كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

الرغم من أن رسم الاحتساب قد ألغي بعد التنظيمات إلا أن «ضريبة الحيوانات» كانت تحصلها البلديات (١).

أما ضريبة الطابو (العقد) فكانت عبارة عن رسم يحصل عن كل الأراضي والأبنية وأموال الوقف وغيرها من العقارات والأملاك غير المنقولة عند نقل ملكيتها من شخص إلى آخر ، أما بعد عهد التنظيمات فقد آل إلى الخزانة كل ما زاد عن ٢٠٠٠ قرش من الأراضي الأميرية التي أصبحت خالية ، وما قلّ عن ذلك اعتبر من حق محصل أعشار تلك الأراضي ، وقد حدث تغير في هذا النظام وحولت كلها إلى الخزانة فيما بعد ، وتقرر تحويل نصف مصاريف فراغ وانتقال الأراضي الأميرية لمديري الأقضية إذا كانت في الأقضية ، أما إذا كانت في السناجق فتحول كلها إلى الخزانة ، وتقرر في اللائحة التنظيمية التي أعدت فيما بعد أن يحصل ٥% عند انتقال أو فراغ الأراضي الأميرية ، وبعد دخول قانون الأراضي حيز التنفيذ عام ١٨٥٨ م أصبحت تحصل رسوم تسجيل محددة عن كل الأراضي سواء كانت أراضي أميرية أم أراضي وقف أو ملكية خاصة وعن كل الأبنية ، وذلك عند بيعها أو فراغها أو أي تعامل آخر يتم فيها ، هذا بخلاف الرسوم المخفضة التي كانت تدفع عنها والتي كانت تبلغ عشرة أو ثلاثين أو خمسين في الألف (٢).

كان الشيعة يرغبون كثيرا في الأبنية والأراضي الواقعة حول الأماكن المقدسة في كربلاء ، وكان امتلاك الإيرانيين لمعظم الأبنية الموجودة في كربلاء أمرا يقلق الحكومة العثمانية ، لذا فرضت الحكومة العثمانية ضريبة جديدة للقضاء على هذا التفوّق الإيراني في امتلاك الأبنية في كربلاء.

__________________

(١) Tekalif ـ i Kavaidi ,s.٣٣ ;Cakir ,a.g.e.,s.٢٥.

(٢) Tekalif ـ i Kavaidi ,s.٠٤ ;Sener ,a.g.e.,s.٦٧١.

٦١

أما الضرائب التي كانت تسمى «البدل» أو «البدل العسكري» فكانت تتعلق بالعسكرية من حيث الأساس ، فالمسلمون في الدولة العثمانية يؤدون العسكرية ، أما غير المسلمين فيدفعون الجزية بدلا من ذلك ، وقد بدأ التعامل بأصول القرعة بموجب قانون العسكرية الصادر في عام ١٨٤٥ ـ ١٨٤٦ م ، وكان يجب على من عليهم الدور في العسكرية دفع البدلية وإعفاؤهم حينئذ من تأدية العسكرية إذا كانت عندهم الرغبة في ذلك ، وكان هذا البدل في بادئ الأمر ألفا وخمسمائة قرش ، ومع نهايات عهد التنظيمات وصل إلى خمسة آلاف قرش.

وفي عهد ولاية مدحت باشا على بغداد بذلت المساعي لتطبيق نظام القرعة في كربلاء ، إلا أن هذا النظام لم يجد قبولا كما كان الحال في العديد من مناطق بغداد ، ولأن هذا النظام لم يجد الاهتمام الكافي من الأهالي لم يعط أكله (١).

وصار الذهاب الى العسكرية إجباريّا بموجب فرمان إصلاحات عام ١٨٥٦ م ، أما غير المسلمين فمنع ذهابهم إلى العسكرية ولذا فرض عليهم دفع «بدل العسكرية» وبهذه الصورة تم تلافي وتعويض إلغاء الجزية.

من أهم مصادر دخل الولاية ضريبة الأعشار التي كانت تحصل عن المحاصيل وقت الحصاد ؛ وذلك لأن أراضي بغداد وسنجق كربلاء أراض خصبة وفيرة المحاصيل ، وكانت تلك الأعشار تجمع بنظام الالتزام حتى عهد التنظيمات ، ولما ألغي نظام الالتزام أصبحت تلك الضريبة تجمع بواسطة المحصلين طبقا لنظام «إدارة الأمانة» ، إلا أن هذا النظام لم يستمر طويلا وألغي بعد ثلاث سنوات فقط ، وأعيد العمل بنظام الالتزام من جديد عام ١٨٤٣ م ، ويعد أهم تغيير طرأ على ضريبة الأعشار الذي تمّ في

__________________

(١) Ali Haydar Midhat ,a.g.e.,s.٨٦.

٦٢

بداية عهد التنظيمات هو تحديد مقدارها ، وهو العشر من المحاصيل في كل مكان (١).

ويمكننا الحصول على معلومات بخصوص نسب الضرائب التي كانت تدفع في كربلاء في الفترة فيما بين عام ١٨٤٣ م إلى عام ١٨٧٢ م وذلك من خلال مقارنة المعلومات التي قدمها فيتال كونيت (١٨٨٩ ـ ١٨٩٠ م) بالرغم من كونها تالية للفترة الزمينة التي نتناولها :

مقدار الضرائب المحصلة من سنجق كربلاء في عامي ١٨٨٩ ـ ١٨٩٠ م

الضريبة

 مقدارها

ضريبة الأعشار

 ١٦٠٠

البدل العسكري

 ٦٧٠

رسوم الأغنام

 ٣٣٠٠

رسوم الجاموس

 ١٥٠

رسوم الإبل

 ٩٥٠

مقاطعة

 ٢٩٠٠

الأمانة

 ٣٤٩٠٠

رسوم الغابات والأخشاب

 ١٥٠

الصيد البحري

 ٢٠٠

مصاريف المحاكم

 ٣٨٠

ضرائب أخرى

 ٨٨٠٠

ضرائب الدخل

 ٢٢٠

المجموع

 ٥٤٦٧٠

المصدر : Vital Cuinet, Turquie D\'asie, Paris ٤٩٨١, III / ٧٩١

لقد كانت الرسوم الجمركية المطبقة في كربلاء ورسوم الدفن وهي

__________________

(١) Tekalif ـ i Kavaidi ,s.٨١ ـ ٩١ ;Cakir ,a.g.e.,s.١٥.

٦٣

الأموال المحصلة من الإيرانيين الذين يجلبون موتاهم من إيران لدفنهم في كربلاء أو النجف من الموضوعات المثيرة للنزاع بين الدولة العثمانية وإيران لسنوات طوال.

أما رسوم الجمرك فكانت عبارة عن ضريبة تحصل من الزوار القادمين إلى كربلاء عن كل الأشياء التي يجلبونها معهم بغرض التجارة باستثناء الأغراض الشخصية ، وكانت تلك الضريبة تطبق في كل الولايات العثمانية ، إلا أن الإيرانيين كانوا يشكون من ارتفاع قيمتها ، هذا بالإضافة إلى «رسوم الدفن» المحصلة من الذين يجلبون موتاهم إلى كربلاء لدفنها هناك ، وكانت هذه الضريبة خاصة بكربلاء فقط ، وكانت تسمى «سلامة اقجه سى» (١) ، وبالرغم من إلغاء تلك الضريبة في عهد والي بغداد علي رضا باشا إلا أنه وردت شكاوى بعد ذلك من إيران لتحصيلها في بعض الأماكن في السنوات التالية لإلغائها ، وطبقا للقرار المتخذ في مجلس الوكلاء في ١٠ ديسمبر ١٨٥٣ م وضع موقف الأراضي التي يدفن بها الإيرانيون موضع البحث ، وتقرر أن يكون الحد الأقصى للمبلغ المحصل ٣٠٠٠ قرش إذا تمّ الدفن في ساحات المدارس الكبرى أو في الأراضي المحيطة بها ، أما إذا كان مكان الدفن خارج البلدة أو في المكان الذي خصصته البلدية فإنه يحصل حينئذ أجرة الحفر فقط ، ولن يحصل مبلغ ٢٥٠٠٠ قرش الذي كانت تحصل قبل ذلك (٢).

وكان يحصل من الأهالي الشيعة والإيرانيين الذين يعيشون في كربلاء أيضا ضريبة أخرى باسم «يومية الدكاكين» ، وكانت تلك الضريبة

__________________

(١) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.٩٧١.

(٢) M. Riza Nasiri, Nasireddin Sah Zamaninda Osmanli ـ Iran Munasebetleri) ٨٤٨١ ـ ٧٩٨١ (,) Yayimlanmamis Doktora Tezi (, Istanbul Universitesi Edebiyat Fakultesi., Istanbul ٧٩٩١, s. ١٣١.

٦٤

تحصل عن كل الحرف وهي بمثابة ضريبة الربح (١) ، وبالرغم من أن تلك الضريبة كانت لا تحصل في بعض المناطق في كربلاء ، إلا أنها كانت تحصل في أماكن أخرى منها ، وهذا ما أتعب أصحاب الحرف ولهذا طلبوا من ولاية بغداد إلغاءها في عام ١٨٦٣ م (٢) ، وبالرغم من أن الولاية قد اتخذت قرارا بإلغاء هذه الضريبة إلا أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ في غضون فترة قصيرة.

وقد ذكر خورشيد باشا في كتابه المسمى سياحتنامة حدود أنه اطلع على دفاتر القرنتينه الخاصة بمنطقة خانقين التي كان يمر بها الزوار الإيرانيون أثناء قدومهم إلى بغداد وكربلاء ، وطبقا للجدول الذي أوردناه سابقا فقد قام خورشيد بعمل إحصاء في رحلته عن الإيرانيين القادمين إلى كربلاء على مدار عام كامل ، وبالنظر في هذا الإحصاء وفي نسبة الزوار والتجار الذين كانوا يفدون إلى كربلاء ، يتضح لنا مدى أهمية ضرائب الجمرك والقبور التي كان يتم تحصيلها.

٢ ـ وسائل النقل في كربلاء والنقل في نهر الفرات

إن النقل النهري في نهر الفرات له أهمية كبرى من ناحية التجارة والنقل في المنطقة ، فالأنهار تمثل وسيلة نقل هامة في الحركة التجارية التي تتم بين الهند وخليج البصرة وبين البصرة وبغداد ، وقد زاد اهتمام العثمانيين بحركة النقل بنهري دجلة والفرات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكان النقل يتم عبر الأنهار لسببين : الأول إمكانية التدخل في النزاعات الداخلية الكائنة في المناطق القريبة من الحدود أو استخدامه أثناء التجهيز لحركة عسكرية على إيران في وقت الحرب ،

__________________

(١) Pakalin ,a.g.e.,III ,٥٣٦.

(٢) BOA, Babiali Evrak Odasi) BEO (, Vilayet Gelen ـ Giden) VGG (٧٥٢, No : ٢٤, ٩٢ R ٠٨٢١.

٦٥

وكان هذا النقل يتمّ في وقت الصلح فقط بهدف التجارة (١) ، كما أن التجار الموجودين في منطقة جنوب العراق كانوا يفضلون الطريق النهري لخوفهم من هجمات عربان البدو ولعدم وجود طعام أو شراب في الطرق البرية (٢) ، كانت هناك أهداف أخرى لحركة النقل النهري بجانب الأهداف التجارية والعسكرية ، ففي عام ١٥٦٨ م طلب إرسال مائة لوح خشبي من شجر الصنوبر يبلغ طول الواحد منه تسعة ونصف ذراع حلبي وذلك لترميم مشهد الشريفين من الطريق النهري (٣).

بالاضافة إلى هذه الأهداف فقد أرادات الدولة العثمانية من السيطرة على وسائل النقل النهري في كربلاء وإداراتها أن يكون قدوم الزوار والتجار القادمين من إيران تحت إشرافها وسيطرتها ، أما السبب الثاني فهو النظر إلى ذاك النقل على أنه مصدر للدخل ، فمع بدايات القرن التاسع عشر أصبحت أنهار بغداد في غاية الأهمية ، وفي الوقت الذي وضعت فيه إنجلترا خططا سياسية واقتصادية في المنطقة من خلال هذا الطريق ، شعرت الدولة العثمانية أيضا بالحاجة إلى الاهتمام بتلك الأنهار لنفس السبب (٤).

وقد أعطت الدول الأوروبية وعلى رأسها إنجلترا أهمية كبرى لوضع العراق الجغرافي أثناء عمل مشروعات خط المواصلات الدولي بين الشرق والغرب (٥). أما الدولة العثمانية التي كانت تعيش في تلك الفترة مرحلة المركزية التي تقرر تطبيقها في عهد السلطان محمود الثاني فقد

__________________

(١) Orhonlu ـ Isiksal ,a.g.m.,s.٨٧.

(٢) Seyahatname ـ i Hudud ,s.٧.

(٣) Orhonlu ـ Isiksal ,a.g.m.,s.٢٨.

(٤) Yucel ,a.g.m.,s.٧٧١.

(٥) Orhonlu ـ Isiksal ,a.g.m.i ,s.٠٠١.

٦٦

بدأت تتخذ بعض التدابير ضد مخططات ومشاريع الأوروبيين في المنطقة ، ولذا خطت الدولة منذ عام ١٨٧٠ م خطوات ثابتة وواضحة في هذا المجال بإنشائها خط سكك حديد بغداد ـ كربلاء وخط التلغراف وخط النقل النهري.

كان لدى إنجلترا رغبة شديدة في فرض نفوذها في المنطقة من خلال المشروعات التي سعت إلى تطويرها ، وأثناء حملة نابليون على مصر (١٧٩٨ ـ ١٨٠١ م) أعطى للعراق الواقع في مركز استراتيجي على طرق النقل أهمية كبرى من جهة التجارة الهندية الإنجليزية ، واضطرت إنجلترا إلى القيام بخطوات فعلية لتنفيذ مشروعاتها المذكورة لزيادة ثقل روسيا في المنطقة بعد توقيعها معاهدة تركمان جاي مع إيران عام ١٨٢٨ م ومعاهدة أدرنه مع الدولة العثمانية عام ١٨٢٩ م ولشعور إنجلترا بأن محمد علي باشا أصبح يمثل خطرا على مصالحها في خليج البصرة والعراق (١) ، وأدت المساعي التي قامت بها إنجلترا في المنطقة إلى جلب الصراع الروسي ـ الإنجليزي إلى الصراع العثماني ـ الإيراني الموجود سابقا على بسط النفوذ في كربلاء (٢) ، ويمكننا رؤية ذلك بشكل أفضل في حادثة كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٠ م.

__________________

(١) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.٧٨٢.

في بادئ الأمر جهزت انجلترا الأرضية الشرعية لمخططها في بغداد ، فاتفقت مع الدولة العثمانية في نوفمبر ١٨٠٢ م وافتتحت قنصلية لها في بغداد ، وبعد ذلك كسبت مسؤولية حماية السفن الانجليزية والتجارية والسياحية ، هذا بالاضافة إلى إعفاء السياسين والموظفين في القنصلية ومساعديهم من الضرائب المختلفة واكتسب السياسيون الحصانة وحرية التجول في الدولة عامة ولهم الحق في لبس كاب أبيض وحمل سيف في المناطق الخطرة.

(٢) إن هدف انجلترا الأصلي تأمين تأسيس اقصر خط تجاري بين بيريطانيا العظمى والهند هذا بالاضافة إلى منع نفوذ روسيا من الامتداد حتى العراق وخليج البصرة ،

٦٧

وقد بدأ مشروع إنجلترا الخاص بالطرق المائية الموجودة في بغداد بإرسال القبطان تشيزني إلى هناك عام ١٨٣١ م بهدف عمل دراسة عن صلاحية الأنهار الموجودة هناك للنقل النهري ، فقد كانت إنجلترا تفكر في الوصول إلى مستعمراتها في الهند عبر خليج البصرة بواسطة نهر الفرات ، ووضعت في اعتبارها الوصول إلى المحيط الهندي عبر البحر المتوسط ثم الطريق البري ومنه إلى البحر الأحمر ومن هناك إلى المحيط ، وبناء على تقرير تشيزني رأت أنجلترا أن طريق الفرات أسهل ؛ فطلبت من السلطان العثماني الإمتياز بالسماح لها بتشغيل سفينتين في نهر الفرات ، وكان الباب العالي يعلم حقيقة هدف إنجلترا ورغبتها في تأسيس تنظيم استعماري لها في مدن وولايات الدولة العثمانية ، إلا أنها اضطرت للموافقة على هذا الطلب رغم مخالفته لمصالحها كي تتمكن من الحصول على دعم إنجلترا في مشكلة محمد علي باشا والي مصر الذي كان في حالة نزاع مع الدولة العثمانية (١) ، وقد حصلت إنجلترا على الموافقة عام ١٨٣٤ م ، وفي عام ١٨٣٦ م أرسلت السفينتين اللتين أطلق عليهما اسم «دجلة» و «الفرات» إلى المنطقة مفككتين عبر الطريق البري تحت إشراف القبطان تشيزني ، وبعدما أبحرت السفينتان بشهر غرقت السفينة دجلة ، أما السفينة الفرات فقد تمكنت من الوصول إلى خليج

__________________

إن المفتش تشزني الذي لمس هذا الأمر في قصر الهند قال ما يلي : «كما هو معروف إن المواصلات العسكرية التي سنمدها إلى الهند والمارة من إيران أو ما بجوارها ستتطلب تضحيات كبيرة لظروف الجو على الأقل ، ولكن من الممكن أن نرسل الجيش بكل سهولة إلى ميدان الحرب عن طريق نهر الفرات ، كما أن أهمية النقل السريع في الفرات لها قيمة لا جدال فيها ضد الخطر الروسي ، فهي تعد سدّا أمام العدو ، وخلف هذا السد ستروج تجارتنا ، الخلاصة أن في هذا الأمر فائدة للدول العربية ومستعمراتنا في الشرق.

el ـ Bustani, a. g. t., s. ٥٠٣.

(١) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.٦٠٣.

٦٨

البصرة بصعوبة (١) ، وقد سعى تشيزني أثناء عمله في المنطقة إلى كسب مساعدة العشائر الموجودة في المنطقة ، فأخذ دعم العشائر الكبرى مثل شمر وجربة وعنزة ، إلا أنه واجه رد فعل مخالف من العشائر الصغيرة لأسباب دينية واقتصادية ، وهناك رأى أن عشيرة منتفك وقفت ضد الإنجليز بسبب تحريض الفرنسيين لها (٢) وهذا يظهر لنا أن المنطقة أصبحت ساحة للصراع الدولي.

أدى اهتمام إنجلترا بنهري دجلة والفرات إلى اهتمام الدولة العثمانية بالنهرين ، كما أن ثورة القبائل العربية في سوريا والعراق ورغبة الدولة العثمانية في تأسيس آلية للمراقبة الشديدة في المنطقة ولجمع الضرائب بسرعة في وقتها يعد أيضا من الأسباب الرئيسية لاهتمام الدولة العثمانية بتلك الطرق المائية ، ولقد وقف كوزلوكلي رشيد باشا (١٨٦١ ـ ١٨٦٧ م) ومحمد نامق باشا (١٨٥٠ ، ١٨٦٠ ـ ١٨٦٧ م) وتقي الدين باشا (١٨٦٩ ـ ١٨٦٧ م) ـ الذين شغلوا منصب والي بغداد قبل مدحت باشا ـ على الأهمية الاقتصادية لولاية البصرة وأهمية الطريق المائي الذي تحدثنا عنه ، وكان هدفهم الأول هو إحياء مدينة بغداد التي كانت ذات بنية اقتصادية مغلقة على نفسها بسبب صعوبة مواصلاتها وحركة النقل بها ، لذا فإن تطوير وسائل المواصلات كان من أهم الإصلاحات التي تمت في بغداد اعتبارا من عهد رشيد باشا ، وأول الجهود التي بذلت في هذا الأمر هو تشكيل أسطول نصف رأس ماله من الدولة والنصف الآخر من أثرياء بغداد ، وكان الهدف من ذلك هو منافسة شركة لينش الإنجليزية الموجودة في المنطقة ، ولهذا صنع في ترسانة بلجيكا سفينتان باسم «بغداد» و «البصرة» لجلبهما إلى المنطقة ، وبعد وفاة رشيد باشا استمر

__________________

(١) Yucel ,a.g.m.,s.٧٧١ ـ ٨٧١.

(٢) el ـ Bustani ,a.g.t.,s.٧١٣.

٦٩

خلفه نامق باشا في نفس الإجراءات والمساعي ، وأسست شركة باسم (إداره عمان عثمانية) لتشغيل هاتين السفينتين ولمنافسة الشركة الإنجليزية.

وفي مايو عام ١٨٦٥ م صدر فرمان من السلطان عبد العزيز يقضي بإرسال سفينتين من الترسانة العامرة في استانبول إلى البصرة إضافة إلى السفينتين الموجودتين هناك ، وتوسيع ترسانة البصرة ، وتطهير نهري دجلة والفرات والطرق اللازم تطهيرها وإنشاء الأحواض وإنشاء ثلاث سفن من سفن نقل البضائع المسماة «شالوبه» وإدخال العشائر العربية الموجودة على ضفتي النهرين في طاعة الدولة (١) ، كانت تلك الأعمال هامة نسبيّا لازدياد نفوذ الباب العالي في كربلاء ووضعها مباشرة تحت سيطرة مركز الدولة ، كما أن سهولة النقل ستحقق زيادة الإنتاج الزراعي في السنجق وزيادة التصدير.

وأثناء ولاية مدحت باشا تم شراء سفن أخرى رئي أنها ستفيد في النقل النهري بين البصرة وبغداد وأذن الباب العالي بصرف مبلغ ١٥٠٠٠ أقجه سنويّا لهذا الأمر ، هذا بالإضافة إلى أنه تم تأسيس شركة (الإدارة النهرية) للمواصلات في نهري دجلة والفرات ، كما عملت بعض التنظيمات لتشغيل مصانع السفن التي أنشئت من قبل في بغداد وأغلقت بعد ذلك (٢).

وفي عهد مدحت باشا تم البدء في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمدّ خط سكة حديد إلى كربلاء ، وكان الهدف من إنشاء هذا الخط هو ربطه بخط السكك الحديدية الذي سينشأ بين بغداد وحلب لتسهيل مجيء وذهاب الزوار القادمين إلى كربلاء ، هذا بخلاف الفائدة التي ستعم منه

__________________

(١) Yucel ,a.g.m.,s.٧٧١ ـ ٨٧١.

(٢) Ali Haydar Mithad ,a.g.e.,s.٨٨.

٧٠

في مجال التجارة ووضعها تحت المراقبة وفرض السيادة عليها لذا صدر الإذن بمدّ خط سكة حديد إلى كربلاء (١).

٣ ـ البنية الاجتماعية

قبل أن نتحدث عن بنية كربلاء الاجتماعية في القرن التاسع عشر علينا أولا النظر إلى البنية الاجتماعية في العراق عامة ؛ لأنه من خلالها سيتضح لنا أن المؤثرات الدينية والعسكرية والسياسية التي حدثت في المنطقة في تلك الحقبة التاريخية كان لها نصيب كبير في تشكيل بنية كربلاء الاجتماعية ، وبالنظر إلى البنية الاجتماعية العامة في العراق سيتضح لنا أن العشائر العربية التي تعيش في وسط العراق وجنوبه ومن الجنوب إلى الشمال حتى بغداد وعلى طول خط الحدود الإيرانية وبطول نهر الفرات من الجنوب إلى الشمال الغربي منها ما يعيش حياة مستقرة ومنها ما يعيش حياة نصف مستقرة ومنها ما يعيش حياة البداوة والترحال من مكان إلى لآخر ، وكان يحكمهم نظام قبلي معتمد على روابط الدم ، وكان لهذا النظام تأثير قويّ على الأفراد خاصة وقت الهجرة الكبرى أو وقت ظهور خطر خارجي ، بل إنه مكن من تشكيل عصبية تؤمّن مساعدة أعضاء المجتمع لبعضهم البعض عند الضرورة (٢).

إن عددا كبيرا من العشائر العربية الموجودة في جنوب ووسط العراق وبالتالي في كربلاء تنقسم إلى فروع مختلفة في داخلها ، وتوجد بينها فروق واختلافات مذهبية والقليل من تلك العشائر المنقسمة إلى فروع مختلفة يعيش سويّا في نفس المنطقة الجغرافية وأغلبها يعيش في مناطق مختلفة.

ولم تتمكن الدولة العثمانية من تطبيق نظام الإسكان والتوطين الذي

__________________

(١) Zevra ,٧ Ra ٧٨٢١ ,Nr.٠٥ ,s.٠٠١.

(٢) Sinan Marufoglu," Guney Irak\'ta Devlet ـ Asiret Iliskileri", Irak Dosyasi, Istanbul ٣٠٠٢, I, ٠٢٣; Albert Hourani, Arap Halklari Tarihi, Istanbul ٧٩٩١, s. ٠٤١.

٧١

طبقته على عشائر الروميللي والأناضول منذ تأسيسها على عشائر العراق إلا بعد فرمان التنظيمات ؛ وذلك لأن الدولة العثمانية لم تمسّ مشيخة العشائر الموجودة في شمال وجنوب العراق خلال فترة حكمها للمنطقة ، بل على العكس منحت الدولة هؤلاء المشايخ حكم المناطق الموجودين فيها تحت اسم «يوردلق» أو «اوجاقلق» مقابل قبولهم التبعية للدولة العثمانية ، ولعل أكبر مؤثر في قبول الدولة العثمانية لهذه البنية العشائرية الموجودة في العراق هو وجودها على حدود الدولة الصفوية التي كان لها طموحات سياسية في العراق دامت في مختلف العصور (١).

وتوجد معلومات مفصلة في سالنامه بغداد عن المناطق الموجود بها العشائر والطوائف الموجودة في سنجق كربلاء ومصادر معيشتهم.

١ ـ العشائر الموجودة في سنجق كربلاء وقضاء هندية والنجف

ينقسم أهالي كربلاء إلى قسمين قسم يشتغل بالزراعة والآخر رحّل متنقلون ، وأهم عشيرتين من عشائر البدو ساكني الخيام هما : عنزة وزكاريط ، وتتكون عشيرة عنزة من فرع الإمارات والصكور وسلكة ودهامشة والزنبة والضبيان والسويلمات ، أما عشيرة زكاريط فتتكون من فروع معزة ومجلة وشريفات والتمايم ، وتقضي تلك الطوائف معظم أوقاتها متجولة في صحراء شامية الواقعة في غرب كربلاء ، ويأتون لمركز اللواء وبعض القصبات المجاورة لها مرتين في العام لشراء الحاجات الضرورية والمؤن ولبيع الصوف والزيت والحيوانات (٢) ، ويحصل اللواء ضريبة الإبل من تلك العشائر ، ومن المتفق عليه أن شيخ عشيرة عنزة هو القائمقام الرسمي لرزازة (٣).

__________________

(١) Marufoglu ,a.g.m.,s.٢٢٣.

(٢) Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٤٢٣١ ,s.٥٨٢.

(٣) تقع رزازة بجوار قناة الحسينية الواقعة على مسافة ثلاث ساعات من جنوب بغداد

٧٢

وها هي أسماء العشائر المستقرة في كربلاء :

المسعود واليسار وأبو مصرة وأبو غانم وعويسات والبومحيي وجنابي وتقيم المسعود واليسار وأبو المصرا وأبو الغنم على نهر الحسينية وما جاوره من مناطق ، أما عشيرتا عويسات والبومحيي فيشتغلان بالزراعة في أراضي جرف الصخر الواقع بناحية المسيب ، وتقوم كل تلك العشائر بتربية الإبل والخيول والبغال والحمير والثيران والأبقار والجاموس والأغنام والماعز (١).

أصبحت الأراضي الموجودة في هندية صالحة للزراعة بواسطة سدّ هندية ، وهذا ما أعطى الفرصة لتأسيس مقاطعات قيمة للغاية غير مقتسمة مع العشائر.

جدول يوضح الخروق المائية التي تسقى منها مقاطعات هندية ، والعشائر التي تستخدمها :

اسم المقاطعة

 الخرق الذي يرويها

 العشيرة القائمة بالزراعة

أبو نقاش

 أبو نقاش

 بني حسن

خرقا

 منيتر

 طفيل

أبو روبة

 أبو روبة وشط ملا

 كريط

الفتلة

 أم رواية وقزوينة

 الفتلة

مسيعيدة الغربي

 عبد عوينات وخنيابية

 جليحة

مسيعيدة الشرقي

 محرم عائشة والعاجل وخنيابية

 جليحة وبراجع

كعبوري

 دويهية وعبد عوينات وأبو سفن وعجمية

 بني حسن

__________________

وبرغم هذا فإن أهلها ليسوا من عشيرة عنزة ، ولأنه المقر الأساسي للعشيرة نسبت القائمقامية إلى هذا المكان.

Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٤٢٣١, s. ٥٨٢.

(١) Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٤٢٣١ ,s.٥٨٢.

٧٣

اسم المقاطعة

 الخرق الذي يرويها

 العشيرة القائمة بالزراعة

منفهان

 منفهان

 كريط

جناجية

 منفهان

 جناجه

مشورب الغربي

 مشورب الغربي

 كرة كشة والمسعود زدعوم

مشورب الشرقي

 مشورب الشرقي ودويهية وأبو خصاوي

 بني سد وبني طرف وعامرية

زبيلية

 زبيلية وحسينية وأبو خصاوي

 العامرية

سالنامه بغداد ، ١٣٢٤ ، ص ٢٩٣.

أما مقاطعة خواص فتستخدم من قبل عشائر يسار ومسافير وغيرها ، ويوجد بتلك المقاطعة ٢٥٠ منزلا (١) ، ومقاطعة طهماسية من المقاطعات الهامة ويوجد بها ثلاثمائة منزل ، وتتحد تلك المقاطعة مع مقاطعة هندية على خرق يقع على مسافة ساعتين غرب نهر الفرات ، وتذكر الروايات أن هذا الخرق المائي يسمى باسم طهماسية نسبة للشاه طهماسب الذي أنشأه ، وأهم فرقة في تلك المقاطعة فرقة أنفس طعام (٢) ، وخرق طهماسية يقع أساسا في سنجق الحلة ولكنه كان يدار بواسطة الملتزمين الموجودين في سجق هندية ، ويفهم من أحد الوثائق المؤرخة بتاريخ ١٨٤٨ م أن الخرق أحيل مرة أخرى إلى سنجق الحلة بطلب تقدم به محمد نوري بك الذي كان من خلفاء قلم المكاتبات بولاية بغداد (٣) ، أما بالنسبة للمحاصيل الرئيسية للمقاطعتين المذكورتين فهي : القمح والشعير والدّخن وهو نوع من الحبوب يشبه الذرة ، وترسل تلك المحاصيل إلى أسواق بغداد (٤).

__________________

(١) Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٤٢٣١, s. ٣٩٢; Seyahatname ـ i Hudud, s. ٧٣١ ـ ٨٣١.

(٢) Seyahatname ـ i Hudud ,s.٨٣١.

(٣) BOA ,HR.MKT ٣٢ / ١٩ ;A.MKT.UM ٣ / ١٤ ,٥٢ ,Ca ٤٦٢١.

(٤) Seyahatname ـ i Hudud.,s.٩٣١.

٧٤

إن المقاطعات الرئيسية للقضاء هي أبو نقاش وخرقة وأبو روبة والفتلة ومسيعيدة وكعبوري ومنفهان ومشورب الشرقي ومشورب الغربي وكانت تدار كالنواحي حيث عين على كل واحدة منها مدير لإدارتها.

من الواضح أن ناحيتي الكوفة وخور الدّخن المستفيدتين من ماء نهر الفرات في قضاء الكوفة كانتا من النواحي المتطورة.

العشائر التي تشتغل بالزراعة في الكوفة ومواقعهم

القطعة

 اسم العشيرة

أبو النعمان

 بلوش (إيرانية الأصل) ربيعة وبني حسن وعذارات وكريشات وشوشتري وبراكة والبوذبح والمواش البو نعمان

الهارونية وخرخيط

 البو شيخ مشهد والجعافرة والعيسى من عشيرة عبودة

ملحتين

 البو دحيدح من عشيرة الشبل

خميسية

 البو دحيدح والبو شيخ مشهد

أبو ضباع

 زرقان

مصيحنة

 البديوي من عشيرة بني حسن

القطعة

 اسم العشيرة

سالنامه ولاية بغداد ١٣٢٤ ، ص ٢٩٦ ؛ ١٣٢٥ ، ص ٢٨٧.

ويوجد ثلاثون منزلا من منازل عشيرتي خزائل وتمايم في مكان يسمى براكية الواقع بين العشائر الرحل (١) ، أما أراضي ناحية خور الدخن فتعرف باسم مقاطعة خور الدخن ، وتنمو كل أنواع الحبوب في المنطقة بواسطة نهر الفرات والقنوات المتفرعة منه ، وها هي العشائر التي تشتغل بالزراعة بشكل عام في الناحية : المواش من بني حسن وأبو عذيب وحواتم والبو عارضي والبو حداري والعباس ومجاتيم ، وعدد منازل تلك العشائر يتجاوز ألفي منزل.

أوضحنا فيما سبق أن الأهالي في كربلاء ينقسمون إلى قسمين : بدو

__________________

(١) Salname ـ i Vilayet ـ i Bagdad ٤٢٣١ ,s.٦٩٢.

٧٥

وحضر ، والحضر هم الأهالي الذين يعيشون في الأدوية والواحات المحاطة بالصحراء ويعيشون في المدن والقصبات المؤسسة على ضفاف القنوات ويشتغلون عادة بالزراعة والتجارة ، ولأن هؤلاء الحضر في أصلهم بدو قادمون من الصحراء لهذا اعتادوا على الذهاب إلى الصحاري التي تخضر بعد هطول المطر ، وينصبون الخيام ويعيشون هناك فترة من الوقت يتنفسون فيها الهواء النظيف النقي (١).

أما البدو فهم العشائر العربية الرحل الذين يتجولون في الصحاري ويشتغل معظمهم برعي الإبل والأغنام (٢) ، ويرى ابن خلدون أن البدو أقرب من الحضر للصفات الحميدة وقبول الخير (٣) ، هذا بالإضافة إلى وجود خصلة أخرى للبدو وهي الكرم وحسن الضيافة (٤) ، ونظرا لأن البدو يعيشون في مدن وأماكن بعيدة عن بعضها البعض لذا يتّسمون بطبيعة صلبة وفظة ، ولأنهم يعيشون في نطاق قبلي ضيق توجد مراقبة اجتماعية حيث يعرف بعضهم البعض معرفة جيدة ؛ وهذا ما دعا إلى قلة الفساد الأخلاقي لديهم بالنسبة للحضر ، ويذكر ابن خلدون أيضا أن البدو احتياجاتهم قليلة وبالتالي فإن حرصهم على توفير المتطلبات أقل من الحضر (٥) ، فالبدو يوفرون حاجاتهم بالقدر الذي يعينهم على الحياة

__________________

(١) Kursun ,a.g.e.,s.١١.

ويوضح ابن خلدون أنه من الطبيعي الضروري أن يعيش المرء فترات في البادية وفي القرى والمدن.

Ibn Haldun, Mukaddime, MEB,) cev. Zakir Kadiri Ugan (, Istanbul ٧٩٩١, I, ٣٠٣ ـ ٤٠٣.

(٢) Kursun ,a.g.e.,s.١١.

(٣) Ibn Haldun ,a.g.e.,s.٠١٣.

(٤) Kursun ,a.g.e.,s.٢١.

(٥) Ibn Haldun, a. g. e., s. ٩٠٣ ـ ٠١٣; Mustafa Fayda," Bedevi", DIA, Istanbul ٢٩٩١, V ٤١٣.

٧٦

فقط ، ولا يطمعون في أكثر من ذلك بسبب عجزهم عن توفيره (١) ، ولذا فإنهم يمتازون بالقناعة لعدم اعتيادهم على السعة والراحة ، وشرف القبيلة عندهم مقدم على المصالح الشخصية فلا يتعرضون لأبناء قبيلتهم لأنهم يعلمون جيدا أنهم مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل أبناء القبيلة ولذا لا توجد صفة البخل بينهم ، وإن من أبرز سماتهم المتانة والشجاعة والجرأة ، ولأنهم قريبون للطبيعة فإن البساطة والنظافة والهدوء الذي في الطبيعة قد انعكس على نفسيتهم ، فهم أكثر إخلاصا وشفافية من الحضر (٢).

وقد تأثر ب. روسو الذي قام برحلة من بغداد إلى حلب عام ١٨٠٨ م بطبيعة حياة هؤلاء البدو وبآرائهم المتعلقة بالحياة ودوّن ذلك في رحلته التي كتبها ، ويرى روسو أنه يجب عدم الخلط بين البدو الذين عاشوا بالقرب من المدن المشتغلين بالزراعة والبدو الذين يعيشون في وسط الصحراء المحرومين من الزراعة والذين يمكنهم عمل أي شيء من أجل البقاء على قيد الحياة (٣).

إن البدوي لم يرقد تحت سقف قط ، قضى حياته كلها في ظل خيمة نسجها من الوبر وعلى ظهور الإبل ، والصحراء هي العامل الذي يوجه الحياة الاجتماعية وشخصية البدو لذا فإنهم اقتسموا تلك الصحراء ، وبقدر تحركات القبيلة يكون لها أرض يسمونها دراح أو (زراح) ، لذا نجد أن أغلب أسماء المناطق في الصحراء قد سميت بأسماء القبائل ، ويغير البدو أماكنهم تبعا لظروف الطقس والمناخ ؛ ولذا فهم لا يهابون الدخول في أراضي الغير لفترة مؤقتة حتى وإن كان ذلك بالقوة ، حتى إنهم في

__________________

(١) Ibn Haldun ,a.g.e.,s.٣٠٣.

(٢) Fayda ,a.g.m.,s.٤١٣.

(٣) Russoau ,a.g.e.,s.٦٢.

٧٧

الظروف الصعبة ينهبون حدائق وبساتين الحضر الذين يعيشون في الواحات الصغيرة ، لذلك فإن الحضر يعطون للبدو الضريبة التي تسمى «ضريبة الأخوة» لينجوا من النهب ، والأسرة أو العائلة هي أقدس رباط عند البدو ، فأفراد الأسرة الواحدة دائما يتجولون مع بعضهم ويستخدمون أموالهم بشكل مشترك ، أما الرباط الوحيد لهذا المجتمع البدوي فهو القبيلة المكونة من تلك العائلات ، وأهم شيء يجعل البدو متيقظين دائما هو حركات السلب والنهب التي يقومون بها ضد بعضهم البعض ويطلقون عليها اسم غزوة ، وتتم تلك الغزوات بهدف الإغارة على خيام وقطيع قبيلة بدوية أخرى ، أو على أراضي الحضر المزروعة ، وأكثر حوادث النهب تكون للقوافل التجارية وقوافل الحج التي تمر من أراضيهم ، لدرجة أن الدول التي حكمت تلك المناطق ضاقت ذرعا من هذه الحركات التي يقوم بها البدو ، أما الدولة العثمانية فقد أمّنت سلامة الطريق المارّ من الصحراء بواسطة الأموال التي كانت تدفعها لهؤلاء البدو تحت اسم مخصصات العربان ، وبالرغم من ذلك لم يتخلّ عربان الصحراء عن تلك العادة التي تربوا عليها (١).

أما عن العشائر البدوية التي عاشت في العراق في الفترة التي نقوم بدراستها فلديهم خصائص مختلفة عن خصائص البدو التي ذكرناها سالفا ، فبدو الجزيرة العربية يتسمون بسرعة الحركة وصفاء النسب وغيرها من الصفات الحميدة ، ولأن البدو الذين اعتادوا على حياة الصحراء القاحلة علّموا أولادهم كيفية العيش على نباتات الصحاري وعلى الإبل أصبح طراز الحياة هذا طبيعة في طبائعهم ولا يقلبون اقتسامه مع أحد ، ولأن هؤلاء البدو اعتادوا على تلك الحياة الصعبة القاسية فإنهم لا يفرون منها برغم قدرتهم على ذلك ، ولهذا فليس من الخطأ القول بأن

__________________

(١) Kursun ,a.g.e.,s.١١ ـ ٤١.

٧٨

الدول القوية لم ترغب في احتلال الصحراء وفرض السيطرة عليها ، ويلاحظ أن البدو الموجودين في العراق مختلفون عن البدو الموجودين في الجنوب أي في الجزيرة العربية بسبب كثرة الزراعة في الأراضي التي تسقى من نهري دجلة والفرات والخصائص الجغرافية والطبيعية للمنطقة التي يعيشون فيها ، فقلّت سرعة ترحالهم وضاق عليهم المكان ولم يفسد نسبهم ، والبدو الذين لم يتكيفوا مع هذه الطبيعية الجغرافية للعراق أو الذين لم يرغبوا في التكيف معها عادوا إلى صحاري الجزيرة العربية مرة أخرى ، ويذكر ابن خلدون أن قبائل قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ابتعدوا عن الصحاري المنبتة للحبوب في العراق والشام ، وظلوا في أراضيهم لذا لم يحدث اختلاط في أنسابهم (١).

بدأت الدولة العثمانية في تطبيق سياسة المركزية بمنطقة العراق في بدايات القرن التاسع عشر ، ونتيجة لتلك السياسة زادت الطرق وخطوط السكك الحديدية ، وأسست الجسور وشقت القنوات ، وبالتالي أصبحت تلك الحياة المدنية المتطورة عائقا أمام تجول العشائر البدوية بحرية وأدى هذا الى حدوث بعض التغيرات التي يمكن رؤيتها بسهولة في القبائل التي يتم مصادفتها كثيرا في القرى ، ومن أوجه التغير التي حدثت عند البدو : أصبحت أعمدة خيامهم أقوى وأثقل وأمتن وقصرت مسافات ترحالهم ، كما تعرضت لغتهم الصافية إلى التغيير بمرور الوقت.

ويمكن القول بأن أهم تغير طرأ على حياة البدو هو التغيير الذي طرأ على وضع شيخهم ، فالشيخ عند البدو شخص واحد وهو رأس الجماعة الذي يلقى الاحترام والتبجيل من الجماعة القوية التي يرأسها ومن الجماعات الأخرى المجاورة له ، وتعرف أسماء القبائل الموجودة في الجزيرة باسم الشخص الذي يحكمها ، ويعتقد أن الشيخ نفسه أقوى من

__________________

(١) Ibn Haldun ,a.g.e.,s.٧٢٣.

٧٩

القبيلة ، ويحكم بالقوانين العرفية لمصلحته دون أدنى خوف ، وكان نظام المركزية الذي بدأت الدولة العثمانية في تطبيقة حديثا أهم سبب في قوة أو ضعف هؤلاء المشايخ.

وكان سعي الدولة العثمانية للسيطرة على الأهالي بسياسة المركزية التي بدأت تطبقها في القرن التاسع عشر سببا في جعل الأهالي يكفون عن دفع (ضريبة الأخوة) نظرا لوجود الدولة ، كما أن حظر الغزو جعل القبائل تبحث عن مصادر اقتصادية جديدة ، حيث زادت أهمية الزراعة ، وكلف شيخ القبيلة عددا من أفراد عائلته بإدارة مزارعه ، وكان مكان القرى التي أسست يحدد طبقا لخصوبتها ، وكان الشيخ يريد تأسيس تلك القرى في الأماكن التي يكثر المرور منها وإذا ما اختل الأمن فإنه يحصن تلك المزارع ويقطع الطريق ويأخذ الخراج ويشكل قاعدة عسكرية حتى إنه كان يطلب نقودا للاستفادة من المياه ، وفي الفترة التي تحقق فيها الدول الصلح وتجعل المكان صالحا للحياة تزيد الأراضي المزروعة. إن هذا الأمر ضيق مساحات الترحال ، ووجد البدو حلّا لهذا ، فأسسوا الخيام في المناطق المختلفة وأسكنوا فيها عناصر مختلفة كي يكونوا أصحاب الحق في التصرف في الأراضي ، وبذلك وجدوا وسيلة جديدة تجعلهم أصحاب أراض واسعة. إن صدور رد فعل قوي في التجمعات البدوية بسبب تلك الأزمة الاقتصادية والاجتماعية أمر لا مفر منه ، وإن تراخى ترابطهم إلى هذه الدرجة أدى إلى فساد معنويات بدو الصحراء وعكر صفوهم ونغص حياتهم ، وفي تلك الفترة أمدّهم الدين بالصبر وحلّ الدين في الخيام لأول مرة (١) ، ولإراحة البدو من الناحية المعنوية قامت الدولة العثمانية بفتح المدارس لنشر التربية الدينية في كربلاء وما جاورها وحماية الأماكن المقدسة وإرسال رجال الدين إلى العشائر المختلفة البدو منها والحضر.

__________________

(١) Robert Montagne, Col Medeniyeti,) ceviren Avni Yakalioglu (, Istanbul ٠٥٩١, s. ٥٦١ ـ ١٧١.

٨٠