كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

٢ ـ العلاقات بين عشائر كربلاء والدولة في عهد التنظيمات

بعد فترة التنظيمات بذلت بعض المساعي الخاصة بالعشائر لبسط نفوذ الدولة في كربلاء ، إن إدارة إيالتي بغداد والبصرة بالساليانة (نظام دفع الضريبة السنوية المحددة) قد قوّى من بنية العشائر الموجودة في كربلاء كما كان الوضع في كل منطقة من جنوب العراق ، فقد ترك الولاة مسألة جمع الضرائب في المقاطعات التي تعتمد على الزراعة إلى المشايخ بشكل عام شريطة دفع الضريبة في موعدها ، وأدى هذا الأمر إلى تقوية وضع بعض العشائر ، لدرجة أنها بدأت تتسلط على العشائر الأقل قوة منها ، بل إنها تطاولت في بعض الأحيان على الولاة أنفسهم وثارت عليهم ، وبعد عام ١٨٣٠ م قامت الدولة العثمانية ببذل بعض الجهود العسكرية لتأسيس إدارة مركزية مرة أخرى في ولاية بغداد ، كما قامت بمساع أخرى لتحويل العشائر البدوية ونصف البدوية التي أحدثت اضطرابا في المنطقة وعرّضت الدولة لخسائر كبيرة في الدخول إلى حياة الحضر (١).

ويمكن القول إن أسباب تحريك العشائر هي حادثة كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٣ م وسياسة المركزية التي سعت الدولة لتطبيقها في المنطقة بعد تلك الحادثة وتوتر العلاقات العثمانية الإيرانية ، ففي بداية الأمر حاربت العشائر الموجودة في هندية التابعة لكربلاء بعضها البعض سنة ١٨٥٨ م ثم حاربت الجنود العثمانيين بعد ذلك ، وبدأت تظهر بوادر التمرد والثورة لأن النظام الجديد المطبق في القضاء لم يكن كافيا لتقسيم أراضي هندية ، ووقع أول صدام بين عشائر هندية وخزائل ، ولم تقف عشيرة منتفك التي كانت تعد أقوى وأهم عشيرة في جنوب العراق مكتوفة الأيدي تجاه هذا الصدام الواقع بين العشائر ، بل حاولت أن يكون لها تأثير

__________________

(١) Sinan Marufoglu," Osmanli Doneminde Guney Irak\'ta Devlet ـ Asiret Iliskileri", Irak Dosyasi, Istanbul ٣٠٠٢, s. ٨٢٣.

٨١

ملموس فيه ، وبالرغم من عدم وجود معلومات مفصلة في الوثائق عن أسباب تلك الثورة ، إلا أن هناك معلومات عن كيفية إخمادها والإجراءات التي اتخذت بعد ذلك ، فالثورة التي نشبت أثناء ولاية محمد نامق باشا قد أخمدت باستخدام قوة عسكرية كبرى (١) ، وبعد انتهاء القتال تم الاستيلاء على مجموعة ليست قليلة من الدواب الكبيرة والصغيرة ، وحصلت خزانة بغداد على (٣٥٤٢٥٠) قرشا مقابل هذه الدواب (٢) ، وقام نامق باشا بتأديب العشائر الموجودة في هندية وما حولها ، ثم عمل بعض الإصلاحات الإدارية بعد ما وفر الأمن للأهالي ، ولدواع أمنية قام بتوحيد بعض الأقضية الموجودة في كربلاء ، وعين عليها المديرين والقائمقامات (٣).

أما الجهود التي بذلت لتوطين العشائر الرعوية ونصف الحضرية في جنوب العراق فقد اكتسبت سرعة كبيرة خاصة بعد إعلان التنظيمات وبعد إصدار قانون الطابو عام ١٨٥٨ م ، وقد احتوت القوانين الصادرة فيما بين ١٨٤١ ـ ١٨٦٧ م على وجوب عمل تعداد سكاني للعشائر وتوطينهم في الأرض الخالية وتشغيلهم بالزراعة وتحصيل الضريبة اللازمة منهم ، وقد صدرت تعليمات إلى كوزلكلي محمد رشيد باشا والي بغداد عام ١٨٥٤ م للربط بين المشاكل القائمة في المنطقة في الشؤون المختلفة مثل التنظيمات الحدودية والعشائر والشؤون الإدارية والزراعية وإيجاد حلول لها ، وأوصي أيضا بضرورة تهدئة العشائر في كل المناطق الموجودين فيها واستخدام القوة العسكرية في ذلك إذا تطلب الأمر مع مراعاة إشعار الأهالي دائما بالطمأنينة (٤).

__________________

(١) BOA, I. Dh ٣٢٩٣١, lef : ١,) ٦ C ٧٦٢١ (; I. Dh ٤٧٩٣١,) ٠٢ C ٧٦٢١ (; A. MKT. NZD ٥٣ / ٨,) ٣٢ B ٧٦٢١ (; A. MKT. NZD ٤٣ / ١٢,) ٢١ B ٧٦٢١ (; BOA, A. AMD ٢٣ / ٦٥,) ٧٦٢١ (.

(٢) BOA ,A.MKT.MVL ٧٥ / ٦٣ ,٨١ Z ٨٦٢١.

(٣) BOA ,A.MKT.UM ٣٧ / ٢٤ ,٦ ZA ٧٦٢١.

(٤) BOA, Sadaret Divan) Beylikci (Kalemi ٠٠١ / ٦٣, ٠٧٢١,) A. DVN (.

٨٢

لقد سعت الدولة العثمانية لتقديم كل التسهيلات المتعلقة بإسكان وتوطين العشائر البدوية الموجودة في العراق والعمل على تشغيلهم في الزراعة ، أما تخصيص الأراضي والمعفاة من الضرائب ومنح البذور وربط الرواتب لمشايخ العشائر فقد طبق بشكل يتفق مع أحوال وأوضاع كل عشيرة من الناحية الاجتماعية والجغرافية وحجم العشيرة (١).

لقد بذلت الدولة العثمانية جهودا كبيرة بعد إعلان التنظيمات لنقل العشائر الموجودة في جنوب العراق من حياة البداوة ونصف البداوة إلى حياة الحضر ، كما كانت تبذل جهودا أخرى في توطين بعض العشائر القوية في بعض المناطق المحددة لتحقيق الاستقرار بشكل عام ، ومنع هجوم العشائر ، وكانت الدولة تراعي مسألة المذهب وقوة العشيرة أثناء توطينها في منطقة ما.

وحتى يقضي مدحت باشا على هجمات عشيرة عنزة القادمة من شبه الجزيرة العربية وهجمات آل سعود الذين ظهروا كقوة جديدة في المنطقة أرسل رسالة باللغة العربية إلى فرحان باشا شيخ عشيرة شمر الجربا أوضح فيها أنه يفكر في منحه المنطقة الممتدة من تكريت حتى حدود الموصل بمحاذاة نهر دجلة ليؤسس فيها سنجق شمر مثل ما حدث مع عشيرة منتفك ، وأن يكون هو أي فرحان باشا متصرفا عليها ، ودعاه في الرسالة للانتقال هو وعشيرته إلى حياة الحضر.

وحتى تتمكن الدولة من إعاقة الهجمات القادمة من الحدود الإيرانية أيضا أرسلت رسالة إلى ولاية بغداد في ١٨٦٩ م تطلب منها تخصيص الأرض الواقعة بين بغداد والسليمانية بطول خط الحدود إلى عشيرة جاف السنية الشافعية المذهب ، وأن يكون شيخها قائمقاما عليها.

__________________

(١) Marufoglu ,a.g.m.,s.٩٢٣.

٨٣

العشائر العربية الموجودة في سنجق كربلاء ومذاهبها

اسم العشيرة

 المذهب

آل شمر

 جعفري

آل ذيكاريط

 حنفي ـ جعفري

العنزة

 مالكي ـ جعفري

المسعود

 جعفري

بني طرف

 جعفري

الفتلة

 جعفري

الطفيل

 جعفري

الكريط

 جعفري

الجليحة

 جعفري

بني حسن

 جعفري

الربيعة

 جعفري

الخزائل

 جعفري

العيش

 جعفري

مأخوذ من تقرير الجيش الهمايوني العثماني ١٣٢٥ (١٩٠٥) (١)

في عهد مدحت باشا استمرت ثورات العشائر في العراق بشكل عام ، ولعل السبب الرئيسي في تلك الثورات هو تحصيل الأموال التي كانت موجودة في ذمة تلك العشائر والقبائل بواسطة القوة العسكرية ، ثم قام مدحت باشا بتقسيم الأراضي والمزارع الأميرية إلى قطع أطلق عليها اسم مقاطعات ، وكان المحصول يقسم إلى ثلاثة أقسام : ثلثان منها للجانب الميري والثلث المتبقي للمزارع ، وذلك في محاولة منه للقضاء على أسباب تلك الثورات التي أدت إلى حدوث اضطرابات داخلية في المنطقة منذ فترة طويلة ، إلا أن تقسيم الأراضي بهذا الشكل دعا إلى عصيان بعض الشرائح ؛ الأمر الذي دعا الحكومة لاتخاذ إجراءات لمنع

__________________

(١) Marufoglu ,a.g.m.,s.٧٢٣.

٨٤

ظهور أية اضطرابات محتملة من قبل المشايخ والأهالي (١) ، وضمن مشروع توطين عشائر البدو الرحل وردت رسالة إلى ولاية بغداد عام ١٨٨١ م جاء فيها تحديد الأماكن للعشائر كي تقيم القرى فيها والسماح لهم بإقامة منازل فيها.

وكانت هناك مساع بعد عهد التنظيمات لإلغاء منصب المشيخة وذلك لتغيير الوضع الاجتماعي للعشائر وتأمين انتقالهم لحياة الحضر وليكون لهم دور في تأسيس الأمن في المناطق التي يسكنون فيها ، وبناء عليه تقرر إلغاء منصب «الشيخ» ليحل مكانه منصب القائمقام أو المتصرف الذي يشغله أيضا شيوخ العشائر.

العشائر العربية البدوية والحضرية والنصف حضرية الموجودة في كربلاء في أواخر القرن التاسع عشر :

الاسم

 الفرقة

 السكان

المأوى

خيمة

منزل

 القوة

خيالة

مشاة

 السلاح

 المنطقة

آل شمر

 ٥

 ٣١٩

 ـ

 ١٠٩

 ٢

 ٩٠

 ٩٢

 النجف

آل زبيد

 ٢

 ٦٠٣

 ٩٠

 ـ

 ٤٠

 ١٧٠

 ٧٥

 كربلاء

آل زكاريط

 ١٠

 ١٤٢٥

 ٣٩٥

 ـ

 ١٢٠

 ٤٤٤

 ٣١٢

 كربلاء

آل عنزة

 ١

١٤٠١٠

٣٤٦٠

 ـ

 ٣٢٣

٣٥٨٣

٣٢٨٥

 غرب الفرات

المسعود

 ٢٩

 ٦٧٢٥

 ٤٢٧

 ٨٧٠

 ٦٢٢

 ٩٢٣

 ٥٧٠

 كربلاء

آل جنابي

 ٥

 ٢٤٧٣

 ٢٥٥

 ٢٩٠

 ١٣٧

١٤٨١

 ٦٠٨

 كربلاء

بني طرف

 ٥

 ٣٧١٥

 ـ

 ٣٨٣

 ـ

 ٧٤٥

 ٧٤٥

 هندية

اليار

 ١٢

 ٢٧٠١

 ٩٩

 ٨٢٠

 ٢٦٦

 ٧٦٩

 ٧٩٧

 كربلاء

الفتلة

 ١٤

 ٧١٧٨

 ـ

 ٢٦٨

 ١٣

١٧٧٢

٢٥١٠

 هندية

الطفيل

 ٩

 ٤٨٧٥

 ـ

 ٣٥٥

 ـ

 ١٠٥٠

 ١٠٥٠

 هندية

الجليحة

 ١٠

 ٢٩٠٩٢

 ـ

 ٣٣٣

 ـ

 ٩٩٠

 ٩٩٠

 هندية

__________________

(١) Ali Haydar Midhat, a. g. e., s. ١٨; Saatci, a. g. e., s. ٥٠١.

٨٥

الاسم

 الفرقة

 السكان

المأوى

خيمة

منزل

 القوة

خيالة

مشاة

 السلاح

 المنطقة

 بني حسن

 ٢٨

 ١٥٨٤٤

 ـ

 ٢١٦٢

 ٢٠٠

 ١٤٠٣

 ٣٣٢٧

 هندية

المصدر : مستلّ من تقرير الجيش الهمايوني العثماني ، ١٣٢٥ ، (١٩٠٥ م). (١)

__________________

(١) Marufoglu, a. g. m., s. ٠٣٣ ـ ١٣٣.; Kursun, a. g. e., s. ٧٣١.

٨٦

الفصل الثاني

العتبات : الأماكن المقدسة الموجودة في كربلاء

١ ـ التطور التاريخي لأضرحة كربلاء

كانت كربلاء حتى ١٠ أكتوبر ٦٨٠ م الموافق ١٠ محرم ٦١ ه‍ عبارة عن ساحة مستوية لا ماء بها ولا زرع ، إلا أن الأحداث التي بدأت ببقاء الإمام الحسين في تلك المنطقة من أجل الحرب التي لا مناص منها مع جيوش يزيد في (٢ أكتوبر ٦٨٠ م) قد أثرت بشدة على العالم الإسلامي ، وقبل أن نتحدث عن كربلاء في القرن التاسع عشر وما تحويه من أماكن مقدسة ، سنذكر بحادثة كربلاء هذا الحدث الذي خلق نوعا من الأفكار والمعتقدات في تلك المنطقة المستوية القاحلة.

في عهد الخلفاء الراشدين وبالتحديد وقت مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، انقسم المسلمون إلى فريقين فريق يناصر سيدنا علي والآخر يناصر معاوية (١) ، ويمكن القول بأن أساس هذا الخلاف بين الفريقين تمتد جذوره إلى ما قبل الإسلام ، وبعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر التنافس بين الفريقين في عهدي عثمان وعلي رضي‌الله‌عنهما ، وتسبب ذلك في خلق الاضطرابات والقلاقل في العالم الإسلامي.

__________________

(١) J. Wellhausen, Islamiyetin Ilk Devrinde Dini ـ Siyasi Muhalefet Partileri,) ceviren Fikret Isiltan (, Ankara ٩٨٩١, s. ٩٨.

٨٧

توفي الإمام عليّ بسيف مسموم وحلّ مكانه في الخلافة ابنه الحسن في الكوفة ، واشتعلت نار الخصومة والتنافس الموجودة أساسا عند الأمويين ، وحركت تلك النار معاوية على الفور ليعلن نفسه خليفة في الشام ، ولم ينبع تصرف معاوية إلا من التنافس والخصومة القبلية فحسب (١) ، وبعد وفاة سيدنا الحسن عام ٦٦٩ م أصبح معاوية الخليفة ، ولذا تمسك الشيعة بأن معاوية هو السبب في موت الحسن وأصبح الحسن في نظرهم شهيدا ، وأطلقوا عليه لقب سيد الشهداء ، أثناء خلافة يزيد بن معاوية كان الإمام الحسين الأخ الأصغر للإمام الحسن يعيش حياة العزلة في المدينة ، وجاءته دعوات العراقيين الذين رفضوا مبايعة يزيد ، وأعلنوا أن الإمام الحسين هو الخليفة الشرعي بعد سيدنا علي وسيدنا الحسن ، فخرج الإمام الحسين في آله وأصدقائه المقربين إلى الكوفة ، وبعد ما أصبح عبيد الله هو الوالي الأموي في العراق وضع وحدات استطلاعية على جميع الطرق الممتدة من الحجاز إلى العراق.

وفي يوم ١٠ محرم ٦١ ه‍ الموافق ١٠ أكتوبر ٦٨٠ م حاصر القائد عمر بن سعد بن أبي وقاص بجيشه المكوّن من أربعة آلاف جندي الخليفة ـ الإمام الحسين ـ الذي لا يتجاوز الأشخاص الموجودون في معيته المائتي شخص في مدينة كربلاء الواقعة على مسافة ٤٠ كم من الناحية الشمالية الشرقية للكوفة ، ورفض الإمام الحسين الاستسلام ولذا ذبح الجيش تلك القافلة فجرح الإمام الحسين حفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جروحا دامية وسقط شهيدا وقطعت رأسه وأرسلت إلى يزيد في الشام (٢).

__________________

(١) Ziya Sakir ,Kerbela Vakasi ,Istanbul ٤٤٩١ ,s.١٣.

(٢) إن موضوع المكان الذي دفنت فيه رأس الإمام الحسين موضوع مختلف فيه من قبل الباحثين ، فبعض الباحثين يقول إنها مدفونة في المدينة ، وبعضها يرى أنها مدفونه في النجف عند الامام علي ، أو في مكان خارج الكوفة أو في دمشق أو في دمشق أو في رقة أو في القاهرة أو في المكان الذي دفن فيه جسده في كربلاء ، ولكن أصح الأقوال هو

٨٨

في ذكرى استشهاد الإمام الحسين يقوم المسلمون الشيعة بالحداد من أول شهر المحرم حتى اليوم العاشر الذي استشهد فيه الإمام ، وطوروا مراسم الحداد والآلام المعبرة عن معاناة الإمام الحسين ومحاربته بكل شجاعة ، وتقيم مراسم الحزن التي تعقد سنويّا إلى قسمين : الأول : وهو ما يجرى في ذكرى الحرب الواقعة يوم عاشوراء ، وتتم تلك المراسم في ناحية الكاظمية القريبة من بغداد ، والقسم الآخر : يتم بعد اليوم العاشر من محرم وبالتحديد خلال أربعين يوما من بعد هذا اليوم ، وتقام مراسم الحزن في مدينة كربلاء تحت اسم «عودة الرأس المقطوعة». وقد قام المستشرق المشهور ب. هيتي بتقييم هذا الموضوع قائلا : «إن دم الإمام الحسين الذي سال في مدينة كربلاء كان له عظيم الأثر في نفوس الذين شايعوا أباه» (١).

لقد ظهرت طائفة الشيعة في كربلاء في اليوم العاشر من شهر المحرم ، والمبدأ الأساسي لأهلها هو أحقية نسل سيدنا علي بن أبي طالب بالخلافة والإمامة ، هكذا التفّ الشيعة حول هذا المبدأ وهو ما غيّر حالهم وأوضاعهم ، ومصطلح «يوم كربلاء» يعني نار الحرب لدى الشيعة ويمكن التعبير عنه بقول «الثأر للإمام الحسين» حيث إن تلك الحادثة كانت السبب في تدهور وانهيار الحكم الأموي بعد ذلك.

أما أهل السنة فيرون أن يزيد كان الحاكم الحقيقي الفعلي ولديه القوة للأمر والنهي كرئيس للدولة ـ حتى ولو لم يكن الحاكم القانوني ـ ، ومن يخرج على الدولة ويشقّ عصا الطاعة قد يعاقب بالقتل ، ولذا فإنهم ينظرون إلى الحادثة نظرة مختلفة تماما عن الشيعة ، ولكن يجب رؤية الحركة بالشكل الفعلي الواضح وليس كما يطلب المجتمع ، فهذه الواقعة

__________________

الأول. انظر : Ilya Uzum," Huseyin", DIA, XVIII, ٠٢٥, Istanbul ٨٩٩١, s. ٨٢٥.

(١) Hitti ,a.g.e.,II ,٢٠٣ ـ ٤٠٣.

٨٩

تحمل أهمية كبرى لأنها كانت عاملا وقوة خلقت حركة قومية في التاريخ ، وبهذه الصورة ظهر اختلاف كبير بين المسلمين ، وظهرت حركة الشيعة على أنها فرقة منفصلة شغلت مكانا في التاريخ منذ زمن بعيد (١).

ويمكننا القول إن عبد الله بن سبأ اليهودي اليمني الأصل صاحب الشخصية الغامضة الذي أسلم في عهد عثمان وارتبط ارتباطا وثيقا بسيدنا علي بن أبي طالب يعد مؤسسا للشيعة المغالية ، ولا شك في أنه صاحب النصيب الأكبر في تطور مبدأ الإمامة.

أصبحت العراق ومدينتها كربلاء أرضا مباركة بين الدول الإسلامية بعد ظهور مبادئ العلويين ، أما إيران فقد أضحت المدافع المستميت عن المذهب الشيعي حتى يومنا هذا ، ولقد ظهر فيها ما لا يعد ولا يحصى من الفرق الصغيرة التي تعتبر نفسها من أهل الشيعة ، إن أفراد العائلات المختلفة المنسوبين لأهل البيت ـ هذا اللفظ الذي أطلق على من انحدر من نسل سيدنا علي ـ يعد محيطا جذابا لمن ليس سعيدا في كل المجالات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والدينية وللأشخاص الذين لا يريدون الخضوع لأفكار واعتقادات العامة (٢).

إن المأساة (٣) التي حدثت في كربلاء يوم ١٠ محرم ٦١ ه‍ كانت سببا في جعل كربلاء مكانا مقدسا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للمسلمين عامة وللشيعة خاصة ، وكما اتضح آنفا فإن كربلاء أضحت قلعة ورمزا لفرقة الشيعة ولها نفس المكانة عند أهل السنة أيضا ، لأن من قتل في هذا المكان هم أحفاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآل بيته.

إن تلك الحادثة المؤلمة يذكرها المسلمون بالحزن والأسى كل

__________________

(١) Hitti, a. g. e., II / ٤٠٣; Unal Kilic, Yezid B. Muaviye, Istanbul ١٠٠٢, s. ٨٨٢ ـ ٩٨٢.

(٢) Hitti ,a.g.e.,II ,٠٩٣ ـ ١٩٣.

(٣) Wellhausen ,a.g.e.,s.٥١١.

٩٠

عام ، ولهذا فإن نظرتهم لكربلاء لا تختلف كثيرا عن الشيعة من ناحية التبجيل والتقدير ، وبعد هذه الحادثة غضب المسلمون جميعا من يزيد ونبذوه ، فمهما كانت الظروف والحقائق والملابسات فيزيد يذكر في التاريخ بصورة سيئة بعد قتله لحفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعل عدم تسمية أطفال المسلمين باسم يزيد حتى يومنا هذا يعد خير دليل على ذلك.

لم تتصرف إيران ـ التي أصبحت الوطن القومي للتشيع أينما كان ـ بسلبية في موضوع حكم كربلاء أو فرض السيادة عليها بعد ما اكتسبت هذه الأهمية بسبب تلك الحادثة (١) ، وتم الحفاظ على توازن كربلاء الديني والسياسي بدقة بالغة منذ دخول المدينة تحت السيطرة العثمانية ، وسنتناول بالتفصيل ما ورد بشأن بعض المساجد والمدارس والأضرحة الموجودة في المدينة في الفترة من عام ١٢٥٥ ـ ١٣١٠ ه‍ (١٨٣٩ ـ ١٨٩٢ م) وهي الفترة التي نتناولها بالدراسة في القرن التاسع عشر.

إن أهم أماكن الزيارة في سنجق كربلاء في القرن التاسع عشر هي ضريح سيدنا علي في النجف وضريح الإمام الحسين والإمام العباس والمسماة باسم «العتبات العالية» و «العتبات المقدسة».

إن أول الأماكن المقدسة عند الشيعة هو المكان الذي يعتقد أن سيدنا علي بن أبي طالب دفن فيه في النجف ، وزعم أن هذا المكان قد ظل سرّا في عهد الأمويين ، إلا أنه في نهاية القرن التاسع الميلادي الثالث الهجري قام والي الموصل أبو الهيجا التابع الحمدانيين بإنشاء مقبرة مقببة في هذا المكان ، ثم قام عضد الدولة بعد ذلك بترميمه وتوسيعه عام ٩١٣ م (٢).

__________________

(١) Ann. K. S. Lambton, ٩١. Asirda Iranda Sosyal Degisme, Istanbul ٧٩٩١, s. ٢٧١. Ziya Sakir, a. g. e., s. ٢٢١. Hitti, a. g. e., s. ٢٧٦.

(٢) Ann K. S. Lambton," ٩١. YUzyil Iraninda Sosyal Degisme", Islam Dunyasi ve Batililasma, Istanbul ٧٩٩١, s. ٢٧١; Ziya Sakir, a. g. e., s. ٢٢١; P. Hitti, a. g. e., II, ٩٧٦. (

٩١

أما المكان الثاني أو العتبة الثانية المقدسة لدى الشيعة فهي مقبرة الإمام الحسين التي سنقف عندها كثيرا ، فقد عرفت تلك المقبرة قبل القبور الأخرى الموجودة في النجف ، فبعد أربعين يوما تقريبا من حادثة كربلاء أصبحت تلك المقبرة مزارا ، ويقال إن أول من زارها هو جابر بن عبد الله (١) ، وروايات الإمام جعفر الصادق والإمام محمد الباقر والإمام زين العابدين وهم من الأئمة الإثنى عشر تدل على مشروعية زيارة ضريح الإمام الحسين وتلفت النظر إلى فضل تلك الزيارة وهذا ما أدى إلى زيادة زيارات الشيعة لهذا المكان ، وبمضيّ الوقت زاد غرام الشيعة بزيارة ضريح الإمام الحسين ووصل ذلك إلى حد الإفراط ، ثم أصبحت كربلاء مدينة مقدسة تقارن زيارتها بالحج الذي يكون واحدا من فرائض الإسلام الخمسة (٢).

اهتم العباسيون أيضا بضريح الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه منذ توليهم السلطة ، وكان متولو شؤون ضريح الإمام الحسين يعيشون من الأموال التي تأتي من الأوقاف التي أسستها أم موسى بنت منصور والدة الخليفة المهدي ، كما أن أول ضربة تلقتها تلك الأماكن كانت في عهد العباسيين أيضا ، فقد أمر الخليفة المتوكل على الله بهدم الضريح والأماكن المجاورة له سنة ٨٥٠ م ، وحوّلها إلى حقول ومزارع وذلك بسبب عدائه الشديد للشيعة ، كما فرض حظرا شديدا على زيارة تلك الأماكن ، إلا أن كل تلك الإجراءات لم تفد على حسب ما يتضح من كلام ابن حوقل ٩٧٧ م ، لأنه يقول إن عدد الزوار للضريح زادوا في تلك الفترة.

أما دابة بن محمد الأسدي ٩٧٨ م الذي كان يحكم العديد من القبائل في منطقة عين التمر فقد خرّب الضريح وهدم القباب وسلب

__________________

(١) Ilhan ,a.g.m.,s.٩٤.

(٢) Oz ,a.g.m.,s.١٧٢.

٩٢

الأشياء القيمة التي كانت موجودة به وعاد إلى الصحراء ، وبعد هذه الحادثة أمر السلطان عضد الدولة البويهي بعمل كل الترميمات اللازمة للضريح ، ثم قام حسن بن فضل الرامهرزمي وزير سلطان الدولة البويهي بعمل جدران حوله عام ١٠٢٢ م ، وقبل ثمان سنوات من هذا التاريخ كان قد شبّ حريق مروّع في الضريح بسبب سقوط شمعدان مما حوّل الأروقة المكشوفة والقبب إلى رماد ، وقد زار سلطان السلاجقة ملكشاه هذا الضريح ومدينة النجف عام ١٠٨٦ م ، كما زار الحاكم الإيلخاني قازان خان مدينة النجف وقدم الكثير من الهدايا للأضرحة عام ١٣٠١ م ، وتذكر إحدى الروايات أن هذا الضريح بني على يد أرجون خان والد قازان خان ، وشق قناة من نهر الفرات لتلبي احتياج أهالي مدينة كربلاء من المياه وتعرف تلك القناة اليوم باسم الحسينية.

أما ابن بطوطة الذي زار المنطقة عام ١٣٢٧ م فيذكر أن مشهد الإمام الحسين يقع وسط حدائق نخيل المدينة وبجانبه مدرسة كبيرة وزاوية لإقامة الزائرين وقناة تأتي من نهر الفرات لسد احتياجات المدينة من المياه ، كما يذكر ابن بطوطة أنه لا يسمح بالدخول للزيارة إلا بإذن الحرس وإن الزوار يقومون بتقبيل المرقد الفضّي المعلق عليه مصابيح من الذهب والفضة ، ويقول حمد الله المستوفي الذي مر من المدينة في نفس القرن : إن محيط المدينة يبلغ ٢٤٠٠ خطوة ، وعندما جاء تيمور إلى بغداد عام ١٣٩٣ م تقابل بجيشه مع أحمد الجلايري الذي فرّ إلى الحلة في وادي كربلاء ، فتوجه تيمور نحو شط الفرات لعدم حصوله على نتيجة قاطعة في تلك الحرب وقد أظهر هو وجنده الاحترام للمشهد وإن التيموريين الذين احتلوا بغداد بعد هذا التاريخ بثمان سنوات لم يمسّوا كربلاء بسوء.

وفي العهد العثماني دارت الحرب بين العثمانيين والصفويين في عهد الشاه إسماعيل الصفوي ، وبالرغم من استمرار تلك الحروب لفترة

٩٣

طويلة إلا أنهما كانا يتسابقان في إقامة الأعمال الخيرية لتلك الأضرحة ، ومن المعروف أن الشاه إسماعيل الصفوي عندما احتلّ العراق عام ١٥٠٨ م زار كربلاء وأمر بتزيين الضريح ، ووضع فيه اثني عشر مصباحا وقنديلا من الذهب ، وفي عام ١٥٢٦ م جاء الشاه إسماعيل الثاني إلى المنطقة وأمر بعمل شبكة من الفضة حول القبر (١) ، كما أمر بإصلاح قناة النجف (٢).

وبعدما استولى السلطان سليمان القانوني عام ١٥٣٤ م على العراق أمر بتحرير وتسجيل الأوقاف الموجودة بها ، وأول شيء تم تسجيله هو أوقاف بغداد والنجف وكربلاء والكاظمية ، وأمر السلطان سليمان القانوني بالحفاظ على كل الأوقاف الموجودة في تلك المدن الأربع والحفاظ أيضا على كل الأماكن المقدسة للشيعة في العراق ، كما أمر بالحفاظ على الأوقاف التي تأسست فيها على يد الحكام الأوائل ، وزار السلطان القانوني كربلاء وأمر بترميم قناة الحسينية وحوّل الساحات التي حولها إلى مساحات خضراء وحدائق كبيرة ، وفي عهد السلطان مراد الثالث تم ترميم الضريح الذي أو شك على الخراب ، وفي عام ١٧٤٣ م زار الشاه نادر مدينة كربلاء وأسس وقفا لتلبية كل احتياجات القبور الموجودة في كربلاء ، أما الأغا خان محمد فقد زين سقف المنارة والقبة بمرصعات الذهب (٣).

ويمكننا القول بأن أكبر حركة تخريب تعرض لها الضريح بعد الخليفة العباسي المتوكل على الله هي التي قام بها الوهابيون عام ١٨٠١ م ، ففي صباح ٢٠ أبريل عام ١٨٠١ م دخل الوهابيون مدينة كربلاء

__________________

(١) Honigmann ,a.g.m ,s.٠٨٥ ـ ١٨٥ ;Oz ,a.g.m.,s.٢٧٢.

(٢) Ilhan ,a.g.m.,s.٩٤.

(٣) Uzuncasili ,a.g.e.,II ,١٥٣ ;Oz ,a.g.m.,s.٢٧٢.

٩٤

من بابها الغربي ، وخرّبوا ضريح الإمام الحسين لأنهم كانوا يرونه بدعة كبرى ، وأفسدوا الزينات الموجودة به والقباب ، وأخذوا كل الأشياء القيمة الموجودة به ، وليس هذا فحسب بل قام الوهابيون بقتل ما يقرب من خمسة آلاف شيعي (١).

وبنفس الصورة تم إخماد حركة التمرد التي قامت ضد الدولة من قبل الشيعة على يد نجيب باشا والي بغداد عام ١٨٤٣ م ، حيث قامت مجموعة من المتمردين باللجوء إلى كربلاء واتخذوا من أضرحتها قلاعا وأدى هذا إلى نهب وتخريب وتدمير لتلك المناطق (٢). وبتطبيق سياسة المركزية بدأ عهد جديد في المنطقة للمقابر والأضرحة ، وفي أواخر القرن التاسع عشر زار علي بك منطقة كربلاء وصوّر في رحلته أضرحة الإمام العباس والحسين وعلي بن أبي طالب ، وطبقا لما ورد في تلك الرحلة عن تلك الأضرحة فإن أبواب مقبرة وضريح الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه كانت مكسوّة بالذهب والفضة تماما ، وأعلاه توجد آيات من الذكر الحكيم ، كما توجد أحجار كريمة أهمها العقيق اليمني ، كما توجد تلك النقوش وتلك الأحجار الكريمة داخل الضريح وحول القباب والأعمدة الفخمة التي تكون في غاية الزينة والفخامة ، كما توجد على الجدران لوحات من الذهب والفضة وجزء من تلك الجدران من الحجارة التي يطلق عليها اليشيم والرخام الملون ، وأعلى المرقد الشريف قبة مشغولة بالذهب والفضة ، والصندوق الداخلي مغطى بالحرير الأسود ، ومعلق عليه عدد من الرايات السوداء أيضا ، وتوجد لوحات ضخمة أعلى الجدران الخارجية بالنسبة لجدران ضريح الإمام علي وضريح الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه ، وقد زينت النوافذ بالنقوش كما زينت القبور نفسها بأحجار

__________________

(١) Kursun ,a.g.e.,s.٤٣.

(٢) BOA ,I.MSM ٦٣٨١ ,٠٤٨١ ;Honigmann ,a.g.m.,s.١٨٥.

٩٥

القيشاني المرسومة على شكل رسوم زخرفية بديعة تم جلبها أي تلك الأحجار من الهند.

أما ضريح الإمام العباس والأضرحة الأخرى فقد زينت برسومات نباتية ولا توجد بها نقوش من الذهب والفضة ، أما بقية الأضرحة الأخرى فبنيت بالطوب اللبن على النمط الإيراني الذي يطلق عليه ملون جوشي (١).

أما بالنسبة لشكل ضريح الإمام الحسين فيمكن وصفه على هذا النحو : ضريح تحيط به الغرف وعدد من الإيوانات وبداخله فناء تبلغ مساحته ١٠٨ / ٥ ، ٨٢ وعلى جانبيه مئذنتان ، والحرم على شكل مربع مزين بالنجوم من ناحية باب المدخل نحو القبلة المزينة للغاية والتي تصل إلى الدهليز وحولها أروقة مقببة بنيت ليطوف بها الزوار ، وفي الوسط تقريبا يوجد سطح مغطى بالفضة بعرض أربعة أمتار وارتفاع مترين ، وعند ناحية قدم ضريح الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه يوجد أيضا صندوق صغير لسيدنا على الأكبر ابن سيدنا الحسين ، وتوجد زينات كثيفة أعلى القبلة ، وتوجد مئذنتان عند باب المدخل ، وعند الجانب الشرقي للفناء يرتفع أمام هذه المباني مئذنة ثالثة يطلق عليها مئذنة العبد ، وفي الجنوب تقع جبهة المباني التي تحيط بالفناء على مسافة ستة عشر مترا تقريبا ، وفي هذا الجانب وبالتحديد توجد مدرسة كبيرة عند نقطة الاتصال بالفناء ، كما يوجد أيضا جامع خاص بجوار الفناء الذي يأخذ شكل مربع بمساحة ستة وعشرين مترا ، ويوجد ضريح الإمام العباس في الجانب الشمالي الشرقي على بعد ستمائة متر تقريبا من الضريح ، ويلفت الانتباه المبنى المسمى «الخيمة» المبني على شكل الخيمة الكبيرة وتمثل مجموعة خيام لقافلة على قارعة الطريق الذي يصل من المدينة إلى ناحية الغرب ، وعند

__________________

(١) Ali Bey ,a.g.e.,s.٦٨ ,٧٧.

٩٦

الجانب الغربي من المدينة تمتد قبور الشيعة في مكان يوحي بأنه صحراء ، وخلاصة القول أن زيارة الشيعة لمدينة كربلاء بمثابة الفرض ، وهذا الاعتقاد يثاورهم بل والأكثر من ذلك أنهم يؤمنون بأن من يدفن في هذا المكان سيدخل الجنة (١).

٢ ـ أعمال الإعمار والبناء التي تمت في العتبات

إن التمرد الذي ظهر في كربلاء وقام نجيب باشا بإخماده عام ١٨٤٣ م لا يعني تسكين قلاقل مجموعة من المفسدين فحسب ، فالعصيان الذي قمع في كربلاء كان بمثابة إعلان لأهالي العراق وإيران عن البدء في تطبيق فرمان التنظيمات في المنطقة وعن بدء مرحلة جديدة ليس في سنجق كربلاء فقط بل في بغداد كلها ، وقد أوضحنا من قبل رد فعل إيران تجاه ما قام به الوهابيون في كربلاء من حركات النهب والسلب وسفك الدماء عام ١٨٠١ م ، ويتضح أيضا أن إيران لم تقم بأي عمل في الأماكن المقدسة في كربلاء منذ ذلك التاريخ حتى عام ١٨٤٤ م ، أما سياسة المركزية التي اتبعتها الدولة العثمانية في المنطقة عام ١٨٤٠ م فقد عملت على تقوية سياسة الدولة هناك خاصة بعد حادثة كربلاء ، ولهذا لم يكن لإيران حيلة سوى الدخول في مساع لزيادة نفوذها من الناحية السياسية في المنطقة واستخدام الشيعة والأماكن المقدسة وسيلة لذلك ، وكانت أول مساعي إيران لزيادة نفوذها في المنطقة من بعد هذا التاريخ هو استئذان صدر الدولة الإيراني عام ١٨٤٧ م من الدولة العثمانية في تجديد بناء فناء (صحن مقدس) ضريح الإمام الحسين (٢) ، إن هذه الأعمال التي أراد صدر الدولة القيام بها في المقابر قد طرحت بعد الجو الإيجابي

__________________

(١) Honl ? gmann, a. g. m., s. ٢٨٥; Oz, a. g. m., s. ٢٧٢; Sami, a. g. e., s. ٣٣٨٣.

(٢) BOA ,Irade Hariciye (I.Hr) ٤١٢٢ ,Lef : ١ ,٩٢ B ٤٦٢١.

٩٧

الذي ظهر بعد معاهدة أرضروم ، فقد قدم صدر الدولة الإيراني رسالة إلى والي بغداد في ١ يونيو ١٨٤٨ م ، أوضح فيها صدر الدولة الإيراني أنه أرسل ٣٠٠٠ تومان وسيرسل أخرى مثلها لبناء مقبرة وشراء منزل له في كربلاء وترميم المنزل الآخر الذي يمتلكه (١) ، إلا أن الدولة العثمانية رفضت هذا الطلب بشكل لطيف.

وبعد فترة من تلك الأحداث قامت الدولة العثمانية بالتحرك في عام ١٨٤٨ م لعمل بعض الإصلاحات والترميمات اللازمة للصحن المقدس لكلّ من ضريح سيدنا علي والإمام الحسين والإمام العباس (٢) ، وكذلك ثلاثة أضرحة أخرى بغية إنهاء مبادرة إيران في ذلك ، وقد أجريت دراسة عن أعمال الإصلاحات والترميمات وثبت أنها ستتكلف (٢٩٦٣٣٧) قرشا ، وبالإرادة السنية المؤرخة بتاريخ ٣ أبريل ١٨٤٩ م تقرر دفع هذا المبلغ من خزانة ولاية بغداد (٣) ، وبعد هذا القرار الذي تم اتخاذه قام مدير الأوقاف بمدينة بغداد بزيارة كربلاء وتفقد الأضرحة الموجودة هناك ، ثم كتب تقريرا عما يلزم عمله بتلك الأضرحة (٤).

وبعد الانتهاء من أعمال الترميمات التي قامت بها الدولة العثمانية سنة ١٨٥٠ م ، قررت الدولة تجديد ضريح الإمام الحسين ووضع آيات من القرآن الكريم والطغراء الهمايونية بشكل مناسب ، وقام المهندس كامل أفندي الموجود في بغداد بنقش الآيات القرآنية ورسم الطغراء الهمايونية على الرخام وصبغت بالذهب (٥) ، وتكلفت تلك النقوش والزينات

__________________

(١) BOA ,I.Hr ٤١٢٢ ,Lef : ١ ـ ٢.;BOA ,I.HR ٤١٢٢ ,Lef : ٢.

(٢) BOA ,I.Dh ٥٨٥٠١ , (١٢ R ٥٦٢١).

(٣) BOA, A. MKT ٧٨١ / ٩٦,) ٩ Ca ٥٦٢١ (; BOA, A. MKT. MHM ٢١ / ١.

(٤) BOA ,HR.MKT ٩٢ / ٩٦ (٧١ Ra ٦٦٢١).

(٥) BOA ,I.Dh ٢٤٩٣١ ,Lef : ٣ , (٢١ M ٧٦٢١).

٩٨

و (١٥٠٠٠٠) قرش (١) ، كما تم إرسال خمسمائة كيس من الخزانة الهمايونية وذلك لمواجهة أي نقص قد يطرأ على تلك الأعمال (٢) ، وقد أرادت الدولة العثمانية بالترميمات التي عملتها في هذا المكان الإشعار بوجود السلطان وهيمنته ، ولذا ففي خضمّ الأعمال الجديدة التي تمت في ضريح الإمام الحسين كتب على الباب الآيات القرآنية والطغراء الشريفة ووصف أن تلك «الآثار الجليلة من مقام الخلافة» (٣).

تقدم أحد الشيعة الهنود بطلب ألفي مثقال من الفضة من الحكومة العثمانية لزخرفة باب ضريح الإمام الحسين في ٣ أبريل ١٨٥٠ م ، ولم ينظر المجلس العالي إلى هذا الطلب بسلبية ولكنه رأى أنه من المناسب القيام بهذا العمل تحت إشراف الحكومة (٤) ، وبالرغم من أن هذا الهندي الشيعي تقدم بنفس الطلب للحكومة مرة أخرى في ١٨٥٠ و ١٨٥١ م إلا أن الدولة لم توافق أيضا على ذلك لأنها كانت لا تريد أن يقوم أحد غيرها بذلك حتى لا يقل اعتبارها أو نفوذها هناك (٥) ، وفي الوقت الذي استمر الهنود في تقديم طلبهم دون يأس للمشاركة في أعمال ترميم وتزيين أضرحة أهل البيت في كربلاء كان السلطان العثماني قد أنهى أعمال الباب والحلي ، وكان شيعة الهند مثل شيعة إيران يظهرون التقدير والاحترام لضريح حضرة الإمام الحسين ويسعون لعمل ترميمات فيه ، وعلى الرغم من أن تلك المحاولات يوجد خلفها مصالح سياسية إلا أن الحكومة العثمانية رأت أن اقتراحات الهنود أكثر إخلاصا من الاقتراحات الإيرانية ،

__________________

(١) BOA ,I.Dh ٦٤٣٥١ ,Lef : ٢.

(٢) BOA ,I.Dh ٥٩٦٣١ , (٥١ Ra ٧٦٢١).

(٣) BOA, A. AMD ٦٣ / ٦٤; Divan ـ i Humayun Muhimme Kalemi) A. MKT. MHM (٠٤ / ٨٢; I. Dh ٢١٧٤١, ٤ M ٨٦٢١.

(٤) BOA, Irade Meclis ـ i Vala) I. MV (٢٦٦٥, Lef : ١, ٠٢ Ca ٦٦٢١ (.

(٥) BOA, A. MKT. MVL ٤٣ / ٦٧, ٥١ M ٧٦٢١; A. AMD ٢٣ / ٠٥, ٨٢ ٢١ ٧٦٢١; I. MV ٢٦٦٥, ٤ M ٨٦٢١.

٩٩

بخلاف هذا فقد كانت هناك صراعات بين السنة والشيعة في الهند لفرض النفوذ ، ولذا رفض إعطاء فرصة للتأويلات الخاطئة ، ولذا فإن جواب الرفض الذي أعطي لإيران لم يعط لشيعة الهند ولكن أبطئ في الرد عليهم.

وكان رفض الدولة العثمانية لقيام إيران بعمل توسيعات أو ترميمات بالأماكن المقدسة في كربلاء والنجف سببا في جعل هذا الموضوع مثارا على الدوام ، وخططت إيران لتقديم طلبات جديدة للدولة العثمانية للسماح بتوسيع الأضرحة بالرغم من انتهاء الدولة العثمانية من أعمال الترميم والإعمار ، ولذا قام صدر الدولة الإيراني بزيارة كربلاء في (٢٣ مارس ١٨٥١) وحاول إصلاح علاقاته مع الدولة العثمانية ، وكان هدفه من ذلك تهيئة الأمر لقبول الدولة العثمانية مطالبهم في الاشتراك في توسيع وترميم الأضرحة ، وبعد الزيارة طلب صدر الدولة توسيع الأضرحة ، على الرغم من أن الحكومة العثمانية وافقت على زيارته وأخبرته أنه ليس من المناسب قيام إيران بتوسيع الأضرحة ولذا ستقوم الدولة العثمانية بهذه الأعمال إذا كانت هناك حاجة لها (١).

إلا أن الدولة العثمانية تحركت في عام ١٨٥٢ م لإعاقة أي أعمال تقوم بها إيران في المنطقة ، وبدأ مجلس الوالي في عمل دراسات عن مقابر كربلاء ، وطلب من متصرف كربلاء إرسال تقرير عن وضع تلك الأضرحة ومدى أهمية إجراء تلك التوسعات وتبيين ما إذا كان لهذه التوسعات المقترحة أثر أم لا ، في الوقت نفسه أعلنت الدولة العثمانية أنه إذا كانت هناك حاجة لأي عمل فلن يتم هذا العمل من قبل إيران بل سيكون من قبلها (٢).

__________________

(١) BOA ,I.MV ٥٦٣٧ (٣ N ٧٦٢١).

(٢) BOA ,I.MV ٥٦٣٧ (٧ L ٨٦٢١).

١٠٠