كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

الرعايا الإيرانيون بإعفائهم من الخدمة العسكرية للأسباب الموضحة سابقا بالرغم من كونهم شيعة من رعايا عثمانيين يعيشون في المنطقة ، وقد سعى الإيرانيون الذين لم يكونوا طلابا أو خداما للأضرحة لإعفائهم من الخدمة العسكرية لسبب جديد يختلف عن الأسباب السابقة ، وهو كونهم يختلفون عن الشيعة الذين هم رعايا عثمانيون ، وطالب الشيعة الذين هم رعايا إيرانيون بمعافاتهم من الخدمة العسكرية لأنهم تابعون لدولة غير الحكومة العثمانية ، أما الحكومة العثمانية فلم توافق على مطلب الرعايا الإيرانيين لذا أخبرت إيران ورعاياها الحكومة العثمانية بشكواهم من تطبيق نظام القرعة في المنطقة بواسطة الدبلوماسيين الإنجليز ، وقد أوضح مسيو بارينيس في خطابه المؤرخ بتاريخ ٧ أبريل ١٨٧٣ م المرسل إلى نظارة الخارجية العثمانية أنه يلزم أن يعفى من الخدمة العسكرية من ولد في الأراضي الإيرانية وتزويج من إحدى الفتيات المحليات نظرا لأنهم لم يفقدوا بذلك هويتهم وتبعيتهم الأصلية ، ونظرا لأن الحكومة العثمانية لم تفرق في كل المجالات بين رعاياها وبين الإيرانيين الذين يعيشون في المنطقة منذ فترة طويلة ، فقد كانت تعامل الإيرانيين في هذا الموضوع وكأنهم رعاياها (١).

وبالرغم من أن مدحت باشا طبّق نظام القرعة بنجاح في كربلاء وكل بغداد ، إلا أن الإداريين العثمانيين كانوا يتخوفون من تأثير الجنود الشيعة على الجنود السنة في الجيش ، وعندما بدأ هذا الخطر يظهر نفسه بشكل واضح خاصة في الفترات التي كثف الإيرانيون فيها مساعيهم لتقوية نفوذهم في المنطقة ، جرت مساعي لدرء هذا الخطر وقرر الجيش السادس الذي حل محل جيش العراق والحجاز عام ١٨٩٥ م تعليم الرجال الشيعة الذين عندهم استعدادا للنجاح تعليما سنيّا في بغداد أو استانبول

__________________

(١) BOA ,HR.SYS ١٨٦ / ٥ ,٧.٤.٣٧٨١.

٣٢١

أولا ، وكانت هناك خطة بأن يتم استبدال معظم الجنود الشيعة الموجودين في الجيش السادس بجنود من الجيش الرابع ، وبذلك سيقلل الجيش السادس نسبة الشيعة الذين كانوا يشكلون قوة عظمى فيه ، وسيقضى على مخاوف سيطرتهم عليه ، وسيقلل من احتمال تشيع الجنود السنة الموجودين فيه ، وسيعمل على تأمين ميل الجنود الشيعة المرسلين إلى الجيش الرابع إلى السنة ، إلا أن تحقيق تلك الخطة كان صعبا نسبيّا ، لأنه كان هناك احتمال قوي بأن يقوم هؤلاء الشيعة الذين أظهروا جهودا كبيرة من أجل عدم تجنيدهم بالرغم من أنهم كانوا سيجندون في مواطنهم ، بإحداث مشكلات عديدة لعدم ذهابهم إلى الجيش الرابع الذي يقع في نقطة بعيدة عنهم (الجيش الرابع ـ خربوط) ، ولهذا السبب لم يكن ممكنا تحقيق خطة مبادلة الجنود بين الجيشين ، إلا أن وضع الجنود الشيعة في الجيش السادس تكون بالشكل الذي ترغبه الحكومة العثمانية (١).

٣ ـ المساعي التي تمت في مجال المواصلات والاتصالات في كربلاء

عندما عين مدحت باشا واليا على بغداد عام ١٨٦٩ م كانت قناة السويس التي تعد أكبر تجديد في مجال المواصلات الدولية على وشك الافتتاح ، وكان افتتاح تلك القناة التي ستربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر حدثا كبيرا في السياسة والاقتصاد الدولي.

وكان افتتاح تلك القناة سيؤثر بمقياس كبير على الدولة العثمانية لأنها صاحبة أهم سواحل على البحر الأبيض وأراضيها التي تحيط بالمحيط الهندي وخليج البصرة ، وقبل تلك الأحداث بدأ الإنجليز يسعون رويدا رويدا إلى تأسيس سيادة لهم في المجال التجاري في منطقة خليج البصرة ، وكان رأي مدحت باشا أنه لن تتم السيطرة على شبه

__________________

(١) BOA, Ylldiz Mutenevvi Maruzat Evraki) Y. MTV (١٥ / ٤٢, Lef : ٢, ٨٠٣١; Y. MTV ٤٥ / ٢٨, ٢٢ S ٩٠٣١.

٣٢٢

الجزيرة العربية إلا بتقوية بغداد من الناحية السياسية والاقتصادية ، وكان هذا يتطلب تأسيس أسطول قوي (١).

وقد اتخذ مدحت باشا من التقارب العثماني الإيراني الذي حدث بعد زيارة شاه إيران لبغداد وكربلاء وسيلة لبدء بعض المساعي للعمل على راحة الشيعة الذين يزورون المنطقة ويعيشون فيها.

وكان الهدف من مساعي المواصلات المخطط عملها في كربلاء تقليل النفوذ الإيراني والإنجليزي ، وتقوية وجود الحكومة العثمانية في المنطقة وربط المنطقة بالمركز والعمل على إسراع وسائل المواصلات الموجودة بين بغداد وكربلاء وتقريب المسافة بين البلدين ، وخطط مدحت باشا لإنشاء خط سكك حديد بين كربلاء وبغداد ، إلا أن إصدار القرار المتعلق بتنفيذ تلك الخطة اتخذ بعض الوقت بسبب الشؤون المالية (٢).

إن مشروع تشغيل السفن في نهري دجلة والفرات إلى خليج البصرة سيعمل على بناء إدارة العراق وسيزيد من تجارتها ومواصلاتها ، فقد كانت الدولة العثمانية ترى ضرورة إنشاء خط سكك حديد كربلاء ـ بغداد لتأمين ربط نهري دجلة والفرات ببعضهما ، وكانت هناك تخمينات بأن هذا المشروع سيتكلف في بدايته (٠٠٠ ، ١٠٠) ليرة ، وكانت الحكومة العثمانية تخطط لاستخدام المستلزمات التي كانت تستخدم أثناء شق قناة السويس بدلا من شراء مستلزمات جديدة ، وتشتري المستلزمات المتبقية وبذلك تكون قد أنشأت هذا الخط بسعر أقل (٣) ، إلا أنه في فترة متقدمة تم التخلّي عن تلك المستلزمات المخطط جلبها من مصر.

__________________

(١) Y.Yucel ,a.g.m.,s.٧٧١.

(٢) Zevra ,Nr.٥٥ ,s.٩٠١ ,٨٢ R ٧٨٢١.

(٣) BOA, Ayniyat Defteri ١٥٨, S. ٨٦, Selh Ca ٦٨٢١; I. MM ١٨٥١, ٤٢ L ٦٨٢١.

٣٢٣

وتوجد في جريدة الزوراء بعض المقالات المتعلقة بضرورة إنشاء هذا الخط الحديدي المخطط لإنشائه في كربلاء ، وفي إحدى الحوارات التي تمت مع مدحت باشا أفصح عن أفكاره المتعلقة بهذا الخط ، وقد نشر هذا الحوار في جريدة الزوراء في عددها الصادر في ٦ يونيو ١٨٧٠ م ، وكان الحوار على شكل أسئلة موجهة لمدحت باشا وأجوبته عليها :

السؤال : هل يجب ضم خط كربلاء ـ بغداد إلى شبكة السكك الحديدية التي ستتم في إطار ربط نهري دجلة والفرات؟ وإذا تم هذا الخط بين خانقين وكربلاء ، ألن يكون نفعه أكثر بالنسبة للزوار الإيرانيين؟

مدحت باشا : إن كربلاء ليست بالقصبة التي يمكن للزوار الإقامة فيها مستريحين فترة طويلة ، لأن الزوار يدفعون أجرة باهظة نسبيّا للمنازل والخانات التي يقيمون بها ، ولكنه بفضل خط بغداد كربلاء الذي سيتم سيمكن الزائر من زيارة كربلاء صباحا والعودة إلى بغداد في المساء ، وبالتالي يمكنهم الإقامة بأجرة أقل وراحة أكثر.

السؤال : حسنا ، ولكن ألا تعرف العجم جيدا؟ فهل هم يبحثون عن هذا القدر من الراحة؟

مدحت باشا : بلى إن لم يكن العجم يبحثون عن الراحة فلا داعي لمد خط طريق خانقين ـ كربلاء ، لكن بعد إنشاء خط بغداد ـ كربلاء سيهتم به العجم ليس من أجل الراحة ولكن لقلة نفقاته.

السؤال : ألا يمكن أن تقللوا مصاريف الزوار بإنشاء العديد من المسافرخانه (المضايف) لهم في كربلاء ، بدلا من إنفاق مئات الآلاف من الليرات في إنشاء خط كربلاء ـ بغداد؟

مدحت باشا : بلى أنت على حق ، في حالة ما إذا كانت الحكومة تريد من إنشاء هذا الخط إسعاد الزوار فقط ، ولكن الحقيقة أنه ليس لهذا

٣٢٤

المشروع هدف واحد فقط ، فعمل كبير ومهمة كهذه لا يمكن أن تتم لهدف واحد فقط بل له عدة أهداف ، ويمكن القول بأن الهدف الأول من إنشاء هذا الخط المذكور هو جعل كربلاء بمثابة الميناء ، الثاني : الحصول على شبكة سكك حديد أكبر بربط هذا الخط بالخطوط المجاورة له على الطريق ، الثالث : استخدام هذا الخط عند الضرورة في حماية الشؤون الملكية للصحراء ، الرابع : إن الروابط التجارية الموجودة بين بغداد وكربلاء أكبر وأهم من السناجق الأخرى لذا فإن هذا الخط سيعمل على ازدياد استخدام تلك الشبكة التجارية ، الهدف الخامس : توفير الراحة لرحلة ٣٠ ـ ٤٠ ألف زائر يفدون كل عام من إيران ، الهدف السادس : خدمة الروابط المادية والمعنوية التي ستتكون من الأهداف الخمسة السابقة ، ولو بنيتم أحكامكم على هذه الأسس لرغبتم أكثر منا في إنشاء هذا الخط والانتهاء منه بين لحظة وأخرى» (١).

ويفهم من ذلك أنه إلى جانب الأهداف الخمسة التي ذكرها مدحت باشا لإنشاء خط كربلاء ـ بغداد ، كانت هناك بعض الأهداف الأخرى لتقوية الإدارة العثمانية في المنطقة ، وطبقا لرأي مدحت باشا فإنه بإنشاء خط كربلاء ـ بغداد سيمنع بقاء الزوار الشيعة والأعاجم في كربلاء فترة طويلة ، كما أنه سيعمل على الحيلولة دون ازدياد نفوذ الشيعة في المنطقة وعلى تطبيق كل المعاملات المادية والمعنوية للشيعة بشكل لا يضر بالإدارة العثمانية.

وفي عام ١٨٧٠ م صدر الإذن بمد هذا الخط الحديدي الذي رأى والي بغداد أهميته ، وتم البدء فيه ، وقد خطط لمرور الخط من المسيب الواقعة بالقرب من الفرات ، وتم البدء أيضا في أعمال القنوات والسدود والجسور لعدم إضرار الفيضان الذي يحدثه نهر الفرات والذي يتكون في

__________________

(١) Zevra ,Nr.٦٩ ,s.٢٩١ ,٠٢ S ٧٨٢١.

٣٢٥

القنوات الصغيرة المتصلة به ، وقد تقرر أن يتم إنشاء خط بغداد ـ كربلاء البالغ ٦٥ كم بمعرفة مهندسين إنجليزيين ، وأن تتولى شركة مانشيستر الإنجليزية مصاريفه ، وأن يتم دفع المبلغ للشركة الإنجليزية على خمس سنوات بفائدة ٦% ، وقدرت مصاريف إنشاء الخط بمبلغ من (٠٠٠ ، ١٢٥) إلى (٠٠٠ ، ١٣٠) ليرة ، وقد بدأت المساعي للاستفادة من خط سكك حديد كربلاء ـ بغداد في التنظيمات الإدارية في العراق وفي العديد من المجالات وعلى رأسها المجالات التجارية (١).

وقد تم التعامل مع الشركات التي طلبت حق امتياز إنشاء خط سكك حديد كربلاء ـ بغداد بموجب الأحكام العامة لمذكرة الشروط الخاصة بخطوط السكك الحديدية التي ستنشأ في الدولة العلية (٢).

وعندما كانت الإنشاءات تتم في الخط ، بذلت مساع من ناحية أخرى لترميم الجسور والأنفاق لضمان السيطرة على الزوار والتجار المارين من الطريق وضمان سرعة توصليهم ، وقد تم تكليف مظهر باشا متصرف كربلاء بالقيام بتلك المساعي ، وتمت تلك الأعمال على يد نفس الشخص (٣).

وقد أصبح مشروع خط سكك حديد بغداد ـ كربلاء الذي تم البدء فيه عام ١٨٦٩ م في العراق أكثر نفعا بالبدء في إنشاء خط السكك الحديدية بين خانقين وبغداد والحلة والنجف وكربلاء عام ١٨٩٣ م (٤) ، وبذلك تكون أهداف مدحت باشا المتعلقة بخط سكك حديد بغداد ـ كربلاء قد تحققت عام ١٨٩٣ م.

__________________

(١) BOA ,Ayniyat Defteri ,١٥٨ ,s.٥٧ ـ ٧٧ ,٥١ M ٧٨٢١.

(٢) BOA ,Ayniyat Defteri ,١٥٨ ,s.٧١٢ ,٩١ L ٦٨٢١.

(٣) BOA ,MV ٣٧ / ٠٨ ,٣ B ١١٣١.

(٤) BOA ,MV ٣٧ / ٠٨ ,٣ B ١١٣١.

٣٢٦

استمرت جهود مدحت باشا العمرانية في ولاية بغداد ثلاثة أعوام متصلة بلا انقطاع ، فقد أدرك مدحت باشا جيدا الأهمية الاستراتيجية لخط تلغراف حلب ـ الموصل ـ بغداد ـ البصرة ، وتمت أول مساع بخصوص الاتصالات في كربلاء ومنطقة العراق على يد الإنجليز ، فقد كان الإنجليز يفكرون في مد خطوط التلغراف من الهند إلى البصرة من تحت البحر ، ومن البصرة إلى بغداد من تحت نهر دجلة ، وقامت شركة الهند الشرقية الإنجليزية بمد خط التلغراف إلى سوريا عبر خليج البصرة عام ١٨٥٧ م ، إلا أن الدولة العثمانية كانت هي مالكة الخط بموجب الاتفاقية الموقعة.

وفي عام ١٨٦٠ م وفي ولاية أحمد توفيق باشا أسست إدارة للتلغراف في بغداد ، وفي العام التالي مد ـ ولأول مرة ـ خط تلغراف بين استانبول وبغداد ، أما خطوط تلغراف منطقة البصرة وبغداد والتي بدأت عام ١٨٦٣ م ، فقد انتهى العمل فيها عام ١٨٦٥ م ، وقد توسعت خطوط التلغراف التي تم الانتهاء منها عام ١٨٦٥ م قبل ولاية مدحت باشا وفي عهده شملت الأقضية والسناجق الهامة الأخرى في المنطقة ، ونظرا لأهمية كربلاء فقد كانت أول قصبة يتم فيها تنفيذ هذا المشروع.

لقد أدرك مدحت باشا أهمية كربلاء للمنطقة لذا عمل على تشكيل إدارة جيدة بها هذا إلى جانب الأعمال الإدارية فيها ، وكان مدحت باشا يسعى لتسيير الاتصالات في تلك المدن في أحسن شكل ، نظرا لكثرة الأهالي الإيرانيين والهنود الذين يفدون إليها بغرض الزيارة أو الإقامة (١) ، وقبل أن يسعى مدحت باشا في عمل التشكيل الإداري للمنطقة ، سعى أولا لتقوية البنية التحتية ، لذا طلب من الباب العالي عام ١٨٦٩ م الإذن بالسماح له بتأسيس مكتب تلغراف في كربلاء ، كما طلب وضع ماكينة

__________________

(١) BOA, I. Dh ٥٨٤٠٤, Lef : ٤, ٣٢ C ٥٨٢١; A. MKT. MHM ٠٢٤ / ٤٤, ٨٢ Ca ٥٨٢١; Ayniyat Defteri ١٥٨, s. ٢٤, Gurre B ٥٨٢١.

٣٢٧

تلغراف وموظف اتصالات بمديرية هندية ، وتم شراء أربع ماكينات بمبلغ (١٨٠٠) فرنك لخط تلغراف كربلاء ، كما تم صرف تسعين فرنكا لستة أشخاص سيقومون بعمل الشؤون التكنيكية وخمسة وثلاثين فرنكا مصاريف السلك والشفرة والنقل وغيرها ، وبذلك تم إنشاء مكتب تلغراف كربلاء ، بعد ذلك حدد الموظفون الذين سيعملون في المكتب والرواتب التي ستمنح لهم ، حيث خصص لمدير المكتب (١٠٠٠) قرش ، وللموظفين الذين يعملون معه (٤٠٠) قرش ، كما خصص مبلغ (٨٠٠) قرش لمدير تلغراف ناحية طواريج التابعة لكربلاء (١) ، ولمد خط تلغراف كربلاء لزم أولا ترميم وإصلاح خطوط تلغراف البصرة ، وتقرر الإنفاق على تلك الأعمال وعلى المصروفات المعدودة سابقا من صندوقي مال بغداد وكربلاء (٢).

٤ ـ قضاء النجف : المركز الروحي للشيعة

كانت النجف في القرن التاسع عشر طبقا للسجلات العثمانية عبارة عن مكان يحده شمالا كربلاء وشرقا صحراء هندية والشامية ، وبخلاف قضاء النجف المركزي ، كان يوجد بها أماكن هامة مثل الكوفة وخور الدوخن.

وقصبة النجف هي مركز قضاء النجف وتقع على مسافة خمسة كيلو مترات شرق نهر الفرات وعلى مسافة سبعين كيلو مترا جنوب شرق كربلاء ، و ١٥٠ كم جنوب بغداد ، وأطرافها محاطة بسور ، ولها ثلاثة أبواب هي باب وباب مراد وباب الحسين ، وقد بلغ عدد سكانها تقريبيّا عام ١٨٥٠ م طبقا لأحدى وثائق الأرشيف (٠٠٠ ، ٢٠) نسمة (٣).

__________________

(١) BOA ,I.Dh ٥٨٤٠٤ ,Lef : ٤ ,٣٢ C ٥٨٢١.

(٢) BOA ,I.Dh ٥٨٤٠٤ ,Lef : ١ ,٨٢ C.evvel ٥٨٢١.

(٣) BOA ,I.Dh ٢٨٩٥١ ,٩ Ca ٨٦٢١.

٣٢٨

وكان عدد السكان في ازدياد مطرد بسبب خصوصية المنطقة ، ويتكون أهالي النجف من جماعتين رئيسيتين هما الشامرد والزكرد.

وأهم مكان بقصبة النجف هو المكان الموجود به ضريح الإمام علي ، ويقع في منتصف القصبة تماما وأهلها كلهم شيعة ، يخدمون الزوار الذين يأتون لزيارة ضريح الإمام علي ويتعيشون من تلك الخدمة ، وثمة أهمية أخرى للقصبة وهي المدارس الشيعية الموجودة بها ، حيث يوجد بها طلاب ومجاورون وعلماء كثيرون من الشيعة من رعايا إيران وروسيا وإنجلترا ذوي الأصول الهندية هذا بخلاف الرعايا العثمانيين (١).

ومن المؤثرات الهامة التي أمّنت حماية النجف من هجمات الوهابيين تسلح أهاليها ، ووقوفهم ضد أية هجمات كبرى ، أما الشخص الذي أمّن القيام بذلك فهو كاشف الغطا المرجع والعالم الشيعي الذي يعيش في النجف (٢) ، فقد أمر كاشف الغطا هذا بإحكام أسوار النجف لإعاقة أي هجوم خارجي وحماية القصبة نسبيّا ، وكان له السبق في تعليم الأهالي الوقوف ضد الهجمات ، وبدأ أهالي النجف يؤسسون مراكز رياضية كانت تسمى عندهم (زور خانه) ليكونوا في حالة استعداد ضد أي هجوم محتمل ، وعندما وقع سليمان باشا وفتح علي شاه أسيرين في أيدي الوهابيين ، عقد كاشف الغطا اتفاقا مع ولاية بغداد والباب العالي لإنقاذهما من الأسر ، وبذلك زاد نفوذه لدى الباب العالي وولاية بغداد (٣).

وبالرغم من أن الثورة التي اندلعت في كربلاء عام ١٨٤٣ م لم تلق

__________________

(١) Semseddin Sami, a. g. e., VI, ٥٦٤٤; Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad, ٤٢٣١, s. ٥٩٢.

(٢) Ahmed Ozel," Kasifulglta, Ca\'fer b. Hlzlr", DIA, Ankara ٢٠٠٢, XXV, ٩١.

(٣) مهدي البستاني ، مدرسة النجف الفقهية في العهد العثماني ، المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية ، عدد ١٨ ـ ١٩ ، سبتمبر ١٩٩٨ ، ص ٧٥.

٣٢٩

بظلالها على النجف ، إلا أن النجف دخلت تحت مظلة التشكيل الإداري الذي عاشته المنطقة في تلك الفترة ، وكما حدث في كربلاء حدث في النجف ، وعهد بإدارة النواحي وإدارة الأضرحة إلى أشخاص من الرعايا العثمانيين بدلا من الإيرانيين ، ولم تستطع التنظيمات الجديدة التي تمت في النجف عام ١٨٤٣ م إعاقة ظهور الثورات مجددا ، ففي عام ١٨٥٠ م قامت فرقة الشامرد أحد أكبر فرقتين في النجف بحركة ثورية ، وبالرغم من أن الوثائق لم تظهر السبب الحقيقي لتلك الثورة ، إلا أنه عند التدقيق في بدايات الثورة سيتضح أنها اندلعت بسبب عدم ارتياح جماعات محددة من الإصلاحات الإدارية التي قامت بها الدولة.

وقد تم نفي ظاهر الملحا الذي كان أحد كبار فرقة الشامرد والمحرك الرئيسي في الثورة إلى بغداد بسبب قيامه بثورات سابقة ، ولكنه تمكن من الهروب من بغداد ، وعاد إلى النجف مرة أخرى ، وتمكن من تشكيل كتلة ثورية بمن جمعهم من حوله ، كان رجاله يطوفون في الطرقات جماعات جماعات ، كل جماعة من أربعين إلى خمسين شخصا ويدعون الأهالي للانضمام إليهم ، وكانوا يجمعون الأموال أيضا بالضغط على الأهالي.

قد جعل هذا الأمر الكتيبة الثانية التابعة للواء الثاني مشاة بجيش العراق الهمايوني والموجودة في ديوانية تتجه صوب النجف بقيادة أمير لاي الكتيبة ، وهناك اتحدت هذه الكتيبة مع الكتيبة الموجودة في النجف ، وكان هذا سببا في نشوب ثورة من الجماعات التي لم تتمكن من القيام بأفعالها القديمة ، ويتضح من ذلك أن أهم سبب في قيام ظاهر الملحا والجماعات التابعة له بالثورة يتمثل في شعور تلك الجماعات بعدم الارتياح من وجود الحكومة العثمانية الذي بدأ يلمس بقوة في المنطقة.

ولم تتعامل القوات العسكرية الموجودة في النجف مع الثورة

٣٣٠

بشكل مباشر حتى لا تعرض الأهالي الأبرياء والرعايا الأجانب للضرر ، وعرض شاكر أفندي مدير قضاء النجف على المجلس الكبير في بغداد معلوماته التي تتعلق بالأحداث التي وقعت في النجف ، وقرر المجلس الكبير في بغداد القيام بحركة لن تضر الرعايا الأجانب والأهالي الأبرياء المقيمين هناك بسبب ضريح الإمام علي ، إلا أنه لم تتم تلك الحركة على يد أمير الاي الكتيبة الثانية بديوانية والذي كان سببا في اشتعال الثورة أكثر ، بل كلف بها الفريق سليم باشا من الجيش الهمايوني بالأناضول ، كما تم تكليف والي بغداد وقائمقام كربلاء والعلماء وكبار رجال المنطقة بأن ينبهوا على الأهالي عدم الانضمام إلى هؤلاء الثوار ، كما أخطر والي بغداد كلّا من السفير الإيراني والقنصل الإنجليزي الموجودين في بغداد بتلك الأحداث الواقعة والإجراءات المتخذة نظرا لاهتمامهما بها ، وتم التحرك بعد إتمام الاستعدادات اللازمة لإخماد الثورة ، وقامت القوات العثمانية بهجوم ليلي أسفر عن إلقاء القبض على اثنين وسبعين شخصا من الثوار ، كما قتل بعضهم وفر البعض الآخر أثناء الهجوم (١).

وتمّ تخصيص رواتب لأسر الجنود الذين توفوا ، والجنود الذين جرحوا أثناء إخماد الثورة التي اندلعت في النجف (٢) ، وبعد تلك الأحداث تم القبض على رؤساء فرقة الشامرد وهم جرحى وهم مهدي الفخراني وعبده الفخراني وطاهر المسلمة وسيد سعيد وطاهر الحاج وعلي الوهاب وسليمان نعمان وتم حبسهم بعد معالجتهم على أيدي أطباء الجيش العثماني (٣).

لقد كانت الثورة التي حدثت في النجف تشبه الثورة التي وقعت في

__________________

(١) BOA, I. Dh ٢٨٩٥١, ٩ Ca ٨٦٢١; BOA, I. Dh ٧٥٠٩١, Lef : ٦, ٧ L ٠٧٢١.

(٢) BOA ,A.MKT.NZD ٩٥ / ٩٥ ,٦٢.٧.٨٦٢١.

(٣) BOA ,I.Dh ٧٥١٩١ ,٦ N ٠٧٢١.

٣٣١

كربلاء عام ١٨٤٣ م ، فقد اندلعت تلك الثورة نتيجة عدم ارتياح فرقة الشامرد الذين اضطربت مصالحهم عندما بدأت الحكومة العثمانية تجعل وجودها محسوسا أكثر في المنطقة ، ونجح الجيش الموظف في المنطقة وإداريو كربلاء الذين اكتسبوا خبرة منذ عام ١٨٤٣ م حتى الآن في إخماد تلك الثورات التي حدثت في المنطقة في فترة قصيرة بالنسبة لثورة كربلاء وبضرر أقل للدولة ولأهالي المنطقة ، وهناك سبب آخر هام في كون الثورة التي وقعت في النجف أضعف من الثورة التي وقعت في كربلاء ، وهو أن تأثير إيران على كربلاء يختلف عن تأثيرها على النجف نسبيّا ، فبالرغم من أن علماء الشيعة الذين يمثلون أهم عنصر في النجف كانوا يأخذون مساعدات من حكومة إيران ، إلا أنهم لم ينفذوا كل ما تطلبه منهم تلك الحكومة ، لأنهم كانوا يرون أنفسهم مختلفين عن حكومة إيران وأقوى منها ، ولم يرضوا بأن يكونوا ألعوبة سياسية في أيديهم ، وبذلك تم القضاء على الثورة التي وقعت في النجف على أنها مشكلة داخلية بحتة للدولة العثمانية.

١ ـ اختلافات علماء النجف

إن أهم خاصية زادت من أهمية النجف هي وجود ضريح الإمام علي بها ، كما أن وجود العلماء الشيعة الذين وفدوا إلى المنطقة بسبب وجود الضريح ونشرهم العلم بين طلابهم ، ووجود المدارس التي أسسها هؤلاء العلماء زاد من أهمية المنطقة أضعافا مضاعفة ، أما الخاصية الأخرى التي زادت من أهمية المكان فهي وجود الجبانة المعروفة باسم «وادي السلام» المشهورة والتي تدفن فيها الجنائز القادمة من إيران والممالك الأخرى (١) ، وبسبب الحركة الدائمة والزوار الوافدين من الخارج بدون رقابة كانت الأمراض المعدية تنتشر في النجف بشكل

__________________

(١) E.Honigmann ,"Necef ",IA ,Istanbul ٤٦٩١ ,IX ,٨٥١.

٣٣٢

كبير ، أضف إلى ذلك فرق عشيرة الزكرد التي كانت تثير الاضطرابات بشكل مستمر ، وهذان العاملان يفسدان الاستقرار في النجف.

ونخص من تلك التأثيرات الثلاثة التي جعلت للنجف أهمية المؤثر الثاني وهو علماء ومدارس الشيعة الموجودة في النجف ، فقد أصبحت تلك المدارس وهولاء العلماء يمثلون أهمية كبرى مع أواسط القرن التاسع عشر ، وبذلك لم يلفت موقع النجف انتباه الدولة العثمانية وأهالي المنطقة فحسب بل لفت أيضا انتباه إيران وإنجلترا وروسيا.

وقد زادت أهمية النجف بسبب مدارسها وعلمائها فقد كانت هناك قوة ومكانة مختلفة لعلماء الشيعة الموجودين بها ، ولفهم منبع تلك القوة الموجودة عند علماء الشيعة يجب العودة إلى الوراء حيث العهود الأولى للإسلام.

لقد كانت نظرية الإمامة في التراث الفكري الشيعي ذات تأثير كبير قولا وفعلا ، ويمكن القول بأن تلك النظرية تعد السمة العامة المميزة للتشيع ، فتشكل نظرية الإمامة محورية الفكر الشيعي ، والأئمة في هذه النظرية أشخاص معصومون من الخطأ ، وكلامهم مساو لكلام الرسول وهو أيضا بوحي ، وقد تشكلت كل المعتقدات الفكرية للشيعة في إطار الآراء المنسوبة لهؤلاء الأئمة ، وقد بدأ «عهد الغيبة» على حسب رأي الشيعة عام ٢٦٠ ه‍ بفقدان الإمام الثاني عشر وينقسم عهد الغيبة إلى قسمين الغيبة الصغرى (٢٦٠ / ٨٧٣ ـ ٣٢٨ / ٩٤٠) ، والغيبة الكبرى من عام (٣٢٨ ـ ٩٤٠) وحتى ظهور الإمام الثاني عشر مرة أخرى ، وسينتهي عهد الغيبة الكبرى بظهور الإمام الثاني عشر الذي يعتقد بأنه لا يزال حيّا مرة أخرى بين الناس (١).

__________________

(١) Hasan Onat," Yirminci Asirda Siilik ve Iran Islam Devrimi", Milletlerarsi Tarihte ve Gunumuzde Siilik Sempozyumu, ٣١ ـ ٥١ Subat ٣٩٩١, ISAV, Istanbul ٣٩٩١, s. ٣٤١.

٣٣٣

وقد اتحدت نظرية الغيبة مع التقية ، وفتحت الطريق للركود والسكون لسنوات طوال ، إلا أن موضوع وظائف الإمام في عهد الغيبة كانت مثارا للنزاع بين الحين والآخر ، وقد حدث هذا النزاع بين جماعتين تمثلان أهم عناصر الشيعة وهي الأصولية والأخبارية ، وهذا هو فكر هاتين الجماعتين باختصار :

«الأحاديث هي المصدر الأول للفتاوى والأحكام الفقهية عند فقهاء الشيعة الأخباريين ، وسيفهم وسيطبق القرآن الكريم بفضل تفسير الأحاديث ، ولا يوجد دليل غيرهما ، ولا يجوز تقليد الاجتهاد ، أما على رأي الفقهاء الأصوليين فإنه يوجد أربعة أدلة صرح بها المجتهدون للحصول على العلم والأحكام ، وتلك الأدلة الأربعة هي : الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وفي حالة عدم وجود دليل الحكم في تلك المصادر فينظر حينئذ إلى الأصول العملية ، أما القياس أو الاستحسان اللذان صرح بهما الفقهاء السّنة فلا يعتبران أدلة معتبرة (١).

وكانت الجماعة الأخبارية هي الأكثر تأثيرا بين الأخباريين والأصوليين حتى العهد الصفوي ، وعندما بدأ الأخباريون يفقدون قوتهم في العراق وإيران من بعد ذلك التاريخ ، عملوا على استمرار قوتهم في البحرين بشكل جعلها تستمر حتى اليوم ، وقد أضعف محمد الباقر البهبهاني أحد الأصوليين الذين عاشوا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو من أصحاب الخبرة في التحليل والاستدلال العقلي والفقه من نفوذ الأخباريين (١٧٩١ ـ ١٧٩٢ م) ، وأكسب الفقه الأصولي الحيوية والنشاط من جديد (٢) ، وكان البهبهاني يعيش في كربلاء ووجدت

__________________

(١) Hayreddin Karaman," Ca\'feriyye", DIA, VII, ٦, Istanbul ٣٩٩١.

(٢) Hayreddin Karaman," Sla\'da Flkih Usulu ve Ser\'i Deliller", Milletlerarasl Tarihte ve Gunumuzde Siilik SemPozyumu, ٣١ ـ ٥١ Subat ٣٩٩١, ISAV, Istanbul ٣٩٩١, s. ٦٢٣ ـ ٧٢,) Bundan sonra, Sla\'da Fikih Usulu ve Ser\'i Deliller (; Karaman, Ca\'Feriyye, s. ٦.

٣٣٤

أفكاره رواجا في النجف ، وتطورت أفكاره في مدارس النجف المرتبطة بمدرسته والتي تجد دعما من إيران (١) ، وزادت شهرته بين شيعة النجف التابعين لمدرسته الأصولية وبدأت شهرته هذه تنتقل إلى الخارج.

والمجتهدون على رأي البهبهاني هم أصحاب موقع ديني وعلمي مرتفع وعندهم الأهلية للتحرك كممثلين للإمام الغائب ، ويستطيعون أن يصدروا القرارت الدستورية ، ويمكنهم تقسيم الزكاة والخمس وإعلان الجهاد ، وقد عمل هذا الرأي على تقوية موضوع علماء الشيعة في النجف ، وأعد لهم الأرضية لتكوين دولة داخل الدولة.

ولما بدأت قوة الأصوليين تتزايد في عهد نادر شاه بدأ الشاه يقلق من هذا الوضع ، وكان المناخ الذي سعى نادر شاه لتكوينه بين الشيعة والسنة سببا في إظهار العلماء رد فعل تجاه نادر شاه (٢) ، وفي عهد فتح علي شاه كانت قوة هؤلاء العلماء الموجودين في العراق وإيران تزداد بمرور الأيام ، حتى إن الأغا السيد محمد الأصفهاني الذي كان يعيش في النجف والذي كامن من أهم مجتهدي هذا العهد كان يتحرك مع فتح علي شاه ضد الهجمات الروسية على إيران ، وأعلن الجهاد ضد روسيا (٣) ، الأمر الذي جعل شاه إيران يتخوف من هذا التأثير للعلماء ومن قوتهم التي أصبحت تزيد يوما بعد يوم في إيران ، كما كان هناك تخوف من الشاه فتح علي من عجز القصر الإيراني عن تأسيس سلطة قوية تختلف عن سلطة العلماء وخاصة علماء النجف ، وبدأت حالة من الإضرابات والاختلافات تظهر بين الشاه فتح علي وبين الشيعة ، وأغلب الموضوعات

__________________

(١) Elie Kedourie," The Iraqi Shi\'is and Their Fate", Shi\'ism Resistance, and Revolution, London ٧٨٩١, s. ٧٣١.

(٢) Hasan Sabuncu Rizapur, Iran\'da Dinin Sosyal Etkisi,) Yayimlanmamis Doktora Tezi (, Istanbul Universitesi Edebiyat Fak., Istanbul ٠٧٩١, s. ٧٨١.

(٣) BOA, Yildiz Arzuhal ve Jurnaller) Y. PRK. AZJ (٣ / ٧٣, ٦٩٢١; Rizapur, a. g. t., s. ٨٨١.

٣٣٥

كان فيها الاختلاف هي الضرائب والزكاة والخمس ، لذا سعى الشاه فتح علي لإضعاف قوة هؤلاء العلماء (١).

وإلى جانب تلك العلاقات التي كانت موجودة بين القصر الإيراني والعلماء الشيعة ، حدثت تطورات أخرى في العلاقات بين شقي علماء الشيعة أنفسهم ، فقد أدى انتصار الأصوليين على الأخباريين إلى زيادة أوضاع المجتهدين بشكل كبير ، كما أن انتصار الأصولية عمل أيضا على إعداد الأرضية للخروج من القوة الدينية والتطرف المار ذكره ، وإعداد الأرضية أيضا لطريق علمي لا يرتبط بالسلطة السياسية.

وفي الفترة التي أعقبت انتصار البهبهاني ظهر مجتهد خاص متفوق من الناحية العلمية ، وهو الشيخ محمد حسن النجفي وكان معتمدا ومصدقا عند الأصوليين بأنه المرجع الأول (٢) «مرجع التقليد» (٣) ، وقد تربى في النجف بعد ذلك الطلاب الذين أتوا بعد المرجع الأول وكانوا يقيمون هناك ، وبذلك أصبحت النجف في القرن التاسع عشر المكان الذي خصصه الأصوليون لأنفسهم والذين يعدون أهم جماعة شيعية ، واتخذوا منه مكانا للحفاظ على أفكارهم ونشرها منه.

وفي بدايات القرن التاسع عشر بدأ الخلاف بين المجتهدين الشيعة والإيرانيين على موضوع الخمس (٤) فقد كان علماء النجف قلقين من تدخل علماء إيران في هذا الموضوع ، لأن تدخل علماء إيران في هذا

__________________

(١) Rizapur ,a.g.t.,s.٠٩١.

(٢) تستخدم كلمة مرجع مفردة أو معها كلمة التقليد ، وتعني عند الشيعة العالم الذي عنده علم بأمور الفقه ويمكن الرجوع إليه. وتعني الكلمة عند أهل السنة والشيعة المجتهد أو الفقيه. وتستخدم كلمة الفقيه مجازا عنها. للمزيد انظر :

Hayreddin Karaman, Sia\'da Fikih Usulu ve Ser\'i Deliller, s. ٩٤٣ ـ ١٥٣.

(٣) Kedourie ,a.g.m.,s.٧٣١.

(٤) Rizapur ,a.g.e.,s.٥٩١.

٣٣٦

الموضوع يعني أنهم أثروا على علماء النجف ، وسيعملون على تقسيم الاقتصاد القوي للنجف (١) ، وكان خروج النجف من النزاع الأصولي الأخباري منتصرة جعل المنطقة قوية ، كما أن النزاع نفسه الحاصل بين علماء النجف وإيران في تلك الفترة أفاد النجف ، وزاد من قوتها.

وبمرور الوقت فقدت السيادة الأخبارية في كربلاء ـ المركز المعنوي للشيعة ـ قوتها هناك أيضا (٢) ، وبالرغم من ذلك لم تكن كربلاء في أي وقت من الأوقات مركزا من مراكز الأصولية.

ومن الشخصيات الهامة التي كانت تعيش في النجف منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى أوسطه وعملت على تأمين بعد جديد للمدرسة الأصولية مرتضى الأنصاري (وفاة ١٨٦٤ م).

قام مرتضى الأنصاري بتحقيق آخر تطور في مجال الفقه وأصول الفقه ، ووحد بينهما ونجح في ذلك ، وأثرى موضوعاته وجعله في حالة تجيب على كل متطلبات العصر (٣).

أما حسن الشيرازي الذي كان يعدّ المرجع التقليدي وأهم ممثل للمدرسة الأصولية في القرن التاسع عشر فقد ولد في شيراز ونشأ في مدارس النجف واستقر بها عام ١٨٤٣ م ، كان للشيرازي وأسرته تأثير كبير ليس على شيعة العراق فحسب بل على شيعة إيران أيضا ، وكان لهم تأثير حتى على السياسة الداخلية لإيران ، فقد تلقى حسن الشيرازي العلم على يد محمد حسن النجفي وحسن كاشف الغطا ومرتضى الأنصاري.

وبعد وفاة الشيخ مرتضى الأنصاري اختار طلابه حسن الشيرازي ليحل محله ، وبعد فترة أصبح المرجع للشيعة في النجف وما حولها

__________________

(١) el ـ Bustani ,a.g.m.,s.٦٧.

(٢) Metin Yurdagur," Ahbariyye", DIA, Istanbul ٨٩٩١, I, ١٩٤.

(٣) H. Karaman, Ca\'feriyye, s. ٦; E. Kedourie, a. g. m., s. ٧٣١.

٣٣٧

واشتهر بأنه مجدد العصر ، ولأن حسن الشيرازي لم يكن من بين العلماء الذين خرجوا لاستقبال شاه إيران ناصر الدين شاه الذي أتى للعراق عام ١٨٧٠ م لزيارة الأماكن المقدسة ، أرسل الشاه وزيره لحسن الشيرازي ليضغط عليه في الخروج لاستقباله ، إلا أن الوزير لم يتمكن إلا من إقناع الشيخ بملاقاة الشاه في مكان تم الاتفاق عليه ، وبعد تلك الحادثة زاد احترام الشاه والأهالي للشيخ حسن الشيرازي ، وفي العالم التالي ذهب للحج وزار كربلاء في سبتمبر عام ١٨٧٤ م (شعبان ١٢٩١ ه‍) وبعد سنة استقر بسامراء وظل بها حتى آخر عمره.

وبالرغم من أن الشيرازي كان بعيدا عن رجال الدولة إلا أن هذا لا يعني أنه كان بعيد تماما عن السياسة ، فقد كان الشيرازي متوافقا مع دعوة جمال الدين الأفغاني الذي أخرج من إيران على يد الشاه عندما أبدى اعتراضه على قيام الشاه ناصر الدين بتمليك كل امتيازات التبغ في إيران لشركة إنجليزية ، وأن تلك الشركة ستتدخل في كل الشؤون الداخلية لإيران كما حدث في الهند ، فأصدر حسن الشيرازي فتوى بتحريم شرب الدخان تماما على كل الإيرانيين (١٨٩١ ـ ١٣٠٩) وأرسلها بتلغراف إلى الشاه ، وبذلك قاطع كل الأهالي التبغ ، حتى النارجيلات الموجودة في قصر الشاه خربت سرّا ، وقد عرضت رشاوى كثيرة على الشيخ ليرجع عن هذه الفتوى إلا أنه لم يقبلها ، وفي النهاية اضطر الشاه لفسخ الامتياز وتراجع الشيرازي عن فتواه ، وأهم جانب في تلك الحادثة هو اتحاد المجتهدين ـ ولأول مرة ـ في تاريخ إيران ضد الدولة وقيامهم بالضغط على السلطة السياسية كممثلين عن الأهالي (١).

__________________

(١) Cengiz Kallek," Hasan es ـ Siazi", DIA, Istanbul ٧٩٩١, XVI, ٥٥٣; Kedourie, a. g. m., s. ٨٣١.

٣٣٨

٢ ـ مساعي الإنجليز لفرض السيطرة على العلماء

جذبت قوة علماء النجف التي بدأت تزيد اعتبارا من القرن التاسع عشر الإنجليز أيضا ، وقد رجحت إنجلترا طريق استخدام الشيعة الموجودين في الهند إلى جانب مساعيهم في العراق للاستفادة من قوة العلماء ، ولعبت إنجلترا دورا مؤثرا بواسطة قنصلها في بغداد في إيصال الهدايا والمساعدات التي سيقوم بها شيعة الهند إلى علماء النجف (١) ، وفي الفترة من عام ١٨٥٠ ـ ١٩٠٣ م نقلت إلى القصبات العراقية الموجودة بها أماكن مقدسة ستة ملايين روبية من الهند بواسطة إنجلترا.

وقد بدأ الموظفون الإنجليز اعتبارا من عام ١٨٥٠ م يحولون الأموال من الهند إلى النجف وكربلاء اللتين تعدان مدينتين مقدستين للشيعة في العراق تحقيقا لوصية ملك الهند (أوده باكويست) ، وكان هدف الإنجليز من تلك المساعدات بسط نفوذهم ورقابتهم على العلماء الشيعة في العراق وإيران.

ويدعي بعض المؤرخين أن هؤلاء الموظفين الإنجليز الذين نفذوا وصية الملك بذلوا جهودا في وقت لاحق للضغط على الشيعة بتلك المساعدات المالية لمعرفة من سيكون مجتهدا في العتبات المقدسة ، إلا أن محاولاتهم في الضغط على علماء الشيعة مستخدمين ملك الهند في ذلك باءت بالفشل.

وقد منح ملك الهند غازي الدين حيدر شركة الهند الشرقية قرضا يقدر بعشرة ملايين روبية عام ١٨٢٥ م ، إلا أن الشركة لم ترد تلك الأموال بعد ذلك ، وكانت الفائدة السنوية البالغة ٥% تدفع من قبل الحكومة الهندية لاستخدامها كفائدة خاصة ، وبعد وفاة الملك غازي

__________________

(١) أحد أهم الوظائف عند الشيعة في كربلاء والنجف ، وكانت مهمته تتمثل في قبول المساعدات التي تقدم للأهالي والأماكن المقدسة ، وتوزيع تلك المساعدات.

٣٣٩

الدين حيدر منحت زوجتاه السيدة نواب مبارك مخال شاحبة عشرة آلاف روبية ، والسيدة ميرام بيجوم شاحبة ألفين وخمسمائة روبية كراتب شهري لهما ، وثلث المبلغ المدفوع كان من حق السيدتين المذكورتين أن تتصرفا فيه كما تشاءان ، أما الثلثان الباقيان فكان يترك ليوزع على مستحقيه من المجتهدين في كربلاء والنجف بناء على الوصية المتروكة بذلك ، وقد آلت الأموال التي كانت تدفع للسيدتين المذكورتين بعد وفاتهما إلى خزانة الشركة الشرقية ، وبالرغم من ذلك فقبل التقسيم بدأت السلطات الإنجليزية النزاع في التحرك للسيطرة على التأثيرات السياسية لهذا التقسيم ، كما كانت حادثة كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٣ م والتي كانت ستزيد من نفوذ الإنجليز في المنطقة في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تسعى فيه لفرض سيادتها على المنطقة ، سببا في إضعاف العلاقات العثمانية الإنجليزية ، وضعت إنجلترا هذا الوضع نصب عينيها ، وقررت منح المجتهدين الموجودين في كربلاء والنجف الأموال مباشرة من خزانة الشركة الشرقية الواقعة في بومباي.

وقد أجل هنري رولينسون أكبر موظف مسؤول في بغداد عام ١٨٥٢ م هذا التنظيم إلى وقت لاحق معتقدا بأنه في حالة توزيع تلك الأموال في بومباي فإن الإنجليز لن يستطيعوا إعاقة الاستخدام السيئ ذي الأهداف السياسية الهدامة لتلك المساعدات ، وأعلن بأنه سيعطي كل عام للعتبات عشرة آلاف جنيه وسيمطر بها كل بغداد (كالرشوة) ، واقترح أن يكون تقسيم تلك الأموال بواسطة الموظفين الإنجليز الموجودين في بغداد ، وأوصى بمراقبة مصاريف تلك الأموال طبقا لنوايا المملكة ، وأن يكون مسؤولا عن ردها في الأوضاع العاجلة ، إلا أن الوالي العام الإنجليزي في الهند اللورد دالهوس رفض تلك المقترحات ، والخلاصة أنه أصبح هناك نزاع على مسألة من سيمنح الأموال المرسلة إلى النجف وكربلاء ، هل الموظفون الإنجليز الموجودون في بغداد؟ أم الموظفون

٣٤٠