون ، فردّ نجيب باشا على هذا الاتهام بما يلي :

«لقد طلبنا جنودا من الموصل لتكون قوات احتياطية ، ولكن انتهت الحركة العسكرية في كربلاء قبل وصول الجنود البالغ عددهم ١٢٠٠ جندي ، وقد وصل معظهم إلى كركوك بعد انتهاء الحرب وعاد معظمهم إلى الموصل ، وأتى قائد تلك الجنود مع عدد من الجنود إلى بغداد بناء على أمر والي الموصل ، أما الجند القادمون بطريق النهر فقد انضموا إلى القوات العثمانية الموجودة في هندية ، ولأن هؤلاء الجنود كانوا بكتاشيين فقد طلبوا زيارة النجف وكربلاء ، وسمح لهم والي بغداد بذلك ، وبعد أداء الجنود للزيارة انضموا للجنود الموجودين في بغداد ثم عادوا إلى الموصل.»

أما الاتهام السادس والأخير الذي وجه لنجيب باشا فكان بخصوص تحقير الإيرانيين والشيعة الموجودين في كربلاء هذا الأمر الذي كان سببا في ظهور تلك الأحداث ، فردّ عليهم نجيب باشا بهذا الجواب المطول :

«إن الأعمال التي تمت في كربلاء والحادثة التي تمت بها كانت عبارة عن تجديد لكل حقوق الدولة العلية هناك ، فكانت إيران هي العقبة الرئيسية أمام هذا الأمر وكانت تستخدم الشيعة الموجودين في كربلاء لتقوية نفوذها هناك ، ولو أنني أفكر في مصلحتي ولا أفكر في مصلحة الدولة ، لتركت القصبة على حالها مقابل ألف كيس من المال ، أما بالنسبة لدعوى المذهبية والدين فأنا لست مكلفا من قبل الدولة بالتصريح بأي شيء عن الدين أو المذاهب ، فمال كل العناصر الموجودة فيها هو

٢٠٨

مالنا وأرواحهم أرواحنا ، لذا لم أمنع قط أي عنصر يعيش في الدولة من أداء طقوسه وشعائره طالما أنه لا يخل بنظام وأمن الدولة ، وعلى الرغم من ذلك لو وجد شخص واحد يثبت بأن حركة كربلاء التي قمت بها كانت لها علاقة بالأهالي فأنا على استعداد تام للمحاكمة والعقاب.»

«وليعلم كل من يرى أن إرسالي الخطباء إلى كربلاء كان له هدف ، فإن هذا تصرف طبيعي يطبق في كل الممالك الإسلامية ، لأن ذكر اسم سلطان الإسلام في خطب الجمعة واجب في كل المساجد حتى ولو في قرية بها منزلان فقط ، ولهذا عين خطيب في كربلاء ، وبالرغم من ذلك لم يجبر أي فرد قط هنا على أداء صلاة الجمعة ، أما إن كان ذكر الخلفاء الأربعة في المساجد اتهاما فيجب توجيه هذا الاتهام للعلماء وليس لي ، لأنني أنفذ أوامر السلطان ومقترحات العلماء ، وخلاصة القول إن موضوع كربلاء لم يهدف التحرك ضد مذهب ما ، بل كان عبارة عن مجموعة من التدابير السياسية التي يجب تطبيقها.» (١)

بعد حادثة كربلاء انتشرت بعض الأخبار بأن إيران ستسوق الجنود إلى الحدود الشرقية للدولة العثمانية وإلى بغداد ، وأفادت المباحثات التي قام بها بهلول أفندي متصرف بايزيد مع سفيري إنجلترا وروسيا في أرضروم أن إيران لم تقم بتلك الاستعدادات ، هذا بالإضافة إلى أن سفيري إنجلترا وروسيا قاما بالتنبيه على الدولة العثمانية وإيران بعدم القيام بأية استعدادات للهجوم على بعضهما البعض ، أما المعلومات التي وردت في الرسالة السرية التي أرسلها علي نامق أفندي القنصل العثماني الموجود في شيراز فتقول : إن إيران تقوم بعمل مساع لجمع الجنود وإرسال المدافع من طهران إلى تبريز ، وأوضح علي نامق أفندي في رسالته أيضا أنه من الأنسب انتظار المعلومات التي سيأتي بها أنوري

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٠٤٨١ ,Lef : ٧١.

٢٠٩

أفندي المفوض العثماني عند إيران الذي سيصل إلى أرضروم بعد سبعة أو ثمانية أيام ، وأوصى نامق أفندي الحكومة العثمانية بسوق الجنود بسرعة إلى تلك المنطقة لمواجهة أي احتمال طارئ (١).

وقد تم التباحث في المجلس المخصوص في تلك المعلومات التي قدمها كل من بهلول أفندي متصرف بايزيد وعلى نامق أفندي القنصل العثماني في إيران ، وبموجب إرادة السلطان الصادرة في هذا الشأن أوصى المجلس المخصوص بتلك الوصايا للولاة والمتصرفين الموجودين على الحدود الإيرانية :

«يمكن أن يدخل الجنود العثمانيون في قتال مع إيران لحماية أنفسهم ، ولو كان هدف إيران من ذلك هو إثارة الجند ليس إلا فعلى الجند ألا يثاروا ، أما لو انضمت القوى غير المنتظمة إلى الجانب الإيراني فإن القتال حينئذ سيكون محققا لا محالة ، ولكن لن يتم شيء من ذلك إلا بعد التباحث مع السفارات ونظارات الخارجية وصدور إذن من السلطان بذلك.» (٢)

وكما هو واضح فلم ترغب الدولة العثمانية في أن تكون الطرف البادئ بالقتال في هذا النزاع وكان نفس الفكر موجودا عند إيران أيضا ، وهو ما يدلّ على مدى تأثير التنبيه الذي قام به سفيرا إنجلترا وروسيا في هذا الأمر.

والواضح أيضا من مجريات الأحداث أن إيران لم تكن ترغب في استخدام حادثة كربلاء الاستخدام الذي يؤدي إلى حدوث حرب معلنة بين الطرفين ، لذا وجدت إيران أن دعوى المذهبية في كربلاء وإحداث ثورة هناك لهذا السبب سيكون كافيا لتأثيرها على الشيعة الموجودين في

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ١ ,٤ Ra ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ١١ ,٠١ Ra ٩٥٢١.

٢١٠

العراق وتجديد نفوذها هناك ، لاسيما وأن المعلومات المخابراتية التي أرسلها راسم أفندي قنصل الدولة العثمانية في تبريز تؤكد ذلك ، فقد رأينا أن الزوار الذين كانوا في كربلاء قد انحازوا إلى جانب المجتهدين عند عودتهم إلى تبريز ، فقام المجتهدون بإعطاء راية سوداء للأشخاص المسمين (جاوش) وأمروهم بالطواف في شوارع تبريز والنداء قائلين «يا أهالي تبريز اسمعوا إن العثمانيين قاموا بحركة في كربلاء وأسروا مشياخنا ، إن اليوم يوم الغيرة الدينية «وعندما سمع الأهالي بهذا الخبر وصلوا إلى حالة من الغليان ، وأرادوا محاكمة فيضي أغا أحد رجال البريد العثماني محاكمة عرفية على الملأ ، ولكن الممثل الإنجليزي هناك ادعى أنه إنجليزي الجنسية وأنقذ الرجل من أيديهم ؛ وبذلك تخلى الأهالي عن محاكمته عرفيّا (١).

وكما هو واضح أن إيران بالرغم من أنها لم تقترب من الأحداث التي حدثت في كربلاء ، إلا أنها على الأقل نشرت بين الأهالي الأقاويل التي ستفتح بها الحرب على العثمانيين ، وكانت الأخبار الواردة إلى الدولة العثمانية في تلك الأثناء مليئة بالتناقضات والصراعات ، ومنها على سبيل المثال أن إيران لن تكتفي بإشعال الثورة في كربلاء ، بل تخطط للهجوم على الأراضي العثمانية أيضا ، ووردت معلومات سرية من راسم أفندي قنصل الدولة العثمانية في تبريز بأن إيران أخرجت من طهران أربعا وعشرين مدفعا لترسلها إلى تبريز ، وهذا من خلال المعلومات السرية التي حصل عليها من عملائه الذين أرسلهم إلى طهران ، كما وصلت معلومات إلى مركز الدولة العثمانية نفسها بأن المجتهدين الشيعة لم يقفوا مكتوفي الأيدي وقاموا بجمع كل الرجال القادرين على الحرب (٢).

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ٣ ,٩ S ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,Lef : ٩ ,٦١ Ra ٩٥٢١.

٢١١

ووردت معلومات مشابهة لتلك المعلومات في الخطاب الذي قدمه للحكومة أنوري أفندي المكلف بالتحقيق في حادثة كربلاء ، وورد فيه أنه قد وصلت معلومات إلى نظارة الخارجية تفيد بأن المسؤولين والمجتهدين الإيرانيين قاموا بأخذ قروض من التجار القادمين إلى المدن الإيرانية وعملوا استعدادتهم وجمعوا الجنود (١).

كما أرسل راسم أفندي معلومات هامة في رسالة إلى الحكومة العثمانية في استانبول بواسطة نامق أفندي (٢) ، وورد فيها :

«إن الإيرانيين أرسلوا إلى نواحي السليمانية أربعا وثلاثين مدفعا وأحد عشر ألف جندي ، وأرسلوا إلى بغداد واحدا واربعين مدفعا وخمسين ألف جندي ، وإلى حدود بايزيد سبعة وعشرين مدفعا وخمسة عشر ألف جندي» (٣).

ولم يقف نامق باشا مكتوف الأيدي أمام تلك التحركات الإيرانية بل طلب الجنود من ولاة الموصل وديار بكر وسيواس ، وعزّز الاستعدادات العسكرية على الحدود الشرقية للدولة العثمانية (٤).

أما بهلول أفندي متصرف بايزيد فقد أرسل لاستانبول معلومات بأن إيران جمعت الجند في منطقة حاوي وسترسلهم إلى بايزيد ، وتلك هي الأخبار التي وردت لبهلول أفندي عن المخططات الإيرانية : وردت معلومات إلى الأغا سيد باقي زعيم المجتهدين في إيران بأن الكثير من الأهالي ومعهم مجتهدون قد قتلوا أثناء حركة كربلاء العسكرية ، وأن ضريح الإمام الحسين تعرض للسرقة في تلك الأثناء ، فدعا سيد باقي الأهالي الإيرانيين للجهاد ، وتمكن من جمع ما يقرب من ثلاثين ألف

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٧٣٨١ ,Lef : ٢ ,٣١ R ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٧٣٨١ ,Lef : ٤ ,٤١ R ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٧٣٨١ ,Lef : ٦ ,٣ R ٩٥٢١.

(٤) BOA ,I.MSM ٧٣٨١ ,Lef : ١ ,٤١ R ٩٥٢١.

٢١٢

شخص ، ولأن بهلول أفندي لم يكن متأكدا من تلك المعلومات وكذلك راسم أفندي ؛ نبه على مشير أرضروم بانتظار المعلومات المخابراتية الموثقة في هذا الأمر (١) ، وقد ذكر بهلول أفندي أن إيران لن تكتفي بالهجوم على بايزيد فقط ، بل ستتجه إلى كربلاء وألاش كيرد ، وأن تلك الهجمات ستتم في غضون فترة قصيرة الأمر الذي جعل بهلول أفندي يطلب قوات من مشير أرضروم (٢).

صدّق كل من المشير كامل باشا مشير أرضروم وعلي نامق أفندي على المعلومات التي تقول بأن إيران ستسوق الجنود إلى بغداد ، لذا بدأ كامل باشا في إرسال المهمات والجنود اللازمة إلى بايزيد ، وقد أعدّ سفيرا إنجلترا وروسيا للاجتماع مع القنصل علي نامق أفندي وبكير باشا أمير اللواء وطلب السفيران منهما أن يوضحا للدول الأخرى أهمية تلك الاستعدادات التي يقوم العثمانيون بها في بايزيد ، وأوضح السفيران أنه لم ترد لهما أية معلومات مخابراتية بخصوص تلك الاستعدادات التي تقوم بها إيران ، ولذا فيصعب على إيران القيام بهذا الهجوم ، ثم أوضحا لكامل باشا بأن كل الاستعدادات العسكرية التي يقوم بها ليست في محلها (٣) ، وخلاصة القول أوضح السفيران الإنجليزي والروسي بأنه لا يجوز للدولة العثمانية سوق الجنود من أرضروم إلى بايزيد طالما أن إيران لم تتخط الحدود العثمانية ، أما الحكومة العثمانية فقد أوضحت بأنها لن تقوم بأي هجوم على الأراضي الإيرانية طالما أن إيران لم تقم بالهجوم على أرضها ، وأن مسألة سوق الجنود ليست إلا مسألة احتياط لا أكثر ، ولم تقصد بها الدولة العثمانية إثارة المشكلات (٤).

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ٨ ,٣١ S ٩٥٢١.

(٢) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ٤ ,٣١ S ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ١ ,٧١ S ٩٥٢١.

(٤) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ٢.

٢١٣

وبعد ما بحث المجلس المخصوص المعلومات التي أرسلها متصرف بايزيد إلى المشير كامل باشا ومسألة طلب الجنود ، حوّل المجلس تلك المعلومات مع المعلومات التي أرسلها راسم أفندي إلى مقام الصدارة ، وطلب إصدار الإذن اللازم باتخاذ الإجراءات العسكرية اللازمة في هذا الأمر (١).

وبعد تلك المباحثات قامت الدولة العثمانية ببدء المساعي الخاصة بجمع الجنود بالقرب من أرضروم وإرسال الجنود إلى بغداد وأرضروم من الجهات المختلفة.

وأثناء قيام بهلول أفندي بإعداد خطط الهجوم وصلت أخبار من علي نامق قنصل الدولة العثمانية في تبريز تكذب الأخبار التي تقول بأن إيران أرسلت أربعا وعشرين مدفعا إلى الأراضي العثمانية وأنها ستشنّ هجوما عليها ، وفي تلك الفترة التي زادت فيها الأقاويل والشائعات عن هذا الهجوم المرتقب من إيران ، حدث زلزال عنيف في منطقة تبريز وطهران في أواخر شهر مارس عام ١٨٤٣ م ، وتوفي الكثير من الناس في هذا الزلزال ، وبذلك اقتنعت الدولة العثمانية بأن إيران لن تقوم بهذا الهجوم بعد تلك الأحداث ، ولكنها استمرت في اتخاذ الإجراءات لاحتمال ورود خطر من شيراز (٢).

وقد طلب كامل باشا مشير أرضروم حوالي عشرة آلاف جندي من طرابزون لمواجهة الخطر الإيراني وكان ينوي إنفاق ثلاثة آلاف كيس تقريبا على هذه الجنود (٣) ، وكان كامل باشا يفكر في أخذ خمسة آلاف جندي من أجرة وليوانة التابعتين لولاية جلدير ، ومثلهم من طوسيا وتيرة

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٥٣٨١ ,Lef : ٥ ,٧١ S ٩٥٢١.

(٢) BOA, I. MSM ٦٣٨١, Lef : ٥, Selh Ra ٩٥٢١; BOA, I. MSM ٦٣٨١, Lef : ٠١, ٤٢ Ra ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٨٣٨١ ,Lef : ٥ ,٣ Ca ٩٥٢١.

٢١٤

بولو وسور منه وريزا وكونيا التابعات لطرابزون ، كما سترسل الدولة لواءين من الجند المنتظمة وبهذا سيصل عدد الجند العثمانيين من خمسة وعشرين ألفا إلى ستة وعشرين ألف جندي (١).

ولم تهتم الحكومة بسوق هؤلاء الجند غير المنتظمة الذين أراد كامل باشا جمعهم من طرابزون والموصل وديار بكر وإرسالهم إلى أرضروم ، وذلك لعدة أسباب أولها أن إيران لم تقم بأي هجوم على الدولة العثمانية بالرغم من الشائعات المنتشرة منذ عام كما أن سفيري إنجلترا وروسيا أعطيا ضمانات للدولة العثمانية بأن إيران لن تقوم بهذا الهجوم ، وعليه فإن هذا الكم الهائل من الجنود التي أراد كامل باشا جمعها سيرهق خزانة الدولة بسبب الرواتب التي ستصرف لهم ، ولهذه الأسباب لم تهتم الدولة بجمع الجنود ، لو تأكدت الدولة العثمانية أن الجنود قد جمعت بالفعل لطلبت من كامل باشا إعداد خطة لسوقهم وإرسالهم إلى استانبول (٢).

وفي نفس التاريخ أرسل أنوري أفندي معلومات جديدة حصل عليها من علي نامق أفندي تفيد بأنه لا يوجد في إيران هذا الكم من الجنود ولا يوجد سوى جنود الحدود فقط (٣) ، أما نجيب باشا فكان على قناعة بأن مسألة الاستعدادات التي تقوم بها إيران ليست إلا شائعات ، وأن إيران لا تستطيع القيام بتلك الفاعليات وما ذلك كله إلا حيلة من إيران وبالرغم من ذلك دعا نجيب باشا مشير أرضروم إلى ضرورة أخذ الاحتياطات الكافية (٤).

__________________

(١) BOA, I. MSM ٨٣٨١, Lef : ١; BOA, I. MSM ٨٣٨١, Lef : ٦١, ٣١ Ca ٩٥٢١. BOA, I. MSM ٨٣٨١,, Lef : ٣١, ١٢ Ca ٩٥٢١. (

(٢) BOA, I. MSM ٨٣٨١, Lef : ٧١, ٣٢ Ca ٩٥٢١; BOA, I. MSM ٨٣٨١, Lef : ٨ ve ١١, ٤٢ Ca ٩٥٢١.

(٣) BOA ,I.MSM ٨٣٨١ ,Lef : ٣ ,٣١ Ca ٩٥٢١.

(٤) BOA ,I.MSM ٨٣٨١ ,Lef : ٣١ ,٥١ Ca ٩٥٢١.

٢١٥

٢ ـ مباحثات أرضروم

سعى سفيرا إنجلترا وروسيا إلى عقد مباحثات بين الدولتين العثمانية والإيرانية لوقف التوتر القائم بينهما ، وتم البدء في تلك المباحثات التي استمرت فترة طويلة في أرضروم بمشاركة الدولة العثمانية وإيران وإنجلترا وروسيا ، فأعطت الحكومة العثمانية أهمية كبرى لتلك المباحثات وخصصت منازل منفصلة في أرضروم لإقامة ممثلي الدول المشاركة في المباحثات المحتمل استمرارها لفترة طويلة (١).

كان الهدف الأساسي من تلك المباحثات تسوية العلاقات العثمانية ـ الإيرانية التي توترت بشدة خاصة بعد حادثة كربلاء ، وقد كلفت الحكومة العثمانية رفعت باشا ليمثلها في تلك المباحثات ، وكما أوضحنا من قبل فإن الدولتين العثمانية والإيرانية كانتا تخططان لسوق المهمات والجنود إلى النقاط الهامة على الحدود بينهما ، ولأن كون تلك الخطط كانت للحيطة فقط انتشرت عنها أخبار كثيرة مبالغ فيها لا أصل لها ، وقد كانت الدولتان تعلمان جيدا النتائج التي ستظهر في حالة تحول التوتر القائم بينهما إلى صدام ملموس ، وكانت إنجلترا وروسيا قلقتين من تحول التهديدات القائمة على الحدود إلى الحياة العامة ، وذلك لأن أي صدام سيحدث في المنطقة كان من الممكن أن تتدخل فيه إنجلترا وروسيا.

وقد أعدّ مسيو كاننج السفير الإنجليزي في مباحثات أرضروم هذا التقييم عن حادثة كربلاء والتوتر الذي حدث بعدها في المنطقة :

«انتشرت محاولة إيران لتجهيز الاستعدادات العسكرية في كل الأرجاء ، واضطرت الدولة العثمانية لاتخاذ الإجراءات ضد هذه النشاطات الإيرانية ، وقد أكدت إنجلترا للدولة العثمانية بأن إيران لن تقوم بمثل هذا الهجوم ، والآن يبدو أيضا أن الإخطار الذي يشتمل على

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,LEF : ٦ ,٣٢ R ٩٥٢١.

٢١٦

آراء روسيا والذي أرسل إلى إيران سيحدث تأثيرا لدى إيران في هذا الأمر» (١).

من ناحية أخرى أوضح الممثل الإنجليزي في تلك المباحثات أن الدولة العثمانية نظرت بعين الأسف إلى الأحداث والتحركات التي وقعت في كربلاء ، وأوضح أيضا أنه يجب على الدولة العثمانية أن توضح لروسيا وإنجلترا الأسباب الحقيقة لهذه الحادثة ، وزعم بأن إقالة نجيب باشا الذي كان بمثابة المحرك الرئيسي لحادثة كربلاء ستكون وسيلة لتأمين الثقة بين روسيا وإنجلترا والدولة العثمانية وإيران (٢) ، وطلب إنهاء الاستعدادات العسكرية التي تتم في أرضروم ، وإعادة المدافع الموجودة في كربلاء إلى أماكنها القديمة (٣).

كما سعى أيضا مسيو تيتوف الممثل الروسي في المباحثات إلى إزالة التوتر القائم بين دولته وإنجلترا ، وفي الوقت الذي أكد فيه السفير الإنجليزي بأن الدولة العثمانية لن تهجم على الإراضي الإيرانية أوضح أيضا السفير الروسي أن إيران لن تهجم على الأراضي العثمانية (٤) ، وإذا ما نظرنا إلى الاقترحات التي اقترحتها روسيا لإزالة التوتر القائم بين الدولتين ، سنجد أنها كانت لصالح إيران ، فقد أوضح السفير الروسي بأنه لن يصرّ مثل إنجلترا على إقالة نجيب باشا ، وأن بلاده لن تلقي باللائمة على شخص واحد بعينه ، لأن روسيا كانت ترى أن عزل نجيب باشا وحده لن يكفي ، بل يجب على الدولة العثمانية مساعدة كل الأهالي الذين تعرضوا للضرر في كربلاء ، ودفع هذه التعويضات لمن تضرروا مرة

__________________

(١) BOA ,I.MSM ٨٣٨١ ,Lef : ٠١ ,٣١ Temmuz ٣٤٨١.

(٢) BOA, Siyasi Kisim Evraki) HR. SYS (١٩ / ١, Lef : ٧١; I. MSM ٠٤٨١, Lef : ٣, ٦ Agustos ٣٤٨١.

(٣) BOA ,I.MSM ٠٤٨١ ,Lef : ٤ ,٩١ Agustos ٣٤٨١.

(٤) BOA ,I.MSM ٨٣٨١ ,Lef : ٩ ,١ Temmuz ٣٤٨١.

٢١٧

واحدة وبالشكل الذي يعمل على مواجهة تلك الأضرار ، ويجب على الدولة العثمانية أن تخبر كل من روسيا وإنجلترا وإيران بهذه التعويضات التي ستقدمها ، وأن تقوم بكتابة كل ملابسات حادثة كربلاء بشكل طيب وترسلها إلى رئيس وزراء إيران.

ولم تكن كربلاء وحدها هي محور المباحثات التي تمت بل تم التباحث أيضا في التعديات التي تتم على الحدود بين الدولتين ، ووضعت الدولة العثمانية على مائدة المفاوضات مسألة إخلال إيران بالحدود بين الدولتين ، ولهذا علّق مسيو تيتوف على شكوى رفعت باشا بخصوص تعديات الجنود الإيرانيين على الحدود العثمانية في ولاية وان بما يلي :

«يجب علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لإعاقة مثل تلك التعديات ، ولو أتت إلينا معلومات خاصة بتلك التعديات فيمكننا القول بأنها أخبار مبالغ فيها» ، وأخيرا أوضح مسيو تيتوف أنه يتفق مع إنجلترا في أنهما سيعتبران المسؤولية على من يبدأ بالهجوم (١).

وقد أخبرت الدولة العثمانية بأنها ستكتب الرسالة المطلوبة منها إلى رئيس وزراء إيران ، وستساعد من تضرروا في حادثة كربلاء ، ولكنها لن تذكر أية تفاصيل عن الموضوع ، فأظهرت روسيا رد فعل كبير على هذا ، لأن روسيا كانت تريد من الدولة العثمانية أن تطلعها هي وإنجلترا على ما ستقوم به في كربلاء ، وأن تطلعهما أيضا بشكل سري على صورة أو ملخص التعليمات التي ستصدرها لنجيب باشا ، لا سيما وأن مسيو تيتوف أوضح لرفعت باشا بأن التوتر القائم لايهم الدولة العثمانية وإيران فقط ، بل يهم إنجلترا وروسيا أيضا وأنهما لن يقفا بعيدا عن تلك الإجراءات (٢).

حقيقة الأمر أن كل طلب جديد كانت تتقدم به روسيا في المباحثات

__________________

(١) BOA, HR. SYS ١٩ / ١, Lef : ١١ / ٢; I. MSM ٠٤٨١, Lef : ٤, ٩٢ Temmuz ٣٤٨١.

(٢) BOA, HR. SYS ١٩ / ١, Lef : ٩, ١٢ Agustos ٣٤٨١; I. MSM ٠٤٨١, Lef : ٢.

٢١٨

كان يتضمن شروطا ثقيلة بالنسبة للمطالب الأخرى وعلى سبيل المثال طلب مسيو تيتوف في مذكرته المؤرخة بتاريخ ٨ ديسمبر ١٨٤٣ م ما يلي :

«يجب أن يتم تعيين موظف من الجانب الإيراني لمراقبة دفع التعويضات التي ستقدمها الدولة العثمانية للأسر التي تضررت في كربلاء ، كما يجب أن يصرح بتعيين وكيل أو قنصل إيراني في كل المدن التي تعتبر مزارات للإيرانيين مثل النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء» (١).

وكما هو واضح فإن روسيا كانت بمثابة المتحدث الرسمي باسم إيران ، أما الدولة العثمانية فقد أظهرت رد فعل عنيف على بعض تلك الاقتراحات المقدمة كشروط أولية لمباحثات الصلح ، ولكنها لم تصرح بردود أفعالها إلى روسيا ، بل صرحت بها بشكل مباشر لإيران ، وبذلك أوضحت أن إيران هي المخاطب الرسمي لها.

وقد أخطرت الدولة العثمانية المفوض الإيراني بتلك الخصائص المتعلقة بالرسالة التي ستقدمها إلى رئيس وزراء إيران ، والتعويضات التي ستقدمها لمن تضرر في الحادثة :

«إن الدولة العثمانية لم تكن راضية عن تلك الأحداث التي وقعت في كربلاء ، وعلى عكس مطلب روسيا ، سترسل رسالة خاصة بشعورها بالأسف بسبب الجهود المبذولة للحصول على بعض المكاسب من تلك الحادثة ، أما بخصوص المساعدات التي ستقدمها لمن تضرر في الحادثة ، فقد أوضحت الدولة العثمانية بأنها ستتم تحت مراقبة وإشراف الأشخاص الذين يعرفون من تعرض للضرر من الأهالي.» (٢)

لقد كانت الدولة العثمانية تنظر إلى إيران على أنها السبب الرئيسي

__________________

(١) BOA ,HR.SYS ١٩ / ١ ,Lef : ٧ ,٨ Kanun ـ l evvel ٣٤٨١.

(٢) BOA ,HR.SYS ١٩ / ١ ,Lef : ٣.

٢١٩

في حدوث مشكلة كربلاء ، وذلك لأنه في السنوات الأخيرة وفد إلى بغداد من إيران آلاف الزوار وكان يتراوح عددهم من خمسة إلى عشرة آلاف شخص ، جاءوا إلى بغداد للزيارة ولم يرجعوا إلى إيران ، وأقاموا في كربلاء والقصبات المجاورة لها ، وكان إهمال والي بغداد علي رضا باشا لهذا الأمر سببا في تصرفهم كما يحلو لهم ، ولم تقف إيران صامتة بل كانت توجه وتحرك هؤلاء القادمين الجدد ، وكان السبب في قيام إيران بهذا هو رغبتها في إعادة السيطرة على منطقتي المحمرة وزهاب المتنازع عليهما ، وعزل أحمد باشا متصرف سنجق بابان الذي كان يحرض دائما على الخصومة مع إيران (١).

أظهرت المباحثات التي تمت بين الدولة العثمانية وإيران أن حادثة كربلاء لم تكن هي السبب الرئيسي في التوتر القائم بين الدولتين بل كانت وسيلة لإظهار هذا التوتر ، كما أن المباحثات التي تمت بعد ذلك تركت مسألة كربلاء فيها جانبا ، وتحولت المباحثات إلى مشكلة الحدود العثمانية ـ الإيرانية الممتدة من أرضروم حتى خليج البصرة.

وقد طلبت إيران بحقوقها في منطقتي المحمرة وزهاب (٢) ، واستدلت على دعواها بالمعاهدة التي تمت في عهد السلطان مراد الرابع ، أما الجانب العثماني فقد أخبر إيران بأنه فقد النسخة الأصلية من تلك المعاهدة ، ولكن إيران أكدت بأنها تمتلك نسخة من المعاهدة وأن لها الأحقية في منطقة وان وشط العرب وبعض الأماكن في العراق ، وفي الوقت الذي رفضت فيه الدولة العثمانية هذه الادعاءات شكلا ومضمونا استمرت إيران في المطالبة بها وضمت روسيا إلى جانبها ، وكانت تلك المطالب سببا في قيام الدولة العثمانية بالبدء من جديد في الاستعدادات

__________________

(١) BOA ,HR.SYS ١٩ / ١ ,Lef : ٥ / ٢.

(٢) Dervis Pasa, a. g. e., s. ٦ ـ ٩; Seyahatname ـ i Hudud, s. ٣٢; El ـ Bustani, a. g. e., s. ٠٨٢.

٢٢٠