كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

العجم» على المنطقة التي تمتد من يمين نهر دجلة حتى المناطق الجبلية الإيرانية ، ولم يستخدم لفظ العراق كمصطلح يعبر عن الجغرافية السياسية للمنطقة في عهود دولة سلاجقة الأناضول والمغول والقره قيونلي والآق قيونلي وأخيرا الدولة الصفوية التي جعلت العراق تابعة لإيران ، أما المنطقة التي عرفت باسم العراق في عهد الإمبراطورية العثمانية فكانت تحمل سمة جغرافية ، حيث أطلق مصطلح «عراق العرب» على المنطقة الجغرافية التي مركزها بغداد و «عراق العجم» على المنطقة التي مركزها همدان (١).

أما كلمة كربلاء فقد وردت لها معان كثيرة : قيل إنها مشتقة من كلمة (قاربالاتو) الأكادية التي تعني القلنسوة الحادة والتي تحولت إلى كلمة (كارباله) الموجودة في اللغة الآرامية والعبرانية الوسطى ، وقيل إن أصلها عربي مشتق من كلمة (كور بابل) التي تعني أنحاء بابل أو كلمة (كربله) التي تعني غوص القدم في الأرض الناعمة ، وبرغم كثرة الآراء في هذا الشأن إلا أنه لم يرجح أيّ منها على الآخر (٢).

تقع مدينة كربلاء على مسافة مائة كيلومتر جنوب غرب مدينة بغداد ، وكانت بغداد واحدة من أكبر وأشهر مدن الإمبراطورية العثمانية في آسيا طوال قرون عدة ، وتبعد عن الضفة اليمنى لنهر الفرات بمسافة خمسة وعشرين كيلومترا ، وتذكر القيود العثمانية أن سنجق كربلاء في القرن التاسع عشر كان يبلغ ثلاثين ساعة طولا وثلاثا وعشرين ساعة عرضا ، ويوجد في سنجق كربلاء قضاء ديلم في الشمال الغربي ، والكاظمية في الشمال ، والحلة في الشرق ، وسنجق ديوانية في الجنوب الشرقي ، كما يوجد في الناحية الجنوبية والجنوبية الغربية بادية الشام (٣).

__________________

(١) Saatci ,a.g.e ,s.٩١.

(٢) Mustafa Oz," Kerbla" Diyanet Islam Ansiklopedisi, Ankara ٢٠٠٢, c. ٥٢, s. ١٧٢.

(٣) Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٩٩٢١ , (Defa ٣) s.٥٩.

٢١

لا توجد غابات أو جبال في سنجق كربلاء ، ويمر منها عدة أفرع صغيرة من نهر الفرات ، وبالرغم من أن تربة كربلاء غنية وخصبة للغاية ؛ إلا أن أراضيها أصبحت مؤخرا عبارة عن مستنقعات بسبب انسداد الجداول المائية التي شقت لريها من قبل في العهود المختلفة ؛ مما أدى إلى عدم التمكن من ريها كما ينبغي ، وفساد طقسها بسبب وجود تلك المستنقعات بها (١).

وهناك عنصران يجعلان كربلاء في غاية الأهمية : الأول : وضعها الجغرافي ، فقد قامت كربلاء بنفس الدور الذي لعبته بغداد التي كانت تعدّ معبرا للرحلات الواقعة بين الدولة العثمانية والممالك الغربية ، كما تمر بها الطرق التجارية التي تربط بين البصرة وبغداد (٢) ، هذا بالإضافة إلى أهميتها بالنسبة للنقل النهري الذي زادت أهميته في القرن التاسع عشر (٣).

أما العنصر الآخر الهام في كربلاء : فهو عنصر ديني ، فكربلاء إحدى أماكن الزيارة المقدسة والمسماة (العتبات) عند الشيعة (٤) ، فقد

__________________

(١) A. G. E, S. ٥٩ ـ ٦٩.; Semsuddin Sami," Kerbela" Kamusu\'I ـ Alam, Istanbul ٨٠٣١, c. ٥, s. ٣٣٨٣.

(٢) Mehdi Cevad El Bustani, Bagdadtaki Kolemen Hakimiyetinin Tesisi Ve Kaldirlmasl ile Ali Riza Pasanin Valiligi, Doktora Tezi, ٩٧٩١, Istanbul Universitesi Merkez Kutuphanesi, Nr. ٨١٥٤١, s. ٢.

(٣) Cengiz Orhunlu, Turgut Islksal," Osmanl ١ Devrinde Nehir Nakliyatl Hakklnda Arastlrmalar, Dicle Ve Firat Nehrinde Nakliyat", Tarih Dergisi, c. ٣١, s. ٧٧ ـ ٢٠١.

(٤) العتبات جمع عتبة. والمناطق التي يطلق عليها اسم «العتبات المقدسة» و «العتبات العالية» يوجد أكثرها في كل من النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء ، ويعتبر المكان الذي دفن فيه علي بن أبي طالب الكائن في النجف المقام المقدس الأول عند الشيعة ، وزعم أن مكان هذا القبر قد أحيط بالسرية في عهد بني أمية ثم شيد أبو الهيجاء والي الموصل التابع للهمدانيين ضريحا ذا قبة في هذا الموقع في أواخر القرن التاسع الميلادي. والعتبة الثانية من ناحية الأهمية هي ضريح الإمام الحسين

٢٢

استشهد الإمام الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه في وادي كربلاء في ١٠ محرم عام ٦١ ه‍ (٦٨٠ م) في الحرب التي دارت بينه وبين نائب الكوفة عندما كان الإمام الحسين ذاهبا إلى العراق ليتولى منصب الخلافة ، ودفن جسدا بلا رأس في الحائر ، وعرف المكان الذي دفن فيه باسم ضريح الحسين ، وبعدها بفترة قصيرة أصبح هذا المكان مزارا مشهورا ومقاما مقدسا عند الشيعة (١) ، والسبب في كثرة زيارة الشيعة لهذا المكان هو الروايات التي وردت عن الإمام زين العابدين والإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق ، فقد لفت هؤلاء الأئمة الانتباه إلى مشروعية وفضائل زيارة ضريح الإمام الحسين (٢).

وإذا أردنا النظر إلى تاريخ كربلاء قبل وبعد الإمبراطورية العثمانية ،

__________________

في كربلاء. وعرف ضريح الحسين في كربلاء قبل ضريح الإمام علي في النجف ، وجابر بن عبد الله هو أول من زار هذا القبر بعد حوالي ٤٠ يوما من أحداث كربلاء. ويوجد في عتبة الكاظمية قبر كل من الإمام السابع موسى الكاظم والإمام التاسع محمد التقي. وذكر أولياء جلبي أن هارون الرشيد هو مشيد ضريح الإمام موسى الكاظم. وتقع العتبة الأخرى في مدينة سامراء الواقعة على بعد ١٠٠ كم شمال بغداد. ويوجد في سامراء التي أنشاها الخليفة المعتصم ضريح الإمام العاشر علي الهادي والإمام الحادي عشر حسن العسكري. أما الإمام الثاني عشر «المهدي» فيعتقد أنه فقد في سرداب ضريح الإمام حسن العسكري. انظر :

Avni Ilhan, Atebat, DIA, Istanbul ١٩٩١, c. ٤, ٩٤ ـ ٠٥.

ويوضح الكاتب سواين صن كوبر في كتابه «عبر تركيا وبلاد العرب» أن كربلاء تعتبر الموقع الرابع المقدس لدى المسلمين الشيعة. ويروى فيه على لسان شيخ من كربلاء الأماكن المقدسة على الترتيب الآتي : مكة ، المدينة ، النجف ، كربلاء ، الكاظمية ، المشهد ، سامراء.

) H. Swainson Cowper, Through Turkish Arabia, LONDON, ٧٨٩١, S. ٨٦٣ (

(١) Sami, a. g. e., s. ٣٣٨٣; E. Hongmman" Kerbela" ISLAM ANSIKLOPEDISI, Istanbul ٧٦٩١. c. ٦, s. ٠٨٥.

(٢) Oz.,a.g.m.,XXV / ١٧٢.

٢٣

فلن يكون من الخطأ تتبعنا له بالتوازي مع تاريخ بغداد ، فكربلاء لم تكن بعيدة عن التطورات والتغييرات الهامة التي حدثت في بغداد.

فعندما سقطت الدولة الأموية انتهت شهرة وقوة ونفوذ دمشق ، كما أن مركز العباسيين كان موجودا في أراضي العراق الحالية ، حيث كانت الكوفة (١) القريبة من الحدود الإيرانية عاصمة للدولة الجديدة (٢) ، ثم قام أول خليفة عباسي الخليفة أبو العباس السفاح بتأسيس عاصمة دولته على ضفاف نهر الفرات ، ولم يرغب الخليفة العباسي في جعل الكوفة ـ وهي من المدن الأولى التي فتحت في العراق ـ مركزا للدولة ، وذلك لميل أهاليها إلى التشيع ، أما مدينة البصرة فلم يكن وضعها الجغرافي مساعدا لجعلها مركزا للدولة نظرا لوقوعها في الجنوب ، ولهذه الأسباب فضّل السفاح الإقامة في مدينة الهاشمية القربية من الأنبار ، أما الخليفة المنصور فقد أسس مدينة تحمل اسمه بالقرب من مدينة الكوفة ، ولكنه لم ينتقل إليها لوجودها بالقرب من مدينة الكوفة الشيعية ، وفي سنة (٧٦٢ م) اختار لنفسه مقرّا ليقيم فيه وهو قرية بغداد مع بعض الأماكن المأهولة المحيطة بها والواقعة في منطقة نهر دجلة أعلى نهر عيسى ، ذلك الرافد المائي الكبير المتفرع من نهر الفرات (٣) ، ومنذ ذلك التاريخ وبغداد تتطور يوما بعد يوم ، فكثرت بها المدارس والمكتبات والمراصد والمؤسسات الإسلامية الأخرى ، هذا بخلاف التطور المذهل الذي شهدته في مجال العمارة في عهدي هارون الرشيد والخليفة المأمون لكونها مركزا للعالم الإسلامي ، وبدأ العلماء يفدون إليها من كل مكان من أرجاء العالم الإسلامي (٤) ، ولم تصبح كربلاء مدينة إسلامية كبرى

__________________

(١) للاستزادة انظر :Mahfi Soylemez, Bedevilikten Hadarilige Kufe, Ankara ١٠٠٢.

(٢) Philip Hitti, Islam Tarihi : Siyasive Kulturel,) cev : Salih Tug (, Istanbul ٠٨٩١, s. ٢, s. ٠٤٤.

(٣) Hitti, a. g. e., II / ٦٤٤ ـ ٩٤٤.; Honigmann, a, g. m., VI / ٠٨٥.

(٤) El ـ BUSTANI ,S.٢.

٢٤

بسبب الامتداد الشيعي الموجود بها ، إلا أن معظم من حكم تلك المنطقة كان يعطي للسيطرة عليها أهمية كبرى بسبب أهميتها الدينية والجغرافية.

وبالرغم من الرعاية والحرمة التي أظهرها العباسيون لضريح الإمام الحسين منذ عهودهم الأولى وعلى الرغم من تأسيس أم موسى بنت منصور والدة الخليفة المهدي بالله وقفا لسد احتياجات المدينة فقد أمر الخليفة العباسي المتوكل على الله بهدم ضريح الإمام الحسين والأبنية الموجودة حوله بسبب عداوته للشيعة ، وحوّل كل تلك الأراضي إلى حقول ، وأعلن أن سيعاقب كل من يأتي لزيارة المكان ، ولكن هذا التحذير الذي أعلنه الخليفة المتوكل على الله لم يكن مؤثرا على الأهالي ، فبني الضريح والأبنية المجاورة له من جديد وفتح للزيارة مرة أخرى ، ويفهم مما أورده ابن حوقل (٩٧٧ م) أن المكان في هذا التاريخ كان يوجد به قبر مقبب به باب ومدخل من كل جوانبه ، وكان كثير من الزوار يأتون لزيارته» (١).

وفي عام ٩٧٩ م أتى إلى المدينة دعبة بن محمد الأسدي زعيم بعض العشائر الموجودة في عين التمرة ، وخرّب المكان ، ونهب الأشياء القيمة الموجودة بالأضرحة ، وعاد إلى الصحراء مرة أخرى ، وبعد تلك الحادثة أمر عضد الدولة سلطان الدولة البويهية بتعمير المكان مرة أخرى ، كما زار السلطان السلجوقي ملك شاه النجف وكربلاء عام ١٠٨٦ م ، وقدم الحاكم الإيلخاني قازان خان العديد من الهدايا القيمة لضريح الإمام الحسين عند زيارته لمدينة كربلاء عام ١٣٠٣ م ، وتذكر الروايات أن قازان خان أو والده أرجون هو الذي أمر بشقّ جدول الحسينية (٢) من نهر

__________________

(١) Hitti ,II / ٨٧.

(٢) Ali Satan," Ingiltere DisisLERI Belgelerinde Irak\'ta Yer Isimleri" Turk Tarihi Dergisi Dun / BU GUN / Yarin : say ٢٨, Kasim ٣٠٠٢, s. ١١١ ـ ٥١١.

٢٥

الفرات لسد احتياجات مدينة كربلاء من المياه (١٣٢٧ م) ، أما ابن بطوطة الذي زار المدينة عام ١٣٢٦ ـ ١٣٢٧ م فقد صوّر المدينة على أنها موجودة وسط بساتين النخل وأنها تروى من مياه نهر الفرات ، ويذكر أيضا أن ضريح الإمام الحسين موجود بوسط المدينة ، وبجواره مدرسة وزاوية لإقامة الزوار (١).

اصطدم أحمد الجلايري الفارّ إلى الحلة الواقعة في وادي كربلاء مع جيش تيمور عند قدومه إلى بغداد سنة ١٣٩٣ م ، ولم يتمكن جيش تيمور من إحراز نصر حاسم في تلك المعركة ، ولكن تيمور استولى بعد ذلك على بغداد وأقام مذبحة فيها ، ولكنه لم يمس كربلاء بأيّ سوء ، وعندما استولى الشاه إسماعيل الصفوي على بغداد عام ١٥٠٨ م ذهب إلى كربلاء ، وأمر بتزيين الضريح ووضع به اثنى عشر قنديلا من الذهب ، ثم جاء الشاه إسماعيل الثاني إلى المنطقة عام ١٥٢٦ م وأمر بصنع سياج فضي حول القبر ، وأسس فيها بعض الأوقاف لخدمة العتبات المقدسة (٢).

وهناك بعض الإشارات في دفاتر التحرير التي سجلت في عصر السلطان سليمان القانوني عن تلك الأوقاف.

٢ ـ دخول بغداد وكربلاء تحت الحكم العثماني (١٥٣٤ ـ ١٨٣١ م)

شهدت الفترة الممتدة من دخول بغداد وكربلاء تحت الحكم العثماني حتى بدايات القرن التاسع عشر الكثير من الأحداث التي سنلخصها فيما يلي : كان السلطان سليمان القانوني مثل والده السلطان سليم الأول يؤمن بأن وجود الدولة الصفوية الشيعية يشكل خطرا على العالم الإسلامي

__________________

(١) Oz ,a.g.m ,s.١٧٢.

(٢) El ـ Bustani ,a.g.t ,s.٣.Oz ,a.g.m ,XXV / ١٧٢ ـ ٢٧٢.

٢٦

والتركي يجب القضاء عليه ، ولهذا رأى ضرورة توجيه حملة لبغداد التي كانت تحت سيطرة الدولة الصفوية منذ عام ١٥٠٨ م.

اختلف ذو الفقار خان حاكم مدينة بغداد مع الصفويين وأرسل مفاتيح المدينة إلى استانبول عام ١٥٢٩ م وأعلن بذلك تبعيته للدولة العثمانية (١) ، وبعد ذلك تحرك الشاه طهماسب نحو بغداد على الفور وقتل (ذو الفقار خان) ؛ ولهذا اضطربت العلاقات العثمانية ـ الصفوية ، وزاد التوتر أكثر وأكثر عندما لجأ شرف خان أمير أمراء بتليس إلى إيران ، ولجأ أولاما خان حاكم أذربيجان إلى العثمانيين ، لذا قام السلطان سليمان القانوني بحملة على العراقين دامت أكثر من سنة ، وتمكن الوزير الأعظم إبراهيم باشا من دخول المدينة دون أية مقاومة في ٢٩ نوفمبر عام ١٥٣٤ م ، وأعدّ المدينة لاستقبال السلطان المقيم في معسكره خارج المدينة (٢) ، وفي ١ ديسمبر عام ١٥٣٤ م دخل السلطان سليمان القانوني مدينة بغداد مركز الخلافة العباسية باحتفال كبير ، وأقام القانوني في بغداد أربعة أشهر ، وأول ما عمله السلطان بعد فتح بغداد هو زيارة قبر الإمام أبي حنيفة مؤسس المذهب الحنفي ، وأمر بإعادة بناء القبر الذي خربه الصفويون وبناء جامع كبير بجواره ، ثم زار بعد ذلك قبري الإمام موسى الكاظم وعبد القادر الجيلاني وأمر بترميمهما وعمل قباب لهما ، وفي نفس العام ذهب السلطان القانوني إلى النجف وكربلاء وزار مقامات أهل البيت ، وأمر بترميمهما (٣) ، كما أمر بترميم قناة الحسينية الموجودة فيها ، وحوّل الساحات التي سترت بالرمال إلى حدائق خضراء وبذلك

__________________

(١) Remzi Kihc, ٦١. ve ٧١. Yuzyllarda Osmanli ? ـ Iran Siyasi Antlasmalari, Istanbul ١٠٠٢, s. ٣٣.

(٢)Tayyib Gokbilgin," Arz ve Raporlarina Gore Ibrahim Pasanin Irakeyn Seferinde Ilk Tedbirleri ve Futuhati", Belleten, XXI / ٣٨,) ٧٥٩١ (, s. ٩٤٤ ـ ١٨٤.

(٣) I. H. Uzuncarsili, Osmanli ? Tarihi, Ankara ٩٩٩١, II / ٠٥٣ ـ ٢٥٣.; Kihc, a. g. e., s. ٣٣, ٨٣ ـ ٩٣

٢٧

اكتسب السلطان القانوني حبّ السنّة والشيعة معا (١) ، وكانت تلك السياسة التي انتهجها السلطان القانوني بمثابة البنية التحتية لسياسة السلاطين العثمانيين تجاه إيران والشيعة فيما بعد.

قسمت العراق إلى أربع ولايات منذ عهد السلطان القانوني هي بغداد والبصرة والموصل وشهرزور ، كانت الثلاث الأولى منها بمثابة المراكز ، وكان ولاة بغداد يعينون من استانبول ، أما ولاة الولايات الثلاث الأخر فكانوا يعينون من قبل استانبول باقتراح والي بغداد ، وبالرغم من أن أمراء الألوية الذين يعينون على السناجق المختلفة في الولايات العثمانية كانوا يختارون من قبل استانبول ، إلا أن الولايات البعيدة والهامة مثل مصر وبغداد كان يعين ولاتها أمراء ألوية السناجق.

اعترفت الدولة العثمانية بالدولة الصفوية رسميّا بمعاهدة أماسيا الموقعة في ١ يونيو ١٥٥٥ م ، واعترف الصفويون بأن الأراضي التي حصل عليها العثمانيون في حملة العراقين تابعة للعثمانيين ، وبالرغم من ذلك لم يتخل الصفويون أبدا عن رغبتهم في عراق العرب ، ولكن بعد الفتوحات التي تمت في عهد السلطان مراد الثالث في القوقاز وجورجيا وأذربيجان انتهت آمال الصفويين في استرداد بغداد بعد عقد معاهدة استانبول عام ١٥٩٠ م ، أما في عام ١٦١٢ م شهدت الدولتان العثمانية والصفوية حروبا دامية انتهت بعقد معاهدة نصوح باشا التي اتخذت من معاهدة أماسيا أساسا لها ، وكان من أهم بنود تلك المعاهدة أن يأتي الحجيج الإيرانيون إلى الحج عن طريق الشام وحلب وليس عن طريق بغداد والبصرة وذلك للحفاظ على أمن بغداد الواقعة في حوزة العثمانيين ، وعقب تلك المعاهدة بثلاث سنوات عقدت معاهدة صلح عرفت باسم معاهدة سراو عام ١٦١٨ م ، وتمت بعض الإصلاحات

__________________

(١) Honigmann ,a.g.m.,s ,١٨٥.

٢٨

والتنظيمات في بغداد بموجب هذه المعاهدة كما حدث في غيرها من المعاهدات الأخرى (١).

وفي عام ١٦٢٤ م احتلّ الشاه عباس الأول بغداد ، وظلت المنطقة تحت السيطرة الإيرانية أربع عشرة سنة ، وبالرغم من أن القوات العثمانية حاولت استرداد المنطقة مرتين الأولى كانت بقيادة أحمد حافظ باشا عام ١٦٢٥ م ، والثانية كانت بقيادة خسرو باشا عام ١٦٢٩ م ، إلا أنها لم تتمكن من ذلك ، وفي الوقت الذي أخفق فيه خسرو باشا في استرداد بغداد تمكن القادة الآخرون من السيطرة على كربلاء ، وفي تلك الأثناء كان مصطفى باشا أمير أمراء طرابلس الشام قد سار إلى بغداد لمساعدة القائد العام خسرو باشا وهو لا يعلم أن خسرو باشا تخلى عن السير إلى بغداد ، وعندما وصل مصطفى باشا إلى كربلاء تقابل مع فرقة إيرانية يقدر عددها بستمائة جندي فحاربهم وهزمهم ، ولما وصل الخبر إلى القائد العام خسرو باشا ، أرسل مددا تحت قيادة كنج عثمان ذلك القائد الجسور الذي كان أحد رفقاء محمد باشا أباظة ؛ وذلك لإمداد قوات مصطفى باشا من ناحية واسترداد تلك الأماكن من ناحية أخرى ، وقد استولت تلك القوات على النجف وكربلاء والحلة والرماحية وترك كنج عثمان هناك لحماية المنطقة ، وفي ٨ أبريل ١٦٣٨ م الموافق ٢٣ ذي الحجة ١٠٤٧ ه‍ خرج السلطان مراد الرابع في حملة على إيران لرد تلك المنطقة الهامة إلى الأراضي العثمانية.

استمر الحصار للمدينة أربعين يوما فطلب بكتاش خان الصفوي الأمان من العثمانيين ، وبذلك تم تسليم المدينة ، وطلب شاه إيران الصلح فعقدت معاهدة قصر شيرين في ١٧ مايو عام ١٦٣٩ م ، ورجعت بغداد مرة أخرى إلى حوزة الدولة العثمانية بموجب تلك المعاهدة ، وتعهدت

__________________

(١) Kilic ,a.g.e.,s.٧٧ ,٨١١ ,٨٦١ ,٣٧١.

٢٩

إيران بأنها لن تقوم بأي هجوم على بغداد وقارص وشهرزور وأخيصكا ووان (١).

وبالرغم من كل تلك المعاهدات التي وقّعت بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية إلا أن المصادمات الحدودية التي كانت سببا في التوتر بين الدولتين فيما بعد تعدّ دليلا على نقص التنظيمات الحدودية التي تمّت في بغداد وعراق العرب.

ومن المعروف أن الحاكم الإيراني نادر شاه قد هجم على بغداد عام ١٧٣٣ م وحاصرها لمدة سبعة أشهر ، وسرعان ما انهزم نادر شاه في ٢٠ يوليو ١٧٣٣ م أمام القوات العثمانية بقيادة طوبال عثمان باشا ، وحينئذ نجت بغداد ـ التي كانت تعاني حالة من القحط بسبب الحصار ـ من الوقوع تحت سيطرة الصفويين (٢).

ظلت بغداد تحت إدارة ولاة المماليك في الفترة من عام ١١٦٣ ه‍ ـ ١٧٤٩ م إلى عام ١٢٤٦ ه‍ ـ ١٨٣١ م (٣) ، وقد أرسلت الدولة في عهد ولاية أحمد باشا لبغداد مجموعة من الجنود لتأمين النظام في بغداد وما حولها ، وبدلا من أن ينصاع هؤلاء الجند لأوامر أحمد باشا خرجوا عليه ، ولهذا أراد أحمد باشا أن يشكل فرقة من الجنود تطيع أوامره دون أدنى تردد ، وبذلك ظهرت طائفة المماليك في بغداد ، وتمكنوا في النهاية من السيطرة على الحكم.

__________________

(١) Mufassal Osmanli Tarihi, Iskit Yayinlari ? , Istanbul ٠٦٩١, IV, ١٧٩١; Kerim Yans, IV. Murad Devrinde Osmanli ـ Safevi Munasebetleri,) Yayimlanmamis Doktara Tezi, ٧٧٩١ (, Istanbul Universitesi Edebiyat Fak., s. ٨٩١ ـ ٩٠٢. IV. Murad\'in Bagdat Seferi icin bkz. Evliya Celebi, Seyehatname, Istanbul ٤١٣١, IV, ٦٩٣ ـ ٦٢٤; Kilic, a. g. e., s. ٣٩١

(٢) Uzuncarsili, a. g. e., V, ٤٢٢; M., Cavid Baysun," Bagdat", IA, Eskisehir ٧٩٩١, II, ٧٠٢.

(٣) ، Sabit, Bagdad\'da Kolemen Hukumeti\'nin Teskiliyle Inkirazina Dair Risaledir, Istanbul ٢٩٢١.

٣٠

وبعد وفاة أحمد باشا والي بغداد ، تولى ولاية بغداد بعده عبده المعتوق وصهره المسمى سليمان باشا (١٧٤٩ م) ، كان سليمان باشا يلقب بأبو ليلي وأبو سمرا ودواس الليل ، استمرت ولايته على بغداد اثني عشر عاما عاشت بغداد خلالها في أمن وطمأنينة ، حتى إنه تمكن من السيطرة على العشائر العربية والكردية الموجودة وأسس إدارة للمماليك هناك (١) ، وعندما توفي سليمان باشا في ٨ أغسطس ١٨٠٢ م تولى بعده أبو غدارة علي باشا ؛ ولأن الوهابيين هجموا على حدود بغداد في عهده ، وقاموا بمذبحة في كربلاء ، كلف علي باشا بالخروج في حملة لقتال الوهابيين ، ولم تتمكن القوات العثمانية من التدخل العسكري المباشر بسبب الأوضاع التي كانت تعيشها الدولة في ذلك الوقت ، لذا أحالت الدولة الأمر لوالي بغداد والإداريين المحليين ، وبالرغم من أن علي باشا أعطى أهمية كبرى لموضوع الوهابيين ، إلا أن عزيمته قد خارت بسبب الهزائم المتلاحقة التي مني بها. ولذلك أمر والي بغداد بحفر الخنادق حول المدينة لحمايتها من هجوم الوهابيين كما أمر ببناء الحصون ، وقام بتشجيع بعض العشائر العربية المخالفة للوهابيين وأرسلهم للدرعية مقر الوهابيين ، وبالرغم من تحقيقه نجاحا طفيفا في هذا الشأن ، إلا أن الوهابيين زادت قوتهم يوما بعد يوم ، وبعد تلك الأحداث أرادت الدولة العثمانية القضاء على حكم المماليك في بغداد لعدم تمكنهم من صد هجمات الوهابيين وتوفير الأمن ، إلا أنها لم تتمكن من ذلك بسبب وساطة السفير الفرنسي سبستيان ، وعين سليمان باشا الصغير واليا على بغداد (٢) ، وخلفه عبد الله أغا ، ثم خلفه سعيد باشا عام ١٨١٣ م ، ثم تولى

__________________

(١) عبد العزيز سليمان نوار ، داود باشا والي بغداد ، القاهرة ١٩٦٧ ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) Zekeriya Kursun, Necid ve Ahsa\'da Osmanli Hakimiyeti, Ankara ٨٩٩١, s. ٧٣; Baysun, a. g. m., s. ٨٠٢ ـ ٩٠٢; Yusuf Halacoglu," Bagdad", DIA, Istanbul ١٩٩١, IV, ٥٣٤.

٣١

بعده داود باشا الذي استمرت ولايته على بغداد خمسة عشر عاما وكانت إدارته ناجحة للغاية خلال تلك الفترة ، وبالرغم من أن داود باشا كان يدفع الضريبة السنوية المقررة عليه باستمرار إلا أنه تحرك بشيء من الاستقلالية أثناء حكمه للولاية وذلك بسبب قوة شخصيته ، وكان هذا الوضع ضد سياسة السلطان محمود الثاني التي كانت تدعو للمركزية ، ولما بدأت الحرب العثمانية ـ الروسية (١٨٢٨ ـ ١٨٢٩ م) تأخر داود باشا في دفع الضريبة فعزله السلطان محمود الثاني من منصبه ، وأرسل فرمان العزل مع صادق أفندي ، فقتل داود باشا صادق أفندي ، ولم ينصع لأوامر السلطان فاعتبرت الدولة العثمانية فعله هذا خروجا عليها ، وأرسلت علي رضا باشا بقوة عسكرية ليتولى منصب والي بغداد في شهر سبتمبر عام ١٨٣١ م ولما وصل علي رضا باشا إلى بغداد استسلم له داود باشا بعد مناوشة فأرسله علي رضا باشا إلى استانبول (١) ، وبذلك انتهى حكم المماليك في بغداد سنة ١٨٣١ م.

اتخذ داود باشا كل الإجراءات الأمنية المطلوبة لنشر الأمن والطمأنينة في بغداد ، ولم يسمح قط بظهور أية أعمال قد تخلّ بالأمن ، حتى إنه اهتم بتربية وتأديب عشائر عنزة التي كانت تهاجم أهالي النجف وكربلاء بصفة مستمرة ، ويفهم من فرمان السلطان المرسل في ١٨١٦ وفي ١٨١٨ م أن داود باشا كلف بتأديب عشيرتي عنزة ودليم لهجومهما على الأهالي في النجف وكربلاء ، وطلب منه نشر الأمن والأمان في كل أرجاء بغداد (٢).

حدثت بعض التنظيمات الإدارية في ولاية بغداد في عهد المماليك ، ففي ذلك العهد عين ولاة بغداد على ولايتي البصرة

__________________

(١) Zekeriya Kursun," Davud Pasa", DIA, Istanbul ٣٩٩١, IX, ٨٣.

(٢) BOA ,Hatt ـ i ? Humayun (HH) ٣٧٤٤٢ VE ٢٠٤٤٢.

٣٢

وشهرزور أيضا ، كما صار لهم صلاحية تعيين دفتردار وأغا الإنكشارية الذين كان يتم تعيينهم من قبل استانبول ، ولكن بعد القضاء على حكم المماليك في بغداد وربطها بشكل مباشر بالإدارة المركزية أصبحت ولايات البصرة والموصل وشهرزور تدار في بعض الأحيان كسناجق تابعة لولاية بغداد وأحيانا كولايات منفصلة ، واستقر الوضع في النهاية على بقائها كولايات منفصلة عن بغداد ، هذا بالإضافة إلى القيام ببعض التغيرات الإدارية في السناجق التابعة لبغداد ، وفي العهود الأخيرة تكونت سناجق بغداد من الحلة والديوانية وكربلاء فقط (١).

وبالرغم من أن المماليك سيطروا على السلطة في بغداد إلا أنه كان يتمّ تعيينهم من قبل الدولة وبرغم هذا تمكنوا من تأسيس إدارة مستبدة في بغداد ، فوجدناهم يعينون مشايخ العشائر الكبرى في بعض المواقع الهامة وعلى سبيل المثال فقد أعطوا لشيخ عشائر منتفك مكانا مهمّا مثل البصرة المؤثرة على كربلاء بشكل مباشر ولواء المنتفك ، وكما أعطوا لشيخي عشيرة بني لام والبو محمد لواء العمارة وذلك مقابل بدل سنوي كان هؤلاء المشايخ يدفعونه لهم (٢).

ويحتمل أن يكون قضاء ولاة المماليك على الثورات التي قامت بها العشائر بين الحين والآخر وخوف العشائر منهم سببا في جعلهم أصحاب كلمة نافذة هناك ، ولذا عاش عراق العرب في عهدهم فترة من الأمن والطمأنينة (٣).

بالرغم من تلك السياسة الجيدة التي انتهجها ولاة المماليك في الداخل إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيقها في العلاقات الخارجية وخاصة مع

__________________

(١) Baysun, a. g. m., s. ٥٠٢ ـ ٦٠٢; el ـ Bustani, a. g. t., s. ٥.

(٢) Kursun ,a.g.e.,s.٤.

(٣) Cevdet Pasa, Tarih ـ i Cevdet, Istanbul ٩٠٣١, I / ٠٤٣; Sabit, a. g. e., s. ٣٩.

٣٣

إيران ، ومن ذلك سوء تصرفهم مع الزوار والتجار الإيرانيين الذين أتوا لزيارة ضريح الإمام الحسين عام ١٧٧٥ ـ ١٧٧٦ م ، الأمر الذي أدى إلى توتر جديد في العلاقات بين الدولة العثمانية وإيران ، وتحرك الباب العالي بشكل سريع لتدارك الموقف (١) ، فالحكومة العثمانية كانت تتبع بشكل دقيق المشكلات الواقعة بين القوى المحلية التابعة للدولة العثمانية وإيران ، وتتدخل في حالة حدوث احتكاكات قد تكون سببا في حدوث مصادمات كبرى تؤثر عليها سلبيّا فيما بعد.

إن أهم الأحداث التي وقعت في كربلاء في عهد ولاة المماليك هو مجيء الوهابيين حتى العتبات وهجومهم بشدة على كربلاء.

لقد كانت أفكار محمد بن عبد الوهاب زعيم الوهابيين مخالفة لكثير من أفكار الشيعة والسنة على السواء ، لدرجة أنهم كانوا ينفرون من المذاهب الأخرى بسبب تلك الفروق الموجودة بينهم وبين المذاهب الأخرى ، فقد كان الوهابيون يقولون بأن كل شيء خارج عن الكتاب والسنة بدعة ، ومرتكبها ملحد في نظرهم ، وبطبيعة الحال كانت طقوس وأفكار الشيعة الموجودين في كربلاء والنجف مخالفة تماما لأفكار الوهابيين ، الأمر الذي جعلهم يصدرون عليهم حكما بأنهم مرتدّون وأن أرواحهم وأموالهم حلال ، والواضح أن السبب الرئيسي في هذه العداوة الوهابية للشيعة هو العامل الاقتصادي ، فقد كان الوهابيون ينهبون قوافل الحج القادمة من بغداد إلى نجد ، وكان هذا النهب عبارة عن نشاط له أهداف اقتصادية يتم تحت ستار الدين ، وكان هذا الأمر سببا في ظهور العداوة بين الشيعة والوهابية.

وقد وقع أول هجوم وهابي على سنجق كربلاء عندما حدث صدام بين عشيرة خزائل التي تعيش في نواحي هندية وبين الوهابيين الذين كانوا

__________________

(١) Tarih ـ i Cevdet ,II ,٦٥ ـ ٧٥.

٣٤

متجهين إلى النجف والموجودين هناك بهدف التجارة (١) ، ولأن سليمان باشا اعتقد أن الوهابيين سيتخذون هذا الهجوم حجة لهم في خلق توتر ومشكلات في المنطقة قام بتأديب تلك الطوائف التابعة لتلك العشيرة ، أما الوهابيون فقد سعوا بكل ما أوتوا من قوة لاستخدام تلك الحجة ، حتى إنهم طلبوا من الدولة العثمانية أن تمنحهم منطقة الشامية الممتدة من مقاطعة عنة حتى البصرة ، وذلك تعويضا عمّا حدث لهم في النجف (٢) ، وكان هذا الطلب يعبر بشكل واضح عن نية الوهابيين في الهجوم ، وفي النهاية قاموا بالهجوم على ديار عشائر المنتفك الواقعة جنوب العراق عام ١٧٩٩ م ، وفي عام ١٨٠١ م هجموا على قصبات النجف وكبيسة وعنة (٣).

أما أعنف هجوم قام به الوهابيون فقد كان على كربلاء في (٢٠ أبريل ١٨٠١ م) ؛ وذلك لأنهم لم يتمكنوا من شنه على النجف بسبب قوة استحكاماتها ، ففي البداية قام الوهابيون بتخريب مشهد الإمام الحسين الذي كانوا ينظرون إليه على أنه بدعة ، ثم نهبوا كل الأشياء القيمة الموجودة بداخله ، ثم انسحبوا بعد ذلك إلى الدرعية ، بعد ما قتلوا في هذا الهجوم ما يقرب من خمسة آلاف شخص ، وأسروا الكثير من الأهالي (٤).

__________________

(١) Kursun ,a.g.e.,s.٣٣ ـ ٤٣.

(٢) Tarih ـ i Cevdet ,VII ,٦٦١.

(٣) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.٧١.

(٤) Kursun ,a.g.e.,s.٤٣ ;Tarih ـ i Cevdet ,VII / ٧٦١.

ذكر القنصل الفرنسي في بغداد المسمى روسو في رحلته معلومات تفصيلية عن الآراء الدينية والحياة الاجتماعية للوهابيين ، ويحكي روسو حدثا مدهشا وقع أثناء هجوم الوهابيين على كربلاء في عام ١٨٠١ م. «كانوا متعطشين إلى سفك الدماء والسلب ولم يرحموا أحدا وذبحوا كل من سقط في أيديهم وبرغم هذا أظهروا الرحمة

٣٥

أراد شاه إيران الانتقام من الوهابيين بعد هذا الهجوم وهذا التخريب الذي قاموا به (١) ، فعندما وصلت إليه أخبار هذا الهجوم أمر كل رجال الدولة بلبس ملابس الحداد ، وأرسل رسالة إلى سليمان باشا والي بغداد يطلب منه الأخذ بالثأر من الوهابيين جراء ما اقترفوه في كربلاء ، وإن لم يفعل سليمان باشا ذلك فسيذهب الشاه بنفسه لتأديبهم ثم يتجه إلى بغداد ليعاقبه ، ورفض سليمان باشا هذا الاتهام وهذا التحذير الموجه إليه ، وقال : إن الجيش العثماني هو المكلف بحماية الأراضي العثمانية.

اتهم الإيرانيون الدولة العثمانية بأنها لم تتمكن من حماية كربلاء ، واقترحوا على الدولة العثمانية اتحاد القوات العثمانية مع القوات الإيرانية لمنع هجمات الوهابيين ، وحمّلت الدولة العثمانية إيران مسؤولية ما قام به الوهابيون من قتل وسفك ونهب لأنها لم تسمح بإقامة سور حول كربلاء والعمل على تحصينها بشكل جيد ، ورفضت الدولة العثمانية قدوم القوات الإيرانية إلى الأراضي العراقية للانتقام من الوهابيين ؛ لأن هذا لا يتناسب مع سيادة العثمانيين على المنطقة ، وأخبرت إيران بأنها ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لتأديب الوهابيين (٢).

أرسل سليمان باشا والي بغداد العشائر الموجودة في المنطقة

__________________

والتقدير للنساء ، حتى إنه أثناء سلب واحتلال كربلاء سنة ١٨٠١ م كانوا يدخلون المنازل ويفصلون النساء عن الرجال وبعد ذبح الرجال وسلب ونهب ما وجدوه يأمرون النساء بخلع حليهن ، وكانوا ينحون وجوههم في الناحية الأخرى كي لا يروا النساء ، وإذا كان هناك حلي مما خلعتة النسوة يأخذونه ويذهبون» وقد عبر روسو عن دهشته من هذا الأمر قائلا «ولا أعرف كيف تآلف هذا العقل مع تلك الطبيعة الوحشية؟».

Russoau, a. g. e., s. ١٨.

(١) BOA ,HH ٧٩٧٣ ;Tarih ـ i Cevdet ,VII ,٧٦١ ـ ٨٦١.

(٢) el ـ Bustani ,a.g.e.,s.٧١ ,٩١.

٣٦

لمحاربة الوهابيين وعلى رأسها عشيرة منتفك التي كانت تمد له يد العون دائما حتى لا يضع نفسه وجها لوجه مع الخطر الإيراني إلا أنه لم يحرز أي نجاح (١) ، أما علي باشا الذي تولى الولاية بعد سليمان باشا فكان ضد المطالبة بالإمدادات من إيران بسبب الهجمات الوهابية ، وبالرغم من ذلك لم يتخذ أي إجراء عسكري جادّ ، وبالرغم من أن الوهابيين لم يقوموا بهجوم كبير كهذا على النجف وكربلاء بعد هذا التاريخ (٢) ، إلا أن الدولة لم تتمكن من الحصول على أية نتائج من المباحثات التي قامت بها مع الوهابيين.

إن أهم الولاة الذين تولوا ولاية بغداد بعد إدارة المماليك وكان لهم تأثير على الأحداث في كربلاء هم علي رضا باشا ونجيب باشا ومحمد نامق باشا وكوزلو كلي محمد رشيد باشا وتقي الدين باشا ومدحت باشا ، وقد سعت الدولة العثمانية بواسطة الولاة ذوي الخبرة إلى تثبيت سياسة المركزية في بغداد تلك السياسة التي انتهجتها بفرمان التنظيمات ، إلا أن بعض الولاة كان يعتبر تعيينه واليا على بغداد بمثابة النفي له ، ولعل أهم سبب في ذلك هو اعتقاد بعض الولاة بأن ولاياتهم في بغداد ستكون لفترة محدودة مؤقتة ، وكان هذا الأمر من أهم دواعي عدم استمرار إدارة سياسية ثابتة ، وكانت هذه المشكلة من أهم المشكلات في بغداد ، وفي خلال الفترة الممتدة من عام ١٨٣٠ إلى عام ١٨٨٢ م والتي تبلغ اثنين وخمسين عاما تمّ تعيين واحد وعشرين واليا على بغداد ، وأكثر من يلفت الانتباه من هؤلاء الولاة هو علي رضا باشا ؛ وهذا لشغله لمنصب والي بغداد لست عشرة سنة إذ يعدّ أطول الولاة حكما ، أما الولاة الذين تولوا بعده فتراوحت مدة ولاياتهم بين عام أو عدة أعوام (٣) ،

__________________

(١) BOA ,HH ٣ / ٤٦.

(٢) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.١٢.

(٣) لمعرفة أسماء الولاة الذين تم تعيينهم في بغداد من عصر السلطان مراد الرابع حتى

٣٧

ويذكر نامق باشا وهو أحد من تولوا ولاية بغداد أن عدم اختيار الدولة لولاة ذوي خبرة لتولي شؤون بغداد وعزل الولاة أصحاب الكفاءة من منصبهم بعد فترة قصيرة دعا إلى اهتزاز نفوذ الحكومة في المنطقة (١).

وبالرغم من هذا الوضع السلبي الذي ذكرناه ، فقد كان هناك إداريون ذوو كفاءة عالية تركوا آثارا واضحة لهم في بغداد ، وسوف نتعرض لبعض هؤلاء الولاة حتى نتعرف على كيفية إدارة كربلاء.

تمّ القضاء على حكم المماليك في بغداد بحركة عسكرية قام بها علي رضا باشا والي حلب ضد داود باشا آخر ولاة المماليك في بغداد ، وربط البصرة وبغداد بالحكومة المركزية ، كما تمكن علي رضا باشا من القضاء على أسرة آل جليل التي كانت تحكم في الموصل ، أما مسألة ربط الإمارات الكردية المحلية الموجودة في الأماكن القريبة من الحدود الإيرانية مثل رواندز والسليمانية بالإدارة المركزية قد استمرت حتى عام ١٨٥٠ م ، وقد كان لمشكلة الأمن السبق والاهتمام الأكبر في ذلك العهد ، فقد تعرضت بغداد في ذلك الوقت إلى خطر الخلاف الطائفي بين الشيعة والعشائر المحلية والثورات التي ترتبت على ذلك من ناحية وخطر محمد علي باشا الذي سيطر على سوريا من ناحية أخرى ، فقد كانت الدولة تخشى أن تؤثر مشكلة محمد علي باشا على المناطق المجاورة لها ؛ لذا بذلت جهودا كبيرة لمنع هذا الأمر ، وبعد الانتهاء من خطر محمد علي باشا عام ١٨٤٠ م بدأت الدولة تهتم بمسألة تطبيق الإصلاحات التي جاء بها فرمان التنظيمات ، فبدأت تلك الإصلاحات تطبق في بغداد والبصرة بعد عام ١٨٤٤ م ، وفي الموصل بعد عام ١٨٤٨ م.

اهتمّ علي رضا باشا بالمسائل المتعلقة بالنقود في ولاية بغداد التي

__________________

سنة ١٢٩٦ ه‍ انظر : Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٠٠٣١) Def\'a ٤ (, s. ٨٤ ـ ١٥.

(١) BOA ,Yildz Esas Evraki (Y.EE) ٢١ / ٨ ,) ٥٢ B ٩٦٢١ (.

٣٨

كانت تعيش أزمة اقتصادية ، وكانت كربلاء مثل بغداد والبصرة عبارة عن مكان أظهر فيه أصحاب السوق السوداء نشاطا كبيرا ، وحتى يعيق علي رضا باشا هذا الأمر منع تداول وحدات النقد المختلفة في ولاية بغداد ، وأمر بأن يكون التعامل بالعملة العثمانية فقط ، وطلب الإذن من الباب العالي بسكّ العملة في بغداد ، ولكنه لم يستطع حلّ المشكلة من خلال العملات الفضية التي حصل على إذن بسكّها ، ولأن الحكومة العثمانية لم تسمح له بسكّ العلامات الذهبية استمرت الأزمة المالية في بغداد ، أما بالنسبة لمشكلة الضرائب فقد تمكن علي رضا باشا من تسويتها بشكل نسبي ، ثم عزل من منصبه في ١٨٤٥ م ، وعين واليا على الشام (١).

تولى محمد نجيب باشا منصب والي بغداد فيما بين (١٨٤٢ ـ ١٨٤٧ م) بعد علي رضا باشا ، وأعطى محمد نجيب باشا أهمية كبرى لمساعي المركزية أي : ربط الولاية بالمركز في الفترة التي شغل فيها هذا المنصب ، وقد عاشت كربلاء في عهده فترة انتقالية ، فقد قضى محمد نجيب باشا بكل عنف على الثورات والاضطرابات التي ظهرت في كربلاء عام ١٨٤٢ م ، وعرفت تلك الأحداث في الوثائق باسم (حادثة كربلاء) ،

__________________

(١) El ـ Bustani, a. g. t., s. ٦٧٣. Gokhan Cetinsaya," Irak") XIX. Yuzyil (, DIA, Istanbul ٢٩٩١, XIX, ٣٩.

ولد علي رضا باشا في طربزون ، وعمل متسلما في مغنيسا وموظفا في جمرك إزمير وأميرا لمنمن ، وفي سنة ١٨٢٨ م عمل كتخدا لرؤوف باشا والي حلب ، وفي سنة ١٨٢٩ م صار واليا لحلب بالإضافة إلى رتبة الوزارة ثم واليا لديار بكر سنة ١٨٣٠ م ، وفي سنة ١٢٥٣ ه‍ ـ ١٨٣٧ م صار واليا لبغداد وشهرزور ، ثم صار واليا لجدة سنة ١٢٥٦ ه‍ ـ ١٨٤٠ م ثم واليا للشام سنة ١٢٥٨ ه‍ ١٨٢٤ م وعزل علي رضا باشا من منصب الوالي في شهر ذي القعدة سنة ١٢٦١ ه‍ ـ ١٨٤٦ م ، وتوفي في الشام في رمضان ١٢٦٢ ه‍. ١٨٤٥ م ، ودفن في المقابر التي دفن فيها سيدنا بلال الحبشي.

انظر : Mehmed Sureyya, Sicill ـ i Osmani,) Yayina hazirlayan Nuri Akbayar ـ Eski Yazidan Aktaran : Seyit Ali Kahraman (Istanbul ٦٩٩١, I, ١٠٣.

٣٩

وقد قتل فيها آلاف الأشخاص وتوترت العلاقات العثمانية ـ الإيرانية مرة أخرى ، وبطبيعة الحال فإن الاضطراب الكائن في المنطقة كان سببا في زيادة نفوذ المجتهدين من علماء الشيعة في المنطقة ، إلا أن ما قام به نجيب باشا خلق شعورا بأن منطقة كربلاء التي بقيت تحت تاثير إيران في كل وقت وحين قد عادت مرة أخرى للسيادة العثمانية ؛ وبهذا وفر نجيب باشا المناخ اللازم للنظام الجديد الذي سيطبق في المنطقة ، وبالرغم من أن الأخطاء التي وقع فيها نجيب باشا أثناء حادثة كربلاء كانت ستودي إلى عزله من منصبه كوال على بغداد ، إلا أن إعادته لسيادة الدولة في المنطقة كانت سببا في بقائه في المنصب ستة أعوام أخرى (١).

وفي الإصلاحات التي تمت عام ١٨٤٨ م أسس في بغداد جيش العراق والحجاز الذي سمي باسم الجيش السادس بعد ذلك ، وكان هذا العمل من أهم الإنجازات التي تمت في ولاية عبد الكريم نادر باشا التي استمرت عاما فيما بين (١٨٤٧ ـ ١٨٤٨ م) ، وطبقت الإصلاحات والتنظيمات التي كانت تسير ببطء قبل ذلك بسرعة كبيرة في عهد هذا الوالي وقائده نامق باشا ، وفي عام ١٨٥١ م قرر الباب العالي تأسيس إدارة واحدة ومستقلة في بغداد لتسهيل وحل المشكلات الموجودة في العراق ، فصارت الموصل سنجقا تابعا لبغداد ، وطلب من وجيه باشا (١٨٤٩) الوالي الجديد الاستمرار في هذه الإصلاحات ، فقام الوالي بتنظيم شؤون العشائر وتحقيق الأمن في المنطقة ، وبدأ في جمع الضرائب بشكل منتظم ، ولأنه كانت هناك قناعة بأن توحيد الإدارتين المدينة والعسكرية في إدارة واحدة سيكون مفيدا في إصلاح العشائر ، فتمّ توحيد الإدارتين ، وأصبحت سلطات الوالي والقائد مجتمعة في شخص واحد ، وكان أول وال يتولى هذا المنصب الجديد هو محمد نامق باشا (١٨٥٠ ـ ١٨٥١ م) ،

__________________

(١) BOA ,Irade Mesail ـ i Muhimme (I.MSM) ١٣٨١ ـ ٠٤٨١ ,.

٤٠